المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقاومة والإرهاب والمخطط الاستعماري / 7/7 ـ الحقيقة الثانية / نورالدين عزيزة



نورالدين عزيزة
10/12/2009, 01:28 AM
7/7 ـ الحقيقة الثانية


إسرائيل وأمريكا دميتان في يد بريطانيا




هل يمكن أن نتصوّر ، بعد الذي رأيناه بالعين المجردة، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية وفي مقدّمتها بريطانيا ولايتها الأولى، تهدف بدرجة أولى من هذا العدوان المتواصل على العراق، إلى أيّ شيء آخر غير تنفيذ هدف استراتيجي قديم يساعدها على تثبيت الوجود الصهيوني في أرض فلسطين وضمان سلامته وتأمينه من أيّ تهديد فعلي حاضرا ومستقبلا بعد سحق العراق ومشاريعه الوطنية والقومية، وبعد أن كانت قد اطمأنت على القضاء على مجرد التفكير في مثل هذه المشاريع في بعض البلدان العربية والإسلامية الأخرى وبالذات تلك البلدان التي تجاور مباشرة فلسطين المحتلة.

لا أحسب أنني غير واضح، ولا أحسب أننا سنختلف عن السبب الحقيقي لهذا التصميم الأمريكي والانقضاض على أعرق موطن للحضارة التي علّمت جميع الحضارات الأخرى الكتابة والقراءة والمنطق والقانون، وأشدّ الدول العربية غيرة على كل شبر من فلسطين وأكثرها جرأة للعمل من أجل القرار العربي المستقل. إنّ حملتهم الرهيبة المدمرة هذه لا يمكن أن تكون بهذا الحجم من الشراسة إلا لأنها حملة عسكرية استراتيجية تهدف إلى بعث حليف لهم وللكيان الصهيوني في المنطقة بعد أن قضت الثورة الإسلامية الإيرانية على نظام الشاه حليفهم القديم وأصبحت قاعدتهم العسكرية المتقدّمة مهددة فعلا في وجودها أو أن المستقبل يخبئ لها تهديدا فعليا لا بدّ من التخطيط الجدي لتصفيته من الآن، وأصبح من الضروري أن يحلّوا محل النظام الوطني القومي الراهن نظاما عميلا لهم ولإسرائيل في العراق، يعوض ما خسروه بخسارتهم لنظام الشاه.
وقد ذكرنا سابقا أن هؤلاء القوم حريصون كل الحرص على احترام القيم والمعاهدات وتطبيق قرارات الأمم المتحدة كلما تعلق الأمر بمصالحهم ومصالح حلفائهم وحتى أصدقائهم "أمثالنا" إذا حافظنا على طبعنا المسالم وتغاضينا عن حقوقنا ولم نتنكر لفروض "الصداقة".. وكان علينا أن نظيف : وإذا لم يكشف أحد منا، لأيّ سبب من الأسباب، عن نواجذه وأظفاره، إن كانت له نواجذ وأظفار أو شبه نواجذ وأظفار. لأنّ هذا هو "الجد" الذي نتساءل عنه. فإذا تنكرنا لواجباتنا تجاه " أصدقائنا"، بل إذا اشتموا مجرّد رائحة نية البعض في شق عصا الطاعة، نكون قد فتحنا الأبواب على مصاريعها لكي " يجد الجد " ويصبح كل شيء في محل نظر وإعادة نظر، كل شيء يصبح للمراجعة والشطب والزيادة والنقصان. لأنّ الصداقة والتعاون و السلام عند هؤلاء القوم لا تعني سوى الولاء والطاعة العمياء وبسط نفوذهم وتحقيق مصالحهم لا غير.
بالطبع ليس من المعقول أن نستمرّ في الكنايات إلى ما لا نهاية. فنقول إنّ (الجد جدّ) يوم انطلقت الثورة الفلسطينية سنة 1935م مع الشهيد الشيخ عزالدين القسام، ويوم ولدت منظمة التحرير، ويوم أعاد الزعيم جمال عبد الناصر الثقة في النفوس، ويوم حبس العالم أنفاسه في ميونيخ، ويوم حطّم الجيش المصري خط برليف، ويوم انطلقت حجارة ثورة الانتفاضة الأولى في فلسطين، ويوم انعقدت قمة الجامعة العربية في بغداد، ويوم أطلق الشهيد الرئيس صدام حسين أول صاروخ ضد إسرائيل، ويوم اندحر العدو صاغرا من معظم جنوب لبنان...

قد تقولون : دعك من هذا الهراء. كل ما ذكرته قديم، " أيام العرب " كثيرة ولكنها لا تحرك ساكنا لبريطانيا ولا أمريكا. فأقول: هذا صحيح. ولكنّ الأيام غيّرت من فصولها واتجاه رياحها، وأصبح ليلها نهارا ونهارها ليلا، وغدت آلامها أعلاما وأحلامها ألغاما، وتحوّلت حجارة الثورة فيها إلى قنابل بشرية تضرب الكيان الصهيوني في الأعماق. أما أمريكا فقد كفتها حجارة طائشة واحدة في عقر دارها لتفقد صوابها.

وعندما أقول إنّ الكيان الصهيوني قاعدة عسكرية متقدّمة، فإنني أعني جيدا ما أقول. لأنّ هذه الدويلة التي سمّت نفسها إسرائيل، لا شيء غير ذلك بالنسبة للغرب عموما. ولولا أنها تحمي مصالحهم ما كانوا ليلتفتوا إليها مجرّد التفات. بل لما سمحوا بوجودها أصلا. فاليهود، هؤلاء الذين يعتقدون أنهم أكثر شعوب الأرض ذكاء ويصفون أنفسهم بأنهم شعب الله المختار، أثبت التاريخ أنهم أغبى شعوب الأرض على الإطلاق وأتعسهم. وأنّ بريطانيا قد لعبت بهم أفظع لعبة في تاريخ البشر ومارست منذ ذلك الحين عداء سافرا للسامية بضرب العرب باليهود وضرب اليهود بالعرب. ولكنّها كانت أذكى من هتلر الذي كان صادقا معهم، لأنها عرفت كيف تضعهم بين المطرقة والسندان وتخلص منهم أوروبا مع الاستفادة وتجنّدهم كمرتزقة لحماية الغرب. فبريطانيا لم تفعل في الحقيقة لليهود سوى أنها جعلت منهم درعا بشريا لأوروبا، فوضعتهم في خط النار، بل في فوهة المدفع وسوف يظلون كذلك إلى أن يفهموا فهم اليقين حقيقة اللعبة.

وربما من لا يميل إلى هذا الرأي سوف يغير موقفه إذا تذكّر معنا أو عرف إن كان يجهل، أن شخصيات يهودية كبيرة اكتشفت هذه المؤامرة التي تستهدف اليهود وهي لا تزال في المهد، وقاوموها مقاومة شديدة. ولعلّ أفضل برهان على ذلك مذكرة مونتاجو (Sir Edwin Montagu) الوزير البريطانياليهودي، مذكرته عن الدعوى اليهودية في 23 /8/1917م ضدالصهيونية وضد وعد بلفور. هذه المذكرة تعبّر عن احتجاجات المعارضين من كبار اليهود في العالم آنذاك، علىتصريح بلفور، والعنوان الذي وضعه لها صاحبها يدل على محتواها دلالة واضحة، وهو(معاداة الحكومة الإنقليزية الحاضرة للسامية) ومونتاجو وكما ذكرنا يهودي وواحد من وزراء هذه الحكومة البريطانية.

على أنّ وضع اليهود البائس هذا ليس جديدا في التاريخ. فقد كانت حياة اليهود منذ أن عرفوا، حياة تشرّد وذل وهوان رغم فترات السؤدد القليلة. ولعل أصدق وصف لوضعهم عبر التاريخ وأصدق رأي فيهم، ما قاله رائد رواية الخيال العلمي والمؤرخ الإنقليزي (H. G. Wells ) في كتابه التاريخي (الصادر سنة 1920م)، من أنّ وضعهم لم يكن أكثر من « حالة رجل يصرّ على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار» [1]

ولا نظنّ أنّ وضع اليهود اليوم كما ذكرنا سابقا يختلف كثيرا عنه في القديم، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم قد أصبحوا أحسن حالا رغم أنهم يبدون أمام أنفسهم في أبشع صورة قد يشبّه بها المرء نفسه. فاقرأ معي هذه الفقرة البليغة المقتبسة من قصة لكاتبة صهيونية:


« ... إنّني في حاجة إلى نباتات خضراء، مثلي في هذا مثل حشيشة الدينار التي تلفّ سيقانها على غيرها من النباتات لأنّها تفتقر إلى الأوراق الخضراء والكلوروفيل.. إنها تستمدّ غذاءها ممن يستضيفها.. إنّها تجرّده من عصارته وتأتي على قوته » [2]

وحشيشة الدينار هذه موطنها أوروبا وأمريكا الشمالية خاصة. وسواء قصدت الكاتبة الصهيونية هذا التشبيه البليغ بحشيشة موطنها أوروبا وأمريكا، أو كان ذاك من غريب الصدف، فتلك هي هدية الغرب للعرب.

حصيلة كلامنا، أنّ الغرب متمثلا في بريطانيا وأمريكا، يشنّ هذه الحرب ضدّ العراق ومن ورائه الشعب الفلسطيني الأسير والأمة العربية قاطبة دون استثناء، الصديق منهم لأمريكا وربع الصديق وغير الصديق، ليسدّ الباب في وجه هذه الأمة على كلّ أمل في أن تكون في الحاضر أو في المستقبل صاحبة أي قرار عندما يتعلق الأمر بمصالحها ومقدّساتها والتفاوض حول قيام الدولة الفلسطينية وطبيعة هذه الدولة فضلا عن التصرف في ثرواتها وشؤونها السياسية والاقتصادية الداخلية والدولية.

وقد توصلنا بالرجوع إلى وثائق تاريخية لم يختلقها أحد، وإنما ضبطها الباحثون في رفوف هؤلاء القوم أنفسهم، إلى أنّ اليهود ما هم في النهاية، رغم كل الأقنعة المضللة، إلاّ ضحية الغرب وبالذات ضحية بريطانيا سيدة الاستعمار الأولى، وأن "إسرائيل " التي تعني بالعبرية "رجل الله " ما هي في حقيقة الأمر سوى رجل بريطانيا وخادمها، وبصفة أعم رجل الغرب، وأن كل تضحيات اليهود بأمنهم وأموالهم ودم أطفالهم ونسائهم ورجالهم، ليست إلاّ خدمة بدون مقابل للتاج البريطاني. وإلى أن يدرك اليهود تمام الإدراك حقيقة هذه اللعبة القذرة، سوف لن ينعموا بغمضة عين على أرض فلسطين المحتلة مهما يبد لهم أنّهم يمتلكون اليوم من أسباب القوة وعوامل الغلبة ما يجعلهم يتمادون في غيّهم وجبروتهم.

تلك هي إذن الحقيقة، ولكن ليست كل الحقيقة وإنما هي نصفها. فلطالما ردّد الإعلام الغربي، ومعه بالطبع إعلامنا العربي مع الأسف، أنّ رئيس الوزراء البريطاني تلميذ نجيب يتبع خطى الرئيس الأمريكي المطعون في كبريائه، وأنه منصاع انصياعا أعمى وراء واشنطن. غير أننا أمام كلّ المعطيات التي وقفنا عليها سابقا، لا أرى أيّ معنى لهذا الكلام. ذلك أن نصف الحقيقة الثاني الذي بقي علينا إقراره، هوأنّ أمريكا اليوم، بما لها من تطوّر حضاري وتقدّم تكنولوجي وقوة عسكرية لا تضاهى، أصبحت مثلها مثل إسرائيل، دمية متحركة في يد الذئبة العجوز تنفّذ بها مخططاتها، وتخيف بها العالم بأسره حتى أقرب المقربين إليها في أوروبا.
إنّ الحقيقة التي توصلنا إليها تعني بعبارة أخرى أنّمن دمّر ويدمّر العراق والعرب عموما في هذه الأيام، ليست أمريكا وإنّما بريطانيا بعصا أمريكية. ولم تستطع الحكومة البريطانية إخفاء ذلك الحقد العنصري المتأصل فيها ضدّ كلّ جنس غير أوروبي وخاصة العرب، فهذه أمريكا في عزّ غضبها والفرصة سانحة ليخرج راكب القطار السرّي من مخبئه في هذه اللحظة المناسبة ويقذف بالمزيد من الوقود في بيت النار، ولِمَ لا يبعد قائد القطار، ويتولّى القيادة بنفسه فذلك أضمن له لكي يصل بالسرعة التي يريدها إلى هدفه المرسوم. هذا ما فعله السيد بلير مع بوش، والهدف المرسوم منذ قرن وربما أكثر هو كما رأينا الحفاظ على تلك القاعدة العسكرية الغربية المتقدمة التي سمّوها إسرائيل.

بالطبع لا نشك في أنّ المسألة أكثر تعقيدا من هذه البساطة التي نطرح بها رأينا وإن لم نصغه من عدم وإنما استنادا إلى بعض الوثائق المؤكّدة. ولعلّ أكبر دليل آخر قد لا يدع مجالا للشكّ في ما ذهبنا إليه هو أن أمريكا لها من الأصدقاء في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم العربي بالذات، أكثر من أيّ منطقة أخرى، وأنه لا يمكن لأي كان الادعاء أنّ المصالح الأمريكية مهددة أو قد تصبح مهددة في المنطقة خاصة لو أن أمريكا استمرت في القيام بدور الوسيط المحايد أو الحريص على إعطاء لكل ذي حق حقه حسب قرارات مجلس الأمن التي لا تنفك تستند إليها وتتشدّد في تنفيذها كلما تعلق الأمر بالعرب وآخرها العراق. والغريب أنّ أبسط مواطن أمريكي وغير أمريكي، يعرف أنّ ما تقوم به حكومة أمريكا في الوقت الراهن ضد العرب وغير العرب، لا يخدم بأيّ وجه من الوجوه، مصالح أمريكا ولا المواطن الأمريكي وأمنه، اليوم وغدا، عاجلا وآجلا. إذن، مصالح من يخدم هذا الإصرار الأمريكي الغريب على تدمير على العراق بدون أيّ موجب، إن لم يكن يخدم مصلحة الوجود الصهيوني في فلسطين ومصلحة ربة الاستعمار العالمي بريطانيا ومؤامراتها ومخططاتها العنصرية الاستعمارية التي لم تتوقف عنها إلاّ لمزيد من نسج المؤامرات والدسائس ضدّ الإنسان وأمنه واستقلاله حيثما كان.

إنّ المتاهات التي اخترقناها لكي نصل إلى ما نعتقد أنه الحقيقة لم تكن قليلة ولا سهلة. وإذا كان هذا هو الوجه الآخر من الحقيقة المرّة، فحريّ بنا أن نشير قبل أن نختم ولو مجرد الإشارة إلى وجه آخر لهذه الحقيقة، وجهها الأشد مرارة؛ وهو أنّ المسؤول الأول والأخير عن أوضاعنا العربية المزرية الراهنة هم نحن العرب ولا أحد غيرنا. وأنّ كل ما يعيشه العربي اليوم يعود إلى فشل ما سميناه تفاؤلا بالنهضة فشلا ذريعا.

غير أنّ الأهم من الحقيقة نفسها حلوة كانت أو مرّة، هو: ما العمل بعد معرفة الحقيقة؟

لا أظنّ أنّ المثقف في العالم العربي مهما يكن موقعه، ينكر ما كشف عنه مؤرخونا وعلماؤنا من حقائق وما قدّمه رجال الإصلاح والمفكرون والأدباء العرب من مواقف ورؤى، كانت كفيلة لو محّصناها واهتدينا بمناراتها، بأن تدفع بمقام أمتنا بين الأمم أشواطا في الطريق المنشود. ولسنا ننوي الدخول هنا في متاهة الأسباب والمعوقات التي حالت دون أيّ عمل عربي مثمر، فهي رغم كثرتها لا أظن أن أبسط مواطن عربي يجهلها. على أنّ التهاون الذي أحبط العزائم بالأمس ليس قدرا، والتمائم التي حكمت على خطانا بالمراوحة في مكانها يمكن فكّ عقدها، وما نلقاه اليوم من ألوان التهميش والإذلال والاستبداد خليق بأن يعزّز فينا في هذه الظروف العصيبة السؤال الملح دائما: هذه هي الحقيقة، فما العمل؟


نورالدين عزيزة

________________________________________


[1] خرافات يهودية، أحمد الشقيري، الطبعة الأولى 1981، ص 183
[2] كان يمكن شراء مدفع بهذا المال قصة للكاتبة الصهيونية روت الموجي، صحيفة ها آرتس، الملحق الأدبي، 6/6/1969م