بنده يوسف
26/12/2009, 07:55 PM
سهــراب ........ توظيــف : وصــف ورمـز
فريبا حزباوي
بنده يوسف
الوصف :-
اعترى المزاج الشعري عبر عصوره إتجاهات وأوجه متفاوتة ، يوماً كان المزاج يتناول شاعرية كلاسية ويوماً اخر اعتراه مزاج رومانتيكي ، وآخر عرفانى وواقعي...... ؛ ونجد الوصف أداة هامة لازمت الشاعرية القديمة و الحديثة ، وشارك بصورة فعالة فى رسم الصورة الشعرية التى كانت عامود الإبداع الرئيسي فى شاعرية التراث والحداثة .
فالوصف كان نقل تصويري من نافذة عين الشاعر يمر بالإنفعال والمشاعر لتشخصه الحروف والكلمات .
وكان الوصف مهمته فى الشعر أن يخلق إبداع الصورة الفنية التى اعتمدت فى وجه التراث على الخيال والتشبيه والكنايات ، فكان إبداع يتقارب أكثر مع أدبية الحرف والمفردة ، وفى وجه الحداثة تقاربت أكثر مع الشعور والدهشة لتكون أقرب إلى التصوير ، والمفردات أدوات رسم ليد العين المتأملة ؛ ليحمل الوصف فى الشاعرية الحديثة صورة حية ، تحمل فيها المفردة الشعرية كل جوانب الكائن الحي من صوت وضوء وحركة – وكانت الصورة الكائن الأبرز حركة ووضوحاً بين كائنات النص الشعري فالمنفلوطي يقول فى قيمتها : " إن التصوير نفسه أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها......... " فالصورة هى التى ترسم الدهشة فى عيون القارئ .
صاحب الوصف الشعر قديمه وحديثه كأداة إيهام بالواقعية وتوصيل المعنى بشكل يقارب الحقيقة ؛ وعلى ذلك وجدنا الوصف يلازم كل الأجناس الأدبية الشعرية منها والنثرية ، وخصوصاً الأجناس التى تعتمد على السرد وبالتالي كان البعد الوصفي أهم أداة تبرز وتجسد الأشياء والشخصيات لأنه سيخرجها من برودة النقل والقص إلى التشخيص والتجسيد والصورة الحية .
والنقاد وضعوا الوصف كأداة هامة فى تحديد نمط الشاعرية التى يكتب بها الشاعر .... وجدانية أم ذاتية أم رومانسية ، فحددوا معالم نمط كالمدرسة الرومانسية بأن الوصف أميز سماتها .
وكما نرى أن الوصف أداة هامة سواء فى شاعرية التراث أو الحداثة إلا أن " التوظيف " لغاية هذا الوصف داخل النص الشعري ، هو العلامة الفارقة لدور الوصف وغايته فى الوجه الكلاسيكى أوالحداثي من الشعر .
فغاية الوصف قديماً : أداة تساعد المتلقي على إدراك الصورة والمعنى ، ويخلق القرائن بأدوات التشبيه والإستعارة.... ليقارب بين الذهن والشعر .
لكن مع الشاعرية الحديثة تغاير دور الوصف ، وكانت الصورة فى وصفها تمر أولاً على وجدان الشاعر ليعبر ويتجلى هذا الوجدان فى الصورة التى ترسم ، فتندمج ذات الشاعر مع النص الشعري ، ويكون الوصف لحظتها حالة تجلى للذات الشاعرة ، ومظهر لكيان شعري ويتضح كيف كان تفاعلها مع الوجود وكيف كانت رؤيتها له .
وبشكل أقرب فى الإيضاح كان الوصف قديماً يخدم موضوع النص الشعري أكثر من أن يخدم ذاتية ووجدان الشاعر ، على عكس غايته فى الشاعرية الحديثة . وبذلك يكون التوظيف هو العلامة الفارقة بين غاية الوصف فى شاعرية التراث أوالحداثة .
.
الرمز :-
مايميز الشعر عن الأنواع الأدبية الأخرى ؛ الفيض الدلالي للمفردة داخل النص الشعري ، وإعتماد الشعر على لغة الإشارة التى تخرجه من برودة الكلام ، فالمفردة فى المتن الشعري ترتفع عن حجمها الحقيقي ، وتتعدى حدود الدلالة المعجمية ، فخيال الشاعر وقوة التصوير تمنح المفردة هالة من القوة وفيض فى الدلالة والمعنى ، وهذا مايميز لغة الشعر عن أى نوع أدبي آخر كما يقول البحتري فى قوله : " والشعر لمح تكفي إشارته - وليس بالهذر طولت خطبه " ، فالشعر لغته أقرب إلى الحواس ونوافذ الشعور على عكس أى نمط آخر للكلام ، ولا يحتاج إسهاب حرف لإيضاح معنى .
والرمز يمثل اللغة الأكثر إيحاءاً فى مفردات النص الشعري ، فهو أداة توصيل لأفكار الشاعر ، وأداة توحد ذهنية الشاعر والمتلقي ، فالرمز يعطى للنص الشعري مساحة من الرحابة ، ويخرج النص من القيد الزمني ، فيجتاز الحاضر إلى الماضي ، ويوصل الماضي بالحاضر .
وبقدر مايحمل الرمز من إيضاح للنص وإظهار للمعنى ، يصيب النص والمتلقي أيضاً بحالة من الغموض والإبهام ؛ خصوصاً إذا كان النص يحمل رموزاً غير مآلوفة غير حاضرة فى الذاكرة الثقافية ، أو أن يستقدم الشاعر رموز غريبة على النص الشعري ؛ لمعرفته بثقافة أجنبية ، أو يكون هناك أزمة بين النص والمتلقي لحالة جفاف معرفي تصيب المتلقي تعزله عن الموروث القديم والوافد وإيحاء الرمز .
والرمز كائن هام من مكونات النص الشعري ، لم يفقد قيمته مع تنوع حركة الشعر بين قديم وحديث ، وربما كان من أهم الأدوات التى ساعدت على ظهور حالة الوئام والإنسجام بين مراحل الشعر المختلفة ؛ فهو يوصل الشاعر والمتلقي الحديث بالأقدمين ، ويوصل القدماء بالمحدثين عن طريق الحضور من نافذة الرمز ، فتنوع الرموز ساعد المحدثين كثيراً على التواصل مع ذهنية الأقدمين ، فهناك رمز اسطوري و تاريخي و ديني وشعبي ، رموز متعددة ساعدت الموروث أن يظهر من نافذة الشاعرية الحديثة على كافة المواضيع والقضايا .
والرمز ظهر عبر العصور الأدبية المختلفة في ساحة النص بغايات توظيف مختلفة ، فكان الشاعر والمتلقي هو الذى يحدد غاية هذا الرمز والغاية منه كانت تتحدد بكيفية توظيفه ، وبهذا صار من الممكن أن يفيض الرمز الواحد بعدة دلالات تحمل أبعاد تراثية واخرى حداثية .
الماء : توظيف وصف ورمز
المـــــــاء *
علينا ألا نعكر الماء
فربما ، عند المنحدر ، ثمة حمامة تشرب الماء
أو فى الغابة البعيدة ، ثمة برقش يغسل جناحه
أو فى قرية ، ثمة جرة ماء تملأ
علينا ألا نعكر الماء
لربما ، هذا الماء الرقراق ينحدر صوب جذع حور (1)
ليغسل حزن قلب
أو يد فقير ربما ، تمقل (2) قطعة خبز يابسة فى الماء
امرأة جميلة دنت من حافة النهر ؛ فعلينا ألا نعكر الماء
: فوجه جميل قد أنعكس
ما أعذب هذا الماء !
ما أصفى هذا النهر !
أى صفاء لدى أهل الأعالي
لتكن ينابيعهم دفوق
ولتكن أبقارهم حلوب
لم أر قريتهم ؛ لكن بلاشك اثار اقدام الله عند اكواخهم
فضوء القمر هناك يضئ سعة الكلام
فلاشك أن فى قرية الأعالي ؛ الحيطان (3) منخفضة
وأهلها يدركون أية زهرة شقائق النعمان
فلاشك أن الزرقة هناك زرقاء
فبرعمة تتفتح ، وأهل القرية لديهم خبر عنها
يالها من قرية يجب أن تكون !
ليكن طريق بستانهم ملئ بالنغم !
أهالي نبع النهر فى الأعالي ، يفهمون الماء
فلم يعكروه ، ونحن أيضاً
علينا ألا نعكر الماء
وصف :-
مثل الشعر أداة مهمة للحفاظ على وجود الإنسان وتاريخه ، فأشعار قديمة تقرأ حتى الآن لنفهم من ماتحمله من وصف وصور كيف كانت الحياة آنذاك .
ومع ظهور الطور الجديد للشعر ، مثل الشعر أهمية كبيرة فى حياة الإنسان قارئ وشاعر ، فمثل الشعر للشعراء أداة فى مقاومة الزوال ، به يرسخون وجودهم أمام أى عصف يسلب وجودهم كعصف السلطة أو فساد الزمان أو تجاهل المجتمع لهم ، ومثل أيضاً لهم نافذة منها ينظرون على ماحولهم من حياة وكون ، ويدنون منها إلى التوحد مع الكائنات .
والشعر مثل لسهراب سبهري لوحة فيها يفيض بوجوده ، وبها يعبر إلى التوحد مع مايلتف به من كائنات . وسهراب تمتع بعرفانية مزدوجة ، فأفكاره تتقارب مع عرفاء ايرانين كبار أمثال أبوسعيد أبو الخير و مولانا جلال الدين الرومي ، وتتقارب أيضاً مع مدراس عرفانية بوذية وصينية ، وهذا التنوع فى مصادر أفكار سهراب يعطي سعة فى إدراك غاية الوصف والصورة فى شاعريته ، فالطبيعة رافقت الشاعر قديماً فى وصفه ليظهر بها معنى حرفه وغاية أفكاره ، ولتكون عتبة له فى الوصول إلى مدارج السماء ، فإستحسان الطبيعة ووصفها لم يكن لقداسة تتمتع بها ، بل لسر هى تفصح عنه ، ولغاية أسمى يفتش عنها الشاعر ، ويفك مرموز ساميه من ما ترسمه الطبيعة من مشاهد وجمال . وهذا النوع من غاية الوصف يظهر فى شاعرية سهراب من خلال أفكار مدرسة مولانا الرومي .
ومع النظرة الجديدة للشعر تبدلت أيضاً النظرة تجاه الوصف و الطبيعة ، وصورها الشعراء بنوع من القداسة ، وصارت الحروف غاية للوصول لها والوصال بها ، فاندمج وجدان الشاعر مع الطبيعة ومثل وصفه لها تعبير عن مايختلي وجدانه من أفكار ومشاعر ، وتوحد معها إلى أن صارت جزء من كيانه ، وتتقارب هذه الرؤية تجاه الطبيعة مع مدرسة العرفان الصيني التى ترسم للطبيعة شكلاً من أشكال القداسة ، وأنها غاية الوصول .
وسهراب أبدع فى هذا النوع من الوصف ، فدائماً كان يبحث عن توحد مع الطبيعة و كائناتها وكأنه جزء من مكوناتها ، وكما كانت الطبيعة فى النظرة القديمة أداة مكاشفة لعوالم فى ملكوت السماء ، كان سهراب يستخدمها أيضاً كأداة مكاشفة خصبة بها يفصح عن خفقات حركة الإنسان والكائنات التى لاتدرك دون مجاهدة التوحد والتأمل لدقائق مكونات الطبيعة ، فنجد سهراب فى قطعته الشعرية " الماء " يرسم بفرشاة الحرف صورة شعرية ، ويخبرنا عن كائناتها بشكل دقيق ، وبشكل يظهر إلى أى درجة أستطاع أن يتوحد مع الطبيعة ومكوناتها لدرجة أن شاعريته أدركت برعمة وهى تتفتح ، وكم كان الماء صافياً ليعيد للطير بهاء ألوانه ، ويعيد لقلب الحور الأبيض نصاعته ، وعلى صفحته يتجلى وجه حسناء ، وأى مقام أسمى لأولائك الذين أدركوا كنه الطبيعة وفلسفتها .
وسهراب يستخدم وصفه للطبيعة ليعبر من نافذتها وجدانه ومشاعره وأفكاره ، فغايته من التوحد مع الطبيعة وإدراك قيمتها ترسيخ قيمة الإنسان والتحقق من قيمته ، فالإنسان يعبر عن إنسانيته وقيمة وجوده من خلال إدراكة لقيمة ماحوله من كائنات ، وطالما هو حافظ على قداسة تلك الطبيعة لقيمتها ؛ فهو مدرك لقيمته وحقيقة عظمة وجوده .
وللوصف فى قطعته الشعرية قيمة أخرى ، فالوصف أداة بها ينقل العالم الحي إلى شاعريته ،
لتخلق في سطوره الشعرية حياة أخرى ، فأراد سهراب إحياء كل ماحوله من كائنات وأشياء ، ليصير كل كائن حوله مرآة عاكسة لمظاهر حياة الكون كله ، وبوجدانه المندمج مع ملامح وصفه يحقق سهراب الشاعر حضوره مع العالم الحي وتوحده معه ؛ ليشارك الكون بمجمله فى الحياة ، وكأنه يرسم نظرته الفكرية نحو مفهوم وحدة الوجود ؛ حيث يتوحد الكائن مع أركان الكون ، وهنا يوظف سهراب الوصف والطبيعة بشكل تقارب مع أهل العرفان قديماً ولكن بفارق المعالجة لغاية الوصف وقيمة الطبيعة .
رمز :-
يحقق الرمز للأشياء قيمتها وفلسفتها ، يتقارب أحياناً من الإشارة والإيحاء ، ويستقل أحياناًُ أخرى بكيان يختزل فى باطنه مجمل من الأحاسيس والدلالات المشتركة بين وجدان الشاعر ومتلقيه ، فالرمز لايولد من فراغ وإنما الشاعر يضيف ويزيد فى دلالته ، وسهراب برع فى تحقيق قيمة الرمز ، فلم يغرقه فى ذاتية مجحفة تظهر لنا رموز شعرية نفقد الحس بها أو أنها لاتثير فينا أشياء ؛ بل منح الرمز فضاء أوسع بتوحده مع وجدانه ومع العرف فى ذهنية المتلقي ، فالرمز عنده له ثنائية القدرة وفضاء المعنى ، فله دلالة ظاهرة وأخرى باطنه وفى فضاء المعنى يحمل أبعاد عدة ، عرفانية وإجتماعية وفكرية ونفسية وعاطفية ...........
برع أيضاً فى توظيفه بذكاء فى سياقه الشعري ليخدم الرمز الصورة ليعطيها وضوح الدلالة ، وتمنحه أيضاً الصورة التشخيص والكيان المحسوس ؛ ليظهر للنص قوة تأثرية على المتلقي .
وكما أن سهراب كان مرهف الحس والوجدان فى إستخدام وتوظيف رموزه الشعرية من وكلمات وعبارات وشخصيات وأماكن ؛ حرص أيضاً ألا يصيب أو تصيب هذه الرموز شاعريته بشئ من الغموض ونفور الإبهام ؛ بل جعل من المتلقي شريك فى إدراك الصورة التى تملكت وجدانه لحظة البوح بهذه الشاعرية .
وجعله يتمتع بحالة من الكشف كأهل العرفان تعتمد على نوع من الدهشة والتأمل لإدراك جمال كائنات النص من رمز وصورة .
وعند سبر أغوار رمز الماء فى قطعة سهراب الرائعة " الماء " لاسبيل لنا إلا الدهشة وحيرة الإعجاب ، فكما كان سهراب دائماً فى صوره يحرص على أن يتوحد مع كافة كائنات الكون ومع أخفت حس لصوت تفتح برعمة ؛ كان يحرص أيضاً أن يتعدى الرمز حدود عرف ذهنية المتلقي ليكون رمزه محملاً بدلالة تجتمع عليها كل كائنات الكون .
فالماء رمز تعرفه الحمامة وتسمع صوته الجرة ويفهم كنهه الحور ، ويدرك قيمته الدرويش ، وتعرف لغته الحسناء ويقدسه الأصفياء .
فالإعتبارات الدلالية التى يجدها الماء عند كل كائنات الكون ؛ أعطته سعة فى الدلالة والإيحاء تبدأ من دلالات تراثية إلى أن تصل إلى دلالات حاضرة ودلالات يحملها وجدان سهراب ، فالماء رمز عرفاني مقدس، بل ربما هو أعظم الرموز الصوفية ، فهو قد يصل إلى مكانة الخلق الأول : " وكان عرشُه على الماء " ، وهو سر الوجود : " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ، وبه يتطهرون لتصفو أجسادهم وأروحهم : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم الرجز " ، وهو جنة الفوز: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا " ، فالماء رمز ينطوي فيه كل الكون فمنه بشتق أهل العرفان بحر المعرفة والعلم اللادني ، ويستخدمونه كعنصر حياة ووجود ، وفى معراجهم للجنة يرافقهم ليسقى لهم أشجار وبساتين نعيمهم : " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون " .
وبعد العرفان يفيض رمز الماء بدلائل أخرى ، فهو يقارب الأذهان من فوح الموروث الثقافي ؛ فهو رمز مقدس فى العقائد الزرادشتية ، فهو الضلع الثالث المكمل لعناصر الحياة " الماء ، التراب ، الهواء " ، وهو مصدر الحكمة والنار رمزها ، فهو أثاث للمعبد .
وكما أستطاع سهراب إلى يتواصل بعرفية رمز الماء مع متلقيه ؛ أستطاع أيضاً أن ينفذ بهذا الرمز لأذهان أخرى فالماء رمز من رموز الروح القدس فى الكتب المقدسة السماوية ، فسهراب يرسم صورة لذاك الإنسان الذى يجاور نبع الماء ؛ تتلاقى هذه الصورة مع صورة الإنسان البار التى يرسمها المزمور الأول من الكتاب المقدس : " يكون كشجرة مغروسة على مجارى المياة "
وكما يرسم سهراب صفاء أهل الأعالي بصفاء ماءهم ، وأنهم يرسمون بهذا الصفاء طريقهم نحو الخلاص ، ليعم هذا الصفاء قلوبهم ومنازلهم لدرجة انها تكون جديرة بآثار اقدام الله عند اكواخهم ؛ يرسم المسيح عليه السلام برواية يوحنا صورة توضح رمز الماء كأداة خلاص : " من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية " .
والرمز أيضاً عند سهراب له دلالات تعبر عن نزعة إنسانية ، تبتعد عن نظرة فلسفة وجود الإنسان كوجود ميتافيزيقي ، وتتقارب مع قيمة وجوده من الناحية الوظيفية ، وأنه أرقى كائنات الطبيعة ، فرمزية " الماء " ومجاورته لــ " أهل الأعالي " تشير إلى نزعة إنسانية تسعى إلى تحقيق السمو الجمالي والروحي ، وتبحث عن معنى الإنسان ، وتسعى إلى تحريره من القيود التى أهدرت قيمة وجوده كإنسان ؛ لترسم قيمته ككائن يظل أرقى الكائنات طالما هو مازال يحافظ على صفاء يشابه صفاء الماء ، ومتحرراً من كل عقيدة تفسد وصاله مع اخيه الإنسان ومع الطبيعة .
(1) شجرة الحور ، من فصيلة الصفصاف
(2) تغمس
(3) الحيطان التى يصنعها أهل الريف من الطوب اللبن
فريبا حزباوي
بنده يوسف
الوصف :-
اعترى المزاج الشعري عبر عصوره إتجاهات وأوجه متفاوتة ، يوماً كان المزاج يتناول شاعرية كلاسية ويوماً اخر اعتراه مزاج رومانتيكي ، وآخر عرفانى وواقعي...... ؛ ونجد الوصف أداة هامة لازمت الشاعرية القديمة و الحديثة ، وشارك بصورة فعالة فى رسم الصورة الشعرية التى كانت عامود الإبداع الرئيسي فى شاعرية التراث والحداثة .
فالوصف كان نقل تصويري من نافذة عين الشاعر يمر بالإنفعال والمشاعر لتشخصه الحروف والكلمات .
وكان الوصف مهمته فى الشعر أن يخلق إبداع الصورة الفنية التى اعتمدت فى وجه التراث على الخيال والتشبيه والكنايات ، فكان إبداع يتقارب أكثر مع أدبية الحرف والمفردة ، وفى وجه الحداثة تقاربت أكثر مع الشعور والدهشة لتكون أقرب إلى التصوير ، والمفردات أدوات رسم ليد العين المتأملة ؛ ليحمل الوصف فى الشاعرية الحديثة صورة حية ، تحمل فيها المفردة الشعرية كل جوانب الكائن الحي من صوت وضوء وحركة – وكانت الصورة الكائن الأبرز حركة ووضوحاً بين كائنات النص الشعري فالمنفلوطي يقول فى قيمتها : " إن التصوير نفسه أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها......... " فالصورة هى التى ترسم الدهشة فى عيون القارئ .
صاحب الوصف الشعر قديمه وحديثه كأداة إيهام بالواقعية وتوصيل المعنى بشكل يقارب الحقيقة ؛ وعلى ذلك وجدنا الوصف يلازم كل الأجناس الأدبية الشعرية منها والنثرية ، وخصوصاً الأجناس التى تعتمد على السرد وبالتالي كان البعد الوصفي أهم أداة تبرز وتجسد الأشياء والشخصيات لأنه سيخرجها من برودة النقل والقص إلى التشخيص والتجسيد والصورة الحية .
والنقاد وضعوا الوصف كأداة هامة فى تحديد نمط الشاعرية التى يكتب بها الشاعر .... وجدانية أم ذاتية أم رومانسية ، فحددوا معالم نمط كالمدرسة الرومانسية بأن الوصف أميز سماتها .
وكما نرى أن الوصف أداة هامة سواء فى شاعرية التراث أو الحداثة إلا أن " التوظيف " لغاية هذا الوصف داخل النص الشعري ، هو العلامة الفارقة لدور الوصف وغايته فى الوجه الكلاسيكى أوالحداثي من الشعر .
فغاية الوصف قديماً : أداة تساعد المتلقي على إدراك الصورة والمعنى ، ويخلق القرائن بأدوات التشبيه والإستعارة.... ليقارب بين الذهن والشعر .
لكن مع الشاعرية الحديثة تغاير دور الوصف ، وكانت الصورة فى وصفها تمر أولاً على وجدان الشاعر ليعبر ويتجلى هذا الوجدان فى الصورة التى ترسم ، فتندمج ذات الشاعر مع النص الشعري ، ويكون الوصف لحظتها حالة تجلى للذات الشاعرة ، ومظهر لكيان شعري ويتضح كيف كان تفاعلها مع الوجود وكيف كانت رؤيتها له .
وبشكل أقرب فى الإيضاح كان الوصف قديماً يخدم موضوع النص الشعري أكثر من أن يخدم ذاتية ووجدان الشاعر ، على عكس غايته فى الشاعرية الحديثة . وبذلك يكون التوظيف هو العلامة الفارقة بين غاية الوصف فى شاعرية التراث أوالحداثة .
.
الرمز :-
مايميز الشعر عن الأنواع الأدبية الأخرى ؛ الفيض الدلالي للمفردة داخل النص الشعري ، وإعتماد الشعر على لغة الإشارة التى تخرجه من برودة الكلام ، فالمفردة فى المتن الشعري ترتفع عن حجمها الحقيقي ، وتتعدى حدود الدلالة المعجمية ، فخيال الشاعر وقوة التصوير تمنح المفردة هالة من القوة وفيض فى الدلالة والمعنى ، وهذا مايميز لغة الشعر عن أى نوع أدبي آخر كما يقول البحتري فى قوله : " والشعر لمح تكفي إشارته - وليس بالهذر طولت خطبه " ، فالشعر لغته أقرب إلى الحواس ونوافذ الشعور على عكس أى نمط آخر للكلام ، ولا يحتاج إسهاب حرف لإيضاح معنى .
والرمز يمثل اللغة الأكثر إيحاءاً فى مفردات النص الشعري ، فهو أداة توصيل لأفكار الشاعر ، وأداة توحد ذهنية الشاعر والمتلقي ، فالرمز يعطى للنص الشعري مساحة من الرحابة ، ويخرج النص من القيد الزمني ، فيجتاز الحاضر إلى الماضي ، ويوصل الماضي بالحاضر .
وبقدر مايحمل الرمز من إيضاح للنص وإظهار للمعنى ، يصيب النص والمتلقي أيضاً بحالة من الغموض والإبهام ؛ خصوصاً إذا كان النص يحمل رموزاً غير مآلوفة غير حاضرة فى الذاكرة الثقافية ، أو أن يستقدم الشاعر رموز غريبة على النص الشعري ؛ لمعرفته بثقافة أجنبية ، أو يكون هناك أزمة بين النص والمتلقي لحالة جفاف معرفي تصيب المتلقي تعزله عن الموروث القديم والوافد وإيحاء الرمز .
والرمز كائن هام من مكونات النص الشعري ، لم يفقد قيمته مع تنوع حركة الشعر بين قديم وحديث ، وربما كان من أهم الأدوات التى ساعدت على ظهور حالة الوئام والإنسجام بين مراحل الشعر المختلفة ؛ فهو يوصل الشاعر والمتلقي الحديث بالأقدمين ، ويوصل القدماء بالمحدثين عن طريق الحضور من نافذة الرمز ، فتنوع الرموز ساعد المحدثين كثيراً على التواصل مع ذهنية الأقدمين ، فهناك رمز اسطوري و تاريخي و ديني وشعبي ، رموز متعددة ساعدت الموروث أن يظهر من نافذة الشاعرية الحديثة على كافة المواضيع والقضايا .
والرمز ظهر عبر العصور الأدبية المختلفة في ساحة النص بغايات توظيف مختلفة ، فكان الشاعر والمتلقي هو الذى يحدد غاية هذا الرمز والغاية منه كانت تتحدد بكيفية توظيفه ، وبهذا صار من الممكن أن يفيض الرمز الواحد بعدة دلالات تحمل أبعاد تراثية واخرى حداثية .
الماء : توظيف وصف ورمز
المـــــــاء *
علينا ألا نعكر الماء
فربما ، عند المنحدر ، ثمة حمامة تشرب الماء
أو فى الغابة البعيدة ، ثمة برقش يغسل جناحه
أو فى قرية ، ثمة جرة ماء تملأ
علينا ألا نعكر الماء
لربما ، هذا الماء الرقراق ينحدر صوب جذع حور (1)
ليغسل حزن قلب
أو يد فقير ربما ، تمقل (2) قطعة خبز يابسة فى الماء
امرأة جميلة دنت من حافة النهر ؛ فعلينا ألا نعكر الماء
: فوجه جميل قد أنعكس
ما أعذب هذا الماء !
ما أصفى هذا النهر !
أى صفاء لدى أهل الأعالي
لتكن ينابيعهم دفوق
ولتكن أبقارهم حلوب
لم أر قريتهم ؛ لكن بلاشك اثار اقدام الله عند اكواخهم
فضوء القمر هناك يضئ سعة الكلام
فلاشك أن فى قرية الأعالي ؛ الحيطان (3) منخفضة
وأهلها يدركون أية زهرة شقائق النعمان
فلاشك أن الزرقة هناك زرقاء
فبرعمة تتفتح ، وأهل القرية لديهم خبر عنها
يالها من قرية يجب أن تكون !
ليكن طريق بستانهم ملئ بالنغم !
أهالي نبع النهر فى الأعالي ، يفهمون الماء
فلم يعكروه ، ونحن أيضاً
علينا ألا نعكر الماء
وصف :-
مثل الشعر أداة مهمة للحفاظ على وجود الإنسان وتاريخه ، فأشعار قديمة تقرأ حتى الآن لنفهم من ماتحمله من وصف وصور كيف كانت الحياة آنذاك .
ومع ظهور الطور الجديد للشعر ، مثل الشعر أهمية كبيرة فى حياة الإنسان قارئ وشاعر ، فمثل الشعر للشعراء أداة فى مقاومة الزوال ، به يرسخون وجودهم أمام أى عصف يسلب وجودهم كعصف السلطة أو فساد الزمان أو تجاهل المجتمع لهم ، ومثل أيضاً لهم نافذة منها ينظرون على ماحولهم من حياة وكون ، ويدنون منها إلى التوحد مع الكائنات .
والشعر مثل لسهراب سبهري لوحة فيها يفيض بوجوده ، وبها يعبر إلى التوحد مع مايلتف به من كائنات . وسهراب تمتع بعرفانية مزدوجة ، فأفكاره تتقارب مع عرفاء ايرانين كبار أمثال أبوسعيد أبو الخير و مولانا جلال الدين الرومي ، وتتقارب أيضاً مع مدراس عرفانية بوذية وصينية ، وهذا التنوع فى مصادر أفكار سهراب يعطي سعة فى إدراك غاية الوصف والصورة فى شاعريته ، فالطبيعة رافقت الشاعر قديماً فى وصفه ليظهر بها معنى حرفه وغاية أفكاره ، ولتكون عتبة له فى الوصول إلى مدارج السماء ، فإستحسان الطبيعة ووصفها لم يكن لقداسة تتمتع بها ، بل لسر هى تفصح عنه ، ولغاية أسمى يفتش عنها الشاعر ، ويفك مرموز ساميه من ما ترسمه الطبيعة من مشاهد وجمال . وهذا النوع من غاية الوصف يظهر فى شاعرية سهراب من خلال أفكار مدرسة مولانا الرومي .
ومع النظرة الجديدة للشعر تبدلت أيضاً النظرة تجاه الوصف و الطبيعة ، وصورها الشعراء بنوع من القداسة ، وصارت الحروف غاية للوصول لها والوصال بها ، فاندمج وجدان الشاعر مع الطبيعة ومثل وصفه لها تعبير عن مايختلي وجدانه من أفكار ومشاعر ، وتوحد معها إلى أن صارت جزء من كيانه ، وتتقارب هذه الرؤية تجاه الطبيعة مع مدرسة العرفان الصيني التى ترسم للطبيعة شكلاً من أشكال القداسة ، وأنها غاية الوصول .
وسهراب أبدع فى هذا النوع من الوصف ، فدائماً كان يبحث عن توحد مع الطبيعة و كائناتها وكأنه جزء من مكوناتها ، وكما كانت الطبيعة فى النظرة القديمة أداة مكاشفة لعوالم فى ملكوت السماء ، كان سهراب يستخدمها أيضاً كأداة مكاشفة خصبة بها يفصح عن خفقات حركة الإنسان والكائنات التى لاتدرك دون مجاهدة التوحد والتأمل لدقائق مكونات الطبيعة ، فنجد سهراب فى قطعته الشعرية " الماء " يرسم بفرشاة الحرف صورة شعرية ، ويخبرنا عن كائناتها بشكل دقيق ، وبشكل يظهر إلى أى درجة أستطاع أن يتوحد مع الطبيعة ومكوناتها لدرجة أن شاعريته أدركت برعمة وهى تتفتح ، وكم كان الماء صافياً ليعيد للطير بهاء ألوانه ، ويعيد لقلب الحور الأبيض نصاعته ، وعلى صفحته يتجلى وجه حسناء ، وأى مقام أسمى لأولائك الذين أدركوا كنه الطبيعة وفلسفتها .
وسهراب يستخدم وصفه للطبيعة ليعبر من نافذتها وجدانه ومشاعره وأفكاره ، فغايته من التوحد مع الطبيعة وإدراك قيمتها ترسيخ قيمة الإنسان والتحقق من قيمته ، فالإنسان يعبر عن إنسانيته وقيمة وجوده من خلال إدراكة لقيمة ماحوله من كائنات ، وطالما هو حافظ على قداسة تلك الطبيعة لقيمتها ؛ فهو مدرك لقيمته وحقيقة عظمة وجوده .
وللوصف فى قطعته الشعرية قيمة أخرى ، فالوصف أداة بها ينقل العالم الحي إلى شاعريته ،
لتخلق في سطوره الشعرية حياة أخرى ، فأراد سهراب إحياء كل ماحوله من كائنات وأشياء ، ليصير كل كائن حوله مرآة عاكسة لمظاهر حياة الكون كله ، وبوجدانه المندمج مع ملامح وصفه يحقق سهراب الشاعر حضوره مع العالم الحي وتوحده معه ؛ ليشارك الكون بمجمله فى الحياة ، وكأنه يرسم نظرته الفكرية نحو مفهوم وحدة الوجود ؛ حيث يتوحد الكائن مع أركان الكون ، وهنا يوظف سهراب الوصف والطبيعة بشكل تقارب مع أهل العرفان قديماً ولكن بفارق المعالجة لغاية الوصف وقيمة الطبيعة .
رمز :-
يحقق الرمز للأشياء قيمتها وفلسفتها ، يتقارب أحياناً من الإشارة والإيحاء ، ويستقل أحياناًُ أخرى بكيان يختزل فى باطنه مجمل من الأحاسيس والدلالات المشتركة بين وجدان الشاعر ومتلقيه ، فالرمز لايولد من فراغ وإنما الشاعر يضيف ويزيد فى دلالته ، وسهراب برع فى تحقيق قيمة الرمز ، فلم يغرقه فى ذاتية مجحفة تظهر لنا رموز شعرية نفقد الحس بها أو أنها لاتثير فينا أشياء ؛ بل منح الرمز فضاء أوسع بتوحده مع وجدانه ومع العرف فى ذهنية المتلقي ، فالرمز عنده له ثنائية القدرة وفضاء المعنى ، فله دلالة ظاهرة وأخرى باطنه وفى فضاء المعنى يحمل أبعاد عدة ، عرفانية وإجتماعية وفكرية ونفسية وعاطفية ...........
برع أيضاً فى توظيفه بذكاء فى سياقه الشعري ليخدم الرمز الصورة ليعطيها وضوح الدلالة ، وتمنحه أيضاً الصورة التشخيص والكيان المحسوس ؛ ليظهر للنص قوة تأثرية على المتلقي .
وكما أن سهراب كان مرهف الحس والوجدان فى إستخدام وتوظيف رموزه الشعرية من وكلمات وعبارات وشخصيات وأماكن ؛ حرص أيضاً ألا يصيب أو تصيب هذه الرموز شاعريته بشئ من الغموض ونفور الإبهام ؛ بل جعل من المتلقي شريك فى إدراك الصورة التى تملكت وجدانه لحظة البوح بهذه الشاعرية .
وجعله يتمتع بحالة من الكشف كأهل العرفان تعتمد على نوع من الدهشة والتأمل لإدراك جمال كائنات النص من رمز وصورة .
وعند سبر أغوار رمز الماء فى قطعة سهراب الرائعة " الماء " لاسبيل لنا إلا الدهشة وحيرة الإعجاب ، فكما كان سهراب دائماً فى صوره يحرص على أن يتوحد مع كافة كائنات الكون ومع أخفت حس لصوت تفتح برعمة ؛ كان يحرص أيضاً أن يتعدى الرمز حدود عرف ذهنية المتلقي ليكون رمزه محملاً بدلالة تجتمع عليها كل كائنات الكون .
فالماء رمز تعرفه الحمامة وتسمع صوته الجرة ويفهم كنهه الحور ، ويدرك قيمته الدرويش ، وتعرف لغته الحسناء ويقدسه الأصفياء .
فالإعتبارات الدلالية التى يجدها الماء عند كل كائنات الكون ؛ أعطته سعة فى الدلالة والإيحاء تبدأ من دلالات تراثية إلى أن تصل إلى دلالات حاضرة ودلالات يحملها وجدان سهراب ، فالماء رمز عرفاني مقدس، بل ربما هو أعظم الرموز الصوفية ، فهو قد يصل إلى مكانة الخلق الأول : " وكان عرشُه على الماء " ، وهو سر الوجود : " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ، وبه يتطهرون لتصفو أجسادهم وأروحهم : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم الرجز " ، وهو جنة الفوز: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا " ، فالماء رمز ينطوي فيه كل الكون فمنه بشتق أهل العرفان بحر المعرفة والعلم اللادني ، ويستخدمونه كعنصر حياة ووجود ، وفى معراجهم للجنة يرافقهم ليسقى لهم أشجار وبساتين نعيمهم : " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون " .
وبعد العرفان يفيض رمز الماء بدلائل أخرى ، فهو يقارب الأذهان من فوح الموروث الثقافي ؛ فهو رمز مقدس فى العقائد الزرادشتية ، فهو الضلع الثالث المكمل لعناصر الحياة " الماء ، التراب ، الهواء " ، وهو مصدر الحكمة والنار رمزها ، فهو أثاث للمعبد .
وكما أستطاع سهراب إلى يتواصل بعرفية رمز الماء مع متلقيه ؛ أستطاع أيضاً أن ينفذ بهذا الرمز لأذهان أخرى فالماء رمز من رموز الروح القدس فى الكتب المقدسة السماوية ، فسهراب يرسم صورة لذاك الإنسان الذى يجاور نبع الماء ؛ تتلاقى هذه الصورة مع صورة الإنسان البار التى يرسمها المزمور الأول من الكتاب المقدس : " يكون كشجرة مغروسة على مجارى المياة "
وكما يرسم سهراب صفاء أهل الأعالي بصفاء ماءهم ، وأنهم يرسمون بهذا الصفاء طريقهم نحو الخلاص ، ليعم هذا الصفاء قلوبهم ومنازلهم لدرجة انها تكون جديرة بآثار اقدام الله عند اكواخهم ؛ يرسم المسيح عليه السلام برواية يوحنا صورة توضح رمز الماء كأداة خلاص : " من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية " .
والرمز أيضاً عند سهراب له دلالات تعبر عن نزعة إنسانية ، تبتعد عن نظرة فلسفة وجود الإنسان كوجود ميتافيزيقي ، وتتقارب مع قيمة وجوده من الناحية الوظيفية ، وأنه أرقى كائنات الطبيعة ، فرمزية " الماء " ومجاورته لــ " أهل الأعالي " تشير إلى نزعة إنسانية تسعى إلى تحقيق السمو الجمالي والروحي ، وتبحث عن معنى الإنسان ، وتسعى إلى تحريره من القيود التى أهدرت قيمة وجوده كإنسان ؛ لترسم قيمته ككائن يظل أرقى الكائنات طالما هو مازال يحافظ على صفاء يشابه صفاء الماء ، ومتحرراً من كل عقيدة تفسد وصاله مع اخيه الإنسان ومع الطبيعة .
(1) شجرة الحور ، من فصيلة الصفصاف
(2) تغمس
(3) الحيطان التى يصنعها أهل الريف من الطوب اللبن