المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهستيريا: غضب..خوف..ذعر..عمى.. شلل



محمود عباس مسعود
21/12/2009, 02:45 PM
كانت المحكمة منعقدة، والنظـّارة ترى وتسمع، ووالد الفتاة ووالدتها حاضرَين بين الحاضرين. ووقف الشاهد يدلي بشهادته.

فسأله القاضي: إنك تذكر الهستيريا وتقول أن هذه الفتاة تدل أعراضها على أنها مصابة بها. فكيف كان ذلك؟

قال الطبيب الشاهد: آسف إن كان في تعبيري شيء من الإبهام. إن الهستيريا لفظ له معنيان، معنى يجري على ألسنة الناس، ومعنى يجري على ألسنة الأطباء، من بشريين ونفسانيين، وبينهما اختلاف. ولكن يجمعهما أنهما حالتان نفسيتان.

قال القاضي: فادْلُ لنا أولا بالمعنى الذي يجري على ألسنة الناس.

قال: الشاهد: إن الرجل منا، وإن المرأة خاصة، توجد في ظروف تخرجها على طبيعتها العادية الهادئة، فتنفعل انفعالاً شديداً يظهر في حركاتها، وفي صوتها، إلى درجة تكاد أن تكون جنوناً. ويكون ذلك عن خوف وذعر شديدين. ويكون عن غضب بالغ، يدفع بها، أو يدفع به، إلى تحطيم كل ما وجد، حتى أغلى شيء يعتز به. ومن أسباب ذلك الحزن البالغ: امرأة يموت ولدها فتلطم وجهها وتمزق ثيابها وتشد شعرها، وقد تخرج إلى الشارع هائمة لا هدف لها إلا البعد عن مكان الكارثة إلى الهواء الطلق، تزفر فيه الساخن الحارق من أنفاسها.

قال القاضي: سمعنا بالهستيريا تسري في بعض الجماهير إذ تحتشد..

قال الشاهد: هذه من تلك، كلاهما انفعال شديد يخرج بالناس عن الوعي، فيطلقون لغرائزهم العنان. مثال ذلك حريق في السينما. ما تكاد تعلو إشارة، أو يقال حريق، حتى يهتاج الناس، ويصطرعون طلباً للأبواب، في غير نظام، ويدوس بعضهم بعضا ولا يبالي. أو هو لا يشعر بما يصنع. إنه يطلب النجاة بأي أسلوب، ولو بالأسلوب الذي يؤخر الوصول إلى النجاة، ويكون فيه سد المخارج وانغلاقها، وضياع الأرواح.

ومن هستيريا الجماهير، وقوعهم تحت سيطرة الخطباء، في البيئة التي مهدت أحوالها إلى سرعة إثارة الناس، فقد يبلغ الخطيب من القوة ما يحمل الناس على فقد صوابهم، فيقومون يصرخون، ويحرقون، هدفهم، تحت الغضب الشديد، الهدم والتخريب.

وقد يكونون، أفراداً في حياتهم العادية، قوماً رزينين محترمين. ولكن قام الغضب فيهم، في هذا الظرف الخاص، يسدّ ما بين الأفعال والعقول. فقد يمسك العاقل منهم عند السِلم بمدية عند الغضب فيذبح بها الإنسان كما يذبح البهيم. ثم ينقضي النهار فلا يكاد يدرك ما صنع، كيف صنعه، وكيف استطاعه.

فهذا يا سيدي القاضي معنى الهستيريا التي تجري على ألسنة الناس. وأنا إذ قلت أن هذه الفتاة مصابة بالهستيريا، فما قصدت أبدا ذلك المعنى الذي يجري على ألسنة الناس.

قال القاضي: فحدثنا باختصار عن الهستيريا بمعناها الذي عند الأطباء.

قال الشاهد: إن الهستيريا عند الأطباء اضطراب نفساني، مظهره عصبية انفعالية، يصاحبها خلل في وظائف الجسم. مثال ذلك فقدان الإحساس في أجزاء من الجسم لا تتفق مع توزع الأعصاب الحسية وتفرعها فيه. فقد تفقد اليد حسها. وقد تفقد القدم. وقد تفقد الرِّجل. وقد تتعرض أجزاء الجسم، من الخصر إلى أعلى، إلى فقدان الإحساس. وهذه ظواهر لا تتفق أبدا مع فقدان الحس الذي يصيب المرضى بسبب تغير عضويّ.

ومن مظاهر الهستيريا حدوث شلل في نواحي الجسم تفقد به الحركة. وقد يشل نصف الجسم، وقد يشل عضو بذاته. ومع ذلك تظل الحركات الإنعكاسية سليمة، ولا تنضمر العضلات. وهذا يتنافى مع أعراض الشلل الجثماني العضوي المعروف. إلى غير ذلك من الأعراض. والمتعب في هذه الأعراض أنها تشتبه كثيراً بأعراض الأمراض العضوية الأخرى المعروفة. فهي تجهد الطبيب المعالج في التعرف عليها.

القاضي: الهستيريا إذن مرض؟

الشاهد: إن الهستيريا لا تعتبر عند الأطباء مرضاً قائماً بذاته يتصل بعضو من الأعضاء، ولكن مجموعة أعراض تظهر في صور مصدرها اضطراب في النفس.

القاضي: وما الدليل على أن الهستيريا سببها اضطرابات نفسية؟

الشاهد: من أدلتها.. ولا أقول دليلها، إنها حالات أصابت الجنود في الحروب عندما وقعت لهم أزمات نفسية حادة: جندي في الخط الأمامي، بين الحياة والموت، يصيبه الذعر فيريد أن يهرب. ويمنعه من الهرب الخوف من وصمة الجبن. فيصاب على الفور، وبدون إنذار، بشلل في رجليه، أو يصيب العمى عينيه. فلا يستطيع أن يقف، ولا يستطيع أن يرى، ويُحمَل إلى ما وراء خط النار، حيث الأمن والراحة. وما بالجندي ادعاء. إنه الشلل الهستيري المعروف، وأنه العمى الهستيري، ذان اللذان اشتهر أمرهما في الحربين العالميين الماضيين. ومثل هذا يحدث في الأزمات النفسية في الحياة السلمية، في حوادث الطريق والمِحَن التي تصيب العمال في المصانع.

ومن الأدلة على أن هذه الأعراض سببها النفس، لا الفساد في أجهزة الجسم، أنه يمكن إحداثها بالتنويم الذي أسموه بالمغناطيسي. يقترح المنوِّم على المنوَّم أنه مصاب بشلل في ذراعه اليمنى، فيحاول المنوَّم تحريكها فلا تتحرك. و أنه لا يرى شخصاً قاعدا في الحجرة كان يراه، فإذا به لا يراه إذا هو أُمر بأن لا يراه. إنه عندئذ يرى مقعداً خالياً. إن الإقتراح بالشلل، أو بالعمى، يأتي في هذه الحالة من المنوِّم، وأما في الحالة الهستيرية التي يصاب بها الناس، فاقتراحها يأتي من داخل أنفسهم، من صميمها، على غير وعي.

القاضي: ألاحظ أنك تتحدث عن الهستيريا كأنما هي تصيب الذكور والإناث على حد سواء. وكأني أذكر أنها تصيب الإناث خاصة.

الشاهد: هكذا كان يزعم القدماء. حتى بلوتارك (بلوتارخ) المؤرخ الإغريقي، وهو عاش بين العام الأول والثاني الميلادي، ذكر أنه حدث في المدينة القديمة بآسيا الصغرى ميليتس Miletus بغتة وبدون إنذار أن فتياتها أصابتهن جميعاً ذات مرة أزمة نفسية رغبن فيها عن الحياة ووددن الموت، وحاولن الإنتحار بسبب الهستيريا. وظلت هذه العقيدة قائمة زماناً، أن الهستيريا تصيب النساء وحدهن. وساعدها على البقاء أن أعراض الهستيريا تصيب البنات المراهقات في سنوات البلوغ، وحتى إسم الهستيريا Hysteria متخذ من الإسم الإغريقي للرحم، وهو Hystera بحسبان أنه تحوّل يجري في الرحم عند البلوغ يسبب كل هذه الأعراض. ثم اتضح أن هذه الأعراض تصيب الرجال كما تصيب النساء.

قال القاضي: هل عندك ما تقوله فوق هذا حتى نستدعي الفتاة لتدخل. هل عندك ما لا تود أن تسمعه الفتاة؟

قال الشاهد: نعم. عندي أن هذه الفتاة كان لها تاريخ مع أمها هستيري غير شديد. وأمها أغرتها بتقبّل عريسها، وكان في نفسها منه عزوف شديد. فوقعت بين عاملين متعارضين، الرضى بالذي تريده وتصر عليه أمّها، وبين الرفض الذي تصرّ عليه هي نفسها. فالذي وقع لها يوم الزفاف من فقدان الذاكرة كان المَخرج الذي اختارته الطبيعة للصراع الذي وقع في أطوائها.

القاضي: ولكن ما تقول في خروج الفتاة من دارها، وغيابها الأسابيع، وهي في امتلاك كامل لوعيها؟

الشاهد: هذا لا يتعارض مع فقدان الذاكرة، ولكنه يأتلف مع رغبة النفس، غير الواعية، في البعد عن مكان اصطرعت فيه الرغبات، الرضا بالزوج ورفضها إياه. ومن حالات ضياع الذاكرة حالات يتصرّف فيها صاحب الذاكرة الضائعة تصرّفاً عادياً معقولا كأن لم يصبه شيء. وأذكر من هذه الحالات حالة مذكورة في السجلات: قسيس فقد ذاكرته، وتحول عن بلدته، وذهب ولم يعرف أحد عنه بعد ذلك شيئاً. وبعد عدة أشهر وجدوه يشتغل في عمل لا يمت إلى عمله الأصلي بشيء، ومنه يتكسب. وحدّثوه فيما كان من أمره، فلم يذكر من ماضيه شيئا. لقد كان انسدل على ماضيه حجاب كثيف. فهذا هو كل ما عندي يا سيدي القاضي.

والسلام عليكم

المصدر: مجلة العربي – العدد 62 – يناير (كانون الثاني) 1964

الإعداد: محمود عباس مسعود

ملاحظة: لم يقترن إسم الكاتب بهذا الموضوع، لكنني أستشف من الأسلوب أنه لأول رئيس تحرير لمجلة العربي العلامة الدكتور
أحمد زكي. رحمه الله رحمة واسعة وأثابه خيراً على ما تركه لنا من مخزون ثقافي ضخم ما زلنا ننتفع به لأن ما قدّمه للناطقين بالضاد من علم وأدب وثقافة كان من الرفوف العالية ومن الطراز الأول، لا تبلى جدته ولا تذهب مع السنين نضرته.