تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الـشـهـادة



محمد المهدي السقال
09/02/2007, 01:57 AM
قصة قصيرة

الشهادة

محمد المهدي السقال

و حين عمت الفوضى " ساحة الحمام ", تداخلت أصداء الصياحات المتقطعة , بامتدادات رنين ساعة حائطية ظلت تزين جدار إدارة الجمارك وسط المدينة ,
من الأعلى , تبدو دائرة المعتصمين كومة بشرية هامدة , غير أنك حين تدنيها منكَ لمقاربة التفاصيل , تفاجئك حركة أجساد منبطحة على الأرض , وقد تماسكت فيما بينها برباطات من أسلاك نشر الغسيل الصدئة , حول الأعناق كما حول المعاصم و الأقدام ,
من نظرتي الأولى , لم أستبن نوعية الشباب المعتصم , أقصد الفئة التي يمثلونها , حاولت تمحيص الرؤية في تناثر خرق بيضاء مكتوبة بالأحمر القاني ,
يتعلق الأمر هذه المرة , باعتصام المعطلين المكفوفين , الشغل , الخبز , و أشياء أخرى من مفردات الديموقراطية و حرية التعبير وحقوق الإنسان ..
و أيمن الدائرة , رأيتُ بعض الناس الآخذين في الانسحاب نحو الميناء دون التفات إلى الوراء , يسبقهم ظلهم للالتحاق بآخر مركب ,
قال صاحبي إنهم يمثلون شيئا اسمه الأغلبية الصامتة ,
فعلقت عليه بأنها صناعة وطنية , و على غير عادته , بدا متعاطفا مع المنسحبين , ثم أخذ يكيل الأحزاب أقذع الصفات , لأنها تركت الشعب فريسة للأوهام بالموقف المناهض للسلطة , وحتى لا يفتح علينا باب جهنم , دعوته لمتابعة ما يجري,
- هل انفلت زمام التحكم من يد رجال المخزن بمختلف ألوانهم و مراتبهم , بدت دائرة جلدية تقترب .
- متأهبة لا شك لاستقبال الأوامر بالتدخل مهما كلف من ثمن .
تزينت الجنبات بسيارات المصالح المتعددة الاختصاصات ,
- حضرت كل الألوان التي تتحرك في الشارع .
فهمتُ أنه يقصد الزرقاء والخضراء والحمراء والبيضاء و السوداء ,
- الإسعاف , الإطفاء , الوقاية , المساعدة , الشرطة ,
كلها مدججة عن آخرها , مصفحة الأبواب والنوافذ , قلت في نفسي , بينما عيني على سيارات أخرى ترامت في الحواشي , كنا نعرف أنها في مثل هذه المناسبات , تستقدم سرا من مكاتب الفلاحة والشاي والسكر , لتحشر بين الطرقات , فتقف على النواصي لالتقاط الطيور المفزعة ,
وحدها أسراب الحمام المدجنة , ظلت تتناوب على الرسو فوق السياجات, غافلة عن حقيقة ما يجري , منذ ازديادها , وُضعت أزواجا في ثقب النافورة المعطلة , لتكبر بين حركة الناس وأعناقُها مشرئبة لأيديهم تمدُّها بحبوب مستوردة , قال لي صاحبي يوما , جوابا عن تساؤلي حول سبب عدم تقديم الحبوب الوطنية , بأنه التخوف من عدوى إنفلوانزا الطيور على حياة الحمام الداجن ,
لم ينزعج بعض الحمام سوى لطلقات الرصاص في الهواء , حين أوشك جمع المعتصمين المكفوفين على الاندفاع في اتجاه الحاجز الحديدي من ألوان رجال المخزن , بينما كانت مجموعة منهم تحاول فك الأسلاك التي تشابكت حول أيدي و أعناق الشباب المنبطح أرضا يتمنعون عن تخليصهم مما أوثقوا به أنفسهم إصرارا على التعلق بالموت الجماعي ,
مر شهر على الاعتصام المفتوح في ساحة الحمام , يأتي وسطاء المسؤولين لترويج التسويفات ,
يحملون لرؤسائهم مطالب المكفوفين المعطلين , ثم يعودون بخفي حنين , لا يملكون غير الوعود الكاذبة,
و ألِف الناس من العامة منظر الاعتصام , فصاروا يأتون من كل فج عميق , و بأيديهم ألوان من الزاد , كما كانوا يأتون الحمام بالفتات وحب الزرع وعباد الشمس ,
كثيرون استغربوا صبر السيدة الحكومة على اعتصام المكفوفين المفتوح ,
و قليلون انتبهوا إلى حيلتها في التعاطي مع الحالة ,
فقد تفتقت ذهنية التنسيق بين وزارات الداخلية والسياحة و الثقافة , عن خلق مناخ جديد مادته معاناة أبناء الشعب المحرومين من أبسط شروط الحياة ناهيك عن العيش , يساعد على الترويج بين السياح الأجانب , لبضاعة الديموقراطية الحديثة في هذه البلاد ,
وكانت اللعبة محبوكة بحذر احترافي , تحركت آلات التصوير موجهة بإحكام من زوايا محددة , دون أن يسمح لها بالتقاط الصوت , فقد كانت الشعارات عنيفة و مقيتة , تبلغ الأسماع فتقشعر لها الأبدان ,
أما اللافتات التي كتبت باللون الأحمر , فلم تكن أقل سخرية وتنديدا بالزيف و النفاق والظلم ,
ترتفع الأصوات كعادتها في اتجاه السماء , كبدها ملبد بسحب الصيف في عز الخريف ,
- ربما ستمطر الليلة , لقد مرت خمسة أيام على صلاة الاستسقاء ,
ثم أقسم باليمين المغلظة ,
- لن تسقط و لو قطرة , كنت أعبر للضفة الأخرى من مصلى الهواء الطلق تلك الجمعة , رغم حملات الدعاية بالشيوخ والمقدمين ذلك الصباح, رأيتها شبه فارغة , وحين سألت في المساء عن حجم المشاركين في التوجه إلى الله طلبا للماء , أخبرني من حضر , بسبب مهمته الإدارية في المحافظة , أن التقارير التي رفعت لاستعلامات الأوقاف قبل الداخلية , ربما تكون سببا في العصف بكثير من رؤوس المدينة ,
وبعد شهر من الاعتصام , انتقل المعتصمون إلى تنفيذ المرحلة الثانية من مخططهم ,
ولم تكن مفاجأة بالنسبة للرجال المخزن , فد أبلغوا أمس بما يعتزمه هؤلاء المكفوفون الملاعنة , أخذتهم الحيرة ,
قال قائدهم في مواجهة مثل هذه الاعتصامات التي تكررت في البلد :
- لم نجد مع المبصرين أمام البرلمان من العنت ما نعانيه مع هؤلاء المكفوفين ,
و أخذ في توزيع الأدوار للتعاطي مع الحدث واحتمالاته , غير أنه نبه التابعين لإمرته من القوة الخاصة و الخاصة جدا , إلى ضرورة تحاشي عيون الكاميرات , و الإبداع في إخراج الصورة المطلوبة للتسويق الإعلامي والسياحي , فوجئ حراس الليل والنهار بإقدام الشباب على شرب سوائل النفط و البطاريات أو ما يعرف بالماء القاطع , فارتبكوا ,
و عمت الفوضى ساحة الحمام , حتى بدا واضحا انفلات زمام التحكم في الموقف .

****
محمد المهدي السقال