المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (ملكة الشرق Hester-Stanhope) – الحلقة الثانية والأخيرة



محمود عباس مسعود
05/12/2009, 01:41 AM
(ملكة الشرق Hester-Stanhope) – الحلقة الثانية والأخيرة

الحلقة الأولى على الرابط التالي:
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?t=62259

الكلام للشاعر الفرنسي لامارتين مخاطباً إستر ستانهوب:

فقلت لها يا سيدتي وكيف تشرفين بهذا اللقب رجلا لا تعرفين اسمه ولا سيرته؟

قالت: نعم إنني لا أعرف ظن الناس فيك ولا ما فعلت في المدة التي صرفتها بينهم، غير أنني قد عرفت حالك أمام الله ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب لأن صدري قد انشرح لك فلا أستطيع أن أخفي عنك شيئاً. وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم غير أنه لم يزل باقياً إلى الآن في البلاد الشرقية وقد تعلمته وأتقنته. فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها. فكل منا ولدٌ لنار من تلك النيران السماوية التي تولت أمر ولادتنا. وتأثيرها إما حسن وإما رديء، وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا وأسارير أيدينا وشكل أرجلنا وحركاتنا ومشينا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معاً منذ قرن كامل مع أنني لم أرَك إلا منذ بضع دقائق.

فقلت باسماً: مهلاً يا سيدتي! إنني لا أنكر ما أجهل ولا أقول أنه لا يوجد في الطبيعة المنظور وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء وترتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دون الكائنات الكبرى، تحت سلطة كائن أعظم منها كالكواكب والملائكة. إلا أنني لا أحتاج إلى وحي تلك الكائنات لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاء.

وأما أسرار مستقبلي فأحب أن لا أعرفها وعندي أنني أجدّف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوقٍ أن يوضحها لي. فأمرُ المستقبل بيد الله وإني لا أعتقد إلا فيه وفي الحرية والفضيلة.

قالت: اعتقدْ ما يحلو لك، أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة نجوم سعيدة قادرة صالحة فأعطتك مثل تلك الصفات، وهي تسوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك. وقد أرسلك الله إليّ لأنير عقلك وأنت من الرجال الذين حسُنت نواياهم وطابت سريرتهم وسيستخدمك الله للقيام بأعمال عجيبة يريد أن يجريها بين الناس... وهل ترى العالم في سياسته ودينه ومعاملاته كامل الإنتظام ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لا بد من مخلـّصٍ ننتظره ونطير شوقاً إليه؟

قلت: أوافقك ذلك وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح وأني أتوقع أكثر مما يتوقع كل الناس قدوم مصلح يقوّم المسالك ويرشد الناس إلى سواء السبيل... وأطلت الكلام في هذا الباب فقالت: اعتقد كما تشاء أما أنا فعندي أنك من الرجال الذين كنت أنتظرهم وقد أرسلتك إليّ العناية الإلهية وسيكون لك دور كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع إلى أوروبا إلا أن أوروبا قد مضى زمنها وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم وستشترك فيه ولم أعلم كيف يكون ذلك، لكنني إن شئت أذكرهُ لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها، إذ رأيت منها أكثر من ثلاثة. فهي أربعة وخمسة وربما كانت أكثر ولا شك أن عطارد من جملتها فهو يهب العقل نوراً واللسان طلاقة وأنت شاعر لا محالة لأن في عينيك والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك.. إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة لأنه قلما وُلد رجل تحت سلطة أكثر من نجم وندر من كان نجمهُ سعيداً. أو إذا كان سعيداً فقلما يخلو من تأثير نجم آخر خبيث يقاومه. أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعتْ كلها على خدمتك، وهي تتعاون على ذلك. فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي.

قالت: هذه أول مرة سمعت به. ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر وأن إسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحار والجبال حتى يصل إلى الشرق. قالت: سيان عندي كونك شاعراً أو غير شاعر، فإنني أحبك ولي فيك أمل وقد تحقق أننا سوف نلتقي ثانية، فإنك سترجع إلى الغرب ولكن لا تلبث أن تعود إلى الشرق فإنه وطنك.

قلت: إن لم يكن وطني فهو ميدان أفكاري. قالت: دع عنك المزح فإنه وطنك الحقيقي ووطن آبائك وقد تحققت ذلك الآن فانظر إلى رِجلك فإنها أشبه برِجل رَجل عربي. وما زلنا نتحادث حتى دخل عبدٌ فخرَّ على وجهه ساجداً أمامها ويداهُ على رأسه، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها فالتفتتْ إليّ وقالت قد هُيئ لكم الطعام فاذهب وكل. أما أنا فلا آكل لأن عيشتي عيشة نسكية فأغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع، ولذلك لا ينبغي لي أن أُكرِه ضيفي عل مجاراتي.

قبل أن أفرغ من تناول الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل واستحضرت لي قضيباً آخر لأدخن أيضا، وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يدخنَّ مثلها فلم أستغرب ذلك، وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتتعطر به الغرفة.

تحدثنا في أمورها وأطلت التفكير فتبيّن لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات، أو هي أشبه بسيرسة معبودة القدمين وأن عقائدها الدينية، وإن كانت غامضة، فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة... زد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق ومتوقد بطول العزلة والإنفراد، وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العرب. فإن تصورت ذلك كله انجلى لك شيءٌ من هذا السر العظيم المستغرب الذي يميل الإنسان لتسميته جنوناً ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه. والحق يقال أن هذه المرأة ليست مجنونه، إذ للجنون علامات واضحة تظهر في العينين وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة. كما يظهر الجنون أيضاً في الكلام، فإن صاحبه كثيراً ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالاً وشططاً. أما حديثها فسامي المعاني، رمزي، متسلسل، مترابط، متناسق وقوي. وفي اعتقادي أن جنونها اختياري وأنها تعرف نفسها حق المعرفة ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به.

وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن التظاهر بالجنون هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب. ولا يخفى أن سكان أرض أُجريت فيها العجائب وكثرت فيها الصخور والبراري، وتلونت تصوراتهم بألوان جوّهم لا يصيخون سمعاً إلا إلى كلام نبيٍ أو إلى كلام من كان كالليدي ستانهوب، فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوات والوحي وما أشبه. وقد عرفت الليدي المذكورة ذلك واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة كما هو الغالب في أمثالها إلى الإهتداء إلى مذهب وضعته لغيرها.

وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها لا ألومك إلا على أمر واحد وهو أنك حسبتِ للحوادث حساباً فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركز كان في طاقتك أن تصلي إليه. فأجابت: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقاداً صحيحاً في الإرادة البشرية ويشك في فعل القدر. فقوتي على حالها لم تتغير غير أنني أنتظر سنوح الفرصة ولا أجدّ في طلبها، وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور المقفرة، عرضة لجَسور قد يطرق منزلي فينهب أمتعتي وحولي جماعة من الخدم الخائنين والعبيد الجاحدين، وهم ينهبونها في كل يوم ويتهددون حياتي أحياناً. وفي المدة الأخيرة لم ينجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر (وأرته إياه) الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبداً لئيماً تربى في بيتي.

ومع ذلك كله تراني سعيدة وألاقي النوائب بقولي "الله كريم"، وأتوقع المستقبل الذي أخبرتك به، ويا حبذا لو كنت تتحققه مثلي.

وبعد أن دخنـّا كثيراً وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة، قالت لي: هلمّ فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر وهو بستاني. فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها. وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك (العرائش) براحة وواصلنا الحديث الذي كنا قد بدأناه.

لبثنا مدة على هذه الحال، ثم التفتت إليّ وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان وما بين نجمينا من اتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمورٍ أخفيها عن كثيرين من بني البشر. سأريك بعينيك عجيبةً من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي، وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة... ثم فتحت باباً من أبواب البستان يشرف على حوشٍ صغير فوقع نظري على مهرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل وأكمل شكل. فقالت لي هيا بنا فأريك هذه المهرة... فأمعنت بها النظر ورأيت فيها من غرائب الطبيعة... وكان لها في مكان المنكبين تجويفاً عميقاً واسعاً يشبه السرج التركي بحيث يخيل للناظر إليها أنها وُلدت مسرجة. وقرب ذلك السرج شيء أشبه بركابين فيمكن ركوبها من دون سرج صناعي. ولاح لي أن تلك المهرة أحست بما لها من المنزلة والإعتبار عند الليدي ستانهوب وعبيدها، وبما سيكون من أمرها في المستقبل، وقد عهدت سياستها إلى سائسين عربيين يسهران عليها ليلا ونهاراً ولا يفارقانها لحظة.

وبالقرب منها مهرة أخرى بيضاء أجمل منها، تشاركها فيما لها من المنزلة عند الليدي المذكورة وهي كأختها. وفهمت من كلام مضيفتي أنه وإن كان مستقبل المهرة البيضاء دون مستقبل المهرة الثانية فهوي سريّ ومهم، وإن كانت لم تقل لي ذلك قولاً صريحاً...

ثم أمرتْ السائسين أن يأخذا المهرتين إلى مرج خارج السور ففعلا. وبعد أن أطلتُ النظر فيهما وتأملت محاسنهما رجعت إلى الدار وطلبت إليها بإلحاح أن تأذن لمسيو برسيفال بمقابلتها فإنه كان صديقي وتبعني رغماً عني وأقام منذ الصباح ينتظر صدور الإذن بمقابلتها، وهي تبخل عليه بذلك. فأجابتني إلى طلبي بعد التردد مدة ودخلنا جميعاً غرفتها لنصرف فيها ليلتنا، فأقمنا ندخن ونشرب القهوة، وبعد مباحثة طويلة دارت بيننا في أمور السياسة ونظام الحكومات انتقلت أنا إلى أمور أخرى.. فسألتها عن سائحين أو ثلاثة من أصحابي مرّوا بها من 15 سنة فأدهشني كلامها عن اثنين منهم لأنني رأيتها مصيبة في حكمها كل الإصابة. ومن العجب العجاب أنها وصفت بحذق وبلاغة لا مزيد عليهما واحداً من ذينك الإثنين كنت أعرفه حق المعرفة، مع أنه من أصعب الأمور أن يعرف إنسان طباعه من أول وهلة، لأن ظاهره يخدع أبعد الناس عن الإنخداع . ومما أذهلني أيضاً قوة ذاكرتها لأن السائح المذكور لم يصرف عندها إلا ساعتين ومضى بين زيارته لها وزيارتي 16 سنة كاملة. فمما لا شك فيه أن العزلة تجمع قوى النفس وتقوّيها. وقد تحقق ذلك الأنبياء والقديسون وأكابر رجال الدنيا والشعراء، فكانوا يطلبون البراري والقفار أو يعتزلون الناس وهم بينهم.

كما تكلمنا عن بونابرت وعن مواضيع أخرى بحرية تامة. وما زلنا على تلك الحال إلى أن مضى أكثر الليل. قال ولما حان الإفتراق ظهر الحزن والكدر على وجهينا، فقالت لي: لا تودّعني لأننا سنلتقي مراراً في هذه السياحة ونلتقي كثيراً في سياحات أخرى لم تخطر لك ببال بعد، فاذهب واسترح واذكر أنك قد تركت صديقة في قفار لبنان.

ثم مدّت إليّ يدها فوضعت يدي على قلبي على عادة العرب مودعاً وكان ذلك خاتمة اجتماعنا."

هذا ملخص ما دار بينها وبين لامارتين من الكلام والمقام يضيق دون ذكره بالتفصيل.

أما بيتها في جونيه فقد استولى عليه بعد وفاتها صاحبه الدمشقي الذي مات بعدها بقليل فانتقل إلى ابن له وحيد.. شنق نفسه فأخذت امرأته تبيع كل ما يمكن بيعه من أدوات البناء خوفاً من أن يؤخذ البيت منها.

وهكذا عجّلت بخراب تلك الدار الجميلة حتى أمست الآن خاوية على عروشها يأوي إليها البوم وينعب فيها الغراب، وكذلك تكاد آثار الضريح الذي أقيم لها تمحى، وهكذا لم يبق لتلك المرأة التي حاولت أن تضاهي ملكة الشرق، ولا لأعمالها أثر إلا في بطون التواريخ التي حفظت ذكرها ليكون عبرة لمن يعتبر وتذكرة لأولي الألباب.

والسلام عليكم

المصدر: دائرة معارف البستاني – طبعة 1878
إعداد وتحديث مصطلحات: محمود عباس مسعود

أنور عبدالملك
05/12/2009, 08:44 AM
شيء جميل مؤلم حال هذه الإنسانة !
أشكرك سيدي محمود عباس أنت ايها الرائع!

محمود عباس مسعود
05/12/2009, 12:17 PM
شيء جميل مؤلم حال هذه الإنسانة !
أشكرك سيدي محمود عباس أنت ايها الرائع!

أهلا بك يا أخ أنور. أنت دوماً على الرحب والسعة.
تحياتي لك ومودتي

نجوى محمد
13/12/2009, 03:47 AM
شكرا لك استاذي على الجزء الثاني من القصة وارسال الرابط لي

فائزة عبدالله
13/12/2009, 04:38 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


قصة جميلة من بطن التاريخ بالرغم من نهايتها المأسوية وتلك هي الأيام دول .
أجمل من القصة ذاتها جهدك الرائع في الإنتقاء والمتابعة السردية , أستاذنا محمود عباس مسعود , لك مني كل التقدير
والإمتنان.

محمود عباس مسعود
13/12/2009, 05:06 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة جميلة من بطن التاريخ بالرغم من نهايتها المأسوية وتلك هي الأيام دول .
أجمل من القصة ذاتها جهدك الرائع في الإنتقاء والمتابعة السردية , أستاذنا محمود عباس مسعود , لك مني كل التقدير
والإمتنان.

شكراً للأستاذة فائزة عبد الله على المرور والكلمات الطيبة.
مع التحية والإحترام.

نجوى محمد
13/12/2009, 05:32 AM
رائعة يا استاذي
اتممت قرأتها واستمتعت جداااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ااا
لا أستطيع وصف سعادتي بمعرفة تاريخ هذه المرأة
أشكرك كثيراااااااااا جدااااااااااااااااااااا لاتاحة الفرصة لي لأستمتع بها
تقبل تحياتي العطرة

محمود عباس مسعود
13/12/2009, 01:20 PM
رائعة يا استاذي
اتممت قرأتها واستمتعت جداااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ااا
لا أستطيع وصف سعادتي بمعرفة تاريخ هذه المرأة
أشكرك كثيراااااااااا جدااااااااااااااااااااا لاتاحة الفرصة لي لأستمتع بها
تقبل تحياتي العطرة

سعيد يا آنسة نجوى بقراءتك لكامل القصة وتمتعك بها.
دمت بخير وعليك السلام