بنده يوسف
04/01/2010, 12:28 AM
سوسيولجيا الأدب
الكلب الشريد " صادق هدايت "
معرفة النبات " علي شريعتي "
http://www.wata.cc/up/uploads/images/wata9535b6cbbf.bmp (http://www.wata.cc/up/uploads/images/wata9535b6cbbf.bmp)
" يتنكر أصحاب العلوم التطبيقية إلى قيمة الأدب ودوره فى تحديد مسار الإنسان فى تلك الحياة ، والحقيقة أن الأدب هو بيت العراف الذى منه نتطلع إلى معرفة ماضينا ومستقبلنا ، وهذه القراءة رسالة شكر وإعتراف فضل للدكتور/ عادل سويلم أستاذ الحضارة والآثار والفنون الإسلامية فى إيران ، فطوق نجاته أدركنا يوماً بعد أن هشم ريح الصخب قاربنا ، وسمعنا منه تلبية نداء عاقل يدرك ماذا تعنى كلمة " النجدة " ، وكم تعلمنا من أحاديثه ظبط العقل ، واحكام القول ؛ فمن ضبط لغته ضبط عقله ، ولاطاقة لنا برد فضله ، إلا أن نسأل الله الكريم ألا يحرمه محبة الناس ووقار العلم ونور المعرفة وبهاء فضله وخيره إنه سميع مجيب . "
لمن نكتب ؟ سؤال يطرح على مدار أجيال ، والإجابة نفسها عليها صراع ، فالأدب للغة ، والأدب للأدب ، والأدب للأديب ، والأدب للمجتمع ، المهم أن كل هذه الإجابات كانت ردة فعل فى مقابل ألايكون الأدب شعار وخدمة لطبقة بعينها ، فالأدب ظل لفترة طويلة مهمته أن يكون خادم لإعلاء طبقة على طبقة ، وكأنه أداة لصنع صراع وفجوات بين طبقات المجتمع ، وليس كأداة إنسجام وتواصل بين شرائحه المختلفة .
فمع مرحلة بداية عصر التنوير " القرن التاسع عشر " أخرجت أعباء السياسة والقهر والظلم الأدباء من كهوفهم ومن الرتابة التى أعتادوا أن يرسموها فى أعمالهم ، وبالخروج من دائرة التراث وبأداة الترجمة تعرفوا على إتجاهات شرقية وأخرى غربية لم يآلفوها من قبل خاصة فى مزجها لآلام الإنسان وفلسفة حياته فى أعمالهم الأدبية ، فتعرفوا على أدباء أمثال ليو تولستوي و أنطون تشيخوف و فيكتور هوجو و جي دو موباسان ،،،،،،
ومع اختمار الأفكار الوافدة فى عقول أدباء المشرق ، ظهرت الواقعية كأداة ومنهج لكتاباتهم ، فأحدثت إنقلاب كبير فى شكل الأدب وقضاياه ، لتخرج قضايا الإنسان كما يقول سارتر من المعنى التجريدي ؛ إلى أن يصنع لها فى الأدب أوطان ، وتكتسب معناها وقيمتها من خلال واقعية موقف معين يجسدها .
فأعمال أدباء أمثال " محمد تيمور و محمد عبد الحليم عبد الله و نجيب محفوظ ، ومحمد على أفغاني ومحمد مسعود دهاتي و جلال آل أحمد " استطاعت أن تجعل من الأدب رقيب للمجتمع فى خدمة الإنسان وقضاياه ، فهى تجسد أفكاره وآلامه ، وترصد له كيف يتحرك مجتمعه وتساعده على تقديم معالجات لواقعه داخل المجتمع
وبرغم المحاولات التى قدمها النقاد كمعالجة للواقعية لما أفرزته من صور قاتمة تتكررأحداثها ، وبرغم المسميات الجديدة التى ظهرت بها كـ " الواقعية السحرية و الواقعية الجديدة و الواقعية الجمالية و الواقعية النقدية " إلا أن منهجها لايزال هو الأوسع رحابة فى إحتواء قضايا الإنسان ومجتمعه ، فتركيزها ونقلها لمواقف بذاتها من المجتمع ، والنقد و التعبير عنها بصراحة ؛ جعل من الأدب بتلك المنهجية خير أداة إصلاح وكشف لقضايا المجتمع وأزماته .
وبرغم الصفعة التى تعرضت لها على يد المدرسة الرمزية بالإبتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات إجتماعية ودينية وسياسية وجنوح تيار الرمزية إلى عالم الخيال بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية والبحث عن مثالية مجهولة تعوض الإنسان عن واقعه المرير والمشوه ؛ إلا أن الواقعية استفادت من هذا الإنقلاب وحملت فى أدبياتها شئ من جماليات المدارس الحداثية كالرمز والإيحاء ولكن بإسقاطات واقعية بأداة التأويل ، لتحافظ على كونها أداة فضح ومعالجة للمجتمع وليس أداة هروب وبناء لعالم من المثالية الخيالية .
الكلب الشريد " صادق هدايت "
يعد صادق هدايت من مؤسسي القصة القصيرة فى إيران ، وبعد وفاته خرجت أعماله إلى العالمية بفضل ترجمتها وقضاياها ، وقصته القصيرة " سگ ولگرد " ترجمت بعدة عناوين كــ " الكلب السائب ـ الكلب الضال - الكلب الشريد " ، والعنوان الأخير من إبداع المرحوم الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا ، وهو أفضل عنوان لروح اللغة الفارسية ولوظيفة رمزية الكلب داخل القصة .
وتدور القصة حول كلب اسمه " بات " يعيش عيشة مرفهة مع سيده الثري ، ويشاركه يومه وأحداث حياته ، إلى أن يخرج معه يوماً إلى السوق وهناك تشل حركة تفكيره رائحة كلبة ، فينجرف فى التفتيش عنها فى مجرى مائي لأحد الحدائق ، وهناك ينغمس معها متناسياً أى شئ عن عالم سيده ، وبعدما يخرج من حالة الشهوة التى سيطرت عليه بطرقات من أخرجوه بالعصى وأيدي الفؤوس يدرك أنه ضاع فى عالم لايعرف عنه شئ ولم يآلفه من قبل كحياة ، ويظل يفتش عن صاحبه بين مكونات الميدان الذى تركه فيه ، بين حانوت وزقاق ، ولايجد من المجتمع الجديد إلا الإهانة والرفض لوجوده ، إلى أن تدخل الميدان يوماً سيارة فارهة ويرى علامات عطف من صاحب السيارة ، ويلتزم ويراقب حركاته فلربما يسمح له بالصعود معه إلى السيارة كما كان يفعل سيده القديم معه ، ولكن ينهدم حلم بات عندما يجد السيارة تتحرك بدونه ويظل يركض خلفها إلى أن تسحبه وسط الصحراء والتيه حيث لامكان ولامآوى ، وهناك يفقد قدرته على الوصال بالركض خلف السيارة ، إلى أن يسقط من التعب وتنتظر الغربان رحيله لتلتهم جسمه النحيل.
- القصة مبنية على جو واقعي وأحداث مقبولة يبدع صادق هدايت فى سرد تفاصيلها ، والإهتمام الكبير الذى أعطاه لوصف مشاعر وأحاسيس بات وعلاقاته مع من قابلهم ، والوصف الدقيق لأبسط مكونات جسمه ؛ يعطي إشارة لكون هدايت لم يستخدم القصة لغرض ترفيهي أو إيضاح معاناة كلب فحسب ، خصوصاً أن أعماله حملت فى المقام الأول الهم والنقد الإجتماعي ؛ بل أراد أن ينفذ من رمزية القصة وأحداثها إلى المجتمع ونقده.
فبآلية التأويل وإيحاء العلاقات والأحداث داخل القصة ، نجد أن رمزية الكلب كرمز معزول عن الحدث السردي لاقيمة لها ، ولكن من خلال الأحداث التى يتعرض لها هذا الكلب فتشير رمزيته إلى الإنسان الذى يعيش فى إزدواجية وصراع بين مرحلتين فكريتين أو بين مجتمعين متضادين أو بين طبقات متصارعة داخل المجتمع أو تعبر عن مجتمع نفسه يعيش أزمة صراع بين مكوناته الثقافية والإجتماعية المتفاوتة.
فأزمة الصراع والهوية تحدثها حيرة الإنسان بين وجهي من الثقافة والهوية ، وهذا يرسمه حياة بات بين رفاهية السيد الزائفة بالنسبة له ؛ لأنه غير مشارك فى صنعها ، بل مجرد مستهلك لها ، وبين العالم الخارجي الذى حرمه " إنكفاءه على تقديم عبوديته للسيد " من التواصل مع هذا العالم ليصبح فيه ككائن غريب ؛ على رغم أنه أحد كائنات هذا العالم .
وهذا أمر يعاش حتى الآن داخل المجتمع من تيارات أهتمت بالتصنيف أكثر من إهتمامها بالمحافظة على ماهى تتصارع عليه كالثقافة وهويتها ، فنجد إهتمام بالتصنيف بعالم تراثي وعالم حداثي ، فى حين أن فكرة الإبداع وربط القديم بالجديد غير مفهومة ومدركة لديهم ، وهذا يسقط قيمة مايقومون به من قبض أو تحرير للتراث .
و المجتمع الذى يعيش أزمة صراع بين مكوناته الثقافية والإجتماعية ، تنتج حالته هذه : من تياراته الفكرية وطبقاته الإجتماعية التى تنشغل بالتصنيف أكثر من إدراك أزمة مجتمعها ، وترسم القصة هذا المجتمع فى العلاقة التقابلية بين مجتمع بات الأول " بيت السيد " حيث له قبول فى تواجده هناك وكائنات هذا المجتمع ترتاح لوجوده ، يآلفها وتآلفه ؛ على عكس المجتمع الثاني " الميدان وأزقته " حيث لوجوده هناك رفض ، ورغم أنه يعرف هذا المجتمع إلا أنهم يتنكرون لوجوده ولحقه فى العيش .
فبات يرمز للإنسان الوافد بثقافة جديدة على مجتمعه المغلق ، ويرمز لإنسان يعيش أزمة هوية نتجت من صراع إجتماعي طبقي وثقافي ، ويرمز أيضاً لوجهي المجتمع سواء ، المغلق على أفكاره ، أوالرافض لتراثه .
معرفة النبات " علي شريعتي "
يعرف علي شريعتي بكونه منظر ومفكر إجتماعي ديني ، ولايعرف بكونه قاص أو شاعر برغم إهتمامه بالأدب والتكلم عن قضاياه ، فعلاقته بكتابات سارتر ومحمد مندور تكشف حقيقة إهتمامه بالأدب ، وخصوصاً أنه دافع عن التجديد فى موضوعات الأدب وأشكاله .
ففي قصته " معرفة النبات " يرسم غايته من الأدب كما رسمها سارتر ومندور وهو أن يكون الأدب مرآة للمجتمع ، وأن يرسم صورة الإنسان وحاجاته فى ملامحه ، لا أن يصيبه بحالة من العزل عن دنياه ووجوده .
والقصة تعتمد على بعض العلامات " السيمائية " التى تعبر عن مغزى شريعتي من قصته كصور توضح : العلاقة بين الواحد والصفر ، والإنسان المتضخم بإستهلاكه ، وشكل نبات اللبلاب والقرع والصنوبر ، وهي تدور حول وصف لمدرس داخل فصله من قبل أحد تلاميذه ومدى مكانته بينهم كمتعلمين ، ومدى مكانته بين مجتمعه كعضو فيه ، ومدى إدراكه لكائنات الطبيعة ليس بإدراك الرومانسي أو العرفاني حيث قيمتها فى فلسفته الخاصة ؛ ولكن بنظرة إدراك المفكر الذى ينظر لكائنات الطبيعة على كونها صورة من مكونات مجتمعه الإنساني .
وتنتهي القصة بأن يأخذ هذا المدرس بيد تلاميذه إلى حديقة فى طرف مدرسته ، ليعرفهم معرفة علمية على ثلاث أنواع من النباتات هى اللبلاب والقرع والصنوبر .
ورغم علمية القصة إلا أنها تحمل إشارات نحو المثقف وأنواعه ومدى دوره داخل مجتمعه ، فشريعتي يقول فى قصته عن هذا المدرس " بلاشك لم يكن يعرف اشياء كثيرة ، لكنه كان رجل عالم ، حتىأنه يفكر ويفهم جيداً ، ويدرك جيداً الدنيا التى عاش فيها.... "
وهنا يشير لقضية النباهة والوعى بما يحمله المثقف من تراث ومعرفة ، فهناك مثقف مستهلك لتراثه ومجتمعه .... وتطرح هنا قضية المثقف فى تحصيله المعرفي ومدى تقاربه أو ابتعاده من نموذج " النمل " ، ونموذج " النحل " ....فالمثقف المستهلك لتراثه والواقف عليه أشبه بالنملة التى تخزن فقط ماتجمعه من حبوب دون إفراز أوإضافة جديد فيه ، ولربما تكون مصيبتها فى تعفنه ، على عكس المثقف الذي يستوعب تراثه ويحييه بما يفرز من تجديد كالنحلة التى تجمع الرحيق لا للتخزين والكم ، ولكن ليكون لها كأداة افراز لمنتج جديد تواصل به حياتها .
وإستخدامه لثلاث نباتات هى " اللبلاب والقرع والصنوبر " لم يكن بشكل إعتباطي ، بل أراد منها إسقاط على المجتمع ومكوناته سواء الطبقي أو الثقافي ، ليطرح أمامنا أوجه ثلاثة من مكونات المجتمع ، وهم " المتغربون والتراثيون والإصلاحيون " .
فوصفه للبلاب وكيف أنه ليس لها قدرة على النهوض بذاته لضعف جذعه ، وكيف أنه يعيش متطفلاً ومستنزفاً للشجرة التى علق نفسه بقدراتها وإمكانياتها وهى الشنار ، وكيف أن موته متحتم لأنه سيقضي على عائله ؛ يوضح صورة المثقف والمجتمع المتغرب الذي ينفض عنه تراثه وأصالته ، ولايكون له الحق يوماً أن يدعى العبقرية أوالتميزالحضاري لأن كل مالديه هو نتاج الآخر،وماكان منه إلا أن أصبح مستهلكاً له.
والصورة التى قدمها عن نبات القرع ، وكيف هو كسول ، وأنه يحتل مساحة كبيرة من الأرض ، ويظل يفترشها إلى أن يعيقه صخر أو سياج أو قرعة أكسل منه ، وكيف بتضخمه على الأرض يغتصب حق نباتات أخرى فى الحياة ، وكلما كبر حجمه فهو لاقيمة له فطعمه يصبح غير مستساغ ومايجد إلا ركل الأقدام له ؛ ترسم صورة التراثي والمجتمع الواقف على أفكار ومخزون ثقافي ثابت غير متجدد ، وكيف أن بإغلاقه على تراثه ومنعه لأية مساحة من التجديد فيه ، تجعله كمن يغلق السد على ماءه بإدعاء المحافظة عليه ، وهو هنا من يصيبه بالعطن والتعفن حتى أنه لايعد صالح لإستخدامه هو نفسه ، ولن يجد فى النهاية إلا مثل ماوجد القرع أقدام تركله بعيداً لأنه لايصلح لشئ .
ومع صورة الصنوبر حيث يدقق شريعتي فى وصف بياضها ، وكيف أنها تنمو فى شكل رأسي ؛ فلاهي تحتل مساحة بلافائدة من الأرض كالقرع ، ولا هي تقف قائمة بإستهلاكها لجذع آخر كالبلاب ، بل تقف معتمدة على نفسها لتعرفها السماء والشمس ؛ يرسم لنا صورة الإصلاحي والمجتمع المستنير، فهو يستفيد من تراثه وحداثته ليخرج من دائرة الإستهلاك لحضارة غيره ، أو الإستهلاك الزمني بتأمله فى ذكريات حضارة كانت ، وهنا يكون الوحيد الذي أنقذ تراثه بالتجديد والإبداع ، والقادر على التواصل مع الآخر لأن لديه كيان مميز يجعل له قيمة وهوية خاصة .
الكلب الشريد " صادق هدايت "
معرفة النبات " علي شريعتي "
http://www.wata.cc/up/uploads/images/wata9535b6cbbf.bmp (http://www.wata.cc/up/uploads/images/wata9535b6cbbf.bmp)
" يتنكر أصحاب العلوم التطبيقية إلى قيمة الأدب ودوره فى تحديد مسار الإنسان فى تلك الحياة ، والحقيقة أن الأدب هو بيت العراف الذى منه نتطلع إلى معرفة ماضينا ومستقبلنا ، وهذه القراءة رسالة شكر وإعتراف فضل للدكتور/ عادل سويلم أستاذ الحضارة والآثار والفنون الإسلامية فى إيران ، فطوق نجاته أدركنا يوماً بعد أن هشم ريح الصخب قاربنا ، وسمعنا منه تلبية نداء عاقل يدرك ماذا تعنى كلمة " النجدة " ، وكم تعلمنا من أحاديثه ظبط العقل ، واحكام القول ؛ فمن ضبط لغته ضبط عقله ، ولاطاقة لنا برد فضله ، إلا أن نسأل الله الكريم ألا يحرمه محبة الناس ووقار العلم ونور المعرفة وبهاء فضله وخيره إنه سميع مجيب . "
لمن نكتب ؟ سؤال يطرح على مدار أجيال ، والإجابة نفسها عليها صراع ، فالأدب للغة ، والأدب للأدب ، والأدب للأديب ، والأدب للمجتمع ، المهم أن كل هذه الإجابات كانت ردة فعل فى مقابل ألايكون الأدب شعار وخدمة لطبقة بعينها ، فالأدب ظل لفترة طويلة مهمته أن يكون خادم لإعلاء طبقة على طبقة ، وكأنه أداة لصنع صراع وفجوات بين طبقات المجتمع ، وليس كأداة إنسجام وتواصل بين شرائحه المختلفة .
فمع مرحلة بداية عصر التنوير " القرن التاسع عشر " أخرجت أعباء السياسة والقهر والظلم الأدباء من كهوفهم ومن الرتابة التى أعتادوا أن يرسموها فى أعمالهم ، وبالخروج من دائرة التراث وبأداة الترجمة تعرفوا على إتجاهات شرقية وأخرى غربية لم يآلفوها من قبل خاصة فى مزجها لآلام الإنسان وفلسفة حياته فى أعمالهم الأدبية ، فتعرفوا على أدباء أمثال ليو تولستوي و أنطون تشيخوف و فيكتور هوجو و جي دو موباسان ،،،،،،
ومع اختمار الأفكار الوافدة فى عقول أدباء المشرق ، ظهرت الواقعية كأداة ومنهج لكتاباتهم ، فأحدثت إنقلاب كبير فى شكل الأدب وقضاياه ، لتخرج قضايا الإنسان كما يقول سارتر من المعنى التجريدي ؛ إلى أن يصنع لها فى الأدب أوطان ، وتكتسب معناها وقيمتها من خلال واقعية موقف معين يجسدها .
فأعمال أدباء أمثال " محمد تيمور و محمد عبد الحليم عبد الله و نجيب محفوظ ، ومحمد على أفغاني ومحمد مسعود دهاتي و جلال آل أحمد " استطاعت أن تجعل من الأدب رقيب للمجتمع فى خدمة الإنسان وقضاياه ، فهى تجسد أفكاره وآلامه ، وترصد له كيف يتحرك مجتمعه وتساعده على تقديم معالجات لواقعه داخل المجتمع
وبرغم المحاولات التى قدمها النقاد كمعالجة للواقعية لما أفرزته من صور قاتمة تتكررأحداثها ، وبرغم المسميات الجديدة التى ظهرت بها كـ " الواقعية السحرية و الواقعية الجديدة و الواقعية الجمالية و الواقعية النقدية " إلا أن منهجها لايزال هو الأوسع رحابة فى إحتواء قضايا الإنسان ومجتمعه ، فتركيزها ونقلها لمواقف بذاتها من المجتمع ، والنقد و التعبير عنها بصراحة ؛ جعل من الأدب بتلك المنهجية خير أداة إصلاح وكشف لقضايا المجتمع وأزماته .
وبرغم الصفعة التى تعرضت لها على يد المدرسة الرمزية بالإبتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات إجتماعية ودينية وسياسية وجنوح تيار الرمزية إلى عالم الخيال بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية والبحث عن مثالية مجهولة تعوض الإنسان عن واقعه المرير والمشوه ؛ إلا أن الواقعية استفادت من هذا الإنقلاب وحملت فى أدبياتها شئ من جماليات المدارس الحداثية كالرمز والإيحاء ولكن بإسقاطات واقعية بأداة التأويل ، لتحافظ على كونها أداة فضح ومعالجة للمجتمع وليس أداة هروب وبناء لعالم من المثالية الخيالية .
الكلب الشريد " صادق هدايت "
يعد صادق هدايت من مؤسسي القصة القصيرة فى إيران ، وبعد وفاته خرجت أعماله إلى العالمية بفضل ترجمتها وقضاياها ، وقصته القصيرة " سگ ولگرد " ترجمت بعدة عناوين كــ " الكلب السائب ـ الكلب الضال - الكلب الشريد " ، والعنوان الأخير من إبداع المرحوم الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا ، وهو أفضل عنوان لروح اللغة الفارسية ولوظيفة رمزية الكلب داخل القصة .
وتدور القصة حول كلب اسمه " بات " يعيش عيشة مرفهة مع سيده الثري ، ويشاركه يومه وأحداث حياته ، إلى أن يخرج معه يوماً إلى السوق وهناك تشل حركة تفكيره رائحة كلبة ، فينجرف فى التفتيش عنها فى مجرى مائي لأحد الحدائق ، وهناك ينغمس معها متناسياً أى شئ عن عالم سيده ، وبعدما يخرج من حالة الشهوة التى سيطرت عليه بطرقات من أخرجوه بالعصى وأيدي الفؤوس يدرك أنه ضاع فى عالم لايعرف عنه شئ ولم يآلفه من قبل كحياة ، ويظل يفتش عن صاحبه بين مكونات الميدان الذى تركه فيه ، بين حانوت وزقاق ، ولايجد من المجتمع الجديد إلا الإهانة والرفض لوجوده ، إلى أن تدخل الميدان يوماً سيارة فارهة ويرى علامات عطف من صاحب السيارة ، ويلتزم ويراقب حركاته فلربما يسمح له بالصعود معه إلى السيارة كما كان يفعل سيده القديم معه ، ولكن ينهدم حلم بات عندما يجد السيارة تتحرك بدونه ويظل يركض خلفها إلى أن تسحبه وسط الصحراء والتيه حيث لامكان ولامآوى ، وهناك يفقد قدرته على الوصال بالركض خلف السيارة ، إلى أن يسقط من التعب وتنتظر الغربان رحيله لتلتهم جسمه النحيل.
- القصة مبنية على جو واقعي وأحداث مقبولة يبدع صادق هدايت فى سرد تفاصيلها ، والإهتمام الكبير الذى أعطاه لوصف مشاعر وأحاسيس بات وعلاقاته مع من قابلهم ، والوصف الدقيق لأبسط مكونات جسمه ؛ يعطي إشارة لكون هدايت لم يستخدم القصة لغرض ترفيهي أو إيضاح معاناة كلب فحسب ، خصوصاً أن أعماله حملت فى المقام الأول الهم والنقد الإجتماعي ؛ بل أراد أن ينفذ من رمزية القصة وأحداثها إلى المجتمع ونقده.
فبآلية التأويل وإيحاء العلاقات والأحداث داخل القصة ، نجد أن رمزية الكلب كرمز معزول عن الحدث السردي لاقيمة لها ، ولكن من خلال الأحداث التى يتعرض لها هذا الكلب فتشير رمزيته إلى الإنسان الذى يعيش فى إزدواجية وصراع بين مرحلتين فكريتين أو بين مجتمعين متضادين أو بين طبقات متصارعة داخل المجتمع أو تعبر عن مجتمع نفسه يعيش أزمة صراع بين مكوناته الثقافية والإجتماعية المتفاوتة.
فأزمة الصراع والهوية تحدثها حيرة الإنسان بين وجهي من الثقافة والهوية ، وهذا يرسمه حياة بات بين رفاهية السيد الزائفة بالنسبة له ؛ لأنه غير مشارك فى صنعها ، بل مجرد مستهلك لها ، وبين العالم الخارجي الذى حرمه " إنكفاءه على تقديم عبوديته للسيد " من التواصل مع هذا العالم ليصبح فيه ككائن غريب ؛ على رغم أنه أحد كائنات هذا العالم .
وهذا أمر يعاش حتى الآن داخل المجتمع من تيارات أهتمت بالتصنيف أكثر من إهتمامها بالمحافظة على ماهى تتصارع عليه كالثقافة وهويتها ، فنجد إهتمام بالتصنيف بعالم تراثي وعالم حداثي ، فى حين أن فكرة الإبداع وربط القديم بالجديد غير مفهومة ومدركة لديهم ، وهذا يسقط قيمة مايقومون به من قبض أو تحرير للتراث .
و المجتمع الذى يعيش أزمة صراع بين مكوناته الثقافية والإجتماعية ، تنتج حالته هذه : من تياراته الفكرية وطبقاته الإجتماعية التى تنشغل بالتصنيف أكثر من إدراك أزمة مجتمعها ، وترسم القصة هذا المجتمع فى العلاقة التقابلية بين مجتمع بات الأول " بيت السيد " حيث له قبول فى تواجده هناك وكائنات هذا المجتمع ترتاح لوجوده ، يآلفها وتآلفه ؛ على عكس المجتمع الثاني " الميدان وأزقته " حيث لوجوده هناك رفض ، ورغم أنه يعرف هذا المجتمع إلا أنهم يتنكرون لوجوده ولحقه فى العيش .
فبات يرمز للإنسان الوافد بثقافة جديدة على مجتمعه المغلق ، ويرمز لإنسان يعيش أزمة هوية نتجت من صراع إجتماعي طبقي وثقافي ، ويرمز أيضاً لوجهي المجتمع سواء ، المغلق على أفكاره ، أوالرافض لتراثه .
معرفة النبات " علي شريعتي "
يعرف علي شريعتي بكونه منظر ومفكر إجتماعي ديني ، ولايعرف بكونه قاص أو شاعر برغم إهتمامه بالأدب والتكلم عن قضاياه ، فعلاقته بكتابات سارتر ومحمد مندور تكشف حقيقة إهتمامه بالأدب ، وخصوصاً أنه دافع عن التجديد فى موضوعات الأدب وأشكاله .
ففي قصته " معرفة النبات " يرسم غايته من الأدب كما رسمها سارتر ومندور وهو أن يكون الأدب مرآة للمجتمع ، وأن يرسم صورة الإنسان وحاجاته فى ملامحه ، لا أن يصيبه بحالة من العزل عن دنياه ووجوده .
والقصة تعتمد على بعض العلامات " السيمائية " التى تعبر عن مغزى شريعتي من قصته كصور توضح : العلاقة بين الواحد والصفر ، والإنسان المتضخم بإستهلاكه ، وشكل نبات اللبلاب والقرع والصنوبر ، وهي تدور حول وصف لمدرس داخل فصله من قبل أحد تلاميذه ومدى مكانته بينهم كمتعلمين ، ومدى مكانته بين مجتمعه كعضو فيه ، ومدى إدراكه لكائنات الطبيعة ليس بإدراك الرومانسي أو العرفاني حيث قيمتها فى فلسفته الخاصة ؛ ولكن بنظرة إدراك المفكر الذى ينظر لكائنات الطبيعة على كونها صورة من مكونات مجتمعه الإنساني .
وتنتهي القصة بأن يأخذ هذا المدرس بيد تلاميذه إلى حديقة فى طرف مدرسته ، ليعرفهم معرفة علمية على ثلاث أنواع من النباتات هى اللبلاب والقرع والصنوبر .
ورغم علمية القصة إلا أنها تحمل إشارات نحو المثقف وأنواعه ومدى دوره داخل مجتمعه ، فشريعتي يقول فى قصته عن هذا المدرس " بلاشك لم يكن يعرف اشياء كثيرة ، لكنه كان رجل عالم ، حتىأنه يفكر ويفهم جيداً ، ويدرك جيداً الدنيا التى عاش فيها.... "
وهنا يشير لقضية النباهة والوعى بما يحمله المثقف من تراث ومعرفة ، فهناك مثقف مستهلك لتراثه ومجتمعه .... وتطرح هنا قضية المثقف فى تحصيله المعرفي ومدى تقاربه أو ابتعاده من نموذج " النمل " ، ونموذج " النحل " ....فالمثقف المستهلك لتراثه والواقف عليه أشبه بالنملة التى تخزن فقط ماتجمعه من حبوب دون إفراز أوإضافة جديد فيه ، ولربما تكون مصيبتها فى تعفنه ، على عكس المثقف الذي يستوعب تراثه ويحييه بما يفرز من تجديد كالنحلة التى تجمع الرحيق لا للتخزين والكم ، ولكن ليكون لها كأداة افراز لمنتج جديد تواصل به حياتها .
وإستخدامه لثلاث نباتات هى " اللبلاب والقرع والصنوبر " لم يكن بشكل إعتباطي ، بل أراد منها إسقاط على المجتمع ومكوناته سواء الطبقي أو الثقافي ، ليطرح أمامنا أوجه ثلاثة من مكونات المجتمع ، وهم " المتغربون والتراثيون والإصلاحيون " .
فوصفه للبلاب وكيف أنه ليس لها قدرة على النهوض بذاته لضعف جذعه ، وكيف أنه يعيش متطفلاً ومستنزفاً للشجرة التى علق نفسه بقدراتها وإمكانياتها وهى الشنار ، وكيف أن موته متحتم لأنه سيقضي على عائله ؛ يوضح صورة المثقف والمجتمع المتغرب الذي ينفض عنه تراثه وأصالته ، ولايكون له الحق يوماً أن يدعى العبقرية أوالتميزالحضاري لأن كل مالديه هو نتاج الآخر،وماكان منه إلا أن أصبح مستهلكاً له.
والصورة التى قدمها عن نبات القرع ، وكيف هو كسول ، وأنه يحتل مساحة كبيرة من الأرض ، ويظل يفترشها إلى أن يعيقه صخر أو سياج أو قرعة أكسل منه ، وكيف بتضخمه على الأرض يغتصب حق نباتات أخرى فى الحياة ، وكلما كبر حجمه فهو لاقيمة له فطعمه يصبح غير مستساغ ومايجد إلا ركل الأقدام له ؛ ترسم صورة التراثي والمجتمع الواقف على أفكار ومخزون ثقافي ثابت غير متجدد ، وكيف أن بإغلاقه على تراثه ومنعه لأية مساحة من التجديد فيه ، تجعله كمن يغلق السد على ماءه بإدعاء المحافظة عليه ، وهو هنا من يصيبه بالعطن والتعفن حتى أنه لايعد صالح لإستخدامه هو نفسه ، ولن يجد فى النهاية إلا مثل ماوجد القرع أقدام تركله بعيداً لأنه لايصلح لشئ .
ومع صورة الصنوبر حيث يدقق شريعتي فى وصف بياضها ، وكيف أنها تنمو فى شكل رأسي ؛ فلاهي تحتل مساحة بلافائدة من الأرض كالقرع ، ولا هي تقف قائمة بإستهلاكها لجذع آخر كالبلاب ، بل تقف معتمدة على نفسها لتعرفها السماء والشمس ؛ يرسم لنا صورة الإصلاحي والمجتمع المستنير، فهو يستفيد من تراثه وحداثته ليخرج من دائرة الإستهلاك لحضارة غيره ، أو الإستهلاك الزمني بتأمله فى ذكريات حضارة كانت ، وهنا يكون الوحيد الذي أنقذ تراثه بالتجديد والإبداع ، والقادر على التواصل مع الآخر لأن لديه كيان مميز يجعل له قيمة وهوية خاصة .