محمود عباس مسعود
27/11/2009, 11:56 PM
إستر ستانهوب Hester-Stanhope ملكة الشرق غير المتوجة (الحلقة الأولى)
لماذا تركت بلادها وعاشت في الشرق الذي بهرته مثلما أذهلت أوروبا كلها؟
ابنة إرل ستانهوب Earl Stanhope التي أحبت الشرق العربي فشدّت إليه الرحال في بداية القرن التاسع عشر وعاشت وماتت – كملكة غير متوجّة – بين الفلاحين السوريين – اللبنانيين حيث زارها الشاعر الفرنسي لامارتين بعد أن سمع بها وأعجب غاية الإعجاب بشخصيتها. اجتمع حولها جيش من البدو قوامه 40 إلى 50 ألف نفر لشدة إعجابهم بها.
إستر ستانهوب Hester-Stanhope هي امرأة إنكليزية من النبلاء ذات أطوار غريبة. ولدت في لندن في 12 آذار سنة 1776 وتوفيت في جونيه بإقليم الخروب من جبل لبنان في 23 حزيران سنة 1839.
كانت أكبر أولاد تشارلس ثالث إرلات ستانهوب من زوجته إستر ابنة إرل تشاذم.
دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها وليم فكان يعتمد عليها ويكاشفها بأسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة 1806. وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية فعُيِّن لها مرتب سنوي قدره 1300 ليرة إنكليزية، غير أن ذلك المبلغ لم يكف لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها فانفردت في ويلز.
تركت انكلترا وطافت أوروبا وكانت حينئذ فتية نضرة جميلة غنية فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها. إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهل الرفعة والشأن. وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركز عظيم فسارت إلى القسطنطينية وأقامت فيها بضع سنين.
اختلف الناس في سبب خروجها من بلادها فذهب بعضهم إلى أن ما حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه فأثـّر فيها موته تأثيراً شديداً حتى لم تطب لها الإقامة بعده في انكلترا.
ذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور وحب الشهرة. خرجت من القسطنطينية قاصدة سورية سنة 1810 في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها وأنواع كثيرة مختلفة من الحلي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى (جون مكري) تجاه جزيرة رودس صدمت صخراً فتحطمت على مسافة بضعة أميال من الساحل وغرقت أمتعة استير ستناهوب وأموالها ولم تنجُ هي من الموت إلا بعد عناء شديد فحُملت على لوح من ألواح السفينة إلى جزيرة صغيرة مقفرة.
بقيت في الجزيرة 24 ساعة لم تذق طعاماً ولم يكن لها منقذ ولا مجير، إلا أن جماعة من صيادي مرموريزا وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة فساروا بها إلى رودس وهناك أخبرت قنصل انكلترا بأمرها.
لم يثن ذلك المصاب عزمها بل سارت إلى مالطة ومنها إلى انكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع وباعت قسماً من أملاكها بأبخس الأثمان وركبت سفينة ملأتها تحفاً نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها، فلم يصادفها نوءٌ.
أتت اللاذقية فأقامت هناك وتعلمت اللغة العربية وقرّبت منها جميع الذين كان في وسعهم أن يجعلوا لها مع الطوائف السورية المتنوعة روابط وعلاقات. ثم تهيأت للتجوال في الأماكن التي يعز الوصول إليها من بلاد العرب والموصل والبراري للقيام باكتشافات جديدة.
لما تضلّعت من اللغة العربية وعرفت عادات الأهالي وطباعهم جهزّت قافلة كبيرة وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال وطافت أنحاء سورية كلها فزارت القدس ودمشق وحمص وبعلبك وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثير من قبائل البدو ومكنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذٍ 40 إلى 50 إلفاً، وكلهم يتعجبون من جمالها ولطفها وأبهتها فجعلوها ملكة لتدمر وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا بعلبك وتدمر آمنين على أرواحهم لكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش، واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة سارية المفعول.
عند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوّة لبدو تدمر على التعدي عليها غير أن أحد مرافقيها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم فغذت السير ليلا وكانت خيلها من أجود الخيل، فاجتازت في مدة 24 ساعة مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهراً عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد أوصاه بإكرامها وإعزازها.
صرفت زمناً طويلاً في التطواف والتنقل في البلاد الشرقية، وأصيب الأهالي بالذهول لِما شاهدوه من أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة وكانت هي تحاول بحذقها أن تضاهي زنوبيا ملكة الشرق في أعمالها.
سنة 1813 استوطنت دير القديس الياس المهجور الواقع في جوار قرية عبرا على مسافة ساعة من صيدا فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون الوسطى وأنشأت هناك بستاناً على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار وأشجار الفاكهة وكروماً وأقامت كشوكاً مزينة بالنقوش والصور العربية وجعلت للمياه أقنية من الرخام وعملت نوافير وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضاً.
كانت أشجار البرتقال والتين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالاً وبهجة. ولم يلبث ذلك الدير أن صار حصناً وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم. وقد صرفت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بمترجمين سوريين وأوروبيين وحاشية كبيرة من النساء وجماعة من العبيد، وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن.
جمعتها علاقات ودية وسياسية مع الباب العالي وعبد الله باشا والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان والشيخ بشير جنبلاط ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد. ثم اتخذت لها مسكناً في بيت أخذته من رجل دمشقي غني واقع على مرتفع يعرف بظهر جونيه نسبة إلى قرية جونيه التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة 8 أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت وأقامت حوله جنينة وسوراً وبقيت فيه إن أن توفيت.
ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها، فبات دخلها السنوي 30 أو 40 ألف فرنك، وكان مع ذلك كافياً لسد المصاريف التي تقتضيها حالها غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لتوقف حصولهم على هداياها، فأصبحت منفردة وتضاءلت علاقاتها مع الناس، لكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيّر العقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها. ولم تأسف على ما فات ولا على العالم أجمع، ولم يحزنها ترك خلانها أو نقصان ثروتها وتقدّم العمر بها، فأقامت وحدها من دون كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا.
لم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط مجموعة من الجواري والعبيد صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون ببستانها وخيلها ويسهرون عليها من الأخطار. وقد تحقق أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئاً عن طباعها فقط بل عن مبادئها... وقد جمعت بين الحقائق وعادات شرقية خرافية، لا سيما غرائب فن التنجيم وعجائبه. وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وأذهلت أوروبا كلها. كان الأهالي يطلقون عليها إسم الست الإنكليزية وتعرف عند الإفرنج بلايدي ستانهوب Lady Stanhope.
لما عزم ابراهيم باشا على فتح سورية سنة 1832 اضطره الأمر إلى أن يطلب إليها أن تكون على الحياد، ويقال أنه بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت العديد من الفارين وكانت تتعاطى في التنجيم وغيره من الفنون السرية، وتمسكت ببضع عقائد غريبة فلم تعدل عنها حتى مماتها.
في السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في انكلترا ما كان من أمرها وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بمسعى من رجل يعرف باللغمجي، فتوفيت ولم تقدر على وفائها. وهكذا فالذين كانوا يحسبون أن في القرب منها ربحاً لهم آل الأمر إلى خسارتهم.
ويقال أن ضيقاتها المالية وما حدث فيما بعد بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، سبّب لها خوفاً أدّى إلى مرض عضال قضت بهِ نحبها، ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج بل أحاط بها جماعة من خدّامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية.
عند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت ومعه القس وليم تومسن الأمريكي إلى جونيه لأجل دفنها، ودُفنت في البستان المجاور لدارها. وقد روى الأهالي عنها قصصاً كثيرة غريبة تكاد تكون من الخرافات ولا يوثق بها. وقد كتب الدكتور ماريون الذي بقي عندها بضع سنين كطبيب لها سيرة حياتها بالانكليزية في 3 مجلدات، وكتب أيضاً قصة أسفارها في 3 مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.
زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم الشاعر الفرنسي المشهور لامارتين، إذ أثناء وجوده في سورية سنة 1832 يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك السيدة إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها، لا سيما الإنكليز، حتى وإن كانوا من أقربائها. فبعث إليها لامارتين رسول سوري بالرسالة الآتية ترجمتها:
"سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب أن يوماً يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءهُ زائراً من أجمل أيام سياحته وألذها. فإذا شئتِ أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي إن كان ينبغي لي أن أتوجّه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك. وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سبباً لتكلفك ما يزعجك في عزلتك، فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوؤني البتة رفضك مقابلتي بل أتلقى ذلك بالتوقير والإحترام..."
في 30 أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جونيه فذهب مع الدكتور ليونردي وموسيو برسفال ولما صلوا أنزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها، ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل الساعة الثالثة بعد الظهر. فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها.
قال: كان الظلام قد خيّم عليها فلم أتمكن بسهولة من أن أتبيّن هيئتها اللطيفة المؤذِنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبوح، فنهضتْ وهي في زي الشرقيين ودنت مني ومدّت إليّ يدها مسلّمةً عليّ فأمعنت بها النظر وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه. نعم إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الشباب لكن متى كان الجمال في القد وملامح الوجه والعظمة والجلال يطرأ عليه تقلبات باختلاف مراحل العمر، إلا أنه لا يزول تماماً وهذا كله يصدق على لايدي ستانهوب.
كانت تلبس عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون، طرفاها مرسلان على كتفيها، وعلى جسمها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض كمّاهُ متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ. وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها قد تعودته منذ صغرها.
بعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت نفسك مشقات السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر. غير أن رسالتك أعجبتني ووددت أن أعرف إنساناً يحب الله والطبيعة والإنفراد، وذلك نفس ما أحبه. وقد لاح لي أيضاً أن نجمينا متحابّان وأننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أموراً تجعلني لا أندم على رغبتي في مشاهدتك. ولما سمعت وقع قدميك وأنت داخلٌ خالجتني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا نتحدث لأنك قد صرت لي صديقاً.
للقصة تتمة على الرابط التالي http://www.wata.cc/forums/showthread.php?t=62727
والسلام عليكم
المصدر: دائرة معارف البستاني طبعة 1878
إعداد وتحديث مصطلحات: محمود عباس مسعود
لماذا تركت بلادها وعاشت في الشرق الذي بهرته مثلما أذهلت أوروبا كلها؟
ابنة إرل ستانهوب Earl Stanhope التي أحبت الشرق العربي فشدّت إليه الرحال في بداية القرن التاسع عشر وعاشت وماتت – كملكة غير متوجّة – بين الفلاحين السوريين – اللبنانيين حيث زارها الشاعر الفرنسي لامارتين بعد أن سمع بها وأعجب غاية الإعجاب بشخصيتها. اجتمع حولها جيش من البدو قوامه 40 إلى 50 ألف نفر لشدة إعجابهم بها.
إستر ستانهوب Hester-Stanhope هي امرأة إنكليزية من النبلاء ذات أطوار غريبة. ولدت في لندن في 12 آذار سنة 1776 وتوفيت في جونيه بإقليم الخروب من جبل لبنان في 23 حزيران سنة 1839.
كانت أكبر أولاد تشارلس ثالث إرلات ستانهوب من زوجته إستر ابنة إرل تشاذم.
دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها وليم فكان يعتمد عليها ويكاشفها بأسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة 1806. وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية فعُيِّن لها مرتب سنوي قدره 1300 ليرة إنكليزية، غير أن ذلك المبلغ لم يكف لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها فانفردت في ويلز.
تركت انكلترا وطافت أوروبا وكانت حينئذ فتية نضرة جميلة غنية فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها. إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهل الرفعة والشأن. وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركز عظيم فسارت إلى القسطنطينية وأقامت فيها بضع سنين.
اختلف الناس في سبب خروجها من بلادها فذهب بعضهم إلى أن ما حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه فأثـّر فيها موته تأثيراً شديداً حتى لم تطب لها الإقامة بعده في انكلترا.
ذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور وحب الشهرة. خرجت من القسطنطينية قاصدة سورية سنة 1810 في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها وأنواع كثيرة مختلفة من الحلي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى (جون مكري) تجاه جزيرة رودس صدمت صخراً فتحطمت على مسافة بضعة أميال من الساحل وغرقت أمتعة استير ستناهوب وأموالها ولم تنجُ هي من الموت إلا بعد عناء شديد فحُملت على لوح من ألواح السفينة إلى جزيرة صغيرة مقفرة.
بقيت في الجزيرة 24 ساعة لم تذق طعاماً ولم يكن لها منقذ ولا مجير، إلا أن جماعة من صيادي مرموريزا وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة فساروا بها إلى رودس وهناك أخبرت قنصل انكلترا بأمرها.
لم يثن ذلك المصاب عزمها بل سارت إلى مالطة ومنها إلى انكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع وباعت قسماً من أملاكها بأبخس الأثمان وركبت سفينة ملأتها تحفاً نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها، فلم يصادفها نوءٌ.
أتت اللاذقية فأقامت هناك وتعلمت اللغة العربية وقرّبت منها جميع الذين كان في وسعهم أن يجعلوا لها مع الطوائف السورية المتنوعة روابط وعلاقات. ثم تهيأت للتجوال في الأماكن التي يعز الوصول إليها من بلاد العرب والموصل والبراري للقيام باكتشافات جديدة.
لما تضلّعت من اللغة العربية وعرفت عادات الأهالي وطباعهم جهزّت قافلة كبيرة وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال وطافت أنحاء سورية كلها فزارت القدس ودمشق وحمص وبعلبك وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثير من قبائل البدو ومكنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذٍ 40 إلى 50 إلفاً، وكلهم يتعجبون من جمالها ولطفها وأبهتها فجعلوها ملكة لتدمر وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا بعلبك وتدمر آمنين على أرواحهم لكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش، واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة سارية المفعول.
عند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوّة لبدو تدمر على التعدي عليها غير أن أحد مرافقيها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم فغذت السير ليلا وكانت خيلها من أجود الخيل، فاجتازت في مدة 24 ساعة مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهراً عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد أوصاه بإكرامها وإعزازها.
صرفت زمناً طويلاً في التطواف والتنقل في البلاد الشرقية، وأصيب الأهالي بالذهول لِما شاهدوه من أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة وكانت هي تحاول بحذقها أن تضاهي زنوبيا ملكة الشرق في أعمالها.
سنة 1813 استوطنت دير القديس الياس المهجور الواقع في جوار قرية عبرا على مسافة ساعة من صيدا فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون الوسطى وأنشأت هناك بستاناً على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار وأشجار الفاكهة وكروماً وأقامت كشوكاً مزينة بالنقوش والصور العربية وجعلت للمياه أقنية من الرخام وعملت نوافير وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضاً.
كانت أشجار البرتقال والتين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالاً وبهجة. ولم يلبث ذلك الدير أن صار حصناً وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم. وقد صرفت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بمترجمين سوريين وأوروبيين وحاشية كبيرة من النساء وجماعة من العبيد، وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن.
جمعتها علاقات ودية وسياسية مع الباب العالي وعبد الله باشا والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان والشيخ بشير جنبلاط ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد. ثم اتخذت لها مسكناً في بيت أخذته من رجل دمشقي غني واقع على مرتفع يعرف بظهر جونيه نسبة إلى قرية جونيه التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة 8 أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت وأقامت حوله جنينة وسوراً وبقيت فيه إن أن توفيت.
ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها، فبات دخلها السنوي 30 أو 40 ألف فرنك، وكان مع ذلك كافياً لسد المصاريف التي تقتضيها حالها غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لتوقف حصولهم على هداياها، فأصبحت منفردة وتضاءلت علاقاتها مع الناس، لكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيّر العقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها. ولم تأسف على ما فات ولا على العالم أجمع، ولم يحزنها ترك خلانها أو نقصان ثروتها وتقدّم العمر بها، فأقامت وحدها من دون كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا.
لم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط مجموعة من الجواري والعبيد صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون ببستانها وخيلها ويسهرون عليها من الأخطار. وقد تحقق أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئاً عن طباعها فقط بل عن مبادئها... وقد جمعت بين الحقائق وعادات شرقية خرافية، لا سيما غرائب فن التنجيم وعجائبه. وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وأذهلت أوروبا كلها. كان الأهالي يطلقون عليها إسم الست الإنكليزية وتعرف عند الإفرنج بلايدي ستانهوب Lady Stanhope.
لما عزم ابراهيم باشا على فتح سورية سنة 1832 اضطره الأمر إلى أن يطلب إليها أن تكون على الحياد، ويقال أنه بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت العديد من الفارين وكانت تتعاطى في التنجيم وغيره من الفنون السرية، وتمسكت ببضع عقائد غريبة فلم تعدل عنها حتى مماتها.
في السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في انكلترا ما كان من أمرها وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بمسعى من رجل يعرف باللغمجي، فتوفيت ولم تقدر على وفائها. وهكذا فالذين كانوا يحسبون أن في القرب منها ربحاً لهم آل الأمر إلى خسارتهم.
ويقال أن ضيقاتها المالية وما حدث فيما بعد بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، سبّب لها خوفاً أدّى إلى مرض عضال قضت بهِ نحبها، ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج بل أحاط بها جماعة من خدّامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية.
عند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت ومعه القس وليم تومسن الأمريكي إلى جونيه لأجل دفنها، ودُفنت في البستان المجاور لدارها. وقد روى الأهالي عنها قصصاً كثيرة غريبة تكاد تكون من الخرافات ولا يوثق بها. وقد كتب الدكتور ماريون الذي بقي عندها بضع سنين كطبيب لها سيرة حياتها بالانكليزية في 3 مجلدات، وكتب أيضاً قصة أسفارها في 3 مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.
زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم الشاعر الفرنسي المشهور لامارتين، إذ أثناء وجوده في سورية سنة 1832 يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك السيدة إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها، لا سيما الإنكليز، حتى وإن كانوا من أقربائها. فبعث إليها لامارتين رسول سوري بالرسالة الآتية ترجمتها:
"سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب أن يوماً يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءهُ زائراً من أجمل أيام سياحته وألذها. فإذا شئتِ أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي إن كان ينبغي لي أن أتوجّه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك. وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سبباً لتكلفك ما يزعجك في عزلتك، فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوؤني البتة رفضك مقابلتي بل أتلقى ذلك بالتوقير والإحترام..."
في 30 أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جونيه فذهب مع الدكتور ليونردي وموسيو برسفال ولما صلوا أنزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها، ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل الساعة الثالثة بعد الظهر. فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها.
قال: كان الظلام قد خيّم عليها فلم أتمكن بسهولة من أن أتبيّن هيئتها اللطيفة المؤذِنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبوح، فنهضتْ وهي في زي الشرقيين ودنت مني ومدّت إليّ يدها مسلّمةً عليّ فأمعنت بها النظر وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه. نعم إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الشباب لكن متى كان الجمال في القد وملامح الوجه والعظمة والجلال يطرأ عليه تقلبات باختلاف مراحل العمر، إلا أنه لا يزول تماماً وهذا كله يصدق على لايدي ستانهوب.
كانت تلبس عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون، طرفاها مرسلان على كتفيها، وعلى جسمها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض كمّاهُ متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ. وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها قد تعودته منذ صغرها.
بعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت نفسك مشقات السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر. غير أن رسالتك أعجبتني ووددت أن أعرف إنساناً يحب الله والطبيعة والإنفراد، وذلك نفس ما أحبه. وقد لاح لي أيضاً أن نجمينا متحابّان وأننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أموراً تجعلني لا أندم على رغبتي في مشاهدتك. ولما سمعت وقع قدميك وأنت داخلٌ خالجتني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا نتحدث لأنك قد صرت لي صديقاً.
للقصة تتمة على الرابط التالي http://www.wata.cc/forums/showthread.php?t=62727
والسلام عليكم
المصدر: دائرة معارف البستاني طبعة 1878
إعداد وتحديث مصطلحات: محمود عباس مسعود