المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عطر ..معطف..ودم لعبد الحميد الغرباوي



مصطفى لغتيري
19/02/2007, 02:40 PM
عطر..معطف..ودم لعبدالحميد الغرباوي
تندرج المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب عبد الحميد الغرباوي ضمن سيرورة إبداعية، استطاعت بكثير من الإصرار، أن تشق لنفسها مسلكا سرديا مميزا، ميسمه الأساس الانتصار للانشغالات الإنسانية المتمثلة في الاهتمام بالقيم الأكثر تجدرا في الذات.. تلك التي لا تتغير بتغير الظروف، بل تزيدها التجربة عمقا و غنى.. فـتـشع بذلك البريق المبهج، لتورط المتلقي في الافـتـتان بعوالمها المتخيلة، و تدعوه للمشاركة في تلمظ لذة الحكي، و تحلق به في أجواء الحب و الحلم.. إنها – ببساطة- دعوة للحياة، في بعدها الرومانسي الحالم.. يستشف من خلالها المتلقي تلك الروح الشفافة التي يتمتع بها المبدع عبد الحميد الغرباوي.
عطر.. معطف.. و دم.. مجموعة قصصية خفيفة الظل، تتضمن بين دفتيها اثنتي عشرة قصة، و ملحقا يحتوي على رسائل عنكبوتية لكتاب أغوتهم عوالم الغرباوي، فأبوا إلا أن يعلنوا على الملإ وقوعهم في تلك الغواية، و إعجابهم بالإنجاز القصصي للكاتب، و في هذا الصدد يقول الناقد زكي العيلة:
" شدني نصكم ببساطته و تلقائيته و طرحه أكثر من قضية دون ضجيج أو تعقيد.." ص 77.
و من خلال قراءتي المتأنية لنصوص المجموعة – مع الأخذ بعين الاعتبار اطلاعي على أكثر ما سوده الكاتب من نصوص عبر تاريخه الإبداعي الطويل- ترسخ لدي انطباع، مفاده أن الموضوعة الأثيرة لدى عبد الحميد الغرباوي هي الأنثى، أما باقي الموضوعات، ففي الحقيقة ليست سوى تنويعات ربما يهدف من خلالها الكاتب إلى تكسير رتابة ما، أو قد تكون استراحة محارب، ليعود إلى مضماره أكثر قوة و ألقا..
إن المسح القرائي للنصوص يدل على ذلك، فالمرأة بشتى تجلياتها حاضرة بقوة، قد تكون أما أو حبيبة أو صديقة.. لكنها لا تفوت فرصة الإعلان عن ذاتها..
ما يلاحظه القارئ أن المرأة في هذه المجموعة، بعد تضمخها بالحنين و الحلم، أضحت أكثر من مجرد كائن إنساني من لحم و دم، بل ارتقت إلى مستوى الرمز.. فغدت – نتيجة لذلك- امرأة مستعصية صعبة المنال.. إنها تضارع ذلك المظروف الوردي الذي يقول عنه السارد:
" و بين ركام الطوب و الحجر و الخشب و الأسلاك و الأشياء المبعثرة هنا و هناك، راحت تبحث عن صندوق بريد أصفر و عن أسرار كامنة داخل مظروف وردي.. "
المرأة تتجلى في المجموعة مكشوفة بأسرارها و عطرها و دمها الرمزي..
لكنها في قصص بعينها تصبح أقرب إلى الأسطورة..
إنها سيدة السيدات.. جميلة الجميلات، خاصة حين تتخذ صفة الأم.
يقول السارد:
" تلك السيدة.. / سيدة السيدات../ أمي.. / وجهها، إلى الآن يملأني / يغمرني.. "
يقول ذلك و هو يستحضرها عبر الذاكرة، لعلها تسعفه في الإتيان ببعض ما أطاح به الزمان:
" تعانقنا و قبل الواحد منا الآخر بحرارة و شوق، ثم شرعنا في عصر الذاكرة في محاولة لاستحضار صور من زمن صار اليوم بعيدا "
يحاول الكاتب في قصص أخرى اتخاذ مسافة عن الذات، ليضع القارئ أمام شخوص قد لا تربطه بها أية صلة. فتبتعد بذلك القصص، بقدر معين، عن الهواجس الرومانسية و تحقق ذلك في قصة "دم"، إذ يجد القارئ نفسه أمام امرأتين تنخرطان في حوار حميمي نستشف منه بعض انشغالات المرأة كما يتصورها الكاتب، أو كما يود أن يوحي لنا بذلك..
و إن كنت لا أتفق شخصيا مع حصر المرأة في هكذا نوع مبتذل من الاهتمامات، و أنني أسجل للكاتب تلك المسافة التي اتخذها عن الشخصيتين، فجاءتا نتيجة لذلك حيتين قلقتين، و كأننا نلتقطها من خلال مشهد سينمائي.
على امتداد مساحة الحكي، توسل الكاتب بجملة من التقنيات، التي حاول تنويعها، لاختيار الطريقة المثلى للتعامل مع كل موقف على حدة.. فقد اعتمد في قصته الأولى "أوراق من دفتر عاشق مجهول" على تقنية المذكرات. في حين كانت تقنية الحوار طاغية على النصوص الأخرى و هذا لعمري أذكى درامية الأحداث، و ساعد في كثير من الأحداث على أن ينأى الكاتب بنفسه عن الشخوص، نذكر منها قصة "حوار على هامش شقة و أرملة" و قصة "دم" و قصة " كيف اندلعت الحرب" و قصة " يوم جميل".
اعتمد الكاتب كذلك على التوزيع المقطعي للنصوص على مساحة الورق، و قد أضفى ذلك على بعض القصص بعدا جماليا لا ينكر، إلا أنها في قصص أخرى تبدو أنها لم تحقق ما رجاه الكاتب من توظيفها.
أما بخصوص اللغة، فالكاتب عبد الحميد الغرباوي ظل وفيا لطريقة تعامله معها، فهو يجنح إلى توظيف لغة بسيطة، تقترب من لغة الاستعمال اليومي.. لغة غير متعالمة، لكنها تحتفظ بسلاستها.. إنها لغة شفافة تنسجم مع طبيعة الثيمات المفضلة لدى الغرباوي.. و قد نستشف من خلالها موقف الكاتب من اللغة.. يبدو ذلك واضحا لا غبار عليه حين نقرأ قصة "أسرار" فالشخصية تكتب رسالة، لكنها حارت في اختيار كلمة، لكنها في الأخير انتصرت لحدسها.
يقول السارد:
"حارت في أيهما الصحيح قولها (حامل) أو (حاملة). و فكرت في الاستنجاد بقاموس ذبلت أوراقه و ضاع منه غلافه، لكنها أحست بضيق في الصدر، فتركت الكلمة كما كتبتها."
ختاما أتمنى أن أكون قد وفقت في التعريف بهذه المجموعة القصصية، علما بأن الإحاطة بجميع خصائص الكتابة السردية لدى الكاتب عبد الحميد الغرباوي، تتعذر في هذه المقام الضيق، متمنيا للقارئ أن يستمتع بأجواء القصص و يشارك الكاتب لذة بناء المعنى من خلال الفراغات التي تعمد الغرباوي تركها شاغرة، كدعوة منه لتوريط القارئ في غواية الحكي.