المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القهوة العربية



عبد الحميد الغرباوي
16/02/2007, 09:39 AM
القهوة العربية

تفاخرت قبيلتان عربيتان، فادعت الأولى أن قهوتها هي الأحسن و الأفضل، و أن صنعها محاط بالكتمان و السرية التامة ، و أن توابل تدخل في صنعها لا يعلمها إلا شيخ القبيلة و بعض من أعوانه المقربين المخلصين..
و ادعت الثانية أن قهوتها لا منافس لها، و إن يتذوقْها المرءُ، يصعدْ إلى دماغه تأثيرها العجيب، و تصبح مطلبا لا غنىً عنه، و الفضل في ذلك يعود لتوابل محاطة بالسرية الشديدة، أما القائمون على جمعها و تجفيفها و طحنها و خلطها مقاديرَ مضبوطة بميزان لا يوزن به إلا الذهب، فهم فريق من البكم الصم.
و ادعت القبيلة الأولى أن طقوس طبخ قهوتها و سكبها في الأقداح، تكاد تشبه طقوس عبادة...
فانبرى خطيب من القبيلة الثانية مقاطعا، يعلن أن طبخ القهوة،عندهم، و صبها في الأقداح، تسبقه عملية تطهير للمكان و البدن. و أثناء تهييئها، تعلق في مواضع معينة من المطبخ، تعاويذ يصنعها فقهاء لا يراهم أحد و لا يرون أحدا، و لا يخرجون من مخابئهم إلا ليلا، و تردد عذراوات جميلات أناشيد روحانية كي لا تصيب القهوة عين حاسد أو حاقد بمكروه فتفقد نكهتها و سحرها...
و بلغت المفاخرة ذروتها، فتفاخرت القبيلتان بأنواع السجائد و الستائر و الفرش و الطنافس التي تجلب للمناسبة، و بنوع كتان الخيمة و العريش، و جودة و صلابة خشب الأوتاد، و الأعمدة...
و استمر السجال بين القبيلتين، و تعمق و تشعب حتى طال الزي التقليدي و العطر و الساعة اليدوية و النظارات الشمسية و السيارة، و الشنب الغليظ و الرقيق، و المعقوف و المحفوف من الجانبين و طول القامة و العمامة...
و مرت في أثناء السجال من أمام مجلس القبيلتين، غادة، حسناءُ، هيفاءُ، تختال في ثوبها الحريري الفضفاض، تستر رأسها بخمار أسود و تخفي أنفها و فمها خلف لثام، تاركة عينين نجلاوين،سوداوين، ينثران سحرهما على الخلق..
قال أحدهم:
ـ الحسناء التي مرت هي من قبيلتنا، و قبيلتنا تشتهر بجمال نسائها و خفة روحهن..
فوقف شخص يفند ادعاءه، متهما إياه بالكذب، فالحسناء التي مرت، هي من قبيلته، و الأكثر من ذلك ، هي ابنة خاله، و بنات قبيلته يُعرفن بالعفة و الجمال و صدق المشاعر التي غالبا ما يسكبنها في قالب شعري رقيق عذب، فأكثرهن مجيدات بارعات في قول الشعر...
اشتط الأول غضبا، و بدأت الهمهمات هنا و هناك، و تململت الأجساد في أماكنها، و تبادلت الأعين النظرات، و اعتبر ممثل القبيلة الأولى مفاضلة الثاني شتيمة في حق نساء قبيلته، و منهن أخته و أمه و عمته و خالته و مرضعته، و هن الشرف، و الشرف حين يمس، يصير مدنسا، و وصمة عار على جباه رجال القبيلة، و لا يمكن لشرفهم أن يعود إليه طهره و نقاؤه، و تعود إلى رجال القبيلة عزتهم و شهامتهم ، إلا بسفك دم الجاني..فاتقدت عيناه شررا، و كز غضبا واضعا يده على غمده، و دون روية أو تفكير، وضع الآخر يده ، أيضا، على غمده استعدادا لنزال قد يكتب له أن ينتهي بقاتل و مقتول، و يكون بمثابة إعلان عن بدء حرب ضروس، لن تضع أوزارها إلا بدمار و اندثار قبيلة من القبيلتين، أو هما معا، أو بتدخل طرف ثالث من ذوي النيات الحسنة لفك الخلاف و إنهاء الحرب..
و تعالت الصيحات، و انتفخت الأوداج، و تبودلت الاتهامات، و تناثرت عبارات القذف و الشتم في كل جانب، و ارتفعت الأيادي ملوحة بالتهديد و الوعيد، و هُيئت القبضات للكمات سريعة و خاطفة تخلخل دماغ الخصم و تجعله غير قادر على التركيز، و كل واحد اختار له خصما، مركزا فيه عينيه ليحرقه بنظرات يتطاير الشرر منها، قبل أن يطعنه بخنجره أو سيفه...
في ذات اللحظة، جرح سكينة الصحراء صوت مزمجر، هادر...
و ما هي إلا رمشة عين، حتى بدت طائرة حربية محلقة في السماء..
خرست الألسن، و نزلت الأيادي، و خمد لهيب الأعين، و تحولت الصرخات إلى همهمات و حنحنات، و عاد الواقفون إلى مجالسهم، و اشرأبوا بأعناقهم يتابعون تحليق الطائرة واجمين، مرتجفين، بينما التجأ البعض إلى الزوايا و الأركان مختبئا، و البعض الآخر لطم الوجه حسرة على روحه التي ستذهب إلى ربها بعد حين، رخيصة جراء قذيفة تلقيها الطائرة على الرؤوس...
و لم ينقذ ماء وجه الرجال،الذين كانوا قبل ظهور الطائرة بقليل، شدادا؛ و تحولوا حين حلقت الطائرة فوق رؤوسهم خرافا مفزوعة ، تبحث لها عن مخبإ يحميها؛ لم ينقذ ماء وجههم سوى شيخ وقور، ظل طوال الوقت صامتا، محافظا على هدوئه و اتزانه، بأن طلب منهم نسيان ما جرى، و تبادل شرب القهوتين، بينما كانت الطائرة الحربية تناور، ترمي خلفها أدخنة بيضاء و زرقاء، و تنكفئ على نفسها، كما لو أنها فقدت توازنها، ثم تعود إلى وضعها الطبيعي، مسرعة، مبطئة، متراجعة إلى الخلف ، متقدمة إلى الأمام، ثم فجأة، تأخذ لها هيئة المتأهب للهجوم، متوجهة بمقدمتها التي تشبه رأس رمح إلى الأسفل ، كما لو أنها تريد أن تشطر الأرض إلى شطرين، أو ترمي الجمع المرعوب بنار تحرقه و تبيده عن آخره.تسرع في النزول هادرة، و ببراعة و حدقة، تنحرف صاعدة إلى الأعلى ، تاركة وراءها صدى يصم الآذان ، و يهز الصدور هزا...
و حين رأوا ما رأوا، أعادوا السيوف و الخناجر إلى أغمادها، و أخفوا ارتباكهم و فزعهم في صيحات تهليل و ترحيب بدعوة الشيخ الوقور، ثم هبوا إلى احتساء أقداح القهوة بشراهة صامتين ، و الرعب لا يزال يتملكهم...

د. جمال مرسي
16/02/2007, 05:00 PM
الله الله أخي عبد الحميد
قصة جميلة محكمة النسيج أتقنت صياغتها
و بما أنهما قبيلتان .. فبلا شك أنهما عربيتان
فنحن العرب نختلف على أحقر الأشياء و قد تقوم حروب تفني و تبيد و تمتد لسنوات و ليس أدل على ذلك من حرب البسوس و لكن في المقابل تجمعنا الشدائد و الملمات فنقف يدا واحدة و جسدا واحدا و كانت ذي قار مثالا لنا .
فمتى تعود ذي قار و نتحالف و نتحد و لا نختلف على صغائر الأمور لأن هناك ما هو أشد و أعظم يجابهنا .
قصة جميلة و ذات مغزى
سعدت بالقراءة لك أخي الفاضل
و لك الود
د. جمال

ضحى بوترعة
16/02/2007, 07:55 PM
اخي عبد الحميد
بقدر بساطة الحرف تكمن روعة هذه القصة وبعمق مغزاها
فعلا انا مع رأي الدكتور جمال قصة محكمة النسيج
مودتي

زاهية بنت البحر
16/02/2007, 10:50 PM
أخي المكرم أستاذ عبد الحميد ..قصة تحاكي الواقع , وماهذا باعتقادي إلا مما نغوص به من الجهل بأمور الحياة رغم ماعندنا من شرعٍ مبين ,و علماء ينصحون ,ولكن الآذان صُمَّتْ والقلوب عميت ,وفاز من اتبع الحق وخسر من انزوى بلاوعي ولاعلم بكفيه شرَّ نفسه والأعداء ,ولاحول ولاقوة إلا بالله..
أختك
بنت البحر

صبيحة شبر
17/02/2007, 01:43 AM
القاص المبدع عبد الحميد
قصة واقعية ، فما زال العرب رغم ادعائهم التحضر
بدوا في عقولهم يتفاخرون باتفه الاشياء
ويشتد خصامهم ويسارع الواحد منهم الى السيف
كي يرد به تهمة صغيرة سمعها من بعضهم
ولكنهم حين يجدون من هو اقوى منهم يسارعون الى الاتفاق
ونسيان مواضع الاختلاف

عبد الحميد الغرباوي
17/02/2007, 11:12 AM
سعدت بالقراءة لك أخي الفاضل
و لك الود
د. جمال
المبدع د. جمال مرسي، شرفتني كلماتك..
أتمنى أن أظل عند حسن ظن رواد منتدى القصة القصيرة.
محبتي

عبد الحميد الغرباوي
17/02/2007, 11:16 AM
أخي عبد الحميد
بقدر بساطة الحرف تكمن روعة هذه القصة وبعمق مغزاها
ضحى بوارعة
سعيد لتفاعلك مع النص..
أرجو أن يستمر التواصل..
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
17/02/2007, 11:21 AM
أخي المكرم أستاذ عبد الحميد ..قصة تحاكي الواقع , وماهذا باعتقادي إلا مما نغوص به من الجهل بأمور الحياة رغم ماعندنا من شرعٍ مبين ,و علماء ينصحون ,ولكن الآذان صُمَّتْ والقلوب عميت ,وفاز من اتبع الحق وخسر من انزوى بلاوعي ولاعلم بكفيه شرَّ نفسه والأعداء ,ولاحول ولاقوة إلا بالله..
أختك
بنت البحر
و بعد، ليس لي سوى أن أردد مع نزار:
أنا منذ خمسين عاما
أراقب حال العرب
و هم يرعدون و لا يمطرون
و هم يدخلون الحروب و لا يخرجون
و هم يعلكون جلود البلاغة علكا
و لا يهضمون.
محبتي

عبد الحميد الغرباوي
17/02/2007, 11:27 AM
القاص المبدع عبد الحميد
قصة واقعية ، فما زال العرب رغم ادعائهم التحضر
بدوا في عقولهم يتفاخرون بأتفه الأشياء
ويشتد خصامهم ويسارع الواحد منهم الى السيف
كي يرد به تهمة صغيرة سمعها من بعضهم
ولكنهم حين يجدون من هو أقوى منهم يسارعون إلى الاتفاق
ونسيان مواضع الاختلاف/صبيحة شبر
ابنة الفرات، المعانقة لضفة أبي رقراق،..
حضورك هنا، يذكرني بزمن " الأقلام العراقية" و " الأديب المعاصر" و " الطليعة الأدبيبة" و " المزمار"..و.. تلك المنابر كانت جامعاتي، و معاهدي...آه يا زمن...
مودتي

صابرين الصباغ
17/02/2007, 02:36 PM
تتفاخر اجساد الموتي
بأكفان من الحرير
وتنسى اعمالها
استاذ عبد الحميد
تصوير رائع لحالة العرب وتفاهاتهم
دمت مبدعا

عبد الحميد الغرباوي
18/02/2007, 05:28 AM
تتفاخر أجساد الموتي
بأكفان من الحرير
وتنسى أعمالها
أستاذ عبد الحميد
تصوير رائع لحالة العرب وتفاهاتهم
دمت مبدعا/صابرين الصباغ
أسعدني جدا تفاعلك مع النص..
و مزيد من العطاء الأدبي، أختي صابرين..
مودتي

علاء الدين حسو
19/02/2007, 04:25 PM
التفاخر بالقهوة ميزة جيدة لا ارى حرج منها وان –كما ذكرت مجلة العربي في عدد من اعدادها- كانت سببا في تاخر جون كيندي عن موعد بسبب تنظيف اسنانه لانه شرب قهوة عربية .

الفخر من اصيل عاداتنا ولما لا ونحن نملك اقدس الاماكن واعرق الحضارات ..
اما المرأة فهي احد اسباب طردنا من الجنة وسبب قتل هابيل وبسببها دخل النبي يوسف السجن وهي سبب فقع اوديب عينيه وسبب حرب باريس وشعر عنترة وقيس.

اما الشرف فكما قال الكاتب التركي عزيز نسين في احدى قصصه بان الناموس (الشرف) كان غازا طيارا يقدر المرء درجة شرفه كلما امتلك اكثر من اسطوانات الشرف حتى جاء اليوم الذي تحطمت فيه الاسطوانات وطار الشرف كغاز في الجو وكل فرد حصل على ما استطاع من شم الغاز الطيار.

الا الطائرات ..
اقف هنا ..مفكرا ..رايت الطائرة وركبت الطائرة ولكننا لم نصنعها بعد .. تحياتي استاذ عبد الحميد

عبد الحميد الغرباوي
21/02/2007, 11:10 PM
أقف هنا ..مفكرا ..رأيت الطائرة وركبت الطائرة ولكننا لم نصنعها بعد .. تحياتي أستاذ عبد الحميد/علاء الدين حسو
الصديق علاء الدين،
إننا نصنعها عندهم..العلماء العرب، هناك.. و ما أكثرهم..
غير مسموح لنا أن نصنعها في بلداننا، تحت طائلة الاجتياح السريع...
إنه سبب من أسباب تدمير العراق..و هذا موضوع لم يتطرق إليه أحد..
و نفس السبب الذي يجعل العالم( الآخر) يرغي و يزبد مما تعرفه إيران..
أخي علاء الدين،
لطفا، لا داعي للرد على ما جاء في هذا الكلمة..
محبتي