المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وقفة مع ناسك الغدير



محمود عباس مسعود
18/11/2009, 03:03 AM
ولد العبقري الأمريكي هنري ديفيد ثورو في كونكورد بولاية ماساتشوستس الأمريكية سنة 1817 حيث كان والده يعمل في التجارة ومن ثم تحول إلى صناعة أقلام الرصاص وهي المهنة التي زاولها ابنه هنري لفترة من حياته.

تخرج الشاب هنري من جامعة هارفارد سنة 1837 وفي نفس العام شرع بتدوين يومياته في ما عرف بالجورنال بتشجيع من صديقه وأستاذه أمرسون، واستمر في كتابة تلك اليوميات حتى آخر أيام حياته. وعلى مدى سنين قام بتدريس بعض الصفوف المدرسية وإلقاء محاضرات في الفلسفة والعلوم الطبيعية. كما قام برحلة نهرية ألهمت فيما بعد كتابه الأول الذي سماه: أسبوع على صفحة نهري كونكورد وميريماك. طـُبع من ذلك الكتاب ألف نسخة بيعت مائتان منها، أما النسخ الباقية فقد أعيدت إلى ثورو الذي كانت مكتبته تشتمل على مائة كتاب، فأضاف النسخ التي لم يتم بيعها إلى محتويات مكتبته وكان يقول مازحاً: في مكتبتي تسعمائة كتاب، ثمانمائة منها من تأليفي!

أما رائعة ثورو الأدبية فهو كتاب وولدن أو الحياة في الغابة Walden, or Life in the Woods الذي يجسّد نظراته وفلسفته في الحياة.

(ملاحظة: إن نسخة واحدة من الطبعة الأولى لهذا الكتاب تباع اليوم بمبالغ خيالية تتراوح ما بين ثلاثين ألف إلى خمسة وأربعين ألف دولار نظراً لندرتها ومكانة مؤلفها، وبإمكان القارئ الكريم التأكد من هذه المعلومة بنفسه إن كانت تهمه وهذا هو عنوان المكتبة الإلكتروني حيث الكتاب معروض للبيع.)

http://www.abebooks.com/servlet/SearchResults?an=thoreau&sortby=1

عاش ثورو ملازما لأمرسون حوالي الثلاثة أعوام، كما عاش في خلوة تأملية على غدير وولدن قرب كونكورد مستمتعا بسكينة الطبيعة وعظمتها. وقد وصف تجاربه تلك في كتابه الشهير وولدن الذي يعتبر من الأدب الكلاسيكي الرفيع الذي يدرّس في العديد من الجامعات الأمريكية. ولعل شيخ أدبائنا أمين الريحاني قد تأثر كثيرا بفلسفة ونظرات ثورو إذ كان يشير إليه بمودة: أخي ثورو!

كان ثورو محبا للطبيعة إن لم يكن متوحدا معها، بحيث أنه وصف أدق تفاصيلها بكيفية مدهشة، وقد رغب من خلوته تلك في وولدن أن يبرهن لنفسه وللآخرين أن الإنسان باستطاعته أن يكسب ما يكفي للقيام بأوده، وأن يعيش في الطبيعة ويمتلك متسعا من الوقت للتفكير والتأمل بأسرار الحياة وعظمة الكون.

البيت أو بالأحرى الكوخ الذي عاش فيه على وولدن بناه كله بيديه دون أية مساعدة من أحد، وعاش فيه عيشة بسيطة، يقوم ببعض الأعمال المتفرقة بين الفينة والأخرى ويمضي وقته في التجول وملاحظة الحيوانات والحشرات والطيور وتدوين مشاهداته ومطالعة الكتب بعدة لغات، إذ كان يجيد عددا منها.

كتاب وولدن أو الحياة في الغابة ليس فيه الكثير من الاكتشافات لكنه برهان قاطع على دقة ملاحظة هذا الفيلسوف الذي لم تغب عنه أدق تفاصيل الطبيعة، والذي يطالع الكتاب بنصه الأصلي تعتريه الدهشة لقدرة عقل مؤلفه على الاستيعاب والنفاذ إلى قلب الطبيعة وقراءة أسرارها بسهولة ودقة متناهية. لقد استأنست حيوانات وطيور الغابة به بحيث كانت تأتي إليه كلما ناداها بعدما تعلم تقليد أصواتها. ولم تخشَ الاقتراب منه ، حتى أنه كان يمسك الأسماك بيده ويرفعها من الماء!

بعد مغادرته وولدن عاش معظم حياته مع والديه وأخته في كونكورد وقام بجولات طويلة وسط الغابات في أمريكا وكندا.

كان ثورو أصيلا في كل شيء ولذلك جاء أسلوبه في الكتابة فريدا من بابه، يشد القارئ إليه شدا وكأنه يعرفه حق المعرفة. أما أشعاره فمليئة بالحياة والقوة والتجدد بالرغم من أن البعض يعتبرها تفتقر إلى الدفء والجرْس التقليدي.

كان صديقنا مستقيما في أخلاقه، حر الضمير، جرئ في إبداء آرائه لا يخشى فيما يقوله لومة لائم. وقد اعتبره البعض سابقا لعصره، ولعل في هذا القول حقيقة يتبينها كل من يقرأ كتاباته قراءة فاحصة متأملة.

وكان عنيدا أيضا، إذ رفض التصويت مثلما رفض دفع الضرائب (وتم إيداعه السجن ليوم أو يومين جراء ذلك) ولم يذهب إلى الكنيسة، معتبراً كل ذلك مظاهر خارجية لا تمت للحياة الحقيقية بصلة. ولقد دافع بكل جرأة عن جون براون الذي وضع الحجر الأساس لتحرير العبيد.

توفي ثورو سنة 1862 لكنه ما زال يحيا في عمق الأدب العالمي وقلوب محبي الأصالة والإبداع لأنه كان شخصية عالمية وواحدا من الذين تفخر الدنيا بإنجابهم.

المصدر: موسوعات
ترجمة وتعليق: محمود عباس مسعود