المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة ( أشكال من الصمت )



مها أبوالنجا
08/01/2010, 01:49 AM
ارتقى إلى ذلك المكان الشاهق ، وتسلق السارية فتعلق بها ؛ ليتقلد منصبه بين الرايات المرفرفة .
أحب الألوان ... وتمرغ بها .
فتح علبة الألوان الزاهية ، والدامسة .
أمسك بالريشة الناعمة ، وبادر بتلوين نفسه بمهارة رسام تخرج من مدرسة الألوان السائدة .
فوقع اختياره على أبعاد متنافرة .
صفاء الأبيض مع دموية الأحمر .
سواد الدجى مع عفوية الأخضر .
عشق هذه الألوان الأربعة ، ووكلها شعاراُ له في الأيام الخالية ..
افتخر بمعانيها ، وبسيطرتها ، وبنضالها معه ، وبتحملها لشظف العيش ، وصمودها في وجه الفصول الأربعة . أرخى أجنحته ، وروضها على السكينة والهدوء ، فلم تعد هناك ريح قوية تساعده على التحليق .. والتحديق .. رفع بصره إلى السماء فوجدها كالحة قاتمة تشيع فيها الفوضى والغمام ، ولمح في طيات الضباب المأساوي نجمة سداسية تحوم حولها بعض النجوم الخماسية .
حرك رأسه النابض يميناً وشمالاً ؛ فتموجت الألوان استغراباً ، وزراية للأمر الواثب ..
وتكونت بذلك خلفية للوحة زيتية تبحث عن عنوان وأمان ..
اعتلجت صدره الغصة من فداحة المنظر الراهن .
(وتساءل : ألم يعلن مذيع النشرة الجوية أن السماء ستكون هادئة رقيقة رقة المخمل النائم ؟) .
أدرك أن الكلام مخالف للأوضاع . فقطع على نفسه عهداً بأن يتفقد الأحوال العاتية .
اتكأ على منسأته ، وهبط السلالم البعيدة .
وما أن وصل إلى الدرب اللاحب اقتحمته الحبائل والأرزاء من كل جانب .
آزرته الحجارة والمقالع والسواعد .
شارك في جنازة الشهيد المناضل ... فكان كفناً للجسد الصارم ، وسار في مسيرة تشييع البطل الغانم ( وما فتىْ ينقب عن الأجساد الضامرة ؛ ليكون ردءاً لها ورداءً ) .
ما زال يستند على عصاه الخشبية ؛ يجوب المدن والضواحي ...

واستمر سرب الحجارة يقذف من كل المذاهب .
واجهته الغماغم والزمازم بالاعتراض والتفاوض .. وتحول إلى مفرش يبسط على الموائد والزوائد .
فعاصر عهد المقبوحين المعتدين على حرية الضراغم .
بهتت ألوانه ، وتفشت الغثاثة في كيانه الضاوي .
واستفحل الداء ؛ نتيجة لوبيل الوباء .
واصل جولاته وصولاته حتى دنا من القبة الذهبية ، فتماسكت ألوانه وأضلاعه حتى بلغ الأوج والارتفاع ، فغرس عوده في الصخرة الشريفة .
خفقت ألوانه بنبض الحياة المؤقت .
شعر بريق الغيث يباكيه ويواسيه .. نظر لأسفل ليراقب الخاشعين الحامدين المبتلين .
أتموا الفرائض ... والتفوا حوله هاتفين :
بيض صنائعنا ... خضر مرابعنا
سود وقائعنا ... حمر مواضينا