المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاستقطاب الأمريكي للأكاديميين الفلسطينيين



عبد الستار قاسم
17/02/2007, 10:03 AM
الاستقطاب الأمريكي للأكاديميين الفلسطينيين
الأستاذ الدكتور عبد الستار قاسم
موضوع هذا البحث هو استقطاب الحكومة الأمريكية عبر أجهزتها المختلفة للأكاديميين الفلسطينيين. أمريكا تمد أذرعها على اتساع العالم لأسباب متعددة منها ما يندرج تحت البعد السياسي، ومنها تحت أبعاد اقتصادية وإنسانية وعلاقات عامة. ومن الملاحظ أن نشاطها العالمي يتفاوت من مكان إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى وذلك تبعا لأولوياتها التي تحددها هي وفق منظارها الخاص للعلاقات الدولية. للولايات المتحدة مصالح وأهداف متعددة في المنطقة العربية، ومن المفهوم أن يكون نشاطها مكثفا حتى لا تفلت الأمور من يدها، أو أن تأخذ مناحي قد تلحق أضرارا بالاهتمامات الأمريكية.

تحتل القضية الفلسطينية المكانة الأكثر استقطابا للاهتمام من القضايا الأخرى المطروحة على الساحة العربية، ومن الممكن أن تكون هي مفرخة لقضايا كثيرة تطرأ على الساحة العربية والإسلامية. السيطرة على تطورات القضية الفلسطينية وتوجيه دفة أحداثها يشغل بال الأمريكيين ويدفعهم نحو تبني العديد من السياسات التي تجعل منهم سادة الموقف أو الجهة الدولية التي تملك مفاتيح التصعيد والتوتر والاسترخاء. ومن حيث أن الولايات المتحدة تعتبر العنصر التربوي والتعليمي والأكاديمي هاما جدا في صياغة المواقف والتأثير بجمهور الناس، فإن الأكاديميين الفلسطينيين يشكلون هدفا دسما لاستقطاب ولائهم أو إعجابهم أو حيادهم.

يرسم هذا البحث صورة للنشاطات الأمريكية الخاصة بالتأثير على الأكاديميين الفلسطينيين واستقطابهم لصالح تأييد سياساتها في المنطقة العربية. إنها تقدم خدمات كثيرة ومتنوعة للأكاديميين الفلسطينيين بوسائل متعددة لا بد أن تجني منها في النهاية ثمارا تعود عليها بمكاسب هامة تساعدها في فرض سياستها ورؤاها على المنطقة. ربما تكون الولايات المتحدة مهتمة جدا بالترويج لثقافتها وأفكارها في العالم عموما، وفي المنطقة العربية خصوصا، ويترتب على ذلك بالتأكيد استقطاب الذين ينقلون الثقافة والفكر إلى عامة الناس وهم المثقفون والأكاديميون والمفكرون ورجال الدين. سنرى هنا، ولو جزئيا، كيف تنفذ الولايات المتحدة مثل هذا الاهتمام.

فرضية البحث
يفترض الباحث أن الولايات المتحدة توظف أموالا من أجل مساعدة الفلسطينيين أكاديميا، لكنها تحرص أيضا على أن يحمل هؤلاء الأكاديميون رسالتها إلى الشعب الفلسطيني بهدف التغلغل الثقافي والفكري والسياسي، وحمل سياساتها محمل التنفيذ.

منهجية البحث
المنهج الأساسي لهذا البحث هو المنهج التحليلي الذي يستقي مادته التحليلية من المعلومات المتوفرة حول النشاطات الأمريكية في الضفة الغربية وغزة، ويعتمد على عدد من الوثائق. هناك جزء وصفي يتعلق بالمادة الخام التي يستند عليها التحليل. الجدير ذكره أن هناك وثائق كثيرة حول الموضوع، وأهنا أضمن نماذج منها فقط.

فروع البحث
ينقسم هذا البحث إلى عدد من الفروع وهي:
1- العولمة الذاتية الأمريكية: يشكل هذا الفرع الأرضية العامة التي تنطلق منها الولايات المتحدة الأمريكية الآن في علاقاتها الخارجية وسياساتها العالمية. باختصار، يتوضح هنا الإطار العالمي العام الذي يمكن وفقه تفسير جزئيات السياسة الأمريكية.
2- الشرق الأوسط الكبير: ينتقل البحث في هذا الجزء من الأكثر عمومية إلى المستوى الوسطي وهو ما يسمى بالشرق الأوسط. يتم توضيح هذه الفكرة التي تحتوي بداخلها الحل الأمريكي للقضية الفلسطينية.
3- فلسطين وأكاديميوها: التركيز هنا على الضفة الغربية وغزة على اعتبار أنهما المنطقتان الأكثر تأثيرا على الساحة الفلسطينية شعبا وأرضا الآن. ينظر هذا الفرع في كيف يتم تفصيل القضية الفلسطينية داخل الشرق الأوسط الكبير، وفي الدور الذي يمكن أن يقوم به الأكاديميون في تسهيل تنفيذ الرؤية الأمريكية. يتم في هذا الجزر تناول أساليب ووسائل أمريكا في استقطاب الأكاديميين.
4- الخلاصة: وهي تتناول مدى النجاح الأمريكي.


العولمة الذاتية الأمريكية

بعيدا عن التعريف المعقد للعولمة والذي لا يعنينا مباشرة في هذا البحث، هناك نوعان من العولمة: الموضوعية والذاتية. العولمة الموضوعية هي تلك المتعلقة بالاكتشاف العلمي والاختراع التقني والتي تعبر عن الحقيقة الموضوعية غير المرتبطة بثقافة أحد أو فكره. إنها تتعلق بنواميس الكون والحقائق العلمية البحتة وما يترتب عليها من تطوير تقني وإليكتروني يجعل من حياة الناس أكثر سهولة ويسرا. هذه عولمة تفرض نفسها موضوعيا سواء كان هناك من يتبنى الترويج لها أو لم يكن. فمثلا، فرضت السيارة نفسها على كل العالم، وكذلك موقدة الغاز والتلفاز وشق الشارع المعبد، الخ. بمعزل عن الثقافة والفكر، هذه أمور لها من القوة على كل الثقافات والأفكار لأنها مستقلة عن الثقافة والفكر.

أما العولمة الذاتية فتتعلق بجهود أمة معينة أو دولة أو مجموعة أمم أو دول لفرض ثقافتها على الآخرين بهدف إحداث تحولات ثقافية وفكرية لدى آخرين يشكلون هدفا للامتطاء أو السيطرة أو التجيير. في عالمنا اليوم، الولايات المتحدة تشكل الدولة الأكثر اهتماما بنشر ثقافتها وفكرها على المستوى العالمي، وتحويل الناس عن ثقافاتهم ليصبحوا جزءا من عالم الهيمنة الأمريكية. تتبنى أمريكا هذا عن سابق تعمد وإصرار. (كامل أبو صقر، العولمة، ص 49)

يؤمن قادة أمريكا الحاليين أن أمريكا هي القوة الأعظم بلا منازع وأنه حان الوقت لإقامة ذلك المجد الذي بنته روما عندما حكمت الشرق والغرب. هناك منظمات دولية تهدف إلى تنظيم العلاقات بين الدول، وما دامت الولايات المتحدة قد أصبحت الأعظم فإن دور هذه المنظمات بما فيها الأمم المتحدة لم يعد على درجة كبيرة من الضرورة. إنهم لا يمانعون في إقامة تعاون، لكن إذا تضارب التعاون مع رؤية الولايات المتحدة فإنه لن يعود مجديا. ولهذا دعا هؤلاء إلى فكرة بناء قوة تفوق التحدي، ذلك لضمان الهيمنة الأمريكية عبر الزمان والمكان. ولم يخف هؤلاء رأيهم في ضرورة إقامة قواعد عسكرية في مختلف أنحاء العالم وعلى رأسها المنطقة العربية-الإسلامية. (ربما يكون خطاب الرئيس الأمريكي الذي ألقاه في القاعدة الأمريكية ويست بوينت (West Point) بتاريخ 1/حزيران/2002 مفيدا في هذا الشأن).

من الناحية الرسمية والهيكلية الإدارية، هناك عدة جهات تشترك في صناعة الاستراتيجية الأمريكية والسياسة الخارجية. هناك وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، وهناك لجنة الخارجية والأمن التابعة للكونغرس. لكن الأهم من بين كل هذه الهيئات هو مجلس الأمن القومي التابع مباشرة للرئيس الأمريكي والذي يشغله المقربون من الرئيس.

أما من خارج الدوائر الرسمية فإن هناك العديد من الجمعيات والمعاهد التي تعني بقضايا الدفاع والاستراتيجية والخارجية وتضع بصماتها على فكر وتخطيط صاحب القرار. وهناك مجموعات الضغط المتمثلة خاصة بالشركات الكبرى ومعامل التصنيع الحربي وبالتنظيمات اليهودية والصهيونية. الشركات الكبرى ذات مصالح عالمية وترغب برؤية عالم منفتح اقتصاديا وتجاريا لما ينطوي عليه ذلك أرباح هائلة، والمنظمات الصهيونية ترغب في توظيف السياسة الأمريكية في البلاد العربية لصالح إسرائيل. هذه المنظمات تعمل على الصعيدين الشعبي والرسمي وذلك من أجل صنع المناخ المناسب شعبيا للإبقاء على القرار الرسمي الخاص بإسرائيل قرارا يتمشى تماما مع الموقف الشعبي. ولهذا نجحت هذه المنظمات عبر السنوات في تعزيز مواقعها من خلال المسيحيين المتصهينين الذين يدافعون عن إسرائيل وسياساتها بطريقة أشد مما يدافع عنها الصهاينة أنفسهم.

هناك ملامح رئيسة في الاستراتيجية الأمريكية على المستوى العالمي منها تطوير قدرات عسكرية تفوق التحدي، وتطوير أسلحة تقليدية تمكن أمريكا من خوض حربين في آن واحد، وتبني فكرة الحرب الاستباقية. لكن الذي يهمنا هنا هو ما يتعلق بموضوع بحثنا.

الولايات المتحدة لا تريد فقط أن تدافع عن نفسها وحرية مواطنيها، حسب الرئيس بوش، وإنما تدعو لقيادة العالم نحو وضع عالمي جديد يقوم على الحرية. الحرية عبارة عن رسالة تحملها الولايات المتحدة عبر العالم وفوق كل دولة وأمة لأنها الروح التاريخية للعالم والتي يجب أن تسلم لها وبها كل الدول. ويضيف الرئيس أن الحرية بقيت عبر التاريخ تحت خطر الحرب والإرهاب وضاعت في خضم الصراعات بين الطغاة، وانتهى غيابها بالناس إلى الفقر والمرض. أصبح اليوم، طبعا تحت قيادة بوش، أمام الإنسانية فرصة تعزيز انتصار الحرية ضد هؤلاء الأعداء، والولايات المتحدة ترحب بمسؤوليتها لقيادة هذه المهمة العظيمة.

واضح أن بوش يعود إلى منطق الفلاسفة التقليديين الذين ينظرون إلى الأمور بصيغ فلسفية مطلقة وإلى عهود الجبابرة الذين يرون في أنفسهم أصحاب رسالة تاريخية تحمل كل الحقيقة ولا تترك بعدها ما يمكن وصفه بالحقيقة. فوثيقة بوش (West Point Speech, June 1, 2002) تقول إن الحرية هي إرادة التاريخ، وهي مصلحة أمريكية ومصلحة كل شخص في العالم ومصلحة كل دولة بالولادة. الولايات المتحدة تمثل قيادة الحرية، وكل ما تقوم به أمريكا يدفع باتجاه الحرية في العالم، وما هو جيد لأمريكا جيد لبقية العالم. وبالتأكيد ما تراه أمريكا أنه ضار لها سيكون ضارا لكل العالم وتجب محاربته.

بالنسبة للمخططين الأمريكيين، أمريكا تمثل اتحاد القوة مع المبادئ الكونية الأخلاقية، وبالتالي على الأمم الأخرى أن تنهل من هذا المنبع. إنه افتراض صحيح بصورة مطلقة أن كل من يعبر نفسه صاحب الحقيقة المطلقة لا يعترف للآخرين بحقائقهم، وسيعمل ما أمكن من أجل تثبيت حقائقه هو ولو بالقوة. هذا ما أكده عدد من المفكرين الأمريكيين وعلى رأسهم فوكوياما. أنظر Tod Lindsberg, the Bush Doctrine.

يحمل التفكير الأمريكي في داخله الاحتكار الأخلاقي من حيث أن أمريكا تعتبر الأمم الأخرى قاصرة أخلاقيا، ولا بد من تدريسها القويم من الأخلاق لكي تكون قادرة على إحراز التقدم والرخاء. أمريكا تصنف الأمم بين خيرة وشريرة، وتطلق الأحكام على الأشخاص والأنظمة وفق ما ترى مناسبا. ولهذا طورت العديد من البرامج الأكاديمية والثقافية والفكرية ورصدت لها الأموال لتعليم الأمم أصول التفكير والتصرف. وكذلك نشطت في إقامة الجمعيات غير الحكومية ومراكز البحث للترويج للديمقراطية التي تؤمن بها، ولبث قيمها وثقافتها. ومن الملاحظ تركيزها الكبير والواسع على الأكاديميين في مختلف أنحاء العالم.

استشعرت جهات عديدة خطر الزحف الثقافي الأمريكي على العالم وأبدت تحفظات ومواقفا. فمثلا خطت فرنسا خطوة باتجاه التحصين الثقافي، وأصدرت تشريعا يجبر مختلف وسائل البث الفرنسية على تخصيص ما لا يقل عن 65% من بثها لبرامج فرنسية، (أحمد ثابت، "العولمة والخيارات المستقلة،" ص 19) وذلك على حساب البرامج الأجنبية وبالتحديد الأمريكية. أما وزير خارجية كندا فقد عبر عن استيائه من الهيمنة الثقافة الأمريكية قائلا بأن الاحتكار في عالم الاقتصاد سيء في تحديد الاستهلاك، وكذلك الاحتكار الثقافي لأنه يثبت الأفكار، (نور الدين أفاية، "دهانات الثقافة المحلية في معمعة العولمة،" جريدة الحياة، 4/12/1997)، وذلك في إشارة منه إلى جهود الولايات المتحدة لعهزل أفكار الآخرين. أما بعض حركات مقاومة العولمة فرأت أن أمريكا تعمل على تزوير ثقافات الأمم وذلك من خلال الإصرار على الترويج لثقافتها وبسط هيمنتها الثقافية. (عبد الله عبد الدايم، "العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات،" ص 27)

الشرق الأوسط الكبير

ينبثق عن فكرة العولمة الذاتية فكرة الشرق الوسط الكبير والتي تحدث عنها الإسرائيليون بكثافة. الهم الإسرائيلي هو على سلم أولويات الإدارة الأمريكية، وهي تعمل على صنع أجواء خاصة في المنطقة العربية تؤدي إلى قبول إسرائيل كجزء لا يتجزأ من المنطقة، وله أولوية ورعاية خاصة وهيمنة. (عبد الله أبو راشد، ص 62) لقد فشلت الحروب في إزالة التهديد الواقع باستمرار على إسرائيل، وأصبح التفكير ينحاز بصورة كبيرة لصالح إجراء تحولات فكرية وثقافية على الساحة العربية والفلسطينية من أجل قبول إسرائيل.

واضح أن الفكرة ليست عربية وليست إسلامية وإنما غربية إسرائيلية. إنها ذات منابت بريطانية بداية وتم تبنيها أمريكيا، واحتُضنت إسرائيليا. (شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد) ولهذا تعكس ملامحها ملامح السياسة الغربية في المنطقة وبالذات فيما يخص القضية الفلسطينية. فلسطين، حسب السياسة الغربية عبارة عن الوطن القومي لليهود، ولا غرابة أن فلسطين والقضية الفلسطينية مغيبتان. مشكلة الفلسطينيين كسكان هي المطروحة وليس القضية الفلسطينية بمختلف عناصرها الحقوقية والوطنية والسياسية والسيادية، الخ. أي أن المطروح قضية أفراد وليس قضية شعب ووطن.

هناك أسباب عديدة لظهور فكرة الشرق الأوسط الكبير منها معالجة تدني شعبية الولايات المتحدة في البلدان العربية، والخطر الذي يسببه فساد الأنظمة العربية على الأنظمة نفسها وبالتالي على مصالح الولايات المتحدة. هنا لا تهمنا كل هذه الأسباب، ويهمنا البعد الفلسطيني الذي يؤدي إلى ظهور تنظيمات مختلفة تتبنى الجهاد والقتال من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية. تدرك أمريكا أن القضية الفلسطينية تشكل سببا قويا لظهور حركات سرية مقاتلة تهدد أمن إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية. إسرائيل أقل أمنا من أي وقت مضى في تاريخها القصير، والولايات المتحدة تواجه متاعب أمنية متزايدة. أي أن الوضع القائم أصبح مفرخة للتنظيمات والأعمال التي يطلق عليها إرهابية. هذا يهدد مصالح أمريكا وإسرائيل.

ما العمل؟
السؤال الكبير المطروح هو: كيف يمكن امتصاص نقمة الشعوب في ذات الوقت الذي تتأثر فيه المصالح الأمريكية والإسرائيلية سلبا؟ أو ما هي السياسات التي يجب اتباعها فتحسن من وضع الإنسان العربي بعيدا عن الوعي العروبي والإسلامي ضمن الرؤية الأمريكية-الإسرائيلية؟ أي أنه إذا أتت سياسة القمع المباشر والإخضاع بنتائج عكسية فمن المفروض استقدام سياسة جديدة تبقي العرب مطية للغير بطريقة مريحة.

فكرة الشرق الأوسط الكبير تبعد التطلع العروبي والإسلامي عن السياسة العامة في المنطقة ذلك لأن من الشركاء من هم غير عرب ومن هم غير مسلمين. الإطار العام للفكرة أوسع من العروبة وأوسع من الإسلام ويأخذ بعدا جغرافيا ينفي مسائل الانتماء العقائدي والقومي. بهذا يمكن تحويل التطلعات العربية من العروبة والإسلام إلى تطلعات رفاهية واقتصادية لها علاقة بالجيب وليس بالعقل أو السمو النفسي. (محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية، ص 33)

طرحت أمريكا عددا من الأفكار والأسس لإدارة إعادة هيكلة المنطقة العربية أذكر منها هنا التالي:

أولا: إحداث تنمية اقتصادية تركز على خلق فرص عمل وتعمل على توزيع أفضل للثروة. الهدف هو تقليص نسبة الفقر ورفع دخول الناس المالية على اعتبار أن الفقر يؤدي إلى الانضمام إلى تنظيمات سرية ومن ثم إلى القيام بأعمال عسكرية ضد أهداف أمريكية وصهيونية وأوروبية. وعليه فإنه ستقام صناديق التنمية وستتم المباشرة بمنشآت اقتصادية تستوعب ملايين الأيدي العاملة.

ثانيا: إحداث تنمية سياسية تنهي عهود الاستبداد وتأتي بالديمقراطية إلى المنطقة. أدى قمع الأنظمة الرسمية العربية إلى الكثير من الاستياء مما دفع الكثيرين نحو التنظيمات السرية بخاصة التنظيمات الإسلامية. يجب تطوير الديمقراطية في الوطن العربي إنما إلى الحد الذي لا تفرز فيه قيادات معادية للمصالح الغربية أو متمسكة آيديولوجيا وقوميا بالإسلام والعروبة. أي يجب أن تبقى الديمقراطية تحت السيطرة بحيث لا تأتي الانتخابات بأشخاص غير مرغوب فيهم إسرائيليا وأمريكيا، أو بحيث تبقى الأغلبية لصالح الشرق الوسط الكبير.

ثالثا: إعادة النظر في المناهج التدريسية والتثقيفية بحيث يتم استبعاد الإسلام المجاهد لصالح الإسلام الكهنوتي، ويتم استبعاد التاريخ لصالح الواقع الاقتصادي. وهنا تتم مراقبة مناهج المدارس والتدريس الديني ونشاطات المساجد.

رابعا: تذويب التطلعات العربية وإخفائها لصالح التطلعات المادية والاقتصادية التي لا تقيم للأبعاد القومية والدينية وزنا.

خامسا: فلسطين موجودة في الشرق الأوسط الكبير ضمن المنطلقات الغربية الإسرائيلية سابقة الذكر. إنه مشروع يسلّم بوجود إسرائيل ويعتبرها جزءا فاعلا ولا يتجزأ من المنطقة، ويفتح أبواب التطبيع معها. وهو أصلا لم يكن مشروع الوطن العربي الكبير أو العالم الإسلامي الواسع لأن الهدف ليس رفاهية الشعوب وإنما سيادة إسرائيل في المنطقة وبقائها.
(النقاط الخمس أعلاه يتم تناولها في العديد من المراجع والكتابات أذكر منها: كلوفيس مقصود، "السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط،" المستقبل العربي، ع 8، حزيران، 1996. سيار الجميل، العولمة الجديدة. محمد عبد العزيز، صنع السياسة الأمريكية والعرب).
من سينفذ هذه المهمات؟ المثقفون والأنظمة العربية والأموال الغربية.

الجهود الأمريكية نحو الأكاديميين

في خضم الحديث عن المقاطعة العربية للولايات المتحدة يأخذ المحدثون في اعتبارهم عددا من المعايير التي يقيسون حسبها الجدوى والمنافع. يضع المحللون في الحسبان الهيمنة الأمريكية العسكرية وتغلغل المخابرات الأمريكية والدعم المالي والقدرة على التحكم في بعض الأمور العربية عن قرب وعن بعد، الخ. من المعايير المتعددة والذي من الضروري أن يوضع في الاعتبار معيار في غاية الأهمية وهو الزحف الأمريكي على المثقفين العرب، أو محاولة الولايات المتحدة تطويع بعض المثقفين العرب بطريقة يخدمون فيها أهدافها ومصالحها دون أن تتملكهم مشاعر الخيانة أو التبعية.

من الملاحظ أن المراكز غير الحكومية والمدعومة أمريكيا قد تزايدت أعدادها في العقد الأخير في أغلب أقطار الوطن العربي. أغلب هذه المراكز تهتم بقضايا مطروحة عالميا الآن مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وبعث المرأة، وهي تدار من قبل أكاديميين يحمل عدد كبير منهم شهادات الدكتوراه أو الماجستير. هذه مراكز موجودة الآن في المغرب العربي وفي المشرق وبتركيز كبير في دول مثل المغرب وتونس ومصر وفلسطين. تمويلها من الخارج بخاصة من الولايات المتحدة وتعيينات المسؤولين فيها تتم من الخارج، وتوظيف العناصر يتم حسب معايير خاصة لا تتعارض مع الأهداف التي يتم تحديدها من الخارج. (في فلسطين الآن هناك مراكز لتدريس الديمقراطية وحقوق الإنسان مثل مركز السلام والديمقراطية، مركز حقوق الإنسان، مركز حل النزاعات، مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان).

تبدو هذه المراكز مدافعة عن قيم إنسانية وُمثل رفيعة علما بأن الدول الممولة لها مارست القمع والقهر ضد الإنسان العربي وما زالت تمارسها. الولايات المتحدة الأمريكية تنهب الثروات العربية التي هي حق للمواطن العربي، وهي التي تسلح إسرائيل وتصر على هيمنتها العسكرية في المنطقة وتلحق بذلك الهزائم والإذلال بالإنسان العربي الذي تحاول مراكزها أن تقول لنا أنها تعمل على تحريره. وهي التي تحاصر عددا من الأقطار العربية وتحتل أخريات فتمنع التقدم والازدهار وتقتل الأطفال، والتي تدعم أنظمة عربية استبدادية تقمع شعوبها. تمارس الولايات المتحدة أعمالا قهرية مرعبة ضد الإنسان العربي في ذات الوقت الذي تدعي فيه أنها تحرص على حرية التعبير وانبعاث المرأة وعلى كيان الإنسان وتكامله الذاتي.

من الصعب النفي بأن الولايات المتحدة تنفق أموالا في سبيل التنظير لقيم تخص الإنسان ومن أجل تطبيقها، لكن الإنفاق يبقى ضمن دائرة مصالحها. تقتضي مصالح الترويج لفكرها الخاص أو لذلك الفكر الذي يرسخ المنهج الأمريكي في الحياة، والذي من شأنه تعميم الفكر الأمريكي أو (إن شاء أحد) الذي يمكن تسميته بالرأسمالية الليبرالية. وإذا تم ذلك فإن الولايات المتحدة تكون قد خدمت مصالحها بصورة جذرية وراسخة من حيث أنها تكون قد دخلت إلى عقول الناس وليس مجرد سلوكهم اليومي. قد لا يكون السلوك اليومي نتاج فكر ويبقى عرضة للتغيير السريع، أما الفكر فيكرس سلوكا لا يسهل تغييره. وهذا بالضبط ما تسعى إليه الولايات المتحدة.

تمكنت الولايات المتحدة على مر العقود التي خلت أن تصول وتجول في الوطن العربي وتفرض هيمنتها إلى حد كبير، وتنهب ما تشاء وتترك لأهل المنطقة ما تشاء. لكن هذه الهيمنة تبقى معرضة للزوال في حال صحوة الإنسان، أو في حال تصاعد الوعي بالاستغلال الأمريكي والذي يؤدي في النهاية إلى نوع من التمرد والإصرار على الندّية في التعامل أو الاستقلال الحقيقي. الهيمنة تبقى مؤقتة إذا اقتصرت على الأرض أو الثروات، وهي لا تدوم إلا إذا امتدت إلى الإنسان. الأرض والثروة يحررهما الإنسان في انطلاق وعيه، لكنهما لن يتحررا إذا كان المالك عبدا. فحتى تدوم الهيمنة على المقدرات العربية لا بد من السيطرة على عقل الإنسان وطرق تفكره وتعقله.

الوسيلة المثلى نحو ذلك الهدف هي القبض على عقول المثقفين والمفكرين بحيث يصبحون أدوات الفكر الغربي أو الأمريكي في المنطقة ويعملون بالتالي عل بث تدريجي لمنهج حياة منسجم مع هذا الفكر. فإذا تولدت قناعات فكرية بأن الرأسمالية الليبرالية هي نهاية التاريخ وهي القدر المحتوم للتطور الإنساني فإن الهيمنة على المقدرات العربية تتوقف عن كونها هيمنة لتصبح جزءا من المنطق الإنساني الذي يعبر عن أفضل ما توصل إليه الإنسان من نظم.

لتحقيق أهدافها، فتحت الولايات المتحدة بعض خزائنها ومولت بعض المثقفين والمفكرين العرب لفتح مراكز أبحاث ودراسات تخص الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان والمرأة. القضايا تبدو براقة وجذابة للعربي الذي عانى من القهر والكبت على مختلف المستويات عبر مراحل طويلة من تاريخه، ومن السهل دخول المجتمع من خلالها. وقد أغدقت الإدارة الأمريكية الأموال التي بدت مغرية لعدد لا بأس به من المثقفين فأقبلوا عليها وبتفسيرات تستند على مصلحة الشعب وتثقيفه حول حقوقه كإنسان وحول محاسن الديمقراطية وما يصاحبها من حرية رأس المال. وقد أخذ الإقبال في بعض الأقطار العربية سمة السباق والتنافس من خلال تلّبس القيم التي يرغب الممول في ترويجها وإشباعها في الناس.

منطق الولايات المتحدة
تقول مؤسسة USAID بأن المؤسسات التعليمية الفلسطينية تعاني من الإغلاقات والحواجز والتقطيع الجغرافي ونقص الأموال. وقد عزت ذلك إلى الانتفاضة دون أن تأتي على ذكر الاحتلال الإسرائيلي. وتضيف بأن هناك نقصا في القدرات الأكاديمية والتعليمية. (the web: USAID WB-G- higher educstion), Development Challenges. تم تجديده في 12 تشرين أول/2004.

تقول المؤسسة بأنها استجابت للاحتياجات الفلسطينية وصرفت منذ عام 1993 1.5 بليون دولار في الضفة وغزة. (the Web: USAID-Asia and the Near East West Bank-Gaza) تاريخ: 20/11/2005. وتضيف بأنه منذ العام 2000 قدمت 27 مليون دولار للمساعدة في التحصيل العلمي العالي والتدريب. برنامج المساعدة يشمل طلاب جامعات وتدريب مهنيين ووزارة التعليم العالي. بدأت المؤسسة علاقات مشاركة (توأمة) بين جامعات أمريكية وأخرى فلسطينية من أجل التزويد بأعضاء هيئة تدريس وطواقم مدربة وتطوير مناهج وتأسيس مراكز بحث وتبادل أكاديمي من طلاب وأساتذة. ومولت بحثا مسحيا للتعليم العالي وذلك لاستعمال نتائجه من قبل الأكاديميين وقادة الحكومات.

بين 2000 و 2003 كانت هناك توأمة بين: جامعة أوكلاهوما وجامعة بيت لحم؛ بيردو والإسلامية؛ كلية ماكئيفن وبير زيت؛ الساحل الشرقي لميريلاند والبوليتكنيك؛ جورجيا وبير زيت في مجال القانون؛ ولاية جورجيا والنجاح في مجال السياسة العامة؛ جونز هوبكينز والقدس في مجال الصحة العامة؛ يوتا والعربية الأمريكية في مجال إدارة الجامعات.

عقدت المؤسسة مؤتمرا في 20/أيار/2004 في رام الله حضره مسؤولو وزارة التعليم العالي ومن أسمتهم بالقادة الأكاديميين لمناقشة: مراجعة أساليب جمع المعلومات من مختلف الجامعات؛ شراء جرائد إليكترونية؛ وتمويل مشاريع أبحاث.

هناك انتقادات أمريكية لطرق الإنفاق الأمريكية في الضفة وغزة. عبر عن هذا كل من إيتامار ماركوس وباربرا كروك (Itamar Marcus and Barbara Crook) في مقال بعنوان الثغرات في الإنفاق الأمريكي. قالتا إن الأموال الأمريكية تتدفق لأيدي الإرهابيين، وإن السلطة الفلسطينية لا تقوم بما يجب من أجل التأكد من عدم تسرب هذا الأموال إلى أهل الإرهاب. ذكرتا أن أموالا تصرف لعائلات إرهابيين، أي استشهاديين ومعتقلين. واقترحتا على أمريكا إجراء تعديلات قانونية على قوانين مكافحة الإرهاب، والإصرار على التزام الفلسطينيين بوثيقة منع الإرهاب. (يجد القارئ في نهاية البحث نص هذه الوثيقة في الملحق رقم 1) (The Web: Palestinian Media Watch: Marcus and Crook. Four Loopholes in US anti-Terror Laws). Date: Nov. 20, 2005.

نماذج من الإنفاق الأمريكي

هناك عدد من المؤسسات الأمريكية التي تقدم دعما ماليا لأكاديميين فلسطينيين أو لمؤسسات يترأسها أكاديميون منها مؤسسة فولبرايت، وفورد والأميد إيست.

هناك تعميمات تنشر في جامعاتنا الفلسطينية علنا تدعو الأساتذة للتقدم بطلبات منح. أذكر هنا مثلا تعميما وجهته القنصلية الأمريكية في القدس شرق حول منح فولبرايت وبعثته لمسؤولي الجامعات يقول فيها إن المهلة للتقدم بطلب للحصول على منحة قد تم تمديدها. (أنظر الوثيقة الملحق رقم 2) وهناك تعميم آخر من القنصلية حول منحة فولبرايت تحدد فيها شروط التقدم للمنحة. (الوثيقة الملحق رقم 3).
تنشط مؤسسة فورد في هذا المجال أيضا. ففي تعميم موجه من قبل الأميد إيست توضح المؤسسة شروطها لقبول منح. (أنظر الوثيقة الملحق رقم 4) وتنشط أيضا مؤسسة اسمها وكالة الإعلام والثقافة الأمريكية في مجال استقطاب طلاب خاصة في نشاطات تطبيعية مع إسرائيل. (أنظر الوثيقة الملحق رقم 5 والذي يشير إلى مشاركة رئيس السلطة الفلسطينية وقادة من منظمة الشبيبة الفتحاوية في هذا المجال)

ويبدو أن السلطة الفلسطينية ليست بعيدة عن المشاركة في الاستقطاب الأكاديمي والتدريبي لأكاديميين وفنيين. في رد لرئيس إحدى الجامعات على رسالة موجهة من وزير التخطيط حول الاشتراك في دورات تدريبية في شركة جالاكسي، ورد تأكيد الرئيس بأن الشركة التي تتولى التدريب ترتبط مع إسرائيل. (أنظر الوثيقة الملحق رقم 6)

تقوم وزارة التعليم العالي الفلسطينية أيضا بالمشاركة، وهي تأذن أيضا للأمريكيين بالمشاركة في عمليات تقويم المناهج الدراسية في الجامعات.

هذا ومن المهم الإشارة إلى أن العديد من المؤتمرات التطبيعية قد تم تبنيها من قبل الولايات المتحدة وذلك بهدف قبول إسرائيل كجزء لا يتجزأ من المنطقة. أذكر مثلا مؤتمر البحر الميت الهادف إلى تكريس التعاون بين الفلسطينيين والأردنيين والإسرائيليين. حضر هذا المؤتمر أساتذة من جامعات النجاح والأزهر في غزة والقدس. وهناك مؤتمر الكيميائيين والجيولوجيين، الخ.

هناك مراكز عديدة لنشر ما يسمى بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتطوير المرأة يتم تمويلها أمريكيا. تصب هذه المراكز في خانة نشر الثقافة الأمريكية وبالتحديد الليبيرالية الرأسمالية. يقوم على إدارة هذه المراكز أكاديميون فلسطينيون كانوا أعضاء تدريس في جامعات فلسطينية مثل بير زيت والنجاح والقدس. الأسماء معروفة لدى القريب والبعيد ولا أريد ذكرها هنا حتى لا تثور مشاكل اجتماعية بين هؤلاء والقائمين على هذا المؤتمر العلمي.

كما أن هناك مراكز داخل الجامعات الفلسطينية يتم تمويلها مباشرة من الولايات المتحدة، وهي في الغالب مراكز تهتم بتدريس الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة.

سهولة السطو على الأكاديميين

حتى أكون واضحا من الضروري الإشارة إلى أن استعباد العربي وكبت حريته من خلال أنظمة حياته المختلفة تفتح الأبواب أمام هذا الغزو الأجنبي. أي أنني لا أقول إن الوضع العربي جيد ونحن العرب لسنا بحاجة إلى من يعلمنا الحرية واحترام الآخرين، وإنما أوكد أننا نحن نصنع بأيدينا مأساة تقود إلى اغتراب الإنسان فتلقيه في أحضان الآخرين. يعاني العربي من القمع الاجتماعي والسياسي والكهنوتي، ويندر أن يعيش لحظات يشعر فيها بحريته. والحال هكذا، وجد الآخرون ثغرات يحققون من خلالها مصالحهم على حسابنا فكريا وعاطفيا وماديا.

أقام عدد من المثقفين مراكز لا تؤمن في عملها الداخلي بحرية الإنسان ولا بالديمقراطية، ولا يصر الذين يمولوها على تطبيق القيم التي أرادوا الترويج لها. ففي عملها الداخلي، تعتمد هذه المراكز الوساطات والمحسوبيات في الوظائف وتفضل نوعية معينة من الناس حسب مقاييس الممولين، وهي نوعية لا تحترم نفسها ولا تراثها ولا تاريخها وإنما تحترم ما يريد السيد أن يُحترم. ومقابل ذلك هناك رواتب مجزية ومغريات أخرى مثل الدورات الدراسية والمؤتمرات العالمية وما شابه ذلك.

جنبا إلى جنب الترويج للفكرة عملت هذه المراكز على القيام بدراسات متعددة الجوانب ذات تمويل أمريكي أيضا، وشكلت قناة معلوماتية هامة بالنسبة للمخطط الأمريكي. دراسات لا يقوم بها مجرد مستشرق أو زائر وإنما ابن البلد الذي لا يرى الأشياء فحسب وإنما يفهم تماما الدوافع الكامنة خلفها وأبعادها الاجتماعية والنفسية وانعكاساتها على النسيج الاجتماعي وغير ذلك. إنها دراسات مكسوة باللحم والشحم ولا يمكن أن يتقنها من لم يكن عضوا في المجتمع وناهلا من منابعه التربوية، وهي تشكل أساسا متينا لفهم المجتمع وتيّسر في تخطيط السياسات وتنفيذ القرارات.

يقدم علماؤنا وأكاديميونا معلومات هامة عن الوطن والمواطنين والأحزاب والتنظيمات والتوجهات وغير ذلك من المواضيع الهامة. ربما كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى طواقم كبيرة من خبرائها وباحثيها وإلى أموال ضخمة للحصول على مثل هذه المعلومات، وهي الآن لا تحتاج إلا إلى بعض فتات المال تجند بها أبناء الوطن. معلومات دقيقة ومتواصلة يتم تقديمها لها تحت شعار البحث العلمي ودعم المجتمعات النامية وتحسين أحوال الناس. وبهذا أصبح بمقدور الولايات المتحدة أن تحرز تقدما كبيرا في دقة تخطيطاتها حول توجيه الحدث في الوطن العربي وفي التعامل مع مختلف الطروحات وإدارة الأزمات واستغلالها، الخ.

لاحظت من خلال معرفتي بالمراكز الموجودة في فلسطين والتي تخضع لذات السايس والموجه الخارجي الذي تخضع له المراكز الأخرى في الوطن العربي أن القائمين عليها يعملون دائما على استبعاد التاريخ عن نشاطاتهم البحثية والندوية. فهم يقولون للذين يحتكون بهم من الباحثين والدارسين الناشئين إن التاريخ عبارة عن أحداث قد مضت وإن استذكارها وخلطها مع تطلعات المستقبل لا يفيد بشيء وإنما يلحق الضرر بما يتطلبه البحث العلمي من انطلاق بدون قيود. يجب ألا يكون المرء أسير التاريخ أو حبيس انطباعات وقناعات مسبقة، هكذا يقولون، ويزيدون بأن العالم قد تجاوز مراحل الأحقاد التاريخية والضغائن والطموحات القومية ومشاعر الاعتزاز بالذات والأمة لصالح التنمية والرفاء الشخصي والعلاقات القائمة على المصالح.

هذا ما تمت ملاحظته في نشاطات التطبيع التي تبناها هؤلاء المثقفون والسياسيون المتعاونون معهم. شارك هؤلاء في تنظيم رحلات شبابية إلى دول مختلفة بمشاركة شباب وشابات من إسرائيل بهدف إقامة علاقات شخصية تمهد لعملية التطبيع، وأوصوا شباب فلسطين بالابتعاد عن مناقشة التاريخ ذلك لأن اجترار الآلام يفسد الاستمتاع بالرحلات. وواضح أن أمثالهم في الوطن العربي يقومون بذات المهمات خدمة لمتطلبات ما يسمى بالعملية السلمية في المنطقة والتي تخدم بالتالي مصالح أمريكا.

لاحظتُ أيضا أن هذه المراكز معادية للإسلام في سياسة التوظيف وفي تشكيل استعدادات العاملين فيها. إنها لا تقوم بأبحاث ذات طابع عدائي سافر للإسلام، لكنها تزرع داخل غرفها مشاعر الاستهانة بالقيم الإسلامية وترسخ فكرة ظلامية الإسلام وتخلف طروحاته عن طروحات التنوير والنهوض. وإن عمدت إلى القيام بأبحاث حول الإسلام فإنها لا تركز على ما يطرحه الإسلام من فكر وإنما على سلوكيات المسلمين الآن وعلى الحركات والتنظيمات الإسلامية. والهدف واضح وهو الإساءة إلى الإسلام من خلال سلوكيات غير قويمة ينسبها العامة وبعض رجال الدين إلى الإسلام. وكذلك الكشف عن نوايا وأساليب عمل الحركات والأحزاب التي تتخذ من الإسلام شعارا لها. وحسب رأي أحد الأمريكيين، هذه الأبحاث مهمة في مكافحة ما أسماه بالإرهاب الإسلامي.

هيأ بعض الأكاديميين للولايات المتحدة أجواء مريحة لاختراق المجتمع العربي وأصبحت قدرتها على النفاذ إلى التفكير وطريقة الحياة العربية في زمن تكاثر المثقفين أفضل بكثير مما كانت عليه في زمن الجهل. كان يخجل الفلاح البسيط أن يمد يده للمستعمر مصافحا وكان يتوارى ضيقا إذا اضطر أن يكلم عدوا، أما المثقف، وليس كل مثقف، فقد خلع كل الأثواب باسم الواقعية والعقلانية والبحث العلمي ليرتدي ما يشف من اللباس ويحول الوطن إلى عورات مكشوفة.

يجادل مثل هؤلاء المثقفين والأكاديميين بأنهم ليسوا جواسيس ولا يمكن أن يكونوا كذلك من خلال حضور مؤتمر تطبيعي أو كتابة بحث علمي، وإنهم قادرون على كشف مخططات الأعداء وإحباطها بفضل سعة آفاقهم. هذا صحيح إذا كان المقصود بالتجسس مجرد الوشاية وكتابة تقارير شخصية مباشرة لهذه الجهة الاستخبارية أو تلك. لكنهم ينقلون معلومات حيوية لدول لها أهداف معادية للعرب ومصالحهم.

إنهم يجادلون بأن المعلومات التي تزخر بها أبحاثهم وأوراقهم العلمية منشورة وليست حكرا على أحد، وبإمكان أي جهة أن تستفيد منها. وبالتالي، حسب قولهم، إنهم يستخدمون الأموال الغربية لإجراء أبحاث يستفيد منها العرب في صنع قراراتهم التي تمكنهم من درء العدوان والمحافظة على مصالحهم. هذا جدل مردود لأن الأنظمة العربية في أغلبها لا تقرأ أبحاثا ولا تهتم بالعلم والعلماء وتتخذ قراراتها على أسس غير علمية، ولأن العرب لا يملكون الوسائل المتطورة والأجهزة الفعالة للاستفادة فعلا من البحث العلمي. تملك الولايات المتحدة الوسائل والرغبة والإرادة على استعمال نتائج البحث العلمي بالطرق التي تعزز مصالحها في المنطقة. ويبقى الأفضل وطنيا أن يناضل هؤلاء المثقفون من أجل انطلاقة علمية في الوطن العربي بدل تقديم خدمات للأجنبي لقاء فتات من المال.

مدى النجاح الأمريكي
هناك من يبشر بفشل الاستراتيجية الأمريكية مثل (William Lind, The Failure of American Policy ) الذي كتب في تعليق له في 19/2/2003 أن السؤال ليس فيما إذا كانت ستفشل أم لا لأنها ستفشل، وإنما السؤال يدور حول السبب الذي يدفع أمريكا للسيطرة على العالم وإنشاء مملكة جديدة على غرار روما أو الإمبراطورية الإسبانية القديمة. الجدلية تقوم على أن التفرد خطير وهو يصنع الأعداء ولا يصنع الأصدقاء. إنه يقوم على القوة التي تتنوع مصادرها وأسبابها ولا سقف لها. غدا ستتلقى أمريكا ضربات من حيث لا تعلم، ومعها لن تنفع كل الأسلحة الفتاكة التي بحوزتها.

لكن الأمريكيين نجحوا حقيقة حتى الآن في استقطاب العديد من المثقفين والأكاديميين واستطاعوا أن ينفذوا إلى جلةد الشعب الفلسطيني. قدم الأكاديميون والمثقفون معلومات وافرة لألأمريكيين، وألحقوا في ذات الوقت ضررا كبيرا في الأمة. لكنهم ليسوا وحدهم الذين يتحملون المسؤولية. تقع المسؤولية الأكبر على الأنظمة التي تعرقل البحث العلمي وتحاول أن تمنعه. تتحمل السلطة الفلسطينية مسؤولية واضحة في عدم توفير المناخات المناسبة للبحث العلمي، ولا تتوفر لديها الاستعدادات الملحوظة للاستفادة من البحث العلمي. وبدل أن تشجع السلطة الاستقلالية والتحصين ضد الاستغلال الخارجي، تساهم هي من خلال الكثير من النشاطات في توريط الأكاديميين.

من المحتمل أن يرتد سلوك الأكاديميين والسلطة الفلسطينية ليعكس نفسه بصورة مشادة بين أبناء الشعب الواحد. إذا تطورت المقاومة الفلسطينية وتطور الوعي بالخدمات التي يقدمها الأكاديميون لجهات خارجية، فإن العلاقات الداخلية سيشوبها التوتر والاتهامات. يبدو أن بعض المال يغيّب التفكير الموزون حول ما يمكن أن يحدث، بخاصة أن عدد الواعين بأساليب أمريكا من هذه الناحية ليس قليلا. إنه من المهم أن تراجع الجامعات والسلطة الفلسطينية والأكاديميون أنفسهم بدل الاستمرار في الاستجابة للسياسات الأمريكية. قد يترتب على هذه المراجعة خسائر مادية، لكن ذلك ليس خطيرا بقدر خسارة الذات.




المراجع
خطاب الرئيس الأمريكي الذي ألقاه في القاعدة الأمريكية ويست بوينت (West Point) بتاريخ 1/حزيران/2002.
أحمد ثابت، العولمة والخيارات المستقلة، المستقبل العربي، ع 239-242.
سيار الجميل، العولمة الجديدة ومفاهيم عصر قادم، بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق،.
شمعون بيرس، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة مصطفى كبها، دار النهضة، 1994.
عبد الله أبو راشد، العولمة في النظام العالمي والشرق أوسطية، دار الحوار، اللاذقية، 1999.
عبد الله عبد الدايم، "العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات،" المستقبل العربي، ع 203-206.
كامل أبو صقر، العولمة، دار الوسام، بيروت، 2000.
كلوفيس مقصود، "السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط،" المستقبل العربي، ع 8، حزيران 1996.
محمد عابد الجابري، "العولمة والهوية الثقافية،" المستقبل العربي، ع 228، ص 33.
محمد عبد العزيز ربيع، صنع السياسة الأمريكية والعرب، عمان، 1990.
نور الدين أفاية، "دهانات الثقافة المحلية في معمعة العولمة،" جريدة الحياة، 4/12/1997.

(The Web: Palestinian Media Watch: Marcus and Crook. Four Loopholes in US anti-Terror Laws). Date: Nov. 20, 2005.

Tod Lindberg, “The Bush Doctrine,” Hoover Digest, No. 4, 2002.

William Lind, “The Failure of American Strategy”, CNSNews.com Commentary, Feb 19,2003.