المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشاعر محمد صالح بحر العلوم .



بثينه عبدالعزيز
05/01/2010, 01:27 PM
أشتهر الشاعر العراقي " محمد صالح بحر العلوم " في منتصف النصف الأول من القرن العشرين بقصائده التي تحمل روح التقد والهجاء للحكومة وعلى الأوضاع السائدة غير العادلة، وهو من أهالي مدينة النجف ومن عائلة ميسورة معروفة بحبها للعلم والأدب، وطالما خَرجت الكثير من علماء الدين والأدباء

وقد سجن نتيجة مهاجمته الحكومة بقصائد بصريح العبارة، وكان يكنى بـ " أبو ناظم "

وعلى أثر سجنه قال فيه الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري:
"أبا ناظم وسجنك سجني
وأنا منك مثلما أنت مني"

ويعد الشاعر بحر العلوم من أعلام مدينة النجف الأشرف، وكان ناشطاً في الفعاليات والمهرجانات التي يقيمها الحزب الشيوعي العراقي، لذا أعتبره البعض شيوعياً، بل هناك من يؤكد شيوعيته

وكان الشاعر حقاً صوت الطبقات المسحوقة في الثلاثينيات من القرن المنصرم، وتعد قصيدة " أين حقي " من أشهر القصائد، ولاقت أستحسان الجماهير الواسعة على المستوى العراقي والعربي بشكل عام .

القصيدة كتبت في بيروت عام 1955

علما بان قصيدة " اين حقي " كانت توزع كما المنشورات في السبعينيات من القرن الماضي , وكان سبب توزيعها كمنشور هو اتهام الشاعر بالزندقة والشيوعية في حين تجده من عائلة علمية دينية في النجف الاشرف .

بثينه عبدالعزيز
05/01/2010, 01:29 PM
قصيدة اين حقي ؟؟
الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم




رحت أستفسر من عقلي وهل يدرك عقلي
محنة الكون التي استعصت على العالم قبلي
ألأجل الكون أسعى أنا أم يسعى لأجلى
وإذا كان لكل من فيه حق: أين حقي؟!

فأجاب العقل في لهجة شكاك محاذر
أنا في رأسك محفوف بأنواع المخاطر
تطلب العدل وقانون بنى جنسك جائر
إن يكن عدلا فسله عن لساني: أين حقي؟!


أنا ضيعت كما ضيعت جهدا في هباء
باحثا عن فكرة العدل بكد وعناء
وإذا بالناس ترجو العدل من حكم السماء
وسماء الناس كالناس تنادى: أين حقي ؟!


أتراني أرتئى ما يرتئيه الناسكونا
وأجارى منطقا يعتبر الشك يقينا
وأقر الوهم فيما يدعيه الوهم دين
أفسيعود العلم يدعوني بحق: أين حقي ؟!


إن أنا أذعنت للخلق وحاولت التعامي
كان شأني شأن من يطلب غيثا من جهام
فنظام الخلق لا يعرف وزنا لنظامي
ونظامي لم يزل يصرخ مثلى: أين حقي؟!


ما لبعض الناس لا يحسب للتفكير فضلا
ومتى ناقشته الرأي تعداك وولى
زاعما إبقاء ما كان على ما كان أولى
من جديد يعرف الواقع منه: أين حقي ؟!



ليتني أستطيع بعث الوعي في بعض الجماجم
لأريح البشر المخدوع من شر البهائم
وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم
من مآس تقتل الحق وتبكى: أين حقي؟!



يا ذئابا فتكت بالناس آلاف القرون
أتركينى أنا والدين فما أنت وديني
أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني
وكتاب الله في الجامع يدعو: أين حقي؟!



أنت فسرت كتاب الله تفسير فساد
واتخذت الدين أحبولة لك واصطياد
فتلبست بثوب لم يفصل بسداد
وإذا بالثوب ينشق ويبدو: أين حقي؟!



بان هذا الثوب مشقوقا لأرباب البصائر
فاستعار القوم ما يستر سوءات السرائر
هو ثوب العنصريات وهذا غير ساتر
وصراخ الأكثريات تعالى: أين حقي؟!



كيف تبقى الأكثريات ترى هذى المهازل
يكدح الشعب بلا أجر لأفراد قلائل
وملايين الضحايا بين فلاح وعامل
لم يزل يصرعها الظلم ويدعو: أين حقي؟!



أمن القومية الحقة يشقى الكادحونا
ويعيش الانتهازيون فيها ناعمونا
والجماهير تعانى من أذى الجوع شجونا
والأصولية تستنكر شكوى: أين حقي؟!



حرروا الأمة إن كنتم دعاة صادقينا
من قيود الجهل تحريرا يصد الطامعينا
وأقيموا الوزن في تأمين حق العاملينا
ودعوا الكوخ ينادى القصر دوما: أين حقي؟!



يا قصورا لم تكن إلا بسعي الضعفاء
هذه الأكواخ فاضت من دماء البؤساء
وبنوك استحضروا الخمرة من هذى الدماء
فسلى الكأس يجبك الدم فيه: أين حقي ؟!



حاسبيني إن يكن ثمة ديوان حساب
كيف أهلوك تهادوا بين لهو وشراب
وتناسوا أن شعبا في شقاء وعذاب
يجذب الحسرة والحسرة تحكى: أين حقي؟!



كم فتى في الكوخ أجدى من أمير في القصور
قوته اليومي لا يزداد عن قرص صغير
ثلثاه من تراب والبقايا من شعير
وبباب الكوخ كلب الشيخ يدعو: أين حقي؟!



وفتاة لم تجد غير غبار الريح سترا
تخدم الحي ولا تملك من دنياه شبرا
وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا
واذا الحفار فوق القبر يدعو: أين حقي؟!



ما لهذى وسواها غير ميدان الدعارة
لتبيع العرض في أرذل أسواق التجارة
وإذا بالدين يرميها ثمانين حجارة
وإذا القاضي هو الجاني ويقضى: أين حقي؟!



أين كان الدين عنها عندما كانت عفيفة
ومتى قدر حقا لضعيف وضعيفة
ولماذا عدها زانية غير شريفة
الآن العرف لا يسمع منها: أين حقي؟!



كان من واجبه يمنحها عيش كفاف
قبل أن يضطرها تبتاع عيشا بعفاف
ولماذا أغلظ القاضي فيها وهو مناف
للنواميس ولا يسأل منها: أين حقي؟!



كم زنى القاضي وكم لاط بولدان وحور
واحتسى أوفر كؤوس من أباريق الفجور
أين كان الدين عن إجراء قاضيه الخطير
ولماذا لم يصارحه كسجان: أين حقي؟!



القاضي الدين تميز على حال الجماعة
أعليه الحكم لا يرى وان يأبى أتباعه
أقضاة الدين أدرى بأساليب الشفاعة
واذا الدين ارتضاها لم يطالب: أين حقي؟!



برياء ونفاق يخدعون الله جهرا
أين مكر الله ممن ملئوا العالم مكرا
إن صفا الأمر لهم لن يتركوا لله أمرا
وسيبقى الله مثلى مستغيثا: أين حقي؟!



ليس هذا الدين دين الله بل دين القضاة
لفقوه من أحاديث شياطين الرواة
وادعوا أم من الله نظام الطبقات
إن يكن حقا فقل لي يا إلهي: أين حقي؟!



ليس في وسعى أن أسكت عن هذى المآسي
وأرى الأعراف والأعراف من دون أسى
بين مغلوط صحيح وصحيح في التباس
وكلا العرفين لا يفهم منه: أين حقي؟!



خطأ شاع فكان العرف من هذا الشياع
صواب حكم العرف عليه بالضياع
وسواد الشعب مأخوذ بخبث وخداع
لقطيع يلحق الذئب وينعى: أين حقي؟!



ليس هذا الذنب ذنب الشعب بل ذنب الولاة
وجهوا الأمة توجيه فناء لا حياة
وتواصوا قبل أن تفنى بنهب التركات
واذا الحراس للبيت لصوص: أين حقي؟!


دولة يؤجر فيها كل أفاك عنيد
أجره لا عن جهود بل لتعطيل الجهود
لم يواجه نعمة الأمة إلا بالجحود
واذا النعمة تغلى في حشاه: أين حقي؟!



من فقير الشعب بالقوة تستوفى الضرائب
وهو لم يظفر بحق ويؤدى ألف واجب
فعليه الغرم والغنم لسراق المناصب
أيسمى مجرما إن صاح فيهم: أين حقي؟!



من حفاة الشعب والعارين تأليف الجنود
ليكونوا في اندلاع الحرب أخشاب وقود
وسراة الشعب لاهون بأقداح وغيد
وجمال الغيد يستوجب منهم: أين حقي؟!



عائشاً عيشة رهط لم يفكر بسواه
همه أن ينهب المال لإشباع هواه
أين من يفتح تحقيقا يرى عما جناه
ويريه بانتقام الشعب جهراً: أين حقي؟!



أيها العمال هبوا وارفعوا هذى البراقع
عن وجوه ما بها غير سحاب ومصانع
واصرفوها عن عيوب عميت عن كل دافع
وتراني صادقا عنها بقولي: أين حقي؟!



أيها العمال أين العدل من هذى الشرائع
أنتم الساعون والنفع لأرباب المصانع
وسعاة الناس أولى الناس في نيل المنافع
فليطالب كل ذي حق بوعي: أين حقي؟!



كيف يقوى المال أن يوجد في غير جهود
أين كان النقد لولا جهد صناع النقود
ومتى يقدر أن يخلق طيرا من حديد
فلهذا الجهد أن يدعو جهرا: أين حقي؟!



أين كان المال قبل الجهد أو قبل الطبيعة
وهما قد سبها في غابر العهد شروعه
واذا بالمال لا يذكر للعهد صنيعة
وإذا بالجهد يستجدى صهبانا: أين حقي؟!



لم يؤثر بيقيني ما أقاسي من شجون
فشجوني هي من أسباب تثبيت يقيني
ولتكن دنياي ما بين اعتقال وسجون
وليكن آخر أنفاسي منها: أين حقي؟

بثينه عبدالعزيز
05/01/2010, 01:33 PM
هي قصيدة هجاء لحكومات مضت ولا زالت جاثمه على صدور العراقيين خاصه والعرب بصورة عامة


الشاعر زار كل معتقلات العراق من سجن الحلة ونكرة السلمان وقصر النهايه الى اخر الاماكن التي ما خلت يوما من المناضلين الشرفاء ومنهم شاعرنا .

بثينه عبدالعزيز
01/02/2010, 10:56 AM
اقامت جمعية الشبان المسلمين في البصرة حفلة تكريم للشيخ نعمان الاعظمي عند زيارته للبصرة عام 1932م، فألقى الشاعر محمد صالح بحر العلوم قصيدة للترحيب به منها:



أنا باسم الشريعة الأحمدية
شاكر شيخها بأشرف نية

من تصدر للوعظ وهو صبي
حيث تصبو له العقول النقية

و(لنعمان) في البلاد أياد
حفظتها الثقافة المنبرية

بثينه عبدالعزيز
01/02/2010, 10:58 AM
قصيدة تعزية رائعة موجهة من محمد صــالح آل بحر العلوم، الذي عـــرف عن نفسه بأنه نزيل البحرين وممثـــل للشبيبة العراقية، الى الشيخ ابراهيم يعزيه فيها بوفاة ابن عمه الشيخ عيسى بن علي

( حيث أوضحت الشيخة مي في محاضرة ألقتها بالكويت في العام 2002 «ان خطاب الشيخ عيسى المعارض للبريطانيين وضع أسس السياسة الديموقراطية في الخليج» )

فيهـــا بيت من الشعر يقول:
اذا كـــان شعـــري مثل دنياي دامسا
فنـــور أيـــاديك الجميلة ســـاطع




اعزيك «يا ابراهيم والطرف دامع وقلبي من عظم المصيبة جازع اعزيك في «عيسى» ابن عمك فالاسى يصوّر لي ان الحياة فجائع وما هي الا حلم نفسي طموحه يراها الذي يصبو لها وهو هاجع تجلد اذا ما الخطب اشجاك صرفه فالقضاء لله وهو النافع ودايع هذا الكون نحن وانّها الى اهلها دوماً ترد الودايع يهنك ان الموت جاء لروحه ليستلّها من جسمه وهو طائع يسبح خلاف الوجود مبكراً ويذكره والقلب للذكر خاشع اشاعر بيت الفضل اني مقصرٌ بحقك الا ان عفوك شافع اذا كان شعري مثل دنياني دامساً فنور اياديك الجميلة ساطع وإن عمّنا هذا الشعور بشعره فما بيننا بون القرائح شاسع قدم وليدم لطف الطبيعة شاملك ضريح فقيد المجد واللطف جامع نزيل البحرين:


عن الشبيبة العراقية المخلص محمد صالح آل بحر العلوم

بثينه عبدالعزيز
01/02/2010, 10:59 AM
نورة الشيراوي.. تتذكر


تنصيـب الشيــخ حمـد حـاكمـاً عــلى البحـريـن


* لمدة ثلاث ايام أقيمت العرضات والاحتفالات الشعبية وتم فتح الاسواق
ليلاً واقامة حفل في مدرسة الهداية الخليفية للبنين في المنامة

العام 1932 ينتهي , وفي الخامس من يناير/ كانون الثاني العام 1933 تم في احتفال كبير تنصيب الشيخ حمد حاكما للبحرين، وفي أثناء الحفل تقدم المعتمد السياسي وقدم ما يسمى بالخريطة إلى الشيخ حمد وهي رسالة من نائب صاحب الجلالة الملك جورج الخامس في الهند تتضمن اعترافا رسمياً بالشيخ حمد حاكماً للبحرين.

ولمدة ثلاثة أيام أقيمت العرضات والاحتفالات الشعبية وتم فتح الأسواق ليلا وقد تم إقامة الحفل في مدرسة الهداية الخليفية للبنين في المنامة.
توقف شعب البحرين طويلا أمام هذا الاحتفال وما هو المبرر لتقديم - الخريطة - للحاكم ثانية.
لقد تم عزل الشيخ عيسى وتم تنصيب الشيخ حمد حاكماً للبحرين وذلك بحضور المقيم والمعتمد، وقد باشر الحاكم صلاحياته ابتداءاً من ذلك التاريخ.

ثم لماذا كل هذا الصخب والاحتفالات والحاكم المعزول لم يمضِ على موته حتى شهرٌ واحدٌ. وكان على الحكومة الانتظار.

تساءل الناس طويلا ولكن أحداً لم يعبأ بالرد.

حلت الأربعين , وكان هناك الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم والمنتدى الإسلامي كان لايزال في بدايته.

كان الحفل ضخماً وجديراً بالمناسبة. حضره الحاكم ورجال العائلة وكان هناك المعتمد السياسي والمستشار وآخرون وجاء محمد صالح بحر العلوم


صعد محمد صالح بحر العلوم المنبر وباللهجة العراقية المؤثرة، وأمام تلك الجموع التي حضرت التأبين استطاع أو استطاعت قصيدته أن تترك ذلك التأثير القوي في ذاكرة شعب البحرين قصائد كثيرة ألقيت ولكن - الأرض ترجف - قد استطاعت أن ترجف بكل تلك القصائد الأخرى.

تفجر بحر العلوم غضباً وسخطاً وهو يرى حاكم البحرين يموت كالأسير المقيد وهو يقول:
أسفاً على حرٍ يموت مقيداً
والحر في قيد الحياة أسير
أسفاً على ملك يغادر أمةً
تبكي عليه وحقها مغدور

ألا إنه عاد ينعي على هذه الأمة التي سلمت حاكمها إلى هذا المصير هو يخاطب عائلة الحاكم بقوله:
لقد استراح أبوكم من أمةٍ
قد غرها البهتان والتزوير
باعت لشهوتها ضمير آبائها
ومن البلية أن يباع ضمير
مدح يكال وخاطب متملقا
وهوى يطاع وكاتب مأجور

ومع أنه يدرك موقف الأمة جيداً ويدرك أن أحداً لم يقدم على بيع ضميره وأكثر من ذلك لقد أقدم شعب البحرين في يوم العزل على غلق الأسواق وتجمهر في الطرقات معلنا احتجاجه ورفضه وأن هذا الشعب في الأخير لا حول له ولا قوة .

وأخيراً لا آخر ألقي البيت الذي يقول فيه:
نمسي ونصبح كالبهائم همنا
علف وشأن خصومنا التسخير

ولم ينسَ أن يشير بيده وهو يشدد على ‘’خصومنا ‘’ إلى حيث جلس رجال الدولة البهية وهم يتصدرون الصفوف.

ثم وهو يخاطب الحاكم وبصراحة لا يحسد عليها - يمضي قائلاً:
لا تحسب التسيير مشورة فخذ
عيني لتنظر أنه تسيير
وإذا أتتك قضية لم تستطع
إصلاحها فالمصلحون كثير


نعم إذا اعترضت الحاكم أي حاكم قضية شائكة فهناك مستشارون ومصلحون ليس من بينهم السيد تشارلز بلغريف الذي لا يستطيع أن ينسى أنه إنجليزي وأن من مصلحته أن تكون مصلحة بريطانيا هي الأجدر في أوليات اهتماماته.
كذلك لم ينسَ بحر العلوم أن يشير - هذه المرة أيضاً - إلى حيث يجلس المستشار.

وخرج الشاعر مخفوراً إلى حيث تنتظره سفينة شراعية لتنقله إلى باخرة متجهة إلى البصرة

بثينه عبدالعزيز
13/02/2010, 07:53 AM
أين حقي...المأثرة العظمى
محمد علي محيي الدين




لم يكن أسم الشاعر محمد صالح بحر العلوم غريبا على مسامعي،فمنذ طفولتي وأنا أسمع أسمه يتردد في محادثات شقيقي مع زملائه عندما كنت في الثانية عشرة من عمري أو قبلها بقليل،وقد أكون لا أفقه ما يقال،ولكن رتابة الوزن،وعذوبة اللفظ تجلب الانتباه،فقد حفظت الشعر في سن مبكرة،وخصوصا العامي منه،لذلك تولد في نفسي حب الشعر والهيام به،والميل لسماعه وقراءته،وظل ذلك ملازما لي حتى هذه الأيام،فمن الفروض التي لا محيص عنها قراءته في الصباح الباكر من كل يوم

وقد كتبت بعضا مما أسميه شعرا،يراه بعض الأحبة مقبولا،لذلك كان من أوائل حفظي شعر السيد بحر العلوم،لسلاسة نظمه ورقة جرسه وجمال معانيه وحلاوة ألفاظه،وخصوصا قصيدته أين حقي التي حفظت الكثير من مقاطعها،ولا زال هذا الكثير يتردد على شفاهي خصوصا هذه الأيام بعد أن ظهرت صحة تنبو أته،وسلامة تصوراته فيما أفرزت الأحداث من جديد.


وهذه الملحمة الرائعة الذائعة،من أكثر شعره شهرة وانتشارا بين الأوساط الشعبية،ولا أخال أحد لم يسمعها،أو يقرئها أو يتذكر بعض مقاطعها،رغم أنها من الممنوعات المحظور تداولها،فكانت كالمنشور السري من الأدلة الجرمية في عرف الحكومات المتعاقبة

وأتذكر في أواسط الستينيات،داهم رجال الأمن دارنا في الساعة الثالثة ليلا،فأخذوا بالتفتيش الدقيق،وقلبوا الأسرة،وفتشوا الدواليب،ونثروا الملابس،وفتشوا جيوب المخزون منها،حتى سجادة الصلاة الخاصة بجدتي لم تسلم منهم بما تحويه من مستلزمات العابدات الورعات من جادر وتربة ومسبحة،فعثروا فيما عثروا عليه مقاطع من هذه القصيدة كتبت على وريقات مخفية في طيات الكتب،فكانت من الأدلة عند محاكمة أخي الأكبر الرفيق أبو حسنين،الذي القي القبض عليه تلك الليلة،بسبب اعترافات من رفاق قبض عليهم،وقد أنكر ارتباطه بهم،أو علاقته معهم رغم التعذيب الشديد،إلا أن جريمته كانت حيازة شعر محظور،فكانت أين حقي الدليل الوحيد لتجريمه،ولم يكن من المعقول إنكارها ونسبتها لي،فكان أن سجن ستة أشهر لحيازته قصائد ممنوعة.


وأين حقي من القصائد الخالدة التي جعلت شاعرها في القمة من شعراء العصر الحديث،وعلما من أعلام الشعر،رغم ما يعتو رها من قصور في الجوانب الفنية،وافتقارها إلى المتانة وجودة السبك،وما كان يراه النقاد من مستلزمات الشعر البليغ،فهي ليست بمستوى شعر ألجواهري،أو بمتانة قصائد الرصافي،أو جزالة محمد رضا الشبيبي،إلا إن معانيها السامية جعلتها في الذروة من الشعر العراقي المعاصر في الشهرة والذيوع والانتشار،وأخذت مداها في الأوساط الشعبية والثقافية،لما فيها من صور ناطقة تعبر عن واقع معاش يفتقر إليه الكثير من الشعر الذي يعنى بالمحسنات البلاغية واللفظية،وقعقعة الألفاظ،دون الاهتمام بالمعنى الواضح،مما جعلها قابلة للترجمة إلى اللغات الأخرى دون أن تفقد شيئا من القها،أو معانيها،بعكس الكثير من الشعر العمودي الذي لا يصلح للترجمة،ويفقد الكثير من بهرجته،لاعتماده على اللفظ دون المعنى.


ورغم أن للشاعر بحر العلوم مئات القصائد التي عالجت الشؤون العامة،ومشاكل الجماهير،وكان لها أثرها في النضال الوطني لعقود،إلا أنها لم تأخذ ما أخذت هذه القصيدة من الشهرة والذيوع،ومن رائع شعره قوله :

أسفا على حر يموت مقيدا والحر في قيد لحياة أسير
أسفا على حر يغادر أمة تبكي عليه وحقها مغدور
لقد استراح أبوكم من أمة قد غرها البهتان والتزوير
باعت لشهوتها ضمير إباءها ومن البلية أن يباع ضمير
مدح يكال وخاطب متملق وهوى يطاع وكاتب مأجور
تمسي وتصبح كالبهائم همها علف وهم خصومها التسخير


ومن قصائده الأخرى التي أخذت طريقها للشهرة والذيوع قصيدة التي رد بها على ألجواهري عندما مدح نوري السعيد بقصيدته الدالية، فرد عليه بحر العلوم بقصيدته التي مطلعها:

صه يا رقيع فمن شفيعك في غدي فلقد صدئت وبان معدنك ألردي


وله قصائد أخرى أخذت طريقها الى الشهرة والانتشار،مما يلقيه في المظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال البريطاني،والداعية لإسقاط النظام الملكي المباد،فجعلته في الذروة من الشعراء الثائرين

ويحسن بنا قبل الخوض في ملحمته الرائعة الإشارة لأمر لا زال مثار جدل ونقاش،حول انحداره الأخير،ونشره للكثير من القصائد في مديح صدام ،أو البكر أو البعث أو منجزات الحكومة البعثية في السبعينيات والثمانينيات،وما أظهر فيها من ارتداد كبير عن المبادئ والقيم التي كان يؤمن بها ويدافع عنها

ولست هنا في مجال التبرير أو أيجاد المعاذير،وقد أدلي برأي لا أقره في داخلي،ولكن على الدارس أن يحاول ما وسعه الجهد وضع الأمور في نصابها،واستجلاء جوانبها ليخرج برأي قد يحالفه الصواب،وأن لا يكون أسير رأي مسبق،وخصوصا في دراسة الشعر والشعراء،وأن لا يكتفي بالمظاهر،فرب أمور خافية تجعل الكثير من الحقائق بعيدة المنال.

لقد كان ولا يزال أغلب الشعراء العرب،مداحين هجائيين،يمدحون هذا ويذمون ذاك،وربما تناقضت أرائهم في الشيء الواحد ساعين وراء مصالحهم أو هاجسهم الفني

فالمتنبي مدح كافور بغرر من قصائده وجعله في مراتب متقدمة،ثم هجاه بقصائد أخرى أنزله للحضيض،وكافور هو ذاته كافور الذي شبه سواده بالمسك ثم أحاله إلى مسخ

ولم يكن المتنبي صادقا في الحاليين،أو صاحب رسالة أو هدف سام،فهو شحاذ يأمل بجائزة أو جاه،وهذا ديدن الشعراء في كل زمان ومكان ،لا استثني منهم إلا قلة حافظت على كرامتها،فلم تنحدر إلى ما أنحدر إليه غالبية الشعراء،ولم يسلم شعراء العصر الحديث من هذا الداء،فكان عمالقته مداحين لمن لا يستحق المدح هجائيين لمن يستحق الهجاء أو لا يستحقه،يمدح هذا اليوم ليذمه غدا بلا مبالاة، مما يفصح عن داء خفي في النفوس،وقد يجد البعض مبررات لمثل هذا التهالك،بضرورة عدم الالتزام،والاهتمام بالجانب الفني،وأن الشاعر في مديحه لهذا أو هجائه لذاك يعبر عن نزعة فنية لا علاقة لها بالواقع المعاش،وأنهم يتخيلون ويتمنون أن يكون الممدوح على هذه الشاكلة متوفرا على هذه الصفات،وهذه التبريرات لها ما يدحضها،بضرورة أن يكون للشاعر موقفه ورأيه في الأحداث،بما يفصح عن وجهة نظره في هذا الأمر أو ذاك
فيما يرى آخرون في الشعراء الذين التزموا منحا فكريا معينا،خروجا على أصول الفن وتقاليده وقواعده،وأن الشعر يجب أن يكون بمنأى عن الأحداث،ولا يتناولها إلا بما يظهر أجادته لأصول الفن،وما يعبر عن نزعة فنية خالصة بعيدة عن المبادئ التي يدعوا لها الآخرين،وأن الشعراء الذين يمدحون الملوك طمعا بالجائزة،أفضل من الشعراء الذين يخدعون الجماهير بالتزلف إليهم والتقرب منهم طمعا في جاه أو سعي لمنصب،أو مجد فني،وأن الذي يخدع فردا ليس كمن يخدع شعبا،وما أكثر المخادعين في الجانبين.

وبقد تعلق الأمر ببحر العلوم ،فقد ألتزم جانب الشعب في الغرر من شعره،وناضل وهو في ميعة الصبا ونضارة الشباب،وأنسلخ عن طبقته ومحيطه الديني ليكون إلى جانب الكادحين،لتحقيق طموحاتها في التحرر والأنعتاق
ولم يجن من نضاله المرير لأربعة عقود غير السجن والتشريد والتعسف والاضطهاد والتعذيب والفقر
ولو أحصينا السنين التي قضاها خلف القضبان أو في التستر والاختباء والنفي،لكانت أكثر من أيامه خارجها،ولو تحرينا عن الآلام والمرارة وشظف العيش الذي واجهه أيام كفاحه المرير،لرأينا أن أيام الدعة والمسالمة لا تشكل إلا جزء يسير منه

وللأنصاف علينا أن نبحث في أسباب تحوله الأخير،فلعل هناك أسباب خافية لم نطلع عليها تتعلق بموقفه ذاك،فقد كان تحولا خطيرا أقل ما يقال فيه أنه انحدار للهاوية،ولكن لماذا ينحني هذا الشاعر المناضل أمام العاصفة في أخريات أيامه،بعد أن كان نشيدا وطنيا لكل الثوار في العالم،ومثلا أعلا للمناضلين من أجل التحرر،ومنارا لمن قاوم الظلم والاستبداد،أنني لا أريد أن أفرض الفروض ولا أسبب الأسباب أو أبرر الأخطاء،ولكن لابد أن يكون وراء هذا التحول سر خطير،لم يتسنى لنا الاطلاع عليه،ولعل في أصدقاء الشاعر من بعلم شيئا،أو أسر إليه بأمر،ولعل في مذكراته أن كانت له مذكرات،ما يعين على كشف الحقيقة،ولعل في القراء من لديه من يميط السر عن هذا التحول

فليس من السهل على شاعر بمقام بحر العلوم أن يسقط هذا السقوط دون مبرر،رغم أن المبررات لا تجعلنا نبرئه من ضعف أنساني،كان وراء سقوط الكثيرين.


لقد عاش بحر العلوم دون مرتب معلوم،أو عمل يدر عليه مالا،لذلك كان للحكومة العراقية تفضلها عليه عندما منحته راتب شهري قدره(150)دينار على ما أتذكر،وكان هذا الراتب في حينها أكثر من معقول،وفسح له في المجال لينشر نتاجه في الصحف الحكومية التي تعطي مكافآت مغرية لكتابها،فتهيأ له أن يعيش حياة ،لا أعتقد أنه عاشها في الغابر من حياته،ويرى نعيم الدنيا وحلاوتها بعد تلك السنين العجاف التي قضاها شاهرا سيفه بوجه الحكام المتعاقبين،وحتى بعد ثورة تموز/1958 وإنشاده لتلك القصائد الرائعة التي غنى فيها الثورة وزعيمها،وأغاريده في محكمة الشعب،فسرعان ما انقلبت الثورة على أبنائها،وعاد ليخوض غمار النضال من جديد،ولم يتسنى له العيش بدعة وسلام إلا في أعوامه الأخيرة،رغم ما يكابده من تبكيت الضمير،وجفاء الأصدقاء ،وشعوره بالمرارة لمواقفه تلك،وإحساسه بنظرات الناس المريبة إليه،فليس من الهين على شاعر مثله كان قطب الرحى في الحركة الوطنية،أن يصبح مداحا لأناس ما كان لهم أن يتطاولوا ليصلوا إلى أخمص قدميه.


وموقفه هذا ليس غريبا بين الشعراء،فما أكثر من تقلب في المواقف،وسلك الدروب المتشعبة،ولنا في الكثير من عمالقة الشعر العربي وأدبائه خير دليل،لذلك فهو ليس بدعا بين الشعراء أو المفكرين الذين تباينوا في مواقفهم،وغيروا من مبادئهم
فهذا ديدن الشعر وطبيعة الشعراء،وآخر ما أستطيع التبرير به،من كان منكم بلا خطيئة فليرجمه بحجر



وفي الجزء التالي سنحاول تناول تأثير قصيدة الشاعر إيليا أبو ماضي"الطلاسم" على الشعر ألنجفي بعامة،وبحر العلوم على وجه الخصوص.

بثينه عبدالعزيز
14/02/2010, 10:08 AM
أين حقي ... والطلاسم
محمد علي محيي الدين




تأثر الشعر العراقي بعامة والشعر ألنجفي بخاصة،بشعراء الرابطة القلمية، والنزعة الرومانسية التي ظهرت بوادرها بعد الانفتاح على الثقافة الغربية،وما كتبه شعراء المهجر،أو نشرته الصحف المصرية واللبنانية من شعر جديد،وكانت هذه المجلات والكتب تصل النجف عن طريق زوار العتبات المقدسة،وما يجلبه الكتبي البارع المرحوم عبد الحميد زاهد،الذي يعد من السباقين لنشر الثقافة الحديثة في الأوساط النجفية
فكان الجيل الجديد من الشباب ألنجفي ممن يرتدون الزي الديني لا يتورعون عن تأبط كتب شبلي شميل،ودارون وسبنسر وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وغيرهم من شعراء المدرسة الحديثة،التي بدأت تأخذ طريقها إلى الأوساط الأدبية في كل مكان،وقد تأثر شعراء النجف والشباب منهم بخاصة،بأفكار هذه المدرسة،وحاولوا الخروج عن الإطار التقليدي للشعر العربي ،فأخذ التجديد طريقه إلى قصائدهم،وخاضوا غمار معارك أدبية طاحنة مع الشعراء الشيوخ،الذين كان في طليعتهم السيد رضا الهندي،والشيخ جواد الشبيبي،والشيخ عبد الحسين حياوي،والشيخ محمد طه الحويزي،والشيخ هادي كاشف الغطاء والسيد باقر الهندي،يتلوهم في المقام الشعري الشيخ مهدي الحجار،محمد حسن سميسم والشيخ محمد جواد الحجامي،والشيخ قاسم محيي الدين والشيخ محمد حسن المظفر،والشيخ حسن بهبهاني والشيخ كاظم السوداني،وكان في مقدمة المجددين شيخ شعراء عصره محمد رضا الشبيبي والشيخ على الشرقي والشيخ الأستاذ محمد مهدي ألجواهري،والشيخ باقر الشبيبي والشيخ أحمد الصافي ألنجفي،يرافقهم عدد من الناشئة بينهم صالح الجعفري ومحمود ألحبوبي والشيخ عبد المهدي مطر/والشيخ محمد جواد السوداني والشيخ محمد رضا المظفر،والسيد محمد جمال الهاشمي،والدكتور عبد الرزاق محيي الدين،والشيخ عبد المنعم الفرطوسي،و الشاعر محمد صالح بحر العلوم،وغيرهم ممن ساروا سيرهم وحذوا حذوهم ،وكان في مقدمة الشباب شاعر العرب الأكبر ألجواهري الذي صاول وطاول أساتذته وشيوخه فبزهم في العديد من المحافل الأدبية،وربما لنا عودة لدراسة معارك تلك الفترة،وفي شعراء الغري للأستاذ الباحث الموسوعي الشيخ على ألخاقاني الكثير من النصوص لتلك المعارك الأدبية،وكان الشعراء يستغلون المناسبات الاجتماعية أو وفيات وولادة الأئمة الأطهار،لإقامة الأماسي الشعرية التي يتبارى فيها الشعراء
وكانت تلك الوسيلة الوحيدة لظهور الشاعر وبروزه،ونشر البعض قصائده في الصحف والمجلات العربية،وفي هذا الجو ظهرت الكثير من القصائد المبشرة بالفكر الأشتراكي منها قصيدة للدكتور عبد الرزاق محيي الدين نشرت عام 1931 وأثارت ضجة في الأوساط الدينية لصدورها من رجل دين في وسط ديني صارم،يقول فيها:

أنظري الحقل أن خرجت صباحا تجدي الطير كيف يعبد ربه
لا صلاة لدى الطيور ولا صوم سوى أن يطهر العبد قلــــبه
وحياة لو تهتدين إليها لتركت القصر الجميل وصحبه
لخصتها العقول للروس دينا ودعتها بالمذهب الاشتراكي


في هذا الجو المضطرب نشأ الشاعر بحر العلوم،فكان في مقدمة الشباب الساعي للتزود بالفكر الجديد،وكانت قصيدة الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي"الطلاسم" من القصائد التي أثارت الكثير من الرد والمعارضة والمجارات في الأوساط الأدبية،وإثارة لغطا كبيرا في الأوساط المحافظة،لما فيها من أفكار جريئة ،اصطدمت بالكثير من المسلمات التي تصافق عليها الناس تلك الأيام،فقد عارضها الشيخ الشاعر عبد الحميد السماوي بقصيدة نحى منحاها،،صدرت في كتاب مستقل مع شرح لها،وعارضها الشاعر الشعبي الفكه حسين قسام بقصيدة هزلية حوت الكثير من الصور الساخرة،لذلك لا ريب إذا كانت قصيدة أين حقي مما يدخل في هذا المضمار،فقد نحى فيها منحى فلسفيا،وتناول أفكار ما كان لغيره تناولها لما فيها من جرأة لم تكن موجودة تلك الأيام،وقد أثارت هذه القصيدة امتعاض ومعارضة الأوساط الدينية والمحافظة في حينها،وصدرت الفتاوى التكفيرية بحقه،وحرمة التعامل معه،وجوبه بعنت واضطهاد من السلطات الحاكمة التي وجدت فيها ثورة حمراء تلهب الحماس وتذكي الوعي الطبقي في النفوس،وتميد الأرض تحت أقدام السلطة الحاكمة،وتأييد مطلق من رجال الدين،رغم أنه من أعرق الأسر الدينية،وأكثرها شهرة وامتداد في الأوساط الشعبية،وتبوأت أسرته زعامة الشيعة لقرون،رغم ما رافق ذلك من خلافات قومية،وبروز تيارات جديدة ،بفعل عوامل عديدة قد نتطرق لها في مناسبة أخرى.

والتأثير الواضح لطلاسم أبي ماضي عليها،أنها جاءت بذات الترتيب والنسق الذي عليه الطلاسم،فلازمة الطلاسم(لست أدري) وهو تساؤل يخفي وراءه الكثير،ولازمة بحر العلوم(أين حقي) وهو تساؤل أخطر وقع على المكان المؤلم من الطغاة والحكام الظلمة،والأدعياء من رجال الدين،وبداية الطلاسم(جئت) فيما كانت بداية أين حقي (رحت)،وبين المجيء والرواح كانت المزاوجة في المطالبة بالحقوق:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا ومشيت
وسأبقى سائرا أن شئت هذا أو أبيت
كيف جئت..كيف أبصرت طريقي...لست أدري


فيما يقول بحر العلوم:

رحت أستفسر من عقلي وهل يدرك عقلي
محنة الكون التي استعصت على العالم قبلي
الأجل الكون أسعى أنا أم أسعى لأجلي
وإذا كان لكل فيه حق.....أين حقي


فبداية الطلاسم تساؤل ملح عن كنه الحياة،وغامض الكون وأسراره،وينتهي كل دور بسوآل..لست أدري،فيما نحى بحر العلوم ذات المنحى،فكان تساؤله عن حقوق مهتظمة،وهذا التأثير الواضح في سياق القصيدة يدفعنا إلى الخوض في مجاهلها،لبيان أوجه الشبه بينهما،باختيار نماذج من الملحمتين،للتدليل على هذا الرأي،ولست بمعرض الموازنة بين القصيدتين،فالطلاسم ذات معان فلسفية بعيدة الغور،غارقة في الرمزية والغموض،ولا يتأتى فهمها لغير المتعلمين،في الوقت الذي كانت قصيدة بحر العلوم،واضحة جلية في أهدافها ومراميها المباشرة،التي يستطيع إدراكها سواد الناس،لبعدها عن التعقيد المعنوي واللفظي،لذلك كانت شهرتها وصداها في الأوساط الشعبية،لكثرة الذين يستطيعون إدراكها،والوصول إلى خفاياها،وما تبطن في داخلها من فكر فلسفي قريب للأذهان.


والحيرة التي تجلت في الطلاسم،لا تقل عن الحيرة التي رافقت أين حقي،فتساؤلات أبو ماضي في بعدها الفلسفي الغامض تسير في ذات المنحى الذي تسير فيه تساؤلات بحر العلوم،ذات الهدف الواضح والرأي البين،رغم إن الطلاسم كانت تساؤلات عن كنه الموت والحياة،والوجود والعدم،والشك واليقين،والأيمان والإلحاد،والقديم والجديد،والبعث والنشور،وما إلى ذلك من مناحي فلسفية،كانت مثار الكثير من النقاش والجدل في الأوساط العلمية،في حين نحى بحر العلوم في تساؤلاته للواقع العراقي،في مناقشة حادة،للتناقض الحاصل فيه،فالقصر المنيف الذي تقبع إلى جواره عشرات الأكواخ التي لا تصلح زرائب للحيوانات،والعدل الإلهي الذي يدعيه البعض ممن ارتدوا أردية الدين التي لم تستر سوأتهم،وما يخفون في أنفسهم المريضة،التي ترى الدين امتيازات وحياة مترفة لاهية،تعيش على آلام الآخرين وتعاستهم،وتعدهم بسعادة بعد الموت،في الوقت الذي يعيش هؤلاء في جنان دونها جنان السماء،لذلك لم يتعرض أبو ماضي لرجال الدين كشخوص لهم ممارساتهم ومعاملاتهم مع المجتمع،بل رآهم حيرى يؤمنون بشيء لا يدركونه،فهم يجهلون كنه الأشياء،ويرددون مسلمات لا يجدون تبريرا لها:

قيل لي في الدير قوم أدركوا سر الحياة
غير أني لم أجد غير عقول آسنات
وقلوب بليت فيها المنى فهي رفات
وأنا أعمى فهل غيري أعمى ...لست أدري


والمنحى الفلسفي لأبي ماضي هو الصراع بين الشك واليقين،بين المرئي والمتخيل،فيجد في نفسه قوتان تتصارعان،قوة الشك التي تجعله لا يصدق ما يسمع لمجافاته للواقع،والأيمان الذي يدفعه إليه تأثير المجتمع وتربية الأسرة،لذلك يخوض هذا الصراع القاتل،ليعود إلى لازمته الشهيرة في اللاأدريه:

أنني أشهد في نفسي صراعا وعراكا
وأرى ذاتي شيطان وأحيانا ملاكا
هل أنا شخصان يأبى ذاك مع هذا اشتراكا
أم تراني واهما فيما أراه....لست أدري


ويطوف في رحلته المكوكية في عالم الشك،فلا يقع على قرار،ويرى في الجهل مستراح للإنسان في يقينه،فهو لا يدرك جوهر الأشياء،أو يبحث عنها،ويتركها لمصيرها دون الدخول في تناقضاتها:

كلما أيقنت أني قد أمطت الستر عني
وبلغت السر،سري ضحكت نفسي مني
قد وجدت اليأس والحيرة لكن لم أجدني
فهل الجهل نعيم أم حميم....لست أدري


أن هذا الصراع،والتساؤل المتسارع جوهر قصيدته الطلاسم،وهذا المنحى الفلسفي لم يجعل لقصيدته بعدا شعبيا،وذيوعا جماهيريا،لذلك أنحسر تأثيرها عن أذهان الناس،وأصبحت مدار سجال ومناقشات بين النخب الثقافية،في الوقت الذي كانت تساؤلات بحر العلوم تأخذ بعدا شعبيا،وتجد صداها في أذهان الناس، الذين وجدوا فيها بعدا واقعيا يعبر عن حياة الإنسان،ويمكننا التفريق بينهما في المنحى السياسي،فبحر العلوم زج قصيدته في الصراع الدائر في المجتمعات واتخذت قصيدته مسارا سياسيا جعلها في الذروة من التبشير السياسي ونشر الوعي الطبقي بين الجماهير،فيما كانت قصيدة أبو ماضي،بعيدة عن مطالب الجماهير،تعالج أمرا لا يتعلق بواقعهم الذي يحتاج إلى التغيير والإصلاح،فكانت أين حقي صرخة مدوية،ودعوة للثورة على الواقع الفاسد،وتمرد على متواضعات العصر في تأليه الحاكمين وعصمة رجال الدين،لذلك تجد المواجهة بين الشاعر ومن تناولهم في قصيدته،صراع بين القوى المستغلة والمستغلة،في الوقت الذي كانت تساؤلات أبو ماضي عن أمور لا تعني الإنسان شيئا في هذه المحطة المهمة من حياته،فالإنسان خلق ليعيش في دعة وسلام وسعادة،ويسعى لبناء حياة أقل ما فيها أن تتوفر على أبسط مقومات الرفاه الاجتماعي.

لذلك فأن جوهر الالتقاء بين القصيدتين هو انطلاقهما في التساؤل والشك في المسلمات التي يؤمن بها السذج والبسطاء،رغم أن الطلاسم أخذت منحى بعيدا عن حاجات المجتمع،في الوقت الذي كانت أين حقي صرخة ثورية مدوية أقضت مضاجع الطغاة.



وفي الجز القادم دراسة للملحة ونظرتها إلى رجال الدين وما في تصوراته من تنبؤات أثبتت صحتها الأيام.

بثينه عبدالعزيز
16/02/2010, 12:12 PM
أين حقي ... ورجال الدين
محمد علي محيي الدين




احتلت أسرة الشاعر محمد صالح بحر العلوم المكان الأرفع بين الأسر الدينية في النجف،وأصبح الكثير من رجالها مراجع التقليد لقرون،وثنيت لهم الوسادة في المرجعية الدينية العامة لأقطار العالم الإسلامي،في وعي كامل لطبيعة رسالتهم في الحياة،ولكن الصراع على الزعامة الدينية،لا يختلف في الكثير من وجوهه عن صراع الحكام من أجل السلطة،فالزعيم الروحي قبل كل شيء إنسان له طموحاته وتطلعاته في السيادة والبروز،لذلك قد يأخذ الصراع بين رجال الدين منحى آخر غير السجال

والجدال،والاختلاف في هذه المسألة أو تلك،،ويسوده حب الزعامة والإمرة والهيمنة على الأمور،لما في ذلك من جاه اجتماعي،ومنزلة مرموقة،وإيرادات مالية تعادل في بعض الأحيان ميزانية الدولة العراقية،أن لم تزيد عليها،له حق التصرف فيها بما لا يجعله مسولا أمام أحد عن كيفية أنفاقها،لذلك ترى سلوكية رجال الدين- ولو في الجانب المادي على الأقل- تختلف من شخص عنه في آخر،فالعلامة الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر،عندما تولى المرجعية الدينية أوائل القرن الثالث عشر الهجري،خاض غمار معارك طاحنة مع منافسيه من آل بحر العلوم وآل كاشف الغطاء،وغيرهم من الأسر الدينية ذات التاريخ المتجذر في المسلك الديني،وأستطاع الهيمنة شبه المطلقة على أصقاع من العالم الإسلامي،فكانت تجبى إليه أموالها،وتغدق عليه خيراتها،وأختلف عن الآخرين في طريقة حياته ومظهره العام،فرجال الدين في تلك الأيام لا يتميزون عن الآخرين بأي مظهر من مظاهر العظمة والأبهة،سوى الاحترام الذي يمنحه لهم الناس،والوجاهة والتبجيل الذي يتساوى فيه الجميع،وإقرار الآخرين بأعلميتهم،فلم نسمع أن أحدهم احتجن لنفسه مالا،أو أستبطن حاشية،أو ارتدى الملابس المزوقة،وأحاط نفسه بحاشية من الأتباع والخدم والمرافقين،ولكن الشيخ صاحب الجواهر بما تهيأ له من إمكانات مالية هائلة،بما يجبى له من أموال طائلة،أتخذ لنفسه منزلا لم يكن مألوفا لدى رجال الدين،فحاشيته من الأتباع والمريدين ترتدي الملابس المزينة بالألوان المميزة،بما لا يختلف عن أي سلطان أو حاكم،وكانت الحقوق الشرعية الواردة إليه لا توزع بالطريقة التقليدية التي كان عليها من سبقه،فهي قاصرة على أتباعه ومن يلوذ به أو يؤيده في توجهاته،مما جعل المراجع الآخرين من أبناء الأسر الدينية العريقة،ذات الامتداد التاريخي ،تقف في مواجهته بصراع صامت لم تستخدم فيه الأسلحة التقليدية المعروفة لرجال الدين،في الاختلاف الفكري والتباين في إصدار الأحكام،وإنما أخذ الجانب المادي الحيز الأكبر منه،فكان أتباعه المتميزين في الحصول على ما يعينهم على الحياة،مما جعل الكثيرين يتركون العلماء الآخرين ويلتحقون به لتأمين ما يقيهم غائلة الجوع

ولم يأخذ الصراع امتداداته الشعبية كما هو الحال هذه الأيام ،فكان مقتصرا على الطبقة الروحية في الوسط الديني،فكانت الأسلحة الإعلامية والمادية هي الأدوات الحاسمة في الصراع بين المتنازعين، والتضييق على أتباع هؤلاء وحجب تخصيصاتهم من الزاد والمؤن التي كان المراجع يمنحوها لطلابهم،وأتخذ الصراع في أوقات أخرى القوة لفض المنازعات،فكانت أسرة بحر العلوم في صراع لاستعادة مكانتها السابقة،ولكن التأثيرات الخارجية،والإمكانات المالية للطرف الآخر،جعلهم الطرف الأضعف في هذا الصراع،لذلك لم يتسنى لأحد منهم تقلد الزعامة الدينية حتى اليوم،رغم وجود الأكفاء والمؤهلين،فكان لصاحب الجواهر أثره في ترشيح الشيخ الأنصاري الذي لم يكن معروفا في الأوساط الشعبية،ولا يعرفه إلا القلة من رجال الدين،بسبب انصرافه للبحث العلمي، وابتعاده عن الأمور العامة،وهكذا أخذت الزعامة منحى آخر في تعيين المرجع الجديد،ليس هنا مجال الخوض فيها،وأقتنع آل بحر العلوم وآل كاشف الغطاء بأن لا مكان لهم في الزعامة العامة ،بعد أن أخذت الأمور هذا المنحى،فكان منهم علماء أعلام لهم مكانتهم الدينية والاجتماعية المحترمة،رغم انحسار نفوذهم القديم،وأخذت إيراداتهم بالتناقص لعوامل معروفة،فأنفض عنهم الكثير من الأتباع،وقنعوا بالمراتب الأخرى رغم أهليتهم للزعامة الدينية المطلقة.


في هذه الأسرة الذائعة الصيت ولد الأستاذ محمد صالح بحر العلوم،فدرس العلوم الأولية على مألوفها السائد تلك الأيام،ورأى بأم عينيه الحقيقة المرة والصراعات غير المبدئية،والمؤامرات التي يحيكها هذا الطرف أو ذاك،فأخذت الشكوك تتسرب إلى نفسه في جدية هؤلاء،ومدى مطابقة شعاراتهم مع تصرفاتهم،ورأى البون الشاسع بين النظرية والتطبيق،فكان للشعراء المجودين تأثيرهم على مسارات حياته،وما قرأه من كتب حديثة ومجلات كانت تتطرق لأفكار جديدة ليست من مألوف الأوساط الدينية،فتولد لديه الكثير من الشك،وبدأت الصور تهتز في مخيلته،لكثرة التناقضات في أهم ركن من أركان الدين وهو المساواة بين الطبقات الاجتماعية، فرجل الدين الذي يدعوا الناس إلى البر والتقوى والتجرد عن أطماع الدنيا الزائلة،لا ينحوا في حياته هذا المنحى،ويتهافت إلى أقصى درجات التهافت من أجل الحصول على المال من أي جهة كانت،ويحتجنه لنفسه أو بطانته ومن يلوذ به من الحاشية والأتباع،ويشيد القصور الفاخرة،والرياش الثمينة،ويجعل من المال العام طريقا للهيمنة والسطوة وبسط النفوذ،وشاهد كيف أن الزعماء الروحيين،فرضوا سلطتهم بما يمتلكون من رصيد مادي وأموال لا تصرف في أوجهها الصحيحة،أو بطريقة عادلة،في الوقت الذي يعيش فيه المواطن العراقي في أدنى درجات الفقر والبؤس،تتنعم الأسر الدينية بحياة مترفة،لا تختلف عن حياة أكثر الأسر الأرستقراطية،وشاهد كيف تجبى الأموال من الملاكين والتجار والإقطاعيين،وهي معجونة بدماء الفقراء من كادحي الأرض،وهالته هذه الشراكة بين أصحاب الأموال ورجال الدين في استغلال البسطاء،ووضعهم طرف في المعادلة،لذلك كانت ثورته العارمة في ملحمته الخالدة موجهة أصلا لجميع المشاركين في نهب المال العراقي،لم يستثني أحد رغم أن الكثير من أعلام أسرته كانوا في المقدمة من رجال الدين.


لقد أثارت ملحمته هذه رجال الدين ،وجعلتهم يأخذون مواقف متشنجة منه،أتسمت بحرب عشواء استخدموا فيها مختلف الأسلحة،وأرعبت سلطات العهد المباد لما فيها من حض على الثورة ،ولهجة تحريضية،وتبصير للطبقات الكادحة بواقعها المرير،وكان للهجتها الصادقة،وتوصيفها للواقع بدون رتوش أو إضافات،وقعه الصاعق،فشاعرها من أسرة دينية خبر رجال الدين وعرفهم طفلا صبيا ويافعا،وعرف بواطنهم،فهو لا ينطق عن الهوى،أن هو إلا واقع يحاولون التستر عليه،فنشر غسيل هذه الفئة التي أعطت لنفسها قدسية تجاوزت حدود العصمة،فليس من الهين السكوت عمن يحاول الانتقاص منها،أو الاستعداء على منزلتها،،فكان التعاون من الجميع لتضييق الخناق عليه،فكان ما كان من أذى وحبوس وتشرد وتعذيب،ومعاملة جافية قاسية،حتى في محيطه العائلي الذي هاله أن يكون قاتله من بيته،والى جانب هذا كان للشعب تقديره السامي،ونظرته الحاوية لكل معاني الإكبار والإجلال،وهذا الخلود والتسامي الذي جعله في القمة من الشعراء الثوريين،ولا أخال شاعرا كبحر العلوم أثار مثل هذه اللغط،وتأخذ قصيدته هذا الحظ من الشهرة والذيوع،ولعله الوحيد من كبار الشعراء من لم يحض بالدخول في المناهج الدراسية،وتحاشاه مؤرخي الأدب في دراساتهم،لا بسبب نقص في شاعريته أو ملكته الأدبية،ولكن لموقفه هذا الذي لم يترك له من صديق في دائرة الحكام المتعاقبين،حتى يومنا الراهن،رغم مكانته الرائعة في الأوساط الشعبية.


ومما هو جدير بالإشارة،أن الكثير من أرائه التي وردت في ملحمته أثبتت الأيام صحتها،وستجد في ثنايا الدراسة الكثير من الصور الناصعة التي أوردها الشاعر،ظهرت واضحة جلية بعد التغيير الجديد في العراق،ولا أرى في قصيدته على صراحتها وواقعيتها أي خروج على الدين أو جوهره الحقيقي،وإنما هي ثورة على من ارتدوا مسوح الدين وتجلببوا بجلبابه فأساؤا إليه،والفرق كبير بين الاثنين،فرجل الدين إنسان يخطئ ويصيب،وما من أحد بمنجاة من الزلل أو الخطأ،ولكن البسطاء والسذج أعطوا لرجال الدين مكانة لا تتناسب وحجمهم في الحياة،وأحلوهم منزلة تجعلهم بمصاف الأنبياء،وتبعدهم عن الخطأ والزلل،لذلك ترى الاندفاع الأعمى خلفهم لمن فقد البصيرة في الحياة.
ففي معرض هجومه على من تلبسوا لبوس الدين،وجعلوا من أنفسهم فيصلا بين الكفر والأيمان،وولاة الأمر الذين على الناس طاعتهم والرضوخ لأحكامهم،وعدم مسائلتهم فيما يصدرون من أحكام،فللعالم الأجر أن أخطأ وله أجران أن أصاب،فهو مثاب على كل شيء،فلهم الحكم الإلهي، لأنهم بقية الله على الأرض،الذين وجبت طاعتهم فيما يرون أو يقولون:

ما لبعض الناس لا يحسب للتفكير فضلا ومتى ناقشته الرأي تعداك وولــــــــــى
زاعما أبقاء ما كان على ما كان أولى من جديد يعرف الواقع منه ...أين حقي

فهو ثائر على التقليد الأعمى،لما يراه البعض ممن جعلوا أنفسهم هداة للناس وهم في حقيقتهم يجهلون حاجة الناس،لابتعادهم عن المجتمع والاختلاط به، والنزول لمستواهم ،ومعرفة معاناتهم :

أنا أن أذعنت للخلق وحاولت التعامي
كان شأني شأن من يطلب غيثا من جهام
فنظام الخلق لا يعرف وزنا لنظامي
ونظامي لم يزل يصرخ مثلي.. أين حقي

ويعلن تمرده على الواقع المأساوي الذي آلت إليه الأوضاع الاجتماعية،في محاولات رجال الدين لإلغاء عقل الإنسان،وأبعاده عن التفكير في حياته واعتبار الأشياء حادثة لا يمكن إبعادها أو تغييرها فالإنسان مقدر له أن يكون فقيرا معدما ،وما عليه إلا الطاعة بانتظار اليوم الموعود ليجد ما تشتهيه الأنفس و تقر به الأعين،والحياة حظوظا وقسم فعليه القناعة بما كتب له أو عليه ،وعدم النظر إلى الآخرين الذين جعلهم الله متسلطين على رقاب الناس،فالله يرى ما لا يراه الآخرون،ولعل في ذلك مصلحة لا يمكن للإنسان إدراكها بعقله القاصر:

أتراني أرتئي ما يرتئيه الناسكونا وأجاري منطقا يعتبر الشك يقينا
وأقر الوهم فيما يدعيه الناس دينا فيعود العلم يدعوني بحق...أين حقي

ويسعى لتغيير الواقع،بنشر الوعي بين الطبقات الشعبية،ليعطيهم الصورة الحقيقية لما عليه هؤلاء المتسربلين بلباس الدين،ويحاولون ترسيخ الواقع الفاسد بأفكارهم الداعية إلى الخنوع والاستخذاء،والقناعة التي هي كنز ليفنى،فهذه العمائم التي تجوب الأرياف لاكتساب رزقها،تزرع الضلالة وتخدر عقول المساكين،بما تروج له من أفكار باطلة،بضرورة الابتعاد عما يثير الأغنياء والملاكين،لأن هؤلاء يحضون برعاية خاصة من السماء،التي أعطتهم هذه النعم لمعرفتها باستحقاقهم وأهليتهم لأن يكونوا أفضل من الآخرين،وقد فضل الله بعض على بعض بالرزق،لحكمة لا يعلمها إلا هو تعالى عما يصفون:

ليتني أسطيع بث الوعي في بعض الجماجم لأريح البشر المخدوع من شر البهائم
وأزيح السر عما ينطوي تحت العمائم من أناس تقتل الحق وتدعوا... أين حقي

فهؤلاء الذئاب المتلبسين بلباس الدين،لا يسعون من أجل الإصلاح،أو الخير للمساكين،بل يحاولون الاستفادة منه،وإبقائهم على تفكيرهم الساذج،ليكونوا بقرة حلوب يستحلبها رجال الدين والملاكين والمرابين ومالكي وسائل الإنتاج،فيجعلون الدين سيف الأغنياء المسلط على رقاب الفقراء،ويعلن ثورته الضارية بوجوه هذه الذئاب التي تعيش على شقاء الآخرين،منذ الآف السنين،ويدعوهم لترك الناس أحرار في اتخاذ الموقف الذي يريدون حيال مغتصبي حقوقهم،فليس الدين في حقيقته مطية لتحقيق المكاسب لهؤلاء،فهل أستحصل هؤلاء المتفيهقون صكا من السماء،ليتولوا أمور الناس،أن كتاب الله المركون على الرفوف العالية وقد غطاه الغبار،وتعطلت أحكامه الداعية إلى المساواة والعدالة الاجتماعية ،يستصرخ مطالبا بالحقوق التي عليهم الالتزام بها،والعمل على نشرها بين الناس:

يا ذئابا فتكت بالناس آلاف القرون اتركيني أنا والدين فما أنت وديني
أمن الله قد أستحصلت صكا في شؤوني وكتاب الله في الجامع يدعوا أين حقي

ويعيب عليهم تفسير القرآن بما يتوافق مع مصالحهم ومصالح من يمثلونهم من الطبقات الحاكمة،وأصبح رجل الدين سائرا في ركاب الحكام عادلين أو ظالمين،يروج لهم سياستهم ويؤول آيات القرآن بما يحقق له مآربه الشخصية،وطموحاته الخاصة،وجعلوا الدين مصيدة لاصطياد السذج والمغفلين،بتمرير الأفكار الداعية إلى الاستكانة والذل والخنوع والقبول بتقسيمات السماء وما قدر لهم،فالإنسان رهبن بما كتب عليه قبل أن يخلق،وليس له تغيير الواقع،لأن ذلك تمرد على الأقدار التي جعلت الناس طبقات ومراتب،ففضلت هذا علة ذاك بالرزق والسلطة،،فكان لرجال الدين أفكارهم المسايرة للسلاطين،وأصحاب الأموال، لأنهم مصدرهم المالي،وهم القادرين على بقائه في منصبه،وعليه أيجاد التبريرات الدينية لتصرفاتهم المنافية لجوهر الأديان:

أنت فسرت كتاب الله تفسير فساد واتخذت الدين أحبولة لف واصطياد
فتلبست بثوب لم يفصل بسداد وإذا بالثوب ينشق ويدعوا... أين حقي

وتصل ثورته العارمة قمتها عندما يصف القضاة الذين عليهم تطبيق القوانين وتحقيق العدالة،،ويتناول بذكاء مسألة الرجم التي أقرها الإسلام وجعل لها ضوابط خاصة تجعل من المستحيل تنفيذها لو توفر الحاكم العادل،ولكن هؤلاء القضاة الذين يحاولون غسل وجوههم وإخفاء مباذلهم،بادعائهم تطبيق الشريعة التي هم أول من خالفها،فالدين يدعوا لتوزيع الأموال بالعدالة،وللفقراء في أموال الأغنياء حقوقهم المعلومة،ولكن هذه الحقوق تعطى لرجال الدين فتتحول لعمارات وقصور ورياش فاخرة لهم ومن يلوذ بهم من الأقارب والأتباع،لذلك فهم يتحملون القسط الأكبر من الجرائم،فالفتاة التي لا تجد ما يقيم أودها،أو من يعيلها،تكون مضطرة لسلوك المركب الوعر،والارتماء في الرذيلة،ومن أضطر فلا أثم عليه،لذلك على من جعلوا أنفسهم قضاة وحراس لتطبيق الشريعة المقدسة،دراسة الأسباب الكامنة وراء هذا الجنوح ومعالجتها،وعلى رجل الدين تفقد رعيته ورعاية مصالحها حتى لا تضطر لسلوك الطريق الآخر للحصول على ما يقيم أودها:

وفتاة لم تجد غير غبار الجو سترا تخدم الحي ولا تملك من ذا الحي شبرا
وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا وإذا الحفار فوق القبر يدعوا..أين حقي
ما لهذي وسواها غير ميدان الدعارة لتبيع العرض في أرذل أسواق التجارة
وإذا بالدين يرميها ثمانون حجارة وإذا القاضي هو الزاني ويقضي..أين حقي
أين كان الدين عنها عندما كانت شريفة ومتى قدر حقا لضعيف وضعيفة
ولماذا صاعها زانية غير شريفة أ لأن العرف لا يسمع منها..أين حقي

لذلك فالقاضي هو الذي يتحمل أوزار هذه المرأة وما ارتكبت من أخطاء،ولكن من هو القاضي الذي جعل نفسه فيصلا في الأحكام،أنه في حقيقته أفاق يرتكب المعاصي والآثام،ويمارس الزنا ويشرب الخمر،دون أن يجد من يحاسبه،لاحتمائه بالدين،واتخاذه طريقا للوصول إلى غاياته الدنيئة،المنافية للأخلاق والأعراف والتقاليد:

كم زنى القاضي وكم لاط بولدان وحور وأحتسى أوفى كؤوسا من أباريق الخمور
أين كان الدين عن أجرام قاضيه الخطير ولماذا لم يصارحه بحق ..أين حقي

أن هؤلاء الأدعياء المتلبسين بأردية الدين المهلهلة،يخدعون الله والناس،ولكن أين مكر الله منهم وهو خير الماكرين،إلا يستطيع هذا الماكر الكبير كشف زيفهم وتعريتهم وإظهارهم على حقيقتهم الفجة:

برياء ونفاق يعبدون الله جهرا أين مكر الله عمن ملأ العالم مكرا
أن صفا الأمر لهم لن يتركوا لله أمر وسيبقى الله مثلي مستغيثا أين حقي

وهنا يتنبأ متنبئ القرن العشرين،ويكشف عن حقيقة بانت واضحة جلية بعد عدة عقود من نشر قصيدته تلك،وليته يأتي اليوم ليرى ما يجري في العراق الجديد،من أمور باسم الدين،وممارسات ضارة لا يمكن صدورها عن جهات تدعي تمثيلها المطلق للسماء،ولعله وهو العارف بطبيعة المجتمع الديني،كان يرى ما لا يراه البعيدين عن هذه الأوساط،ولعل ذات الممارسات كانت جارية تلك الأيام،إلا أنها لم تكن على المستوى الذي عليه الآن،فكان كبارهم القادرين على السرقة والابتزاز،أما الآن فقد تهيأ لكل من ارتدى هذا اللبوس أن يحصل على ما يريد بأي طريق كان،ولعل ما كان في زمن الشاعر لا يرقى إلى ما وصلوا إليه الآن ،بعد أن أصبحت كنوز العراق بأيديهم،وهنيئا لهم الأمر من قبل ومن بعد،ولكن هل هو هذا الدين الذي تعلمه بحر العلوم في حياته،وهل أن المبادئ الإسلامية،التي ملئت أطنان من الورق أخذت طريقها إلى التطبيق،أم أنها مجرد نظريات وفروض لم يتسنى لها الظهور على أرض الواقع:

ليس هذا الدين دين الله بل دين الولاة لفقوه من أحاديث الشياطين الرواة
وادعوا أن من الله نظام الطبقات أن يكن حقا فسله عن لساني ..أين حقي



وفي الجز الأخير سنتناول هذه الملحمة وموقفه من الصراع الطبقي،الذي هو المحور الأساس للنظرية الماركسية،والتصوير الرائع الذي أبرز فيه،آليات هذا الصراع ومحلها من الواقع الاجتماعي للعراق.

بثينه عبدالعزيز
16/02/2010, 12:16 PM
أين حقي ... والصراع الطبقي
محمد علي محيي الدين





أستطاع الشاعر محمد صالح بحر العلوم،توظيف هذه الملحمة الرائعة،في أبراز المبادئ الأساسية للماركسية،ونظريتها الأساسية الصراع الطبقي،وتمكن بثاقب فكره وبصيرته،تقديمها بأسلوب مبسط ،يفهمه حتى محدود الثقافة،ولعلها القصيدة الأولى التي بينت النماذج الواقعية لصراع الطبقات،من خلال الواقع الشعبي،وأظهرت البون الشاسع بين الحياة الأرستقراطية التي يعيشها المترفون،وما هو عليه حال العامل والفلاح والشرائح التي بمستواهم،وقد أخذت طريقها إلى أذهان الجيل الجديد،فكانت الدرس الأول للتثقيف بهذه النظرية،والمدخل لفهمها،فهي نماذج عملية لنظرية كبرى أخذت من تفكير الفلاسفة الشيء الكثير،ولا زالت مثار نقاشات بين كبار المفكرين مؤيدين ومناقضين لأفكارها،بأساليبهم التي لا يتأتى للكثيرين إدراكها،لما فيها من عمق يصعب على غير المختصين،أو أصحاب الثقافة العالية فهمها والوصول إلى دقائقها،ولكن بحر العلوم جعلها في متناول الكثيرين بعد أن حولها إلى نماذج يعيشها الإنسان في حياته اليومية،ويشعر بها كل من يرى التناقضات التي تعصف بالمجتمعات،والنماذج التي أوردها أستمدها من الواقع الذي يعيشه الشعب،وصاغها بأسلوبه السهل الممتنع،فجاءت ناطقة معبرة،فتحت أذهان الفقراء على واقعهم المأساوي الذي كان يصوره لهم الأدعياء،أنه من الأقدار التي لا يستطيع الإنسان الخلاص منها أو تجاوزها أو تغييرها،"فالمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين" أو"كيفما تكونون يولى عليكم" فالذنب ليس ذنب الولاة الظلمة ،أو المستغلين الآثمة،وإنما هو استحقاق سماوي لهذه الطبقة المعدمة،وقدرها أن تكون نهبا مشاعا للصوص تمترسوا خلف الحق الإلهي،ليكونوا سادة، والآخرين أرقاء عليهم خدمتهم،والإذعان لأوامرهم ونواهيهم،فهم ظل الله في الأرض،وطاعتهم واجبة على الآخرين:

ليس هذا الدين دين الله بل دين الولاة لفقوه من أحاديث الشياطين الرواة
وادعوا أن من الله نظام الطبقات أن يكن حقا فقل لي يا ألهي ..أين حقي

أن هذه الصرخة المدوية،نبهت الأذهان إلى حقيقة الزيف الذي يحاول هؤلاء تمريره،من خلال الإيحاء للآخرين بأن المقدر لابد أن يكون،وأن الحياة حظوظ فالأسود لا يمكن له أن يتحول إلى البياض،لذلك على الإنسان القناعة بما قدر له،فالقناعة كنز لا يفنى،وعليه أن لا ينظر للطبقة التي تسيدت عليه،لأن النظر إلى الأعالي يقصم الرقاب،لذلك على الإنسان الرضوخ لواقعه،وعدم السعي لتغييره،ولكن هل يصدق الأكثرية هذه الدعاوى الباطلة،عندما يلاقون هذا العنت والإجحاف،من قلة همها السيطرة والتحكم برقاب الآخرين،والأنكى من ذلك أن يشكوا الظالم من المظلوم،الذي يحاول الاعتراض على ما لحقه من حيف وإذلال،فيقول المسئول الكبير"همه العراقيين شي شبعهم":

كيف تبقى الأكثريات ترى هذي المهازل يكدح الشعب بلا أجر لأفراد قلائل
وملايين الضحايا بين فلاح وعامل لم يزل يصرعها الظلم ويدعو..أين حقي

وفائض القيمة تجلى واضحا في هذه الصورة الموحية،حيث يهيمن قلة من النفعيين،لتسرق جهود الملايين من الحفاة العراة الجياع،وهؤلاء الطغاة يختبئون خلف براقع لا تخفي حقيقتهم الفجة،فتارة يتلبسون بأردية القومية المهلهلة،وأخرى يتمترسون خلف نظرية الحق الإلهي،وحقوقهم التي أقرتها السماء،فهل من القومية والدين أن تسرق جهود الملايين،لأصحاب الامتيازات القومية والإلهية الذين يرفضون الثورة على الواقع الفاسد،ويحاولون تمريره من خلال الإرادات العليا،وأوامر ونواهي السماء،فدعاة "القومية يحاولون تحويل الصراع،وكأنه صراع بين القوميات "الأمم" بين الأمة العربية والانكليز،وتحويل الاضطهاد القومي الذي يمارسونه بحق أبناء قوميتهم ،فالطبقة المسحوقة من القومية المضطهدة،تعاني من الطرفين،اضطهاد المستعمر واضطهاد المستغلين من أبناء قوميتها،لذلك يحاول القوميون أثارة المشاكل مع الجيران،أو الدول الأخرى،حتى يحرجوا الطبقات الكادحة التي لها موقف من أنظمتها،كي تقف إلى جانبهم" الشبيبي":

أمن القومية الحقة يشقى الكادحونا ويعيش الانتهازيون فيها ناعمينا
والجماهير تعاني من أذى الجوع شجونا والأصولية تستنكر دعوى...أين حقي

وهؤلاء أن كانوا من دعاة الإصلاح كما يقولون،عليهم تحرير الملايين من المرض الوبيل الذي ينهشهم،والجهل والتخلف الذي جعلهم لا يعرفون من الحقيقة إلا صورتها التي رسمها إليهم الأصوليون،وعلى هؤلاء الدعاة السعي لفتح المدارس،وتأمين الرقابة على توزيع الثروة،فليس من الدين في شيء أن يهيمن على رؤوس الأموال،حفنة من الطارئين والمغامرين ليعيش الملايين في فقر مدقع:

حرروا الأمة أن كنتم دعاة صادقينا من قيود الجهل تحريرا يصد الطامعينا
وأقيموا العدل في تأمين حق ألعاملينا ودعوا الكوخ ينادي القصر دوما..أين حقي

وينعى على أصحاب القصور المنيفة،من تجار وأصحاب معامل وملاكين ومرابين وإقطاعيين،بأنهم وراء المعاناة التي تعانيها الطبقات المعدمة في المجتمع،وأن هذه القصور شيدت بدماء وجهود هؤلاء الفقراء،الذين لا يملكون غير جهدهم المستغل من قبل هؤلاء،الذين يعيشون حياة مترفة لاهية على حساب معانات الملايين:

يا قصورا لم تكن إلا بجهد الفقراء هذه الأكواخ فاضت من دماء البؤساء
وبنوك استحضروا الخمرة من هذي الدماء فسلي الكأس يجبك الدم فيه..أين حقي

وتتجلى قمة الثورة في صرخته المدوية،بدعوته مصاصي الدماء لمقاضاته أن كان ثمة حساب في العالم الآخر،فهو لا يخشى الحساب طالما يناضل من أجل قضية عادلة،ويقارع الطغاة الذين يعيشون حياة صاخبة عابثة،متناسين أن هناك شعبا يئن تحت سياط البغي والاستغلال،في ظل صمت مريب،ممن يرفعون رايات العدالة والإنسانية،ويتغاضون عما يجري من مصائب بحق الآخرين:

حاسبيني أن يكن ثمة ديوان حساب كيف أهلوك تهادوا بين لهو وشراب
وتناسوا أن شعبا في شقاء وعذاب يجذب الحسرة والحسرة تحكي..أين حقي

ويدخل في خضم الصراع الطبقي،في صورة رائعة جسدت الواقع العراقي بكل تجلياته،وأظهرت حقيقة الصورة القاتمة التي عليها الأغلبية الساحقة من العراقيين،ولخص في هذا المقطع ذروة النظرية الماركسية،بتشبيه قريب من مدارك البسطاء من الناس:

كم فتى في الكوخ أجدى من أمير في القصور قوته اليومي لا يزداد عن قرص صغير
ثلثاه من تراب والبقايا من شعير وبباب الكوخ كلب الشيخ يعوي أين حقي

وحتى البروليتاريا الرثة لها مكانها في تفكير بحر العلوم،فالحالة المأساوية التي تعيشها الطبقات المسحوقة،قد تدفعها للجوء إلى الطريق الشائك،أو تنحدر إلى مهاوي الرذيلة والفساد،لا لأشباع شبقها الجنسي كما هو حال المترفين والطبقات الموسرة،وإنما لرد غائلة الجوع أو أطعام الأفواه الجائعة للأسرة الفقيرة،ولكن المفارقة في الظلم الطبقي الصارخ أن يعاني الإنسان حتى بعد موته،فالأسرة الفقيرة التي تفجع بعزيز،قد لا تجد ما يعينها على دفنه،لما يتطلب ذلك من أجور لا تستطيع أدائها،ولعل المنحى الذي نحاه في هذه الصورة يجسد المأساة الكبرى للبروليتاريا ومعاناتها جراء استغلالها من قبل الآخرين:

وفتاة لم تجد غير غبار الجو سترا تخدم الحي ولا تملك من ذا الحي شبرا
وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا وإذا الحفار فوق القبر يدعوا ..أين حقي

وأخرى من هذه الطبقة المغلوبة على أمرها،قد تدفعها الفاقة والعوز المادي، إلى ارتكاب ما لا يجمل بالإنسان ارتكابه،فتضطر إلى بيع جسدها،لتكون المفارقة الكبرى أن يكون لمدعي الولاية العامة،الذين عليهم رعاية الفقراء،موقفهم من هذه الخاطئة بسبب إهمالهم لواجبهم في تأمين حاجتها،وما يقيم أودها،حتى لا تجنح وتنحدر للسير في طريق الرذيلة:

ما لهذي وسواها غير ميدان الدعارة لتبيع العرض في أرذل أسواق التجارة
وإذا بالدين يرميها ثمانين حجارة وإذا القاضي هو الزاني ويقضي..أين حقي

ويأخذ عن رأس المال هذه اللمحة الخاطفة،ليصوغها بلغة سلسة،لتعبر عن فائض القيمة الذي هو الأساس للاقتصاد السياسي للماركسية،والأساس لهذه النظرية التي أثبتت الأيام صحة أطروحاتها،وأنها لا زالت المحرك الأساسي للمجتمعات،بعد أن ثبت قصور النظريات الأخرى في تفسير الواقع،ناهيك عن تغييره:

كيف يقوى المال أن يوجد من غير جهود أين كان المال لولا جهد صناع النقود
ومتى يقدر أن يصنع طير من حديد فلهذا الجهد أن يدعو جهرا..أين حقي

وآخر الصور التي نتناولها في هذا الجانب،تساؤله المنبي عن الحس الطبقي الثوري الذي عليه الشاعر ودعوته العمال لعدم النكوص والاستكانة لسالبي جهدهم،وأن لا ينشدوا العدالة بالضراعة والاستجداء،أو انتظار رحمة السماء،فالسماء ليست المسؤولة عما يجري في هذه الحياة،وعليهم النضال من أجل حقوقهم والثورة على الواقع الفاسد،وأستحصال حقوقهم بالقوة،لأنّ الحقوق تؤخذ ولا تعطي ،وهذا ما سنتناوله في الجزء الأخير من هذا البحث:

أيها العمال أين العدل في هذي الشرائع أنتم الساعون والنفع لأرباب المصانع
وسعاة الناس أولى الناس في نيل المنافع فليطالب كل ذي حق بوعي..أين حقي