المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الضاحك (قصة قصيرة لهاينرش بل)



أحمد-أحمد
12/02/2007, 12:46 PM
الضاحك
ينتابني خجلٌ شديدٌ إذا سألني أحدٌ عن مهنتي التي أعملها، فيحمَّر وجهي وأتلعثم في الكلام ، ولا أستطيع أن أرد مع أنني معروفٌ بأنني إنسانٌ هادئ وواثقٌ من نفسه في جميع المواقف، ولذلك فأنا أحسد هؤلاء الناس ، الذين يمكنهم القول: أنا عامل بناء ، كما أحسد الحلاقين وكاتبي الحسابات والمؤلفين والأدباء على بساطة إجابتهم ، فكل هذه المهن تتضح من تلقاء نفسها ، ولا تحتاج إلى مزيدٍ من التوضيح ، أما أنا فمجبرٌ أن أجيبَ على مثل هذه الأسئلة قائلاً: أنا أعمل ضاحكاً ، ومثل هذا الجواب يتطلب المزيد من التوضيحات ، لأن السؤال التالي مباشرةً سيكون : "وهل تعيش من تلك المهنة؟!" فتكون إجابتي بـ"نعم" ، فأنا بالفعل أتكسب قوت حياتي وأعيش من ضحكي، بل وأكسب منه جيداً، فأنا أضحك ضحكاً مربحاً، إذ أنني ضاحكٌ متميزٌ، وليس هناك أحدٌ غيري يستطيع أن يضحك مثلي، كما أنه لايوجد أحدٌ له موهبةٌ في الضحك تضاهي موهبتي. وكنت لوقتٍ طويلٍ أصف نفسي بأنني ممثلٌ ، وذلك حتى أتجنب التعليقات السخيفة التي أتعرض لها ، إلا أنّ موهبتي وقدراتي في التمثيل والإلقاء أقل بكثيرٍ من أن أصف نفسي بذلك الوصف ، كما أنني أحب الحقيقة، والحقيقة هي أنني ضاحك، فأنا لست مهرِّجاً ،ولا ممثلاً كوميدياً، ولا أقوم بتسلية الناس ، بل أقدم لهم الضحك، فأنا أضحك كإمراطورٍ روماني وكطالب رومانسىّ في الثانوية العامة، أضحك كضحكة أهل القرن السابع عشربسهولةٍ ويسرٍ تماماً كـضحكة أهل القرن التاسع عشر، وإذا لزم الأمر أضحك كأهل كل القرون والعصور، وكـكل طبقات المجتمع، وقد تعلمت هذا بسهولةٍ وببساطةٍ شديدةٍكما يتعلم الإنسان كيف يلبس حذائه ، فأنا أعرف كل أنواع الضحك عن ظهر قلبٍ؛ ضحك الأمريكان والأفارقة، وضحك البيض والحُمر والُصفر، فأنا أطلق ضحكاتي بالأجر المنسب في الوقت الذي يحدده لي المخرج.
ولقد أصحت لا غنى عني ، فأنا أضحك على اسطوانات وعلى شراط كاسيت، وكل مخرجي التمثليات الأذاعة يتعاملون معي باحترامٍ شديدٍ، فبإمكاني أن أضحك كإنسانٍ مكتئبٍ سوداويّ وكأخرٍ سويّ وكثالث هيستريّ، يمكنني الضحك كـكُمساري الترام و كـصبي البقـّال ، فالضحك هو كل حياتي ؛ الضحك في الصباح وفي المساء، والضحك في الليل وفي وقت الغروب، وباختصار: لا أتوانى عن القيام بالضحك في كل مكان وفي كل موقفٍ يلزمني أن أضحك فيه.
لعل البعض سيصدقني إذا قلت أن مهنة كهذه مرهقة ومُتعبة جداً ، ولاسيما أنني أجيد الضحك من النوع المُعدي ـوهذا هو اختصاصي بالضبط ـ ولذلك فقد أصبح الإستغناء عنّي مستحيلاً، وبخاصةٍ لدى ممثلين الكوميديا من الدرجة الثالثة والرابعة، فهم يرتجفون بشدةٍ بسبب نكانهم وقفشاتهم الممجوجة الغير مضحكة، حيث أجلس كل مساءٍ وسط الجماهير في مسارح المنوعات ـفي مقابل أجرٍ لذلك ـ كي أقوم بالضحك في المواضع الضعيفة الموجودة في العرض ، وبذلك يضحك الجمهور، ولكن ذلك يجب أن يكون بمنتهى الدقة، فهو ضحكٌ رنانٌ خارجٌ من القلب ، وغير مسموح له أن يخرج قبل ميعاده أو بعد ميعاده ، بل يجب أن يخرج في اللحظة المناسبة تماماً، وبعد ذلك أترك مكاني وسط الجمهور بما تسمح حالة العرض الذي يقدمونه، وفي الوقت الذي يضحك فيه الجمهور عن أخره بأعلى صوت، وبذلك يتم إنقاذ قفشاتهم المُملة السخيفة.
وفي نهاية العرض المُقدم أخرج متسللاً إلى غرفة الملابس، دون أن يراني أحدٌ من الجمهور، وأنا في غاية التعب و الإجهاد ، ثم أرتدي معطفي وأنا في مُنتهى السعادة أنني انتهيت أخيراً من اليوم، وعندما أعود إلى البيت أجد هناك العديد من الرسائل والبريقيات في انتظاري، وأغلب نصوص هذه الرسائل تقول: "إننا في أمس الحاجة إلى ضحكـك ، التسجيل يوم الثلاثاء." ، فأضطر إلى الخروج من البيت في ساعةٍ متأخرةٍ ، واضطر أن أظل جالساً في القطار السريع المُكيف لبضع ساعاتٍ، وأنا أندب حظي طوال الطريق.
سيظن الجميع الأن، أننى ـكبقية الناس ـ أشعر بشئٍ من الميل إلى الضحك بعد الإنتهاء من العمل أو في أوقات الأجازات؛ لكنه من المعروف اللبّان الذي يحلب البقر يكون في غاية السعادة إذا استطاع أن ينسى الأبقار، تماماً كما يشعر البنّاء بالسعادة إذا استطاع أن ينسى المونة ومواد البناء، كما أ، النجارين غالباً ماتكون أبوابهم الموجودة في بيوتهم مُخلـّعَة ، وأدراجهم لاتنفتح إلا بصعوبةٍ وجهدٍ، بل كثيراً ما نجد الحلواني يحب الخيار المُخَـلل ، بينما الجزار يحب أكل الحلويات ، وحتى الخبـّاز ينزع السُجق من رغيف الخبز ليأكل السجق دون الخبز، ومصارع الثيران يحب التعامل مع الناس بلطفٍ وسلامٍ، حتى الملاكمون تشحب وجوههم إذا نزف حد أولادهم من أنفه. أعرض كل هذه النماذج لأقول أنني لا أضحك أبداً بعد الإنتهاء من العمل، فأنا إنسان في غاية الجدية، لدرجة أن الناس تعتبرني ـوربما معهم حقٌ في ذلك ـ إنسانٌ كئيبٌ و متشائم .
وفي السنوات الأولى من زواجنا أنا وزوجتي، كانت زوجتي تقول لي دوماً: "اضحك....... اضحك...، لمَ لا ضحك؟!" ، وقد اتضح لها فيما بعد أنني لا أستطيع أن أحقق لها هذه الأمنية البعيدة المنال ، فأنا أكون سعيداً جداً ، إذا استطعت أن أريح عضلات وجهي المُجهدة ومشاعري المرهقة بسبب الضحك باستمرار طوال مدة العمل، وذلك فليس بوسعي ان أرتاح من العمل إلا بالجدية وتجهم الوجه، نعم..... هذا صحيح، فمجرد الضحك من قِبـَل الأخرين يُـثير أعصابي لأأنه يُـذكرني بعملي كـضاحك، فقدنا هذا إلى الصمت وإلى الحياة الزوجية الهادئةالصامتة، وإن كنت بين الحين والأخر اضبطها وهي تبتسم، فأبتسم معها أنا الأخر ، كما اًصبحنا لانتكلم مع بعضنا البعض إلا بصوتٍ منخفض جداً، فأنا أكره صخب مسارح الكوميديا والمنوعات ، وأكره الضجيج الذي يملأ أستديوهات وأماكن التسجيل، والأشخاص الذين لايعرفونني جيداً يظنون أنني إنسانٌ متحفظٌ ، وربما أكون كذلك لأنني اضطر دوماً أن أفتح فمي وأضحك طوال فترة العمل.
وعلى هذا النحو أعيش وأمضي في حياتي بملامح وجهٍ متجهمةٍ طوال الوقت ، وأحياناً أسمح لنفسي بابتسامةٍ رقيقةٍ ، وأنا أفكرباستمرار هل ضحكتُ في حياتي كلها بما فيه الكفاية أم لا ، أعتقد أن الإجابة على ذلك السؤال هي: لا ، حيث يخبرني إخوتي أنني كنت في أيام الصبا ولدٌ يتصف بالجدية والضحك القليل.
وهكذا فأنا أجيد الضحك على كل شكلٍ ولونٍ، ولكنني لا أعرف لنفسي ضحكة واحدة تخصني أنا وتـُعبر عن ذاتى.

قصة قصيرة للأديب الألمانى "هاينرش بـُل" الحائز على
جائزة نوبل عام 1972 ، قام بالترجمة:أحمد فوزي