المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شـئـون وشـجـون تـاريخية



محمود سلامه الهايشه
04/01/2010, 03:07 PM
شـئـون وشـجـون تـاريخية


اسم الكتاب: شئون وشجون تاريخية
اسم المؤلف: د. يونان لبيب رزق
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب – ضمن مهرجان القراءة للجميع "مكتبة الأسرة" لعام 2005.
رقم الطبعة: الأولى.
عدد صفحات الكتاب: 184 صفحة من القطع المتوسط.

نبذة عن شخصية المؤلف:
د."يونان لبيب رزق" أثرى المكتبة العربية بما يقارب الخمسين مؤلفا في تاريخ مصر الحديث والتاريخ العربي، عدا الأبحاث والتحقيقات التي استفاد منها أجيال من الباحثين، ويتذكر الشعب المصرى كله دوره مع فريق العمل المصري الذى نهض بمهمة الدفاع عن حق مصر في طابا، فقد قام على جمع الوثائق الخاصة بالموضوع وصياغة الجوانب التاريخية في المذكرات القانونية التي كان الفريق المصري يقدمها إلي هيئة محكمة العدل الدولية.
وقد أسندت إليه مهمة تأسيس "مركز تاريخ الأهرام" ويقوم بتحرير الصفحة الأسبوعية التي تنشرها الجريدة بعدد يوم الخميس تحت عنوان "الأهرام-ديوان الحياة المعاصرة" وقد توجت مسيرته العلمية وجوائزه العديدة بحصوله على أرفع الجوائز العلمية المصرية، وهي جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية لعام 2004.

قراءة في الكتاب:
وفي وصف وتصنيف الكتاب –يقول المؤلف – أنه من الصعب وصف هذا العمل بأنه من أعمال التاريخ العلمي التي تقوم على اختيار موضوع بعينه أو شخصية بذاتها أو فترة بحدودها لوضعها موضع الدراسة، مستعينا صاحبها في ذلك بأحد مناهج الكتابة العلمية المعروفة، ومستخدما المادة المتاحة، خاصة الأصيل منها نقلا عن دور الوثائق والدوريات وسائر المصادر التي تشكل ما يعرفه دارسو التاريخ بأنه مادة علمية من الدرجة الأولى. وإنما يندرج هذا العمل إلى "التاريخ الجاري" أو ما يسميه البعض "بالشئون الجارية Current Affairs" والقائم على رصد وقائع كبيرة جرت خلال السنوات الأخيرة، ومحاولة البحث عن جذورها التاريخية؛ الأمر الذى جعل المؤلف يختار هذا العنوان غير التقليدي "شئون وشجون تاريخية".

إن كتاب "شئون وشجون تاريخية" لا يضع حقائق وإنما يطرح أسئلة ربما لم يحن الوقت للإجابة عليها، وهو لا يضع حلولاً بقدر ما هو يلقى الضوء علي المواقف؛ ولأن الأحداث مازالت تجرى، بل ساخنة، سواء قبل التعامل مه هذا النوع من الدراسات أو بعده، يبقى الحصول علي النتائج ضربا من المستحيل. الأمر الذي يوفر لقرائها لونا من المتعة الفكرية، ويثير شهية القراء في البحث عن تلك الإجابات والاستمتاع بهذا النوع الجديد من الكتابة التاريخية؛ ويثير في نفس الوقت شكلا من أشكال الرياضة الذهنية تفتقر إليها في العادة الكتابات التاريخية التقليدية. على عكس الحال مع الكتابات التاريخية التقليدية التى تتعامل مع أحداث دخلت ذمة التاريخ، والتى يمكن لكاتبها أن يلتزم بدرجة من الحياد البارد!

أما الشئون التي يأخذنا إليها ."يونان لبيب رزق" فهي كثيرة، وهي أحداث مهمة يمد بها المجتمع، ومازالت نتائجها في مرحلة التصور، لم ينته بها المطاف بعد لتصبح حقائق مقدرة، ولأنها أمور تهم المجتمع فهي تحمل شجوناً لمدى تأثر المجتمع بهذه القضايا التي يناقشها الكتاب، حيث يعرض لنا تاريخ الطبقة الوسطى منذ أيام الحكم العثماني وحتى الآن، ويستعرض مدى تزايد أو تناقص دورها في حياة الأمة طبقا لظروف كل مرحلة، ثم ينتقل إلي الشأن السياسي ودراسة عن ثورة يوليو والدولة وتطلعاتها والدور البرلماني، ثم الحدث الأهم وهو الاستفتاء على انتخاب رئيس الجمهورية بما يحمل من مكاسب ومخاطر، ثم الشأن السوداني على اعتبار أن أمن السودان يشكل أمناً وقائياً لمصر، ثم الشأن العربي وما يمر به العالم العربي من أحداث اختلطت فيها المفاهيم وما أفرزته من قضايا جديرة بالبحث.

شئون مصرية في الشأن الاجتماعي:
الطبقة الوسطي – رؤية تاريخية
في مصر قضية الطبقة الوسطى وما أصابها من وهن شديد، الأمر الذى لا يختلف عليه أحد، فيما جعل المؤلف إلي تقديمه من خلال "رؤية تاريخية" في موضوعين يفصل بينهما قيام ثورة 1952 بكل ما استتبعها من تغييرات عميقة أصابت تلك الطبقة.
مع نمو هذه الجماعة من الطبقة الوسطي المصرية زاد الشعور برفض الواقع الاحتلالي بكل ما يحمله من غبن لها، وهو الغبن الناتج عن مزاحمة الأجانب لهم في وظائفهم، هذا من جانب، وعلى احتكارهم للوظائف الكبيرة في الإدارة الحكومية من جانب آخر، فقد زاد عدد الموظفين المصريين خلال الفترة بين عامي 1896 و 1907 بنسبة قدرها 29.7% بينما زاد عدد الموظفين الأجانب بنسبة قدرها 46.5%، ثم إنه في التقرير الشهير الذى أعدته لجنة ملنر عام 1921 تم تقدير نسبة الموظفين المصريين الذين يشغلون مناصبا كبيرة 28%، بينما بلغت نسبة البريطانيين 42%، والأرمن والسوريين 30%!
ويري المؤلف أن أزمة الطبقة الوسطي الصغيرة قد استحكمت بعد تعويم الجنية المصري، وما تبعه من ارتفاع حاد حتى في أسعار الضروريات، ولا نجد غرابة مع ذلك أن يلجأ هؤلاء إلى حلول تجافى ما ضيهم الطبقى ، وتتناسب مع واقع الخصخصة المفروض عليهم؛ العمل في الحراسات الخاصة، أو في الخدمات في الفنادق وسائر المنتديات، بل وحتى في بيع الفول المدمس!!
وقد أنهي المؤلف استعراضه الطويل لتاريخ الطبقة الوسطى بقوله: أننا لا نملك سوى التسليم بأن "مصر المدنية" التي تشكل هذه الطبقة عمودها الفقري في حاجة إلى إنقاذ!!

الفساد – الطبعة المجددة!
يجانب من يتصور أن الفساد ظاهرة طارئة على مصر الصواب، إذ تؤكد الدراسة أنه ظل يشكل مفردة من مفردات البنية التاريخية للمصريين .. والظاهرة ضاربة في أعماق التاريخ المصري من قصة الفلاح الفصيح في العصر الفرعوني الذى رفع شكايته لحاكم البلاد عن عمل من أعمال الفساد ، ومروراً على عصور متلاحقة من المظالم نصل إلى مطلع العصور الحديثة حيث تقدم الفترة العثمانية نموذجا للفساد، ولعل وصف شيخ المؤرخين عبدالرحمن الجبرتي لأوضاع مصر في أواخر القرن الثامن عشر من أنه "لم يبق بالأرياف إلا القليل من الفلاحين وهمهم الموت والجلاء"، إنما يعبر عن حجم الخراب الذى كان وراءه فساد كبير عرفته مصر خلال ذلك العصر.. مما دفع "اللورد كرومر" المعتمد البريطاني في القاهرة لنحو ربع قرن (1883-1907) من أن يذكر في كتابه الصادر عام 1908 تحت عنوان "مصر الحديثة Modern Egypt" أن أهم إنجازاته في الفترة التى تحكم خلالها في مصير المصريين أنه قضي على الثلاث آفات تبدأ بحروف الـ C، وكانت على التوالي السخرة Corvee والكرباج Courbach، وأخيراً الفساد Corruption.
واستمر الفساد بين مد وجزر، وفي عام 1943 عندما تفجر في الواقعة التاريخية المشهورة باسم "الكتاب الأسود" الذى وضعه "مكرم عبيد"، قطب الوفد الشهير، كسجل لمظاهر الفساد التي عرفتها البلاد خلال عهد الوزارة النحاسية القائمة (1942-1944).
ويسترسل المؤلف قائلا: ولسنا هنا في مجال سرد وقائع بذاتها وشخصيات بعينها، فهي أكثر من معروفة، ولكنا بصدد رصد الظاهرة، ونرى أنه كلما طال أمد فترة الانتقال بين الاقتصادين .. الموجه والحر، كلما نخر سوس الفساد في عظام الاقتصاد المصري، وكلما توالدت طبقة المنتفعين بهذا الوضع.
وفي مواجهة هذه الموجة العارمة من الفوضى العامة يبقى الجهاز الحكومي عاجزا عن مقاومة ظاهرة الفساد في طبعتها المجددة، والتي لن تتآكل إلا بزوال أسبابها .. بإصلاح النظام الحزبي علي نحو يعيد للحياة السياسية استقامتها، وبوضع الضوابط التي تكفل حسن التصرف فيما بقى من مؤسسات القطاع العام في إطار رقابة مشددة، والأمر موكول للمؤسسات التي تتولي هذه المهمة .. الرقابة الإدارية وجهاز المحاسبات، فهل ينتظر المصريون طويلا!!؟؟

سكك حديد المصريين!
ما جرى بعد حادثة قطار العياط (قطار الصعيد) المأسوية يقدم صورة متكررة لنهج قديم في التعامل مع الكوارث القومية .. الانفعال البالغ في مواجهة الحدث الذى لا يلبث أن يخمد حتى ينطفىء تماما، ليدخل ملفات التاريخ التى لا يقرؤها أحد، ويبقى منها ذكريات شاحبة لمباراة كرة قدم لا يعرف أحد متى تُقام ، أو لنهر خير لا يعلم أحد أين يصب، وينتظر الجميع كارثة جديدة لتحدث يقظة مباغتة يعقبها الغفوة الطويلة ، وليس هكذا تُعالج المصائب القومية!
ويطول الكلام حول هذا الموضوع، فبينما لا يزال البعض يترحم على عهد الإدارة الإنجليزية ، وما عرفه هذا المرفق المهم من انضباط، رأي آخرون أن المضاعفات التى نتجت عن تلك الهيمنة قد تركت بصمه سلبية على تاريخه، وأن العلاقة بينها، كمرفق خدمة عامة وبين المصريين لم تكن دائما على ما يرام.
فحسب الإحصاءات المتوفرة فقد بلغ طول الخطوط الحديدية أواخر تسعينيات القرن العشرين نحو 4.750 كيلومترا ، بكل ما يتصل بذلك من إدارة وبلوكات مراقبة ومزلقانات .. إلخ، والأهم من ذلك بدلالته على اتساع نطاق التنقل من خلال هذا المرفق المهم.
من الناحية الاجتماعية والاقتصادية فقد ارتبط وجود السكك الحديدية بمتغير جوهري دخل على طبيعة الإنسان المصري، فمنذ القديم وكان هذا الإنسان "لصيقا للأرض"، الأمر الذى صنعته ظروف طبيعتة، كان أهمها مجتمع الرى التى ولد ونشأ فيها، وكثيرا ما كنت حدود القرية تمثل نهاية العالم بالنسبة لهذا الإنسان، الخروج منها بمثابة مخاطرة تستحق التفكير، ولا يركبها إلا للشديد القوى!.
دخلت السكك الحديدة أيضا في أغنيات الحب، وأصبح حلم الحبيب أن يركب القطار الذى (يجرى ويجرى ويجرى) للحاق بمحبوبه، ولعل كثيرين من أبناء الأجيال القديمة يذكرون حالة "الزنهار" التى كان يضحى عليها المنزل عشية السفر .. قلق عام وكميات من الأسبتة والقفف (جمع قفة) والجميع في حالة قلق في انتظار شقشقة الصباح لتقل "الزاد والزواد" إلى محطة القطار. ولا ننسي في هذا الصدد تأثير الخريطة الاجتماعية على ذلك الطابع بالتنقل بالسكك الحديدية حتى النصف الأول من القرن العشرين فعدد الركاب محدود، ليس لقلة عدد السكان، وغنما لاستقرارهم في بلادهم حيث كان السفر يمثل حالة استثنائية جداً، ولشرائح محدودة .. من الأعيان، أو من الطلاب .. وعلى ضوء هذه الخريطة تؤكد المشاهدات أن تركيبة قطارات الركاب نفسها قد تأثرت كثيرا بذلك الواقع، فمن ناحية كانت تقتصر على عربة أو بعض عربة للدرجة الاولى ومثلها للدرجة الثانية والبقية لركاب الدرجة الثالثة، الذين كانوا يحظون في العادة بالنصيب الأكبر من المقاعد، ولم يقتصر هؤلاء على أبناء الطبقة الدنيا كما حدث بعدئذ وإنما انضمت إليهم قطاعات عريضة من الطبقة الوسطى خاصة في شرائحها الصغيرة!

شئون مصرية في الشأن الديني:
المؤامرة
ثم اختار المؤلف بعد ذلك ما أصبح يعاني منه المصريون من احتقان ديني بدا في بعض جوانبه نوعاً من المؤامرة من جانب بعض الجهات الحريصة علي إضعاف الدور المصري، تبعناها ببعض القضايا ذات الطابع السياسي التي لا تفتأ تطل برأسها لتصبح محل مناقشات بين سائر المصريين.
فالتغيرات المتسارعة في عالم أواخر القرن العشرين التى حولته إلى قرية صغيرة، حسب المقولة الشائعة، قد دفعت الكثيرين، خاصة من الشباب مرة أخرى، إلى اصطناع أدوات في التفاهم كانت غائبة من قبل، وإلى عدم حساب "الانتماء الوطني" بنفس القدر الذى كان يحسبه به الجيل السابق، والذى كانت مصر بالنسبة إليه أرض المولد والحياة جنبا إلى جنب مع الحلم الأمريكي.

الاحتقان الديني في مصر – لماذا!؟
ويمكن القول أن المشروع الوطنى لمصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد أصيب بضربة قاصمة بعد حرب عام 1967، فقد تخلت الحكومة عن مشروعها الوطنى، وتحولت إلى الهم الجديد الذى تم اختزاله في ثلاث كلمات "تحرير التراب الوطنى". وبرحيل عبدالناصر صاحب المشروع، وبتقاعس الطبقة الوسطى الصغيرة، وبسياسات الرئيس السادات ذات الطبيعة الانفتاحية، وبالمتغيرات العالمية التى نتجت عن سقوط الاتحاد السوفيتي في مستهل التسعينات، بما ترتب عليه من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة أعظم واحدة .. كل ذلك حكم بالموت على المشروع الوطنى الذى عرفته مصر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وقد استتبع هذا السقوط كثير من الأعراض الجانبية التي صنعت الموقف الحالي؛ الأزمة الاقتصادية وما تبعها من تغييرات في أوضاع الطبقة الوسطى الصغيرة، وما نتج عنها من "الخروج الكبير" من أرض الوطن، قدوم الطيور المهاجرة من دول النفط بكل ثقافتها الدينية، كل ذلك كان وراء صنع حالة "الاحتقان الديني" القائمة.
ولا يبقى إلا القول أنه على الدولة أن تطرح "مشروعا وطنيا" يتناسب مع الأوضاع القائمة، عالميا وإقليميا ووطنيا، وأن يلتف المصريون جميعا حول هذا المشروع، ويصبح عندئذ للوطن معنى ويعود شعار "الدين لله والوطن للجميع" ليفرض نفسه على المصريين .. جميع المصريين، عندئذ فقط سوف تنتهي حالة الاحتقان الديني القائمة!

شئون مصرية في الشأن السياسي:
من هذه القضايا ذلك الخلط الذى ساد بين المهتمين بالتاريخ والذى طفا على السطح بمناسبة مرور خمسين عاما على ثورة يوليو، حين اعتبر البعض أن (الثورة) مازالت قائمة، وفندنا هذا الرأى اعتمادا على البديهية التاريخية أن الحركة الثورية لا تدوم إلى الأبد، وإنها يمكن أن تولد نظاما يأخذ بمبادئ الثورة دون زخمها ، مما وصفه المؤلف "بدولة يوليو".
منها أيضا محاولة وضع تحديد دقيق لتوصيف المستقلين وتأثير هؤلاء على التاريخ المصري الحديث، بعد أن شاعت فكرة بين عديدين وصمت موقف هؤلاء بأنه موقف انتهازي، أكثر منه موقف سياسي.
ومنها أخيرا الحدث الضخم الذى جرى في مصر يوم 26 فبراير عام 2005 حين أعلن الرئيس المصري حسني مبارك القبول بمبدأ انتخاب "رئيس الدولة" ، وهو الأمر الذى لم نعرفه مصر طوال تاريخها الحديث، مما يشكل علامة فارقة في هذا التاريخ ينبغي الوقوف عندها، والعض عليها بالأسنان والنواجذ! .. مما يمثل مكسبا كبيرا، ولكن مع المكاسب كثيرا ما تلوح المخاطر!!
وقد أشار المؤلف إلي ثلاثة مخاطر:- (1) أولها نابع من داخل النظام؛ فقد يستغرق الأمر بعض الوقت ليدرك الرجال القائمون على السلطة، كما أدرك الرئيس، بأن رياح التغيير قد هبت، خاصة بعد أن احتكروا السلطة واستمتعوا بثمارها خلال السنوات الطويلة السابقة. (2) احتمالات التدخل الخارجي، فمصر، أو دورها، ظلا مطمعا لقوى عديدة، سواء من داخل المنطقة أو خارجها، ونعتقد أن هؤلاء لن يألوا جهدا في سعيهم لاقتناص صاحب المنصب الجديد، مما يمكن أن يضخوا معه أموالا لا أول لها ولا آخر في سبيل تحقيق هذا الهدف. (3) آخر هذه المخاطر متعلق بالمصريين أنفسهم، فهم بهد كل تلك السنوات التي سلموا خلالها بثقافة سياسية بعينها، هي ثقافة البيعة، في حاجة إلي درجة عالية من اليقظة حتى لا تستغل هذه الثقافة لسوقهم إلي التيه!!

في الشأن السوداني:
وبحكم ذلك الاحتكاك الدائم والقائم بين التاريخين المصري والسوداني كان من الطبيعي أن يدلف –المؤلف- من الشمال إلي الجنوب فيطرح السؤال الذى لا يفتأ السياسيون في مصر يثيرونه حول من المسؤول عن تبدد حلم وحدة وادى النيل، وما اتصل بذلك من موقف مصر حيال التطورات المتلاحقة في السودان أو جنوب الوادي.
رصد المؤلف المحاور الأساسية التي قامت عليها سياسات العهد الناصري تجاه السودان على النحو التالي:
المحور الأول: يقوم على الحفاظ على المصالح المائية المصرية في السودان ، وقد تجسد هذا المحور في عقد اتفاق الانتفاع الكامل بمياه النيل بين الحكومتين المصرية والسودانية عام 1959.
المحور الثاني: يقوم على سياسة التهدئة في العلاقات مع الحكومات القائمة في الخرطوم وضبط النفس خاصة في الظروف التي تتبع فيها تلك الحكومات سياسات نابعة من الاعتبارات الحزبية.
المحور الثالث: أن تظل لمصر، وتحت أى ظروف وجود فعال في السودان، وقد رئي أن أفضل ميدان من ميادين هذا الوجود هو الميدان الثقافي، سواء بسبب تلبيته لحاجات شعبية لا تقدر الحكومة السوادنية على الوفاء بها، أو بسبب أنه يثير قدرا أقل من الحساسية.
ونستطيع أخيرا أن نزعم أن السياسات المصرية، حتى بعد غياب عبدالناصر، ظلت تدور حول هذه المحاور، رغم أى ظروف!

في الشأن العربي:
ولم يكن هناك مندوحة مع التطورات المأسوية التي عرفها العالم العربي بكل انعكاساتها على الدور المصري من محاولة وضع إجابات على كثير من الأسئلة الحائرة في هذا العالم، عن الفرق بين الإرهاب والعمل الوطنى، عن أسباب اختيار القوى الطامعة لمناطق الأبواب العربية، العراق والسودان، وأخيرا عن الأسباب التى دفعت قطاعات عريضة من العراقيين إلي سلوك السبيل الذى سلكوه في أعقاب سقوط بغداد في أيدي قوات الاحتلال الأمريكي.
يبقى أخيرا تلك العلاقة المعقدة بين بعض الشعوب العربية وبين "الملكية العامة"، إذا بينما نجح الغربيون أن يرسخوا في نفوس أبنائهم ملكية شعبية، أو بمعنى آخر ملكية كل ابن من أبناء الوطن ، فقد افتقر أغلب العرب، وربما كثير من أبناء العالم الثالث، إلى فهم هذه الحقيقة، إذ ظلوا ينظرون إلي الملكية العامة على اعتبارها ملكية الحكومة بكل الانفصام القائم بينهم وبينها. ويرجع –المؤلف- ذلك بالأساس إلى الافتقار إلي حد معقول من الديموقراطية يدفع هؤلاء إلي النظر للقضية من زاوية أن "البلد بلدهم"، وكلما زاد الانفصام بين السلطة وبين جماهير الناس، خاصة من أبناء الطبقات الفقيرة، كلما زاد ميل هؤلاء إلى التخريب الذي يصل إلي حد النهب والسلب ، عندما تواتيهم الفرصة لذلك.
ويصل الأمر إلى غير المعقول، فيما حدث من نهابي بلاد الرافدين، أنهم لم يكتفوا بتدمير رموز السلطة الطاغية التي تحكمت في رقابهم من قبل مثل القصور الرئاسية أو أجهزة الأمن أو المخابرات، بل إنهم اتجهوا إلى مرافق الخدمات التى يفترض أنها قائمة لمنفعتهم قبل أي شيء آخر، ولعل ما حدث للمدارس والجامعات والمستشفيات يقدم النموذج على ذلك، وعم في هذا قد تخلوا عن أية مشاعر وطنية خاصة فيما حدث من تخريب المتحف الوطني ونهب قطعة الأثرية ، وهو يقينا ملك لتاريخ العراق وليس ملكا لصدام حسين أو أى نظام قبله أو بعده!

عرض وقراءة
م.محمود سلامة الهايشة
كاتب وباحث من مصر