المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عزت سراج ، قاصا ـ بقلم / سعد الدين حسن



الدكتور/عزت سراج
15/12/2009, 08:04 PM
عزت سراج قاصا
بقلم سعد الدين حسن
*******
صاحب هذه الأقاصيص البديعة ،الشاعر الكبير الدكتور عزت سراج ، صديق شخصي منذ سنين ليست بالقليلة ، وأعرف أخلاقيته الكريمة جيدا ، أخلاقية الفلاحين البسطاء الذين لا يضمرون لأحد سوى الخير والعطاء ، وهو ما يزال مقيما في قريته محلة مرحوم مركز طنطا ، التي أحببتها منذ صباي – كنت أستذكر دروسي المدرسية في حقولها ، أقول هذا الكلام وأكتب هذه السطور منذ البداية للقارئ الكريم لأن كاتبنا الموهوب متمكن من منهجيته وإبداعيته وعلى رأسها اللغة ، فهو باحث أكاديمي مثقف على علم بمنهجيته في الحياة والجامعة ، يطأ بشجاعة المبدع حقولا مليئة بالألغام وأجلها حقل الجنس ، وهو لغم سريع الانفجار إذا ما وطأته العقول المنغلقة والقلوب المختومة ، وفي هذا المقام يقول عالمنا العربي التراثي الجليل ، ابن قتيبة ، في كتابه الموسوم " عيون الأخبار " :
" إذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشي أو التخاشع على أن ...تعرض بوجهك فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب "
1- حقل الجنس الذي وطأه عزت في عدد من أقاصيصه ، ليس هو الجنس المتعارف عليه إلا من حيث هو مفجر لصورة العلاقات النفسية والعاطفية والاجتماعية والثقافية بين الرجل والمرأة . الجنس ها هنا مجرد تكأة ، والنسق القصصي هو نسق تحولات المرأة في علاقتها بالرجل ، والمرأة مجرد رمز لقيم إيجابية وقيم سلبية في واقعها التاريخي المتحول .تأمل معي أقصوصة "الخلاص" – بضمير المتكلم – علاقة الراوي بتلك المرأة من لحم ودم التي " تمددت فوق متاعبها وتعرت من كبريائها وألقت وجهها تحت السرير .ملأت الحجرة بأنفاسها الملتهبة تحثه على الانتهاء من ذلك الديوان الذي يطل وجه صاحبه في دمامة وقبح أثقل من الجبال التي تحملها عقارب الساعة "
وبعد محاولات مستميتة للخلاص – خلاص الراوي منها ، وخلاصها منه – ينهي حكايته هكذا
" أوشك أن يقع لكنه لم يدخل بعد مدينة الموت . تماسك في صدرها محاولا أن يظل خارجها ، وهي ما زالت تغرس أسنانها في شفتيه قابضة عليها في استماتة . وهو ما يزال في خروجه وقد التصق بها واستسلم للطوفان . خرجت الخيول تصرخ من دمه . أحس بإرهاق شديد ورغبة في التقيؤ ، لكنه تماسك واستسلم للنوم . في الصباح وجدوه مطعونا في ظهره وقد تناثرت أوراقه حول جثمانه وهي تبكي في جنون مستحيل "
في أسطورة عشتار البابلية ، كان من تقاليد الخروج من العالم السفلي ، هو أن يدخل بديل آخر عن الخارج منه ، إلا أن عشتار اختارت زوجها ليكون بديلا عنها ، من دون كل من مرت بهم من الرجال . حيث هجم عليه حراس العالم السفلي ، وقيدوه وانهالوا عليه ضربا بالعصى والفؤوس ، وطعنا بالحراب.
هذه المرأة في أقصوصة " الخلاص " – وأنا هنا لا أحاول التأويل – التي طعنت الراوي هي اختارت نفسها بديلة للخروج من عالم الراوي .....؟
أرى أن على القارئ أن يعيد قراءة الأقصوصة وحده – وهذا دوره الإيجابي – ليجيب عن سؤال القص
2- نمارس تجاربنا الجنسية الشرعية مع زوجاتنا في بيوتنا ، والفاسدة في أي مكان لكن حين نراها سطورا في الكتب ، أو مصورة في السينما والقنوات الفضائية ، نخجل من أنفسنا ونتكهرب ، لاعنين من كتبوها ، ومثلوها ، ونقيم الدنيا ولا نقعدها لسبب بسيط ، أن تلك الكتابة جعلتنا نواجه أنفسنا ، ونواجه عوراتنا العقلية وعقدنا النفسية أية ازدواجية هذه ..
3- فاجأني الصديق عزت سراج ، وهو الشاعر الكبير والمثقف الأكاديمي ، وجل تجاربه في الشعر ،فاجأني بمجموعته القصصية هذه " مذكرات رجل حاف " ليضيف بها إلى مواهبه ، موهبة جديدة ناضجة 0
" مذكرات رجل حاف " تضم 56 أقصوصة ، تتراوح الأقصوصة بين واحد وعشرين سطرا وسطر واحد ، مروية بالتناوب بين ضمير المتكلم وضمير الغائب .
وضمير الغائب كما يقول الصديق الشاعر " فاروق خلف " منذ " هايدجر " ، والظاهرتية ، وإعادة مركزة العالم على الذات الإنسانية لم يعد ضمير الغائب في القص هو ضمير الغائب ، بل أصبح هو ضمير المتكلم " كيف ...؟ ، تأمل معي أقصوصة " مذكرات رجل حاف " :
" لم يكن يصدق نفسه حين احتشد الرجال والنساء وامتلأت القاعة بالأدباء الذين جاءوا يستمعون اليه ، وحين أخرج مذكراته الحبيسة في مكتبه منذ سنوات طويلة . أخذ يقرأ ودوي التصفيق يسد أذنيه وكلمات الإعجاب تتناثر من هنا وهناك لكنه كان مشغولا بشيء آخر ظل مجهولا يتحرك داخله دون أن يدري له تحديدا حتى أحس بالهواء يعبث بأصابع قدميه الحافيتين ، سكت فجأة ، وأمام دهشة الحضور تسلل الى الخارج في انكسار "
هذه الأقصوصة التي تشف عن أعماق هذا الأديب أو الشاعر ، ألا تحيلنا على الفور الى موقف المتصوف "بشر الحافي " في السوق ، فقد شعر فجأة بفزع عظيم حين رأى الناس فيما هم فيه ، فخلع نعليه ، وانطلق يجري ويعدو ، فلم يدركه أحد ...! ؟
أما الحافي في أقصوصتنا فيتسلل إلى خارج القاعة في انكسار ، وهي آخر أقصوصة في المجموعة ، وهي حيلة بارعة من القاص ليجعلك تبدأ القراءة من الأول ، أقصد أول أقصوصة في المجموعة وحتى تنتهي في الآخر إلى الأقصوصة نفسها وتكون بذلك قد قرأت مذكراته ، أي مذكرات هذا الحافي المنكسر 0أو تأمل هذه الأقصوصة – ما يزال الحديث قائما في موضوعة أن ضمير الغائب أصبح ضمير المتكلم – أقصوصة " موت " ص 1 في المخطوطة ، والمرسومة كتابة في شكل قصيدة نثرية :
( أعطتني كل ما أشتهي
أعطيتها حبي
أعطته كل ما يشتهي
أعطاها كل ما تشتهي
أحببتها كثيرا جدا ....
لكنها ماتت
قبل أن تحبني .)
ثم اقرأها معي هكذا بعد أن تحولت الى ضمير الغائب :
" أعطته كل ما يشتهي ، أعطاها حبه ، أعطته كل ما يشتهي ، أعطاها كل ما تشتهي أحبها كثيرا جدا ... لكنها ماتت ، قبل أن تحبه "
بعد هذه التجربة أعتقد أن موضوعة الضمير قد اتضحت لكم .
4- النص بنية مغلقة لا يمكن إدراكها إلا بتفكيكها إلى عناصرها المهيمنة :
- اللغة –وعاء الشخصية
ـ الواقع في نسقه المتحول
ـ المكان – بيئة ومرتكز للحدث
ـ الزمن كتاريخ وقائعي
أو هكذا نرى . وهي مهمة شاقة ونبيلة أتركها للأساتذة النقاد .
وتلخص هذه الأقصوصة الجارحة " غربة –1988 " بعضا من إدراك النص :
"كان يجلس وحده في الشرفة يقرأ ويكتب ولا يمل النظر في السماء 0000و كثيرا ما تهزأ به وتسخر من كتبه وتبصق على مؤلفيها وتسبهم وتدعو عليهم بالجحيم .وحين رفرف نعشه وابيض وجهه كطفل ملائكي وصار حديث البلدة عادت من جنازته لتظل ليلا وحدها في الشرفة تقرأ وتكتب ولا تمل النظر إلى السماء ولا تعير للوم الآخرين انتباهها ."
ولأنني لست من أولئك الذين يعيدون إنتاج النص بحكيه مرة أخرى واستخراج المعنى للقارئ فيثبتون عنده كسله العقلي ، لهذا أضع النص نفسه بين يدي القارئ دون تأويل ليستخرج الدلالة وحده لعله يتخذ موقفا خاصا به .
في النهاية أقول إن هذه الأقاصيص بجل موضوعاتها وشخصياتها وبيئتها وأحداثها تشي بأن كاتبها الموهوب حقا ، يعيش في خضم الراهن الواقعي ، ولكم أنا سعيد بهذه المفاجأة الجمالية التي تحلق خارج السرب المبتذل .
لقد كسبت القصة القصيرة كاتبا ناضجا يعتز به هذا الفن الصعب ، فن القصة القصيرة .انطلق إذن يا صديقي واصهل وحمحم في تخومها . سلام عليك .


سعد الدين حسن
شبشير الحصة – طنطا
أغسطس 2003 م