المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدعاء المستجاب



غالب ياسين
11/02/2007, 10:10 AM
«وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين».
تبدأ هذه الآية باستحضار شخص سيدنا يونس عليه السلام بتغييب اسمه والالماح لعقابه ، هذا العقاب الذي لازمه واقترن ذكره به ، ثم يخلص للقص ويوطىء له بـ «اذ» ويبدأ القص بسبب العقاب ليقفز الى دعائه فتحذف مساحة من الحديث يستشفها العقل ويخلص اليها فلم يذكر ان الله قد عاقبه بجعل الحوت يبتلعه لان ذلك يفهم بدها.
ونلاحظ في البناء الصوتي لـ «وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه» تكثر النون حرفا وغنة وتشديدا ، وهذا التكثير الذي يشعرنا بالتضييق والحزم والقدرة تلك المتمثلة في العقاب.
والبلاغة في هذا الدعاء ابلغ من ان تبلغ واعمق من كل تصور ومحاولة ، وسأبدأ من الكلمات وما يشيعه تركيبها الصوتي من جو ينبض به النص ويحسر عن معانيه وتشخص فيه المشاعر ، فما هذا الدعاء كلمات تردد انما هو كتلة من المشاعر الجياشة والمتشابكة تحمل الشعور وضده ، فهي تحمل في طياتها الرجاء والخوف والحب والرهبة والشعور بالذنب يغشاه احساس بعفو الله وكرمه.
فنلاحظ تكثر النون حرفا وغنة وتشديدا في قوله تعالى «اني كنت من الظالمين» فيحمل الجرس الينا الشعور بالذنب ومعاتبة الذات وتأنيبها والاقرار بحكم الخطأ المرتكب.
وكلمة «الظالمين» بالظاء المفخمة والمشددة وبمد الياء ست حركات يشعرنا بمدى كبر هذه الكلمة وحجمها من حيث المعنى ومدى الانغراق والانغماس المستشعر وكذلك في كلمة «الظلمات» ففي جرسها تعميق لمعناها وتكثيف لظلامها بتشديد حرف الظاء وتفخيمه.
ثم في قوله تعالى « لا اله الا انت سبحانك» ابدا لن نستطيع قراءتها الا بالرجاء وشعور الفقر اليه تعالى وشعور الحاجة الملحة الى كرمه وعطفه ، هذا ما يحمله الينا تكثير الالف والمدود هنا ذلك الامل والرجاء الكبير الذي يمتد من اعماق النفس ليخرق من الظلمات المكثفة نحو الافق البعيد.
وايضا كلمة «سبحانك» هذه الكلمة الحانية المشفقة من المنزه تعالى بجرسها وبكائها ذلك الذي يسمع بقلقلة الباء نطقا فتقطعها كما البكاء المتقطع ثم تجيء «حا» لتحمل الحب والحنو.. وكأني الان اسمعها تبكي اشفاقا واجلالا ان كيف لا ينزه وهو الله وكيف يقولون ما يقولون وهو سبحانه عما يقولون ، ثم كلمة «نادى» هذه الكلمة تحمل حرفي الف هذا الحرف الجوفي المديد يحمله الصدى ليخرق الظلمات صوت من الاعماق آت يحمل الرجاء والاشفاق والحزن في هذا الجو الذي كثفت فيه المدود. هذه محاولة لتسجيل بعض ايحاءات الاصوات ويبقى الاحساس والشعور فوق كل تسجيل ، هذا الارهاف.. هذا الرجاء والبكاء سكن نفسه عليه السلام ليدعو بهذه الحرارة دعاء ذا نبض وحياة.
ويوطى للدعاء ويمهد له بكلمة نادى تسبقها الفاء دلالة سرعة استغفاره عليه السلام ولجوئه اليه سبحانه وكانت المناداة دون المناجاة وذلك لبيان شدة الحال والضيق وان «لا اله الا انت» نودي بها فشقت الظلام المطبق الذي عبر عنه بالظلمات جمعا وذلك تعميقا للظلام المعنوي الذي كان عليه السلام يستشعره ويحسب انه قد سكنه لاقدام منه على ما يستوجب عقابه تعالى.
الظلمات هذه الكلمة التي جمعت ظلامين: الظلام المادي في بطن الحوت وظلام هو مغرق فيه بشعور بالذنب تملكه..وهذا الذي رفع منه الصوت مناديا خارقا ظلمات سكنته قبل ان يخرق ظلمات هو ساكنها.
ما اجمل الارهاف والاشفاق وما احكم التخلص الى دعائه بحرف «ان» فترهف الاسماع منا والقلوب لكلمة التوحيد وحديث الفطرة «لا اله الا انت» هذه الكلمات ينادى بها حاملة الفقر والرجاء.. فلا ملجأ الا هو ولا عفو الا عفوه.
«لا اله الا انت» يخرق بها الصوت السكون والظلمات خارجة من اعماق نفسه نحو السماء. وجملة التوحيد هذه تحمل النفي والاثبات فجاءت «لا» اولا نافية نفيا مطلقا هذا النفي الذي عزز الاثبات ولم يعارضه ثم جاءت لفظة «الله» تثبت له الالوهية.. وكلمة «إله» جاءت في استثناء من نفي الامر الذي يعزز معنى الاثبات ويؤكد قصر الالوهية عليه سبحانه.
ودعاء الانبياء في اغلبه ودعاء المؤمنين يكون بلفظ الربوبية وهنا نلاحظ انه بلفظ الالوهية.. وربما يكون ذلك لان دعاءه جاء بمقام طلب لرفع العقاب لا البلاء او طلب نعم... واثبات الالوهية فيه اثبات للقدرة والعظمة بما يناسب انزال العقاب والدعاء برفعه وبيان الا مفر من الله الا اليه.. وانه لا يدفع عقابه الا هو.
«سبحانك»... هذه الكلمة جاءت اثر كلمة التوحيد تعقيبا وللتنزيه اثباتا لنفي ان يكون عقابه ظلما.. يا داعي هذا الدعاء عليك السلام اي نفس حملت بين جنبيك.. ما هذا الارهاف والرهبة والشعور بالذنب.. انظر كيف اثبت الالوهية لله وحده ثم اثبت التنزيه له تعالى ثم جاء اقرار بذنب حاملا في ثناياه طلب الخلاص.. وجمال هذا الدعاء ان جاء الطلب فيه تعريضا والماحا وتضمينا ببيان حال واقرار بذنب ، فكان ذلك التعريض اشد افصاحا من الطلب المباشر ويحمل الادب الجم مع الاله سبحانه ان حالي كذا.. وانت الهي تفعل بي ما تريد وكل ما تفعله جميل ، ذلك ما تحمله «اني كنت من الظالمين» فانظر كيف عد نفسه من الظالمين هذه الكلمة الكبيرة وفعله عليه السلام لا يجعله يندرج تحتها الا ان الاحساس منه مرهف والشعور بالذنب يقتله فجاء وصفه لحاله منبىء عن شعوره اكثر من واقعه وكيف جاءت «الظالمين» بصيغة اسم الفاعل وكأن الظلم صفة لازمة له وما هذا الا ارهاف شعور منه.
http://www.addustour.com/news/Viewoldnews.asp?Nid=199269