المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ارسكا : قصة قصيرة ترجمة / نهاد عبد الستار رشيد



نهاد عبد الستار رشيد
11/10/2006, 08:07 PM
قصة قصيرة
ارسكا
بقلم : ايلا بنانن
ترجمة : نهاد عبد الستار رشيد

ايلا بنانن Eila Pennanen


منذمطلع اربعينات القرن العشرين، برزت ايلا بنانن كواحدة من اكثر العاملين في مجال الادب الفنلندي نشاطا وتعددا في المواهب. بدأت حياتها الادبية في ترجمة الادب العالمي، فترجمت حوالي مئة كتاب الى اللغة الفنلندية شملت اعظم واشهر الكتّاب في العالم، من بينهم، على سبيل المثال، (اجاتا كريستي)، (كراهام كرين)،(برتراندرسل). وبعصفتها مؤلفة وكاتبة قصصية، فقد اصدرت خلال السنوات من عام 1942 حتى عام 1951 رواياتها الست الاولى التي اهتمت بموضوع الفرد الاستثنائي، الذي غالبا ما يكون امرأة او طفل، حيث تبرز واقعيتها الداخلية في صراع مع الفلسفة الذرائعية لعالم الرجل. اعقبت هذه الاعمال المبكرة سلسلة من الروايات التاريخية المتينة التي اظهرت من خلالها اهتماما بالعلاقة بين التجربة الدينية والنشاط الاقتصادي كما يبرز ذلك جليا في رواية (اطفال النور).
في ثلاثيتها الموسومة (روايات تمبير)، التي صدرت خلال الاعوام (1971-1973) ركّزت بنانن على فنلندة في مطلع القرن العشرين. وقد حققت في هذه الثلاثية نجاحا شعبيا منقطع النظير.
اجمع النقاد على ان افضل ما كتبته بنانن يمكن ملاحظته في مجموعاتها القصصية الخمس والتي صدرت خلال الاعوام (1952-1980) والتي احتوت على انماط ادبية من بين افضل ما انتجته فنلندة في مجال الادب. في قصصها المبكرة يمكن ان يميز القارىء تأثرها بالنماذج الانكلوسكسونية من امثال (د . ﻫ . لورنس) و (كاترين ما نسفيلد). الا انها اخذت تبتعد، في نهاية الستينات من القرن العشرين، عن التقاليد المتبعة للقصة القصيرة، وراحت تنمي نمطا مبتكرا واكثر تحررا تماما. نمط من البناء استخدمت فيه اساليب القصة الخفية كأداة لايصال هجائها الساخر. وتاتي مجموعتها القصصية الموسومة (اثنان معا) Kaksin والتي صدرت عام 1961 واقتطفنا منها قصة (ارسكا)، تأتي كواحدة من افضل مجموعتها القصصية الخمس. في قصص هذه المجموعة يمكن ان تجد الخلافات والنزاعات الروحانية، التي خلقتها المؤلفة ببراعة فائقة، تجد لها حلولا في مرحلة الكشف عن الحقائق، بشيء يشبه الالهام الديني. ان رواية القصة، في الغالب، موضوعية ومقتصرة على وجهات نظر الشخوص انفسهم، لكن (ارسكا) تشكل شذوذا من ذلك، اذ ان صوت المعلّق الاخلاقي قيها يُسمع نفسه ايضا. يمكن للمرء ان يسمع في الجزء الثاني من القصة، وراء التفاصيل لمأساة متفسخة وبائسة، صوتا متسائلا: ربما يكون ل(شخص مهذب تمرّن على التفكير والتأمل) لكن تبريره وقيمه الاخلاقية وضعت في جانب فيما تواصل الشخصيات (الحقيرة) مسرحيتها الى النهاية امام القارىء، فيتنفس الصعداء. تكشفت حكمه ال(شخص الملائم) عن وجود اختلافات صارخ عند مقابلتها مع حالة فجائية او عدم توقع الحياة نفسها: هذا هو (الصدع في الواقع) والذي يشكل، من وجهة نظر بنانن، جوهر قصة قصيرة جيدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أرسكا

صاحبة النزل هي صاحبة نزل، ولايمكن توقعها- خاصة حين تكون ارملة واصيبت الان يضرر الى حدّ ما- حافلة بخزين لا ينضب من الشفقة الانسانية. وهكذا عندما ذهبت صاحبة النزل الذي تقيم فيه (ايريا) الى الغرفة الصغيرة خلف المطبخ في التاسعة من صباح احد ايام ايلول الدافئة، ووجدت نزلتها ما زالت نائمة تحت كومة من الشراشف، اطلقت همهمات سخط وغضب. " ماذا تفعلين هنا في هذه الساعة من النهار ؟ " سألت، بنبرة يائسة. " الا تذهبين للعمل؟ " سحبت (ايريا) البطانيات وتشبثت بها حتى برز رأسها اخيرا من تحتها. "لا،" اجابت، بعد ان كررت صاحبة النزل السؤال عليها.
" حملت وتركت عملك من جديد ؟ "
" نعم. "
هناك كانتا، وجها لوجه: الارملة الشائبة، بكل ما تعانيه من قساوة المجتمع خلفها، و(ايريا) القصيرة الممتلئة، التي لا تزال تفوح منها، على نحو طريف، رائحة النوم ولا شيء خلفها على الاطلاق، الا اذا اخذنا بنظر الاعتبار صوت احتجاج ضعيف ربما هو صوت الضمير، اذا احتوت عيناها اشارة بانها كانت تصغي حقا الى نصائحه وتحذيراته: لكن لا، لم تحتويا على أي شيء سوى خواء ناعس. " انا لا احب نزيلة لا تذهب الى العمل بانتظام. انت مريضة ام ماذا ؟ "
" ايه ؟ "
بذلت (ايرا) جهدا ملحوظا لتتأمل السؤال، لكن صاحبة النزل اجابت عليه بنفسها اذ انها تمتلك كل الحق في ذلك. " لست مريضة، انت مجرد لا تريدين الذهاب الى العمل. تقضين شهر واحد في العمل، واسبوعين خارج العمل، تدفعين لي الف، الفين، لكن لا تدفعي كامل الاجره ابدا، ماذا تنوين، بماذا تفكرين؟ ستنهار اخلاقك بسرعة، اذا لم تدفعي الاجرة وتقيمي بنفس الغرفة دائما وتعيشي حياة منظمة. "
" سوف ادفع، لا تقلقي، " تنشّقت (ايريا) على نحو متكرر لمنع المخاط من السيلان. يجب ان تدفعي لي الان اجرة شهر ونصف. متى تدفعين لي اذا لم تذهبي للشغل؟ قبل لحظة قمت من الفراش، اطلعي وابحثي عن عمل جديد. قومي الان. اذا ما حصلت على شغل ارميك خارج النزل-"
" سأحصل على عمل آخر، نعم، لا تقلقي. "
الخزانة، حجرة صغيرة للمقابلات الخاصة او نهجع خلف المطبخ، وُصف بانه " حجرة الخادمة"، كانت ابعادها قرابة مترين في ثلاثة امتار، ذات نافذة صغيرة جدا ثمّ اقحامها للتسويغ. عندما غادت صاحبة النزل، رفعت (ايريا) نفسها الى وضع الجلوس، مدّت ساقيها، وراحت تتأمل قدميها، اللتين برزتا الان للعيان من تحت الشراشف.
قدمان اعتياديتان تماما، واصابع القدمين منضغطة الى بعضها البعض الى حد ما، ورم ملتهب واحد، او اثنان، في المفصل الاكبر لابهام القدم- لصوقات ارجوانية على الكاحلين- هناك ثمة شعرات سوداء تظهر احيانا بشكل شاذ، المظهر الخارجي لسطح الجسم، قيما عدا ذلك، ناعم وصقيل. الساقان ايضا. القدمان والساقان.
طافت (ايريا)، الى حدما، بهذه النظرات المحدقة، حوّلت نظرتها ولاحظت حقيبتها اليدوية التي كانت على الارض. ما ان مدت يدا، حتى اصبح بوسعها الوصول اليها تماما. ابقتها منتصبة على مسافة ذراع، وتفحصتها بتجهّم واحراج قبل ان تسحبها الى حضنها. بعد فترة من التأمل، انتزعت جوربيها، وشرعت تفتش بدقة في الحقيبة. سحبت محفظة نقودها، التي كانت تحتوي على اجور اسبوعين، تلمستها باصابعها، ادارتها بهذا الاتجاه وبذلك، فتحتها، وعدّت الاوراق النقدية عدة مرات. بعدئذ اخرجت علبة صغيرة من مسحوق تجميل، ولكن، بعد محاولة غير ناجحة لفتحها، اعادتها بسرعة. ثم جاء مفتاح: هذا ايضا اسقطته لتعيده مباشرة الى موضعه الاصلي في الحقيبة. ثم اصطدمت اصابعها بقصاصة من الورق: وصل استلام من شركة التنظيف، مضى عليه عام على الاقل. ظلت اصابعها تعبث بهذا الوصل مدة من الزمن، فتحته، قرأت الكتابة على وجهيه، واعادته. بعد ذلك مباشرة، بطاقة مكتبة عامة، بالية الى حدّ الرخاوة، تمّ استعمالها آخر مرة قبل سبع سنوات: مزّقت هذه البطاقة واعادت القطع الممزقة الى الحقيبة. ظرف مُجعّد الى حدما، كتُب عليه Refferences. حدّقت، بوجه عبوس، الى الكلمة التي كتبتها هي بنفسها، عجّت وجهها. كانت على وشك ان تفتح الظرف، لكنها غيّرت رأيها واعادتها الى الحقيبة بازدراء.
صاحبة النزل عادت الان، دفعت الباب لتشقّ طريقا ضيقة، ادارت رأسها حول الجوانب. انزلت ايريا حقيبة اليد وثبتت نظرتها المحدّقة، لاعلى الرأس، بل على الباب. لم تكن لديها رغبة في الالتقاء بتلك العين الصغيرة الخرزيّة التي تمور ببريق الطمع.
" اني اعمل لك بعض القهوة انهضي الان وارتدي ملابسك. " قررت صاحبة النزل ان تعرف أي نوع من اللطف يفي بالغرض. لقد انزل بها القدر عقوبة الشيخوخة المتوحّدة: مات زوجها، ماتت ابنتها، والنزلاء الذين تمّ تامين جميع وسائل الراحة لهم في شقتها الواسعة- التي هي ملاذها الوحيد ومصدر دخلها- كانوا بغيضين ويصعب التعامل معهم تماما، اذ دفعوها الى حالة اليأس. كان كل واحد منهم اسوأ من الاخر. سببت غرفة الخادمة انزعاجا اكبر مما يسببه أي سيء اخر: لم يؤخذ النزلاء اليها قط، وكانت صاحبة النزل تقول باستمرار بانها غرفة عزيزة جدا. لم تكن تسمح لهم بالحصول عليها بلا مقابل. هذه العاطلة الكسولة ظلت هناك لمدة هناك لمدة نصف سنة، بدت مخلوقة تافهه عديمة القيمة. ربما توجّب عليها التخلص منها حالا. لكنها بدأت تشعر بشيء من الشفقة بل وبحنان ايضا تجه الشيء الضئيل الوضيع: ربما يتعين عليها ان تحاول مرة اخرى لتفعل شيئا ما لمساعدتها. ايريا، على الاقل لديها مهنة فعلا: كانت طاهية.
زيّنت ايريا نفسها بعجلة، وهي ترقب الباب على افتراض ان الرأس سوف يظهر مرة اخرى. كانت فترة انهماك مشوبة بالقلق، تلك التي اعقبت خلعها ثوب النوم سحبا من رأسها، فسارعت لارتداء صدرية الثديين. الوضع الحرج قد تمّ تجنبه، والاجزاء العارية قد تمت تغطيتها الان. وهي تضع حزاما رنا حول عجزها، وقفت، وجوربها حوّل كاحليها وعيناها القلقتان ما زالتا تواصلان مراقبة الباب، بينما زرّرت الازرار. كانت حاشية الحزام متهزئة، وظلت الازرار غير مربوطة ثانية. بعد ان قامت بربطها كلها اخيرا، مسكت بنطلونها القصير الواسع المزموم عند الركبة وسحبته الى جسمها بهزتين عنيفتين. شعرت بشيء من العرق يغطي وجهها. بمرور الوقت دُفع الباب جزئيا مرة اخرى، كانت في ذلك الحين، تزرر ثوبها الخارجي، او مبذلها، اواية كلمة يفترض ان تطلق عليه. كانت صاحبة النزل تبسط الاكواب بانتظام على مائدة المطبخ وتكرر القول " سيكون كل شيء على ما يرام، لا تقلقي. " وضعت ايضا على احد الصحون الصغيرة فطائر حلوة بقت منذ البارحة، وقد بدأ مذاقها يصبح تفها تقريبا. ستكون هناك ثمة صعوبات، اضافت، الا ان ايريا اذا ما بذلت الجهد، فان كل شيء سيجري على نحو حسن. " الشيء الاساسي هو ان لا تفقدي الامل. "
اصغت ايريا الى كلام صاحبة النزل وراحت تفكر. فكرت بامعان قدرما تستطيع واستنتجت ان: تلك المرأة العجوز ... تتحدث وكأنها سويدية... لكنها لا تعرف أي شيء من السويدية. بعد ان اقتنعت ايريا على الجلوس لتناول قهوتها، ابرزت صاحبة النزل، من مكان يكاد يكون مجهولا، صحيفة كبيرة، وبسطتها امام ايريا، مفتوحة على الصفحة الملائمة. اشارت باصبعها الى القسم الذي يتصدره العنوان " وظيفة شاغرة. "
راحت ايريا تجيل النظر الى اعلى واسفل الاعمدة الطبوعة على نحو متراص، وتختار من هنا وهناك كلمة او اثنتين بحروف مطبعية اكبر حجما واكثر وضوحا: ... نساء... معينة... معينة منزلية... غاسل الصحون... مائدة تقديم الخمر. لم تجد ما يرتقي الى مستوى اهتمامها. تلك الكلمات المطبوعة بحروف كبيرة بدأت نجعل مشاعرها شاملة. في مكان ما... في زمان ما... حدث هذا كله من قبل ... الشيء نفسه تماما... في الصحيفة نفسها... في الصفحة نفسها.

2

الفلاسفة غير عقلانين حقا في ادعاءاتهم. يتوقعون بان الانسان قادر على تحليل وتقييم الاحداث المثيرة والمتنوعة التي يستلمها من العالم ومن داخل نفسه،و لتصنيف مشاهداته،و لصنع القرارات،و لصياغة المفاهيم، وا لحصول على المعلومات، واستخلاص النتائج. يتوجب عليه، كما يؤكدون بايراد الدليل، ان يميّز تمييزا قويا وواضحا بين نفسه وبيئته، ولكن يجب ان يكون مطلعااطلاعا عميقا ايضا على تماثلهما الاساسي. يجب عليه ان يقيّم الظواهر المتعلقة بالقيم العليا، لكن يجب ان لاينسى ابدا استحالة احكام التقييم. عليه ان يضع خيارات، ويتخذ قرارات، ويعمل. العمل صفة اخلاقية، الكسل الرتيب صفة لا اخلاقية. يجب ان يؤثر الانسان في بيئته الخاصة. ولا تدعنا ننسى بانه هو نفسه بيئته الخاصة، الكفاءة تدرك وتميّز الى أي مدى تتناسج هذه الاشياء مع مداركه الحسية لتصنع نسيج القماش الذي ندعوه الحياة. لكن ماذا يحدث لو لم يكن الانسان قادرا على الاختيار، وصنع القرارات، الخ؟ هل عدم القدرة على العمل، يبعث على عدم الفعّالية فقط؟ حسنا، اذا فهو ليس انسانا، ولا طبيعيا، ولا اجتماعيا، انه لم يحظ بالاحترام. انه مرفوض ومنبوذ.
هُراء، يقول الشخص المناسب الذي يفي بالمراد، الشخص الفذ: هُراء، سيقول، لا يوجد اشخاص من هذا النمط. وعلى كل حال، لو بدأت افكر، يوما ما، في اوضاع شخص، كهذا الشخص، لما كان لدي متسع من الوقت لاكسب رزقي، ولانسج نسيج قماشي الخاص. بالنسبة لامثال هؤلاء هناك انونع متعددة من العادات: لقد دفعت ضرائبي. فوق ذلك، يُضيف الشخص ذو التفكير الدقيق، الذي يفهم الفن وتدرّب على التفكير والتأمل، انه لا يستحق ان ينفق المرء جهوده من اجل اناس من هذا النمط. لقد انتهى امرهم على اية حال: من الافضل الانتباه للقادرين على العيش.ويشرع الآن صوت آخر في الكلام: لقد أخذوا فرصتهم، لماذا لم يستغلوها ؟ لا يمكن ان يكون المرء ضعيفا وغير مؤهل على هذا النحو، ينبغي على كل فرد ان يتحمل مسؤوليته الاخلاقية الخاصة به.
هذا واقع. لكنه يبدو بالتاكيد غير منصف.

-3-

ايريا شاهدت (ارسكا) للمرة الاولى عندما كانت جالسة في مقهى. كانت قد انتهت توا من تناول حصتها من " الفطائر المحلاة بالمربى" عندما شاءت المصادفة ان تلقي نظرة عجلى نحو الجانب الاخر، الى المائدة القريبة من الباب. الذي كان جالسا هناك، ويحدّق اليها، هو (ارسكا). ارسكا نفسه، شاحب وملتح وكأن عينيه زرّان دائريان. في باديء الامر كانت ايريا منزعجة. أي فتاة يتصورها ذلك الرجل التافه وهو يحملق اليها، سألت نفسها، والقت على ارسكا نظرة غاضبة. لكن ارسكا اخفض عينيه، وشرع يتأمل ارضية المقهى، التي كانت قذرة الى حد ما. عادت ايريا، من ناحيتها، الى تأمل قصاصتي صحيفة ممزقتين، تمّ اقحامها في يدها مع النصيحة " اذهبي الان، جدي عنوانا، اطلبي عملا. " اذهبي. جدي. اطلبي. استجدي. اهتزت افكارها بعنف من سن الى آخر مثل عجلة مسننة صدئة. عندما لا تمتلك نقودا يتعين عليك ان تعمل. نعم. استجدي من اجل الحصول على العمل. قّلّبت القصاصتين وقرأت الكتابة المطبوعة في الخلف، لكنها ادركت ، بعد مدة قصيرة ، ان الموضوع لا يتعلق بها، اذ انها لم تكن عاملة لحام ولا منضّدة حروف مطبعية ، بل كانت طاهية. " المهنة: طاهية " هكذا مدون في وثائقها. لديها وثائق. الا تصدقوا ! نظرت لتتيقّن فيما اذا كان الرجل ما زال يحدّق اليها. نعم، كان كذلك. زرّرت سترتها، احكمت قبضتها الراسخة على حقيبتها اليدوية، ضمّت ركبتيها معا بقوّة. شارع المصنع. شارع المصنع. عندما التقت عيناها بعيني (ارسكا) للمرة الثالثة استأنفت بسرعة تأملها لقصاصتي الصحيفة، وهي تغمغم بنزق " لا حاجة للتحديق.
انساق صوت (ارسكا)، الخجول واللطيف، اليها برفق. " لم اكن... انا آسف... لم اقصد..."
وران الصمت. بدت جميع الموائد في المقهى الخالية كأنها تصغي بانتباه شديد. كبتت العاملة على مائدة تقديم الخدمة تثاؤبا شديدا.
" انما كنت منغمسا في التفكير. " قال (ارسكا) بصوت يكاد ان يكون همسا.
ران صمت آخر، ثم راحت ايريا تغمغم: " ولا حاجة ايضا للتفكير. "
" لا، لا.و لكن مع ذلك..."
بدا الأمرضربا من الجنون مما جعل ايريا تقهقه. ياله من رجل سخيف. القت نظرة حذرة، و... هناك، ان لم يكن يواصل النظر اليها،وكان فمه يبدو مبتسما،ملموما بشكل زر دائري صغير، كعينيه. كان يتعين على ايريا ان تغطي فمها بظهر يدها، عند الضحك.
شارع المصنع. شارع المصنع. لا، سوف تذهب الى المكان الاخر برغم كل شيء، مطعم العمال في كراون فيلدز، وتقدم طلبا للعمل هناك. كانت ايريا تعرف كراون فيلدز، فقد سبق لها ان خدمت هناك ذات مرة، فبل ان تواصل الدروس التعليمية لفن الطبخ. نعم، سوف تذهب الى كراون فيلدز. براون فيلدز. كلاون شيلدز.
نهضت، ازالت فتات الخبز من تنورتها واجالت الطرف فيما حولها، في كل اتجاه يجنبها الغريب. نهض هو ايضا. ذهبت ايريا الى الباب، تبعها الرجل. فتحت الباب، تبعها الى الخارج. وقفت على رصيف الشارع في الخارج. توقف الرجل ايضا وانتصب خلفها.
كان صباحا رائعا، مبشرا بنيسان دافىء . نسيم منعش اثار النفايات المبعثرة في الشارع، كان بوسع المرء ان يلمح سماء رمادية مائلة الى الزرقة فوق طنوف المباني. البنات زيّن انفسهن بمستحضرات التجميل كي يظهرن لطيفات، والاولاد كانوا يلبسون احذيتهم الجديدة الفاتحة اللون. بدأ ينشأ ويترسّخ في داخل (ايريا) شعور ضعيف من الطمأنينة. حسنا، هذا ما كانت تقصده اذن. مدينة، ايريا، شارع، نيسان، عمل، يُقدم طلب للحصول عليه. لم يبق سوى التمني في ان ترتدي شيئا اكثر اناقة.
جاء الرجل ووقف بجانبها. دون ان ينظر اليها، قال ببساطة، " هل ترغبين في القيام بنزه في السيارة ؟ "
" ايه ؟ " ضحكت ايريا بصوت مرتفع. لم تضحك مثل هذه الضحكة منذ- منذ ذلك العهد القريب، حين كانت تلهو وتمرح مع (هلفي).
" القيام بنزه في سيارة ؟ في اية وسيلة نقل ؟ "
" سيارتي العمومية الصغيرة هنا. "
ابهام (ارسكا) ادت ايماءة متسمة بالمبالغة. وهي تتابع اتجاه الاشارة شاهدت ايريا، عبر الشارع تماما، شاحنة كبيرة مقفلة: وسخة قليلا، منبعجة قليلا، لكنها مثيرة للاعجاب بشكل لا ينكر. انها كبيرة جدا حقا. كان مكان الحمولة مغطى بقماش القنّب المشمّع، تحمل على جانبها، بحروف باهتة اللون، العبارة المنقوشة "خدمات النقل ". نظرت مرة اخرى الى ارسكا. كان يرتدي سترة جلدية انيقة ضاربة الى الحمرة وقلنسوة جديدة مستدقة الرأس. بل ورباط ايضا.بدأ قلب ايريا يخفق بطريقة خاصّة ،ميّزته في الحال . وسرعان ما انتابها اعتقاد بان الدخول الى الجحيم افضل من الدخول الى هذه الشاحنة .
بدا (ارسكا) ، بطريقة ما، مرتعبا ايضا ،لفترة وجيزة. نظر الى (ايريا) ثم الى الشاحنة، فتح باب مقصورة السائق وقال متذمرا: " اخشى ان لا تكون مسرفة جدا "
كان يتعين على (ايريا) ان تصرخ، تبتعد عن المكان الذي تقف فيه، وتهرب بنفسها نحو حياة عزيزة. الا انها بدلا من ذلك ظلت حيثما كانت ونظرت الى (ارسكا) والباب ا لمفتوح والمقعد الجلدي الصقيل البني الفخم. وفوق ذلك، رفعت قدما واحدة الى الدرجة العالية، حاولت الوصول الى اطار الباب ،وسحبت نفسها الى الاعلى، وهي تحاول جاهدة ان لا تنفجر من الضحك.
ألم تحاول ان تدفعني من الخلف، اشارت فيما كانت تستقر في مقعدها. الجلد البارد الزلق جعلها تشعر بالارتياح، كان المقعد غائرا، وكأن عددا كبيرا من الفتيات جلسن قبلها هناك، بجوار السائق.
" كان يتعين علي ان اذهب الى كراون فيلدز، فعلا، للاستفسار حول امكانية الحصول على عمل "، قالت ل(ارسكا) بصوت اجش مع شيء من الانفعال، وارسكا الذي كان يتسلق الى مقعده الخاص، اومأ برأسه تأييدا لها وكأنه كان يعرف كل ما يخصها من امور، وعمل، وكل شيء، كل شيء. بدأت الشاحنة في الحركة.

-4-

كان صاحب المطعم يسلي (ايريا) في مناجاة تتألف عادة من بعض الكلمات: ملعونة، حقيرة ونغلة. كانت زوجته قد أشعلت منذ لحظات سيكارة، ويبدو على وجهها التعبير المتغطرس هذا ما اخبرتك به و الذي يستولي عليها دائما قرابة الرابعة عصرا دونما أي مسوّغ. اشارت غاسلة الصحون بايماءة ذات مغزى يكتفها واشارت الى ورائها بمقدّم قدمها الايمن: عندئذ صمتت البنت التي كانت تقوم بالتجفيف، والتي كانت تغني اثناء عملها. كان شخص ما قد دخل المطبخ ووقف في المدخل، شكله كئيب يتسم بالصرامه. لم تكن (ايريا) بحاجة للنظر مرتين: تلك المرأة الكئيبة السيئة الطبع والتي لا تطاق، هي شقيقتها (راوها).
" حسنا، ما الامر ؟ " اتخذ صاحب المطعم بضع خطوات باتجاه الزائرة وكاد رأساهما ان يتصادما لولا ان تدارك الامر. انتفخت عيناه بالشك. " اريد التحدث الى شقيقتي هناك حديثا قصيرا فقط، لا استطيع الامساك بها ابدا، انها دائما تغير عملها. ذهبت الى غرفتها المستأجرة ثلاث مرات الا انها كانت دائما في الخارج، حسنا هذه طريقتها في الحياة لكني بحاجة لاستعادة نقودي، لماذا يتمسك البعض من أمثالها بنقود الاخرين الى الابد حين يكونون بحاجة لاستعادتها اريد ان اعرف، ها هي ذي هناك. "
واشار اصبع (راوها) بوضوح الى (ايريا)، لا تلك التي رفعت يدها او مدّتها باتجاه (ايريا): ابدت حركة قصيرة ومفاجئة بمرفقها مسافة قصيرة نحو الاعلى، تاركة الرسغ يتقدم ببطء ومدّت اصبع السبابة.
لقد تركت انطباعا بذيئا الى ابعد حد.
ظل صاحب المطعم واقفا دون حراك في وسط الغرفة، فيما كانت زوجته تنظر شزرا بازدراء، وادارت غاسلة الصحون ظهرها الى المغسلة وواصلت المعاونة تجفيف الصحن نفسه بالقماش المبتل نفسه وهي تحدّق الى (ايريا) من فوق قمة الصحن. الا أن (ايريا) لم تبد أي ردّ فعل: لم تتوقف عن عملها، ولم تلق نظرة الى شقيقتها. كان واجبها ان تقلي حصة طعام من شريحة لحم وبصل، واخذت سبيلها الى انجازه.
" أتفهّمُ ذلك. " شعر صاحب المطعم بضرورة مواصلة المحادثة، اذ لا احد سواها، كما يبدو، بوسعه ان يفعل ذلك. " اذن انت شقيقة طاهيتنا هذه، ايه ؟ "
" نعم انا شقيقتها وليس مصدر ابتهاج ان تكون لي شقيقة كتلك، دعني اخبرك، انها الشقيقة الوحيدة التي ورثتها وانظر الى نمط الحياة التي تعيشها، سلكت طريقا شاذّة يتعذر معها السيطرة عليها تماما ولا اُمانع ان اخبرك باني كنت احاول دائما ان احيا حياة لائقة واسدد ضرائبي ومبلغ الايجار في الوقت المناسب تماما وطوال الوقت لازمت العمل نفسه مع الشركة نفسها. باستثناء عمل زاولته مع شركة اخرى عندما كنت شابة يافعة. ولم اترك مرة الايجار دون تسديد مطلقا، كنت اسدد الايجار دائما في يوم الاستحقاق، وكذلك الكهرباء وجميع الاشياء الاخر، دائما في يوم الاستحقاق وليس في يوم لاحق. ولم استعر قط بنسا واحدا من أي بشر ولم ابذّر نقودي قط، احافظ على نقودي دائما حتى يوم الدفع اللاحق، وفي حالة الاجور البائسة وغير الكافية التي احصل عليها فتلك مسألة غير سهلة لا اجد مانعا من اخبارك عنها. اما هي، فسوف لا تصدق ابدا ان بامكان احد ان ينحط بدناءة وخسه الى المستوى الذي هي عليه."
" ما الذي تريدين الوصول اليه بالضبط ؟ " قالت زوجة صاحب المطعم فجأة وقد انتابها الغضب.
" من حقي ان اتكلم، انا امرأة جديرة بالاحترام واريد استرجاع نقودي. "
" تقصدين ان طاهيتنا هذه مدينة لك ببعض النقود ؟ "
" ما زالت مدينة لي بثلاثة الاف. نعم ثلاثة الاف، ليس لها قيمة كبيرة في هذه الايام ولكن عندما تكونين في ضيق تحسبين لكل بنس حسابه. (ايريا)، اعيدي النقود، اقول لك. "
بدأ صاحب المطعم يتوصل للنتيجة.
" اظن ان من حق الناس المطالبة باستعادة نقودهم. "
" طبعا من حقي ذلك. "
" حسنا، يمكنك اقحامه في عجزك من دون ابطاء لا يعنيني الامر اطلاقا."
جاء هذا الأقتراح الأخير من زوجة صاحب المطعم . فضّل صاحب المطعم
عدم الاصغاء لها. بدت على وجهه امارة المرارة الهادفة الى الخير. كان منفعلا بشأن الموضوع.
" تكمن المشكلة في ان الناس لا يرغبون في الدفع. يعتقد بعض الناس، كما يبدو، ان لا حاجة لتسديد ديونهم أو أي شيء آخر. انهم يأخذون نقود الناس فحسب ويتمسكون بها. شاهدتها انا بنفسي، يأتون الى هنا يأكلون ويشربون ولا يدفعون ثمن فاتورة الحساب. انظري كيف يتصرف بعض الناس. "
" هذا صحيح. انظر الى شقيقتي: انها هناك. اخذت نقودي والان عليّ ان اتعقبها هنا وهناك في طول المكان وعرضه لا ستجداء النقود بركبتيّ المنثنيتين. لاحظ انها ادخلت نفسها في مأزق، ويجب عليها ان تستقرض. ومنذ ذلك الحين بدأت تغوص الى ادنى المستويات مثل بقرة في مستنقع. "
" آه ! " ابتسم صاحب المطعم ابتهاجا. " هكذا يفعلن دائما. ليس بوسعك العثور على شخص لطيف جدير بالاحترام في أي مكان في هذه الايام. يضطجعن مع هذا او ذاك ويحيين حياة البغايا ويمارسنّ الزنا ويوقعن انفسهن في مأزق ويتوقعن من الدولة المساعدة. دافع الضرائب هو الذي يتحمل الدفع عن كل ممارساتهن في البغاء والزنا. "
راح صاحب المطعم ينقّل طرفه من امرأة الى اخرى، بتعبير مرح لاح على وجهه: راح يتأمل امكانية طهيهنّ بالغلي البطيء في الجحيم جرّاء هموم دافع الضرائب.
" حسنا، بوسعك، على الاقل، الاجابة، هل تنوين دفع النقود لي، ام لا ؟ "
(ايريا) تجاهلتها. قلّبت شريحة اللحم: بدأت تفوح من البصل رائحة شهيه. راحت تملص قدمها الايمن من حذائها، وتحك ربلة ساقها اليسرى باصبع قدمها الكبير، الذي نتأ على نحو مفيد وملائم، من خلال ثقب في جوربها.
انتقل صاحب المطعم من مكانه الى حيث كانت (ايريا) واشار باصبع الى قفاها. " هذه التي هنا هي احدى طاهياتنا، تتصورينها كأنها بنت جديرة بالاحترام، ولكن انظري اليها، انها سيئة كسائر البنات الاخريات."
" ابق فمك الكبير موصدا، لم يطلب منك احد التدخل، " قالت زوجته. " واخرج تلك المرأة من هنا، انها تعوّق كل شيء. لا يمكننا ابقاء الزبائن ينتظرون. تقدمي، ايتها الطاهية، شريحة اللحم تلك يجب ان تكون جاهزة الان. ادفيعا الى هنا وسوف اضعها انا في الطبق. "
برز رأس نادلة من خلال فتحة وقالت شيئا ما بصوت غاضب مهموس. لكنها هي ايضا ، او رأسها ، على الأقل ، ظلّ محدّقا وصاغيا لدى مشاهدة شقيقة ايريا .
اسقطت (ايريا) المقلاة على المائدة بجلبة. " انظري الآن ما الذي يجري بينكما، انك تصرفين ذهن طاهيتنا عن عملها، " قالت زوجة صاحب المطعم، ماسكة المقلاة والملعقة وتتابع نقل الطعام الى طبق ملائم. مهما كانت ثملة، فقد كانت تعدّ حصة الطعام على المائدة باتقان دائما وتجعله يبدو مثرا للشهية. اذ ان (ايريا) غالبا ما كانت منتبهة. كانت حركاتها حذرة وبطيئة، وكانت هناك نظرة يقظى ومختلسة تقريبا في عينيها فيما كانت تراقب كتلة البطاطا المهروسة طول الطريق من القدر الصغير ذات المقبض، مع ابتسامة ماكرة بفرحة النجاح، حتى تقذفها بقوة على الطبق وفي المكان المطلوب تماما. تفهمين ! ها ! كان صاحب المطعم الان واقفا امام شقيقة (ايريا) ويخبرها حكاية سوء حظه. كان الحمقى غير المؤهلين يقودونه الى الخراب والدمار وفوق ذلك يتعين عليه ان يدفع لهم مبالغ جيدة للتنفيذ.
لدى شقيقة (ايريا) حكاية مثقلة بالهموم ايضا: انها لم تكن على هذا النحو دائما، ولا شقيقتها، الا انها عندما انهارت وجلبت لنفسها الحمل، وكن على ثقة بانها لم تخبر احدا من كان ذلك الرجل، ولا حتى جماعة انعاش الاطفال لم تخبرهم من كان الاب، ولا متى هددوها بتصنيفها كبغي متشردة، جلست فقط وحملقت ولم تقل كلمة. " كما تفعل الآن تماما، تحملق دائما شقيقتي. لو تكلمت فقط، عندئذ اقصد لربما كان بوسعنا ان نفعل شيئا، انا وعمتنا وزوج شقيقتي المتوفيه، لكن لا، اقصد انها طريقة مثيرة للاشمئزاز في السلوك "
" ماذا حدث للطفل ؟ " سألت غاسلة الصحون. "
" مات، أقصد مات فعلا كما ينبغي، عن مرض خاص، في مستشفى، كان يعاني من علّة خلقية. "
" حقا ؟ "
" نعم، مات المخلوق الصغير المسكين، برغم ذلك، فقد كان في موته، في الواقع، رحمة، اقصد لو عاش، مع ام مثل تلك ولا احد يعرف من كان اباه، من سيعنى به ؟ تعرقين انها لم تبكي عليه عند وفاته. انا وعمتي الصغيرة بكينا كثيرا جدا ولم يكن طفلنا ولكن مع ذلك بكينا، ثم قلت حسنا لست بحاجة للمجيء طلبا للمساعدة اذا كنت من النمط الذي يتجنب العقاب واللوم مرة ثانية، وقالت عمتي مثل ذلك ايضا قالت لو كنت امرأة من طراز مختلف ربما لكان بوسعنا، لكن كيف اصبحت من هذا الطراز ابدت عمتي تعجبها، اذ كانت (ايف) امرأة على درجة من اللطف والدماثه وكان (اركو) سليما الا عندما يكون ثملا، قالت عمتي الصغيرة. والحديث بهذا الموضوع، جعلها تنغمس في الشراب باية حال، الم تلاحظي ؟ "
" لم اكن اعرف شيئا عن ذلك. " ضحك صاحب المطعم.
" لم اتوقع ذلك. ومع ذلك، فقد فازت بشاب. رفيق قصير، يسوق شاحنه. ولو اني اخبرتها ان لا تضع ثقتها بمثل هذا الفتى، هناك سبب لوجود الاسم على الجانب، حسنا، لا توجد مثل هذه الشركة في دليل الهاتف، لا ندري من أي نوع من الفتيان هو... لكن ليس من المفيد تحذيرهن، فهن لا يصدقنك الا بعد فوات الاوان. "
" الى أي مدى ستكون، من جديد. اذ تمّت، على الأقل، مشاهدته. لذا سوف نعرفه في هذه المرة. "
" وما الفائدة من ذلك ؟ ما ان يحدث شيء لمثل هؤلاء الفتيان حتى يفرون ويختفون من على وجه الارض.وكما يبدو من مظهره انه لا يزاول عملا منتظما. "
" هذا صحيح. أوه حسنا. اعتقد من الافضل لي ان اذهب، اذ لا فائدة من التأخر الان. سوف اعود عندما تستلم اجورها. متى يحين موعد دفع اجورها ؟ "
" في الخامسة عشرة من الشهر، اهلا بك ان شئت استعادة نقودك، ولكن سوف لن تستعيدي مبلغا، بهذا المقدار، دفعة واحدة. "
" في المرة الاخير كانت تحت التدريب حاولت ان ابتز منها خمسمائة. لكنها لم تبق هناك مدة طويلة، اتوقع انهم صرفوها من الخدمة عندما شاهدوها تقترف اعمالا فاحشة، في ذلك المكان الخاص بالمصحات المسيحية، اذ ان هؤلاء لا يطيقوا ذلك الطراز من النساء.
لا اريد ان اضطر لفعل هذا الشيء، انتبه انت، ولتنتبه شقيقتي ولينتبه الجميع، ولكن هذا هو واقع الحال، حين تكون فقيرا تعسا لا تتحمل كونك... جدا برغم كل شيء يتوجب علينا جميعا في هذا العالم ان نكسب بطريقه او باخرى، دون انتقاد او عقاب واذا لم تصن...ك لو كانت مختلفة ربما لاختلف الامر، اقصد... بكل امانة، فهي لا تمتلك حتى اصدقاء، ولم تقابل احدا قط... "
" يا للعار ! "
بدأت (ايريا) تحّرك الحساء في القدر الكبيرة ذات المقبض، وهذا التعليق، الذي هو اسهامها الوحيد في مجمل المحادثة، جاء بصوت مرتفع ذي رنين ثاقب اطلقته وهي تضع الغطاء.
" انا ذاهبة الان. "
نظرت (ايريا) الى الباب المغلق. كان من الصعب عليها ان تصدّق بان (راوها) كانت واقفة هناك منذ لحظة فقط.
مسح صاحب المطعم جبينه.
" حسناحسنا. اذن تلك هي شقيقة طباختنا الصغيرة. يجب ان اقول، انها الى حدّما. حسنا... هذا شيء يمكن فهمه كما افترض. الان اصغي لي، ايتها الشابه، سوف تحصلين على اجورك في المرة القادمة، يجب عليك ان... جيدا، يتوجب عليك ان تحاولي اعادة بعض النقود اليها على الاقل، هدئي من انفعالها قليلا... "
صدر رنين آخر من غطاء القدر الكبيرة ذات المقبض. حدّق صاحب المطعم الى (ايريا)، وانتظر. صمتت (ايريا).
" حسنا... هذا شيء يمكن فهمه ايضا. "
قرر صاحب المطعم ان يخطو بحذر، والا تعين عليه ان يبدأ حالا بالاعلان عن الحاجة الى طاهية جديدة. نظرت (ايريا) الى غاسلة الصحون، التي كانت تحدّق اليها باشمئزاز، حتى اذا التقت عينها بعين (ايريا) حوّلت انتباهها بعجلة الى مكان الغسيل. حمقلت (ايريا) بغضب الى ظهرها لمدة قصيرة، ثم نظرت الى المساعدة، التي اخفضت عينيها فورا، واستأنفت غسل الصحن الذي كان من المفترض ان تجففه، وراحت تغني بصوتها المهموس. تدلّت الاغنية بينهما كما تتدلى ستارة من البخار، وازداد الصوت جهارة بالتدريج: اخبريني، اخبريني، ايتها العذراء النبيلة.
لكن زوجة صاحب المطعم جاءت ووقفت بجانب (ايريا) مباشرة. كانت تفوح منها رائحة مشروبات كحولية مسكرة جدا.
" افعلي ما يرضيك فقط، ياعزيزي،" عبّرت بوضوح تام، لكنه لا يخلو من الصعوبة. " في هذا العالم... الجميع صاروا يحققون ما يريدون من دون رقيب او انتقاد... انها على حق، لا تعيري انتباهك لاية عاهرة عجوز ثرثارة تأتي الى هنا تنقنق وتتذمر باستمرار وتنقل الاشاعات، افعلي فقط ما تقررينه انت، نحن نوافق على ذلك. "
راحت تترنح قبالة (ايريا)، وهي تنضح شفقه وحنانا، وكادت ان تصطدم بها.
اقسم صاحب المطعم. بان حالة الارتياح النفسي التي نشأت من زيارة (راوها)اخذت تتلاشى. راح يفكر من جديد بوضع عمله السيء، وبزوجته وعادتها في الاستحواذ، متى تشاء، على كل النقود في الخزانة دون استئذان، فكّر في بطنه التي انتفخت كالمنطاد مما جعلته يعاني من حاله اضطراب مثيرة للضحك متى ما حاول ان يتناول وجبة طعام مرضية. صاح فجأة وقد انفجر غضبا: " الان تحركّن جميعكن ايتها النساء، ماذا بشأن كرات اللحم تلك، فقد طُلبت منذ مدة طولية. يجب ان اخرج الى واجهة المطعم واستقبل الزبائن، سوف يمتليء قريبا جدا. و(ألسا)، تعتقد بان ليس لديك مزيدا من الشراب. اليس لديك زجاجة ثانية مخفية ؟ "
لم تكن هناك ثمة ضرورة للسؤال. من الواضح انه كان يتعين ان تكون هناك زجاجة في مكان ما: ليس من المعقول ان يصبح المرء في حالة اهتياح كتلك الحالة على حرارة الطقس ونكهة الطعام فقط. تكلفت (السا) الابتسام بلباقة: كانت الزجاجة مخفية جيدا، لا احد يعرف مكانها سوى الطاهية. والطاهية لا تبوح بالسر.

-5-

في اثناء ذلك الربيع الذي اتسم بدفىء لا يمكن تصديقه انتقلت (ايريا) مرتين الى عمل جديد. بعد ان امضت شهرين في احد الاماكن وشهرا في مكان آخر تمّ اتذارها مرة اخرى، فيما كان الصيف قد حلّ توا. اظهر (ارسكا)،بطريقة تثير البهجة ، موقفا غير مبال لضروريات الحياة المفروضة كالاشغال واماكن السكن. " لا ترتعبي ! " كانت احدى نصائحه المفضلة، وكان مولعا بنصيحة اخرى " دعي القلق والهموم للحصان، فلديه رأس كبير" . بعد ان يقول ذلك يبتسم ابتسامة تنمّ عن الخبث الى حدّما ويحوّل نظره لحظة عن الطريق ليلقى نظرة عجلى على الطريق الجانبي باتجاه (ايريا) تقريبا. " يمتد العمل دائما الى مكان ما، " اعتاد ان يشرح. " دائما في مكان ما تستطيعين السكن. " وانطلقت الشاحنة مسرعة.
غالبا ما كان (ارسكا) يأتي ليأخذ (ايريا) بشاحنته حين تغادر عملها، فيما كان صاحب صالة الطعام يلاحظ. سوف ينتظر في الخارج، ويندفع بعجلة ليفتح باب مقصورة السائق حين يرى (ايريا) قادمة، ويراقبها وهي تصعد. ثم ينطلقان هنا وهناك. يقول (ارسكا) ، في بعض الأحيان ، انه يريد اجراء بعض النداءات الهاتفية: يدخل بيتا، يُسلّم رزمة، ويخرج حاملا شيئاما ويضعه في مؤخرة الشاحنة ،تحدث هذه الأشياء كلّها وكأن شيئا سريا وغامضا نوعا ما يجري تنفيذه. لم يتحدث عن هذه الاجراءات، ولكن عندما تظهر (ايريا) حبها للاستطلاع، كان يبدو مسرورا، وبرغم ذلك فان مظهر الرضا الذي كان يبديه لها بدا مشوبا بالخوف احيانا.
كانت (ايريا) تستمتع دائما بطريقة (ارسكا) في الكلام: هادئة ومتسمة بتغيرات مفاجئة. لكنها كلما ازدادت اطلاعاعليه ازداد شعورها بالخطر. كان (ارسكا) رفيقا حقا. كانت لديه شاحنة مقفلة تعود ملكيتها له: كان يستخدمها لنقل السلع والبضائع، كما يقودها هنا وهناك للتسلية. كانت بحاجة احيانا للتصليح، وفي بعض الاحيان، كان يقحم نفسه هنا وهناك في داخلها بحثا عن الخلل. كان ينظر اليها بفخر كبير دائما. كانت مقصورة السائق عالية، والجزء الخلفي منخفض بصورة غير متجانسة،لذا فان الهيئة الخارجية للشاحنة بدت غليظة المقدمة على نحو طفيف، يكاد شكلهاان يبدو مضحكا حقا، الا انه، برغم ذلك، مثير للاعجاب: يكاد يعرضها للخطر. كانت لطيفة في مؤخرتها، ومع ذلك، تحت غطاء السقف: هناك مقعدان طويلان يمتدان على طول كل جانب، وكان مربوطا الى احد المقعدين صندوق قديم مصبوغ بلون اخضر وغطاء مسطح، يمكن استخدامه كمنضدة. هناك، تحت المقعد الاخر مباشرة، حقائب سفر متهرئة: لم تكن (ايريا) تحب كثيرا منظر هذه الاشياء. من المستحسن ان يتم تفريغها، طبعا. كان الصندوق مقفلا، ومماثلا تماما للمنضدة. ماذا كان يضم في داخله، هذا ما لم تكن تعرفه (ايريا). ربما ادوات لص؟ ان فكرة كون (ارسكا) لصا، او مجرما من نوع آخر باعتراف الجميع اضحكت (ايريا) كثيرا جدا:فقد كان شخصا خجولا جدا، وغير مؤذ كالارنب البرية.
لم يكن (ارسكا) مقيما في أي مكان. او، على اية حال، لم يقل انه يقيم في مكان ما. عنده عنوان، الا انه نوع من الترتيبات التي لديه: يُعتقد انه يقيم هناك، ولكن في الحقيقة هو الذي يذكر كلمة هناك بين حين وآخر فحسب. انها افضل طريقة لتضليل المتطفلين اذ يجعلهم يخطئون السبيل في تعقب الاثر. كان ينام اينما يشاء: في خانات او اماكن اقامة مؤقته وفي نزل، حتى تحت زورق ان كانت هناك ضرورة. كان قد أمضى صيفا كاملا مقيما في غرفة تحت الارض في زمن الحرب. الا أن (ارسكا) كان يمتلك نقودا باستمرار. لم يبد اية محاولة لحجب الحقيقة: يقوم، احيانا، بسحب محفظته من جيبه بطريقة تنم عن التبجج ويقدم مشهدا بعدّ الاوراق النقدية وهو يتأملها بحبور، بنظرة سريعة ويبتسم_ ومن ثم، وعلى نحو مفاجىء، يعود ليقحمها في جيبه كما لو كان خائفا ان يفقدها.
كان ، حين يقود شاحنته، انسانا اخر، يسوق بسرعة فائقة، باقصى سرعته طوال الوقت، لا يهتم بشيء او باحد، كان يُعبّر من خلال ليّ فمه عن السخرية عندما كان المشاة المذعورون يبتعدون عن طريقه وثبا وراح المواطنون الواقفون على الارصفة الذين شعروا بالاهانة يحملقون خلفه بغضب شديد. ويغمغم: " سوف يريهم " . لكن لو رفعت الشرطة راية اليه للتوقف لتوقف حالا، ويتغير مظهر الرجل ومظهر الشاحنة كلاهما فورا الى رمزين للبراءة والتواضع؛ حتى ان (ارسكا) كان يشكرهم عندما اقتادوه ذات يوم للمثول امام القضاء، ولكنه كان يسرع في السياقة ما دامت الشرطة بمنأى عن الأنظارويحدّق الى (ايريا): " ما رأيك في ذلك، ايه؟ انه شرطي لك. "
بالنسبة ل (ايريا ) فان (ارسكا) كان يحيا بطريقة مقبولة جدا . الحياة المتحررة، كانت مبعث اثارتها، لم لا يمكنها ان تحيا حياة متحررة ايضا ؟
كانا يخرجان، احيانا في نزهات طويلة بالشاحنة، التي كان يقودها بتهور، الى قلب الريف مباشرة. كانت الشاحنة تنطلق رشيقة على امتداد الطرق الرئيسية بسرعة لم يجرؤ حتى (ارسكا) على محاولة الانطلاق بها في شوارع المدينة المزدحمة. كانت المناظر الطبيعة الريفية تتدفق مارّة بمحاذاتهما على كلا الجانبين، البيوت الراسخة، والبساتين المنعزلة، سواري الاعلام وحمامات الساونة البخارية على جوانب البحيرات، والحقول، ورائحة الارض، والمروج والخيول الواقفة فيها: كانت تتدفق، وتُخلّف الى الوراء. ما اهميتهم ؟ انيقون في بيوت انيقة، يتشبثون بدفاتر حساباتهم المصرفية: خلّفهم جميعا الى الوراء، واهلا بالحرية! (ايريا) و (ارسكا) تابعا السير. اغمضت (ايريا) عينيها نصف اغماض وقد غمرتها النشوة، كانت(ايريا) تتخبط مرتفعة ومنخفضة، دون تحفظ، وكلما بلغا قمة صعود في الطريق وبدأت السماء بالانقضاض هابطة لملاقاتهم كانت تقهقه بصمت. أوه، ما اشد انطلاقنا سرعة ! كانت الارض تنطلق بهما بسرعة مفرطة طوال الطريق، والسماء تغريهما. كان فم (ايريا) مبتلا وذا لون احمر، وكانت يداها تتشبثان باية دعامة تستطيعان العثور عليها.
في بعض الاحيان، كان (ارسكا) يقوم برحلة اطول ويغيب بضعة ايام، ولم تكن (ايريا) تعرف ماذا تفعل مع نفسها بعد الانتهاء من العمل. كانت تتمش في الشوارع، وحذاءها المتهريء يخوض في المياه حين تمطر. تنظر من خلال نوافذ المتاجر. اخرس لدى خيّاط، كان متألقا في بذلة انيقة، ذكّرها ب(ارسكا)، فضحكت. في مدخل مظلم وقف رجل بدون معطف، مع زجاجة (شنابس)¹ في جيب سترته، بصق في جهتها، كان يبدو شبيها ب(ارسكا) ايضا، الا ان (ارسكا) لم يتناول الخمر. كانت (ايريا) تتجول بمحاذاة كنيسة كبيرة مشيّدة من الآجر، وكان الناس يخرجون منها توا بعد حفل زفاف: العروس والعريس شكّلا ثنائيا وسيما، هي بثوبها الابيض والبرقع، حاملة باقة ازهار، وهو شاعر الى حد بعيد بوقاره. كان يسير خلفهما رجل قصير بملابس سوداء، وهو صورة طبق الاصل من (ارسكا)، فكرت (ايريا).انها فكرة سخيفة حقا.
عندما عاد (ارسكا)، رجع الى هناك كعادته من جديد، يقف بانتظار (ايريا)، فيما هي تغادر العمل، وجهه الشاحب الملتحي يلوح اليها من مقعد القيادة المرتفع، يد واحدة ترتفع في القاء التحية. كان (ارسكا) جديرا بالثقة الى حد بعيد. لم يتخذا اية ترتيبات كي يلتقيا، لكن (ارسكا) كان يأتي باستمرار، مهما كان بعيدا. انه شخص يعوّل عليه حقا، وهو دعامة (ايريا) وسندها.
متى ما كان (ارسكا) مستغرقا في الحديث كانت (ايريا)ترهف اذ نيها الصغيرتين القرنفليتين للاصغاء حتى يصبح جسمها الريّان القصير متوترا ومتيبسا وتفتح عينيها على مداهما لتحدّق بشوق شديد مشوب بالكآبة الى (ارسكا). صادف ،في وقت سا بق ، ان تناولا القهوة في مؤخرة الشاحنة.
سافرا الى الريف واوقفا الشاحنة على جانب زقاق ليستمتعا براحة قصيرة يتناولا خلالها القهوة. القى (ارسكا) نظرة خارج مؤخرة الشاحنة وشرع يتحدث: " انا رفيق خطر، تعلمين ذلك. لو عرفت مدى الخطورة، لما كنت هنا. فعلت اشياء... اشياء ترعبك. ولربما فعلت ذلك مرة اخرى."
" ماذا كان يقصد ؟ " قدّمت (ايريا) تفسيرها الخاص لكلامه: لقد اثارت توقعات في منتهى السعادة.
" انا اودك يا (ايريا)، " واصل (ارسكا) كلامه، برقه اكبر.انت مختلفة، انظري، لست نموذجا مألوفا من العاهرات على وجه الضبط. "
" لا، بالتاكيد، لا، " قالت (ايريا) بصوت يكاد يكون همسا، وهي تمسك نفسها بثبات حتى ان رأسها الصغير بوجنتيه الصغيرتين الممتلئتين، كان على وشك ان ينحني الى الوراء. وكانت غشاوة من النشوة ترين على عينيها.
" انا رفيق من النوع الذي... لست رفيقا اعتياديا انت تعرفين... هذا الرفيق هنا، هذا (ارسكا)... "
راح يضرب صدره على نحو متكرر بقبضته ويحدّق بصرامة الى الامام، نحو الفضاء الخالي. " هذا الرفيق الموجود هنا، انه (ارسكا) لا غير، هذا كل شيء. بوسعي ان امتلك اسطولا من سيارات الاجرة لو اردت ان اكون رجلا غنيا... آثاثا... تلفزيونا... لكني اريد ان اكون حرا! هذا بيت القصيد، تعرفين، الحرية. ان نجلس انت وانا هنا فقط، ننظر خارج مؤخرة الشاحنة... والنجوم تتألق. "
" والقهوة تغلي " قالت (ايريا) بنفس النبرات المتقّدة.
" انا لا اهتم بالناس، انهم مجموعة من الذ ئاب، هؤلاء الناس. يتعين عليك ان تبذلي جهدا جهيدا لتقومي بواجبك وتدافعي عن مواقفك في هذا العالم... لكنك مختلفة... نعم... مختلفة. في الواقع، انا... نعم، انا... لكن في هذا العالم كان يتوجب عليك ان تحترسي، أتفهمين، اذا لم تحترسي وتحذري فسوف يتم اصطيادك والامساك بك... ولا تعرفين كيف تحرري نفسك مرة آخرى. انهم ينصبون لك الكمائن وينتظرونك في كل مكان... "
عندما طفحت القهوة اثناء الغليان، اوقف (ارسكا) فجأة مجرى حديثة وشرع يتفجع على تبديد القهوة الجيدة، ما الذي جعلها تطفح وتتبدد بهذا الشكل ؟ اللهب الهادىء الذي تمّ تسخين القهوة عليه واصل اتقاده، دون جدوى. راقبت (ايريا) اللهب وراحت تنعم النظر في مدى صغره. عندما كان مشتعلا، كانت مؤخرة الشاحنة تتسم بحميمية الجو العائلي، فتبدو كالبيت. كان لدى (ارسكا) كعكتان حلوتا الطعم في كيس ورقي. راح يتأملهما لمدة قصيرة ثم قدّم واحدة الى (ايريا) . رفضت للمرة الاولى: لا، لا، يجب ان يتناولهما (ارسكا) كلتيهما، انهما، برغم كل شيء كعكتاه. شعر (ارسكا) بالرضا لرفضها، الا انه قدّم الكيس مرة اخرى، واخيرا اخذت (ايريا) واحدة. جلسا وجها لوجه يمضغان كعكتيهما بصوت طاحن، وراح احدهما يراقب الاخر اثناء الاكل، اكتسب كل منهما طبقة رقيقة من فتات السكر حول فمه، رفع كل منهما اصبعا دبقا الى شفتيه ولعقها.
تذكرّت، وهي في سريرها، ليلا، فراش صاحبة النزل الشمطاء، الذي كان يملأ غرفتها الصغيرة كلها تقريبا، فكرت (ايريا) في (ارسكا) ما ألطف ان تسافر مع (ارسكا) طوال الوقت وكم كان (ارسكا) جديرابالثقة وباعثا على الامان، لانه كان يمتلك نقودا ايضا وحذرا جدا،ويفترض ان يكون (ارسكا ) شخصا ذا شأن ويأخذها، اذا جاز التعبير، تحت جناحه ويحميها... ويطعمها احيانا ويشتري لها بعض الملابس، لكي لا تضطر الى... لا تضطر الى...
اكراما للمسيح آمين. كان صوت معلمتها السابقة في المدرسة الابتدائية يرنّ بألم في أذ نيها قبل ان تأوي الى الفراش مباشرة.

-6-
كان يتعين على ( ايريا ) ببساطة ، على نحو لا يمكن اجتنابه ، ان تعطي اشعارا الآن من جديد . وعلاوة على ذلك، فقد كان الجو ساخنا، والمكان منعزلا. آجر لامع، وفولاذ لا يصدأ يبهر البصر من شدّة الضياء، ويجعلك تشعر باهميتك. كان كل الوقت ينقضي في التنظيف: الارضيات، والجدران، وادوات المطبخ. حتى (ايريا) كان بودهم تنظيفها، لو استطاعوا بلوغها. يقولون على نحو متواصل " انزلي قلنسوتك على جبينك اكثر، لا نريد ان نجد الشعر في كل شيء ". وقالت المديرة " يجب ان ترتدي مُخصّرا مع ذلك المظهر ". بدت الطريقة التي ذكرت فيها كلمة " المظهر " وكأنها تظن... حسنا، كان لدى (ايريا) مبررا منطقيا يؤكد ان اية افكار من هذا النوع كانت خاطئة تماما، اذ لم يسبق ل(ارسكا) ان مسها مرة واحدة، ولم يحاول الدخول الى غرفتها قط، ولم يجلس حتى الى جانبها في مؤخرة الشاحنة على الاطلاق. من المحزن ان تكون واثقة كل الثقة. لكن الحالة قد تتحسن، وفي غضون ذلك كان شيئا يبعث للسرور الى حد ما،ان يكون هناك شيء جميل بشأنه. وفوق ذلك قامت شقيقتها بزيارة قصيرة. كانت تفعل ذلك باستمرار عاجلا ام آجلا. كانت (ايريا) هناك كمساعدة طاهية في المرتبة الثانية، والراتب بقدر ما يتوقعه المرء، واجورها تنخفض كلما تغيّرت اشغالها. وماذا يهم ؟ ليس لديها الجرأة على تقديم طلب للحصول على أي عمل افضل منه. كانت الفتيات اللاتي يتقدمن بطلبات العمل كطاهيات انيقات، يرتبن شعرهم بشكل لطيف ويرتدين ملابس جذابة ويتحدثن بصوت مرتفع ويبتسمن. جاءت (ايريا) اخيرا، وراح المدير يتفحصها بنظراته صعودا ونزولا وطرح عليها كل انواع الاسئلة: اين كان شغلك الاخير ؟ اين كنت قبل ذلك ؟ اين تمّ تسجيلك ؟ ما هو عنوانك ؟ هل انت آنسة ام سيدة ؟ الله يعلم أي اسئلة ستدور في خلدهم لتغريهم على طرحها، لو اتخذت (ايريا) اية محاولة للاجابة عليها جميعا.
لم ينجح الجهد الجهيد الذي بذ لته (ايريا) لتوفير ما يكفي من النقود لدفع الايجار، او لاي شيء اخر على غراره. لقد صرفت جميع نقودها على الاكل. كانت تأكل مقدارا ضخما، خاصة عندما كان (ارسكا) بعيدا عنها، وكان الطعام غاليا. لو سمحت لها صاحبة النزل الذي تقيم فيه بالطبخ في المطبخ، لقلّت الكلفة. كانت (ايريا)، حتى في اثناء الليل، تمضع بصوت طاحن شطيرة او تقضم قطعة سجق وهي تحدّق عبر النافذة الى السماء الصيفية وتراقب النجوم البوازغ.
اخذت صاحبة النزل تتصرف بحنق لعدم حصولها على مبلغ الايجار. " ها هي الان القشّة الاخيرة المطفحة للكأس " ، سوف لن اقف طويلا، بامكانك الذهاب، سوف آخذك الى المحكمة ان لم تد فعي جميع الد يون المستحقة عليك خلال اسبوعين. "
(ايريا) اخبرت (ارسكا) بما تواجهها من مشاكل. سوف تطردها صاحبة النزل الذي تقيم فيه . ظل يدفع اليها الصحف ويخبرها ان تجرب هذا العمل او ذاك، حتى في اعمال الخدمة المنزلية. كان يريدها ان تنتقل من مكان الى آخر استجداء للعمل، ثم يكتنفها الغضب لانها لن تفعل ذلك. انها الان بلا عمل وبلا ملجأ تأوي اليه ايضا. اصغى اليها (ارسكا)، ازدادت عيناه اتساعا واستدارة، كما يبدو، واظهر فمه حركة.
" غرفتك تلك كانت محبوبة جدا " قال اخيرا. ايّدته (ايريا).
" انه ايجار باهظ الكلفة. وانت تقولين ان الغرفة صغيرة جدا ؟ "
" الى ابعد حد . تكاد لا تستطيع الاستدارة فيها. "
" انصرفي اذن. "
" ولكن كيف اقوم بايفاء مبلغ الايجار المتأخر ؟ سوف تأخذني الى المحكمه. واين استطيع الحصول على غرفة ارخص ؟ " راح (ارسكا) يتأمل السؤال. جلس ليقود شاحنته ويفكر مليا وانطلقت الشاحنة بسرعة فائقة تنمّ عن التهوّر باتجاه الريف المنفتح.
" افرضي اني اقرضتك مالا. "
" اوه. "
" ليس هذا فحسب. وفوق ذلك... غرفة جد يدة مستاجرة في منزل ما. لا تقلقي. سوف نحد د شيئا  ما. اتركي الامر ل(ارسكا). "
كانت (ايريا) على وشك ان تنفجر بالبكاء، الا ان ذلك لن يحدث ابدا. شعرت بانفراج الغم وارتياح البال الحاحدّ بعيد، كان يتعين عليها التكلم فقط. لم تستطع ان تلتزم الصمت، ولو كانت حياتها متوقفة على ذلك.
" ما أن انصرف من تلك العجوز الشمطاء حتى استعيد حريتي ! ويكون بوسعي الذهاب الى اطراف الارض ولا احد سيعرف او يهتم ! "
كان (ارسكا) صامتا لمدة طويلة. ظهرت امامه مويجات من الفزع وتلاشت. بعد ان اجتازت الشاحنة ميلا اخر او ميلين، تكلم : " اتركي للعجوز عنوانا ما. اعطها رقم دار غير موجود. "
" ماذا ؟ أي نوع من الامكان سيكون ؟ "
" أوه، قطعة ارض صغيرة فارغة بين الدور او شيء من ذلك. "
" أتركي عنوانا، ان فكرة الدار لا وجود لها ادخلت السرور الى نفس (ايريا) واضحكتها. قهقهت على ما يدور في خلدها من تفكير طائش، وعادت اليه: " دار غير موجودة هناك... اوه، انت احد... بصدق ! "
تابع (ارسكا) السير، غضّن شفتيه. لكن عندما اعطاها (ارسكا) النقود شعرت (ايريا) بالخجل والحرج لمدة قصيرة، لانه بدا قلق البال وحزينا، وكأنه ندم على ما فعل. لكن ينوجب عليها ان تأخذ النقود. كان الشيء الاساسي هو ان تتحرر من تلك العجوز.

-7-

وهكذا قالت (ايريا) وداعا للارملة الشائبة، الني بكت وابلغت (ايريا) بعدم حاجتها للرحيل، بعد تسديد الديون المستحقة. الا ان (ايريا) لن تبقى. لم تجب السيدة العجوز باكثر من تذمر وجه متجهم، وراحت تواصل جمع اشيائها. " اين ذاهبة الان ؟ ما الذي جرى لك ؟ "
لن تُضيّع (ايريا) الوقت. في المساء اقحمت امتعتها في صندوق من الكارتون الذي حصلت عليه من البرتقال. في هذا الصندوق، وبتعاقب سريع، تم ادخال اشيائها من اغطية السرير الثلاثة، وغطائي وسادة ثوب نوم، اسفنجة وصابونه الحمام البخاري، قنينة مزيل الروائح الكريهة التي جُنّت ذات يوم واشترتها (وكأنها ستجعلها اكثر قبولا)، وبجلبة، الحذاء العالي الساق السميك البطانة الذي اعطته لها عمتها عندما... صندوق القمامة هو افضل مكان لها، اشياء مرعبة معقودة برباط. وفيها ادخلت مجموعتها الثانية من الملابس الداخلية التي احدث فيها حزامها المتهرىء ثقوبا عديدة، ثم جوابها الشتوية وبنطلونا قصيرا واسعا مزموما عند الركبة باليا جدا. اخيرا مئزرتها البيضاء واغطية الرأس، تشوّهت شارة مهنتها الان بلطخات لا يمكن ازالتها، وحروق، وبقع صدئة وخدوش. اندهشت لقلة ما تملكه من اشياء: اين اختفت الاشياء المهمة ؟ كان لديها فيما مضى معطف مبطن بالفرو، ماذا حدث له ؟ وعدد من جوارب النايلون، وكل انواع الاحذية، وزوج من الاخفاف الحاطة بالفرو، والكلوش¹ ومظلة. وكان لديها بعض الكتب ومرآة وبعض الصور. حسنا، لم تعد هذه الاشياء موجودة الان. حدّقت الى صندوق الكارتون: البياض الاكثر بياضا في العالم، أعلى الكلام المنقوش على السطح الخارجي. كان الصندوق ضيقا وعميقا مثل البئر. حياتها كانت تحت هناك، في قاع البئر... المعاطف المبطنة بالفرو، جوارب النايلون، الاحلام العقيمة. واستبدّ بها الذعر فتيبست اوصالها المرتجفة واصبحت في حالة من الجمود فيما كانت تنحني فوق الصندوق وتحدّق الى اسفل البئر. اصغت. لا بد أن صاحبة النزل قد غادرت المطبخ، كان بوسع (ايريا) ان تسمع الساعة الكبيرة وهي تتكتك، فينتابها الرعب من ضجيجها. افاقت من الصدمة العصبية وقذفت بقية حاجاتها فوق الاغراض الاخر، ربطت الصندوق باحكام، سحبت معطفها، نظرت الى قبعتها التي تعلوها طبقة من الغبار، فتحت الصندوق مرة اخرى وحشرت القبعة اسفل الجانب، تمّ كبس الجميع، كي لا تبدو للعيان. عندما اخذت الصندوق الى المطبخ، كانت صاحبة النزل هناك من جديد، واقفة بجانبها.
" ما الذي جرى لك ؟ اين ذاهبة ؟ "
" لا ادري بالضبط، لكن هذا عنوان. " اعطت (ايريا) لصاحبة النزل العنوان الذي املاه عليها (ارسكا)، وانتفخت غرورا ينمّ عن الاحتقار والازدراء. بيت لا وجود له ! هو المكان الذي تعتزم الاقامة فيه من الان فصاعدا، ويصبح بامكانها الانطلاق مع الريح على غير هدى.
" وداعا. "
" حسنا، وداعا اذن، يا (ايريا)، واتمنى لك حظا سعيدا، أسف فقط هو ما انت... " انغلقت الباب بعنف. عن أي تثرثر الحمقاء العجوز، يالها من اضاعة للوقت.
كان ارسكا) منتظرا.
جيد يا (ارسكا) العجوز.
اعتبرتها (ايريا) كما لو كانت بداية رحلة شهر العسل. كانت تبدو اكثر ميلاً للضحك، كان (ارسكا) جاداً الان. ما الذي يدور في خلده، اين سيجد لها مكاناً تسكن فيه ؟ بدأ الظلام يتجمّع الان، وكان (ارسكا) متجهاً الى الريف. دفع رأسه فجأة في اتجاه كيس ورقي زيتي المظهر موضوع على المقعد الذي يفصل بينهما. كانت (ايريا) صارمة بابتهاج، جلست منتصبة بتصلب، انتفخ ثدياها غروراً ينم عن شدة الفرح الذي يغمرها.
راحت يداها تتلمسان طريقهما على طول المقعد واطبقتا بطريقة استيلائية على الكيس الورقي. يجب ان يكون كعكاً محلى ومدهوناً بالزبد. ادوات ربط حزامها الممزق انفتحت بقوة فيما كانت تستنشق نفساً عميقاً وهي تزدرد الهواء الى رئتيها المبتهجتين. كانا قد قطعا مسافة طويلة قبل ان يتوقف (ارسكا)، وفي الظلام الصيفي قصير الامد، وضعا بعض القهوة كي تغلي. اصبح (ارسكا) ثرثاراً. قال جازماً: " وما الذي لا اطيقه،" " الذي لا اطيقه هو نوع من المرح الفاحش حيث يتوصل اولاد وضيعون وبنات الى اتفاق وتفاهم فيما بينهم، تعرفين ما اقصده يا (ايريا). الان انت تختلفين، ادركت ذلك منذ البداية. انا غلام من النمط الذي يلاحظ الاشياء. لايتعين عليك ان تخافي مني. هذا شيء مؤكد تماماً. "
بدأ وجه (ايريا) يحمّر خجلاً من آمالها السرية.
" سوف نجد لك غرفة للايجار في احد المنازل من غير ريب. ثقي واعتمدي على (ارسكا)، بوسعه دائماً ان يجد غرفة جيدة. لا كتلك الاشياء التي تهمني، لكني اعرف كيف نستطيع تهيئتها، لا تقلقي. الان بوسعك ان تبدأي بداية جديدة. ادفعي دين تلك الشقيقة العائدة لك، حتى لا تبدأ في اثارة الضجة. وسوف نجد لك شغلاً جيداً، ماذا ؟ راتب جيد. اوه ؟ سوف يكون مرض... "
ليس قبل ان يصبح (ارسكا) لطيفاً معها. اخذت (ايريا) تنضح عرقاً، شعرت بالوهن، تكاد لا تستطيع الامساك بفنجان القهوة. اخذت تدندن لحناً وتبتسم مع نفسها، وتنظر لبى الصندوق الكارتوني_ صندوقها الكارتوني_ بازدراء متصنّع. شتان بين صاحبة نزل كتلك و (ارسكا) الجيد جداً معها، جيد جداً. واصل (ارسكا) التحدث. ولاحظ، فجأة، انه ربما تكون هناك طريقة اخرى لترتيب مأوى الليلة. كانت فكرته الجديدة بان تقضي (ايريا) هذه الليلة الاولى في الشاحنة، ثم سيبدأون غداً في البحث عن غرفة. كان لديه كيس للنوم ايضاً، لذا سوف لا تصاب بالبرد، كان من المفيد جداً امتلاك هذا الشيء. ولم يكن هناك ثمة مصدر للخوف، ستكون في وضع سليم هناك. لكن اذا لم تهتم، الى مدى معين، بالفكرة، لماذا لا... لماذا لا تذهب الى كوخه ؟
" كوخك ؟ هل لديك كوخ ايضاً ؟ "
" ليس بعيداً عن هذا المكان. " مويجة من الذعر اجتازت، من جديد، وجه (ارسكا). " سرتُ بالشاحنة في هذا الاتجاه، دون تفكير تماماً... نسيته انه كان قريباً جداً. بوسعك ان تذهبي الى هناك ان شئت. "
" حصلت حقاً على كوخ خاص بك. يا للعجب! "
" كان لدى (ايريا) صورة ذهنية لواحدة من تلك الاكواخ الصغيرة الخشبية، تذكرت انها شاهدته، من بيتها في الريف على شواطيء البحيرة. لم يكن بوسعها ان تتذكر لاي غرض كان يستخدم بالضبط. الاكواخ التي يمكن ان تدعوها (قمرات)، مبنية من الواح ى خشب ثقيل وثخين. كان كوخ (ارسكا)، من دون شك، شيئاً من هذا الطراز. بدأت رحلة (ارسكا) بالشاحنة، وانتقلا بعيداً. كان متوتراً. قطرات من العرق تلألأت على جبينه. فهمت (ايريا): لا يرغب المرء دائماً اطلاع الغريب على كوخه الخاص. بدت الشاحنة كأنها تشارك مزاج صاحبها القلق، تتقدم حينا بقفزات، وتتوانى حيناً اخر، وتصدر صريفاً وصوتاً حاداً غريباً احياناً اُخر. انحرافاً عن الطريق الرئيسية باتجاه مجاز ضيق، تكاد تعترض سبيله اغصان متدلية كشطت وضربت بعنف وصخب سقف الشاحنة فيما كانت تشق طريقها ببطء وحذر، يقظة مثل حيوان الغابة، وكأنها تفتش عن الاثر بهوائيات غير مرئية. كان ظلاماً حالكاً. توقفت الشاحنة. كانت الجهة التي امام الشاحنة، مضاءة بالمصباحين الامامين للشاحنة، مبنى من جذوع الاشجار. قفز (ارسكا) الى تحت، بعجلة في ما يبدو. ترجّلت (ايريا) ايضاً.
" ولكن ما اروعه! هل هو حقاً لك ؟ "
" ليس خصوصياً على الاطلاق. "
كان المبنى مشيداً على قاعدة صخرية، وله شرفة، كانت هناك ثمة ازهار حوله، ازهار كبيرة بيضاء زكية الرائحة، كيف تسنى لها ان تنمو على الصخر بهذا الشكل؟ هناك سارية علم ايضاً، وثمة درجات تقود الى اسفل، وعندما اصغت (ايريا) بدقة اصبح بوسعها ان تسمع صوت البحر. " الا ندخل؟ " سألت (ايريا) بهمس. ذهبا على امتداد الممر. في موضع ما كان الممر زلقاً، زلّت قدم (ايريا) الى الامام، ونظرت الى الارض تحتها، فشاهدت وجود طين على الصخرة، طين رمادي زلق، تذكرت ممراً حقلياً كانت قد تعرّفت عليه في منطقتها الريفية في طفولتها. ممر طيني. وكان لذلك الممر مواضع زلقة في الجو الرطب، ومع ذلك عندما كان جافاً يصبح رمادياً وخشتاً ومليئاً بالصدوع. شعرت وكأنها تتلمس الطين الجاف تحت قدمها، وتذكرت كيف كانت تقفز، باستمرار، فوق المواضع الزلقة، كي لا تتلطخ قدماها العاريتان بالوحل. استبد بها سأم غريب. فتشى (ارسكا) جيبه بدقة. بدا وجهه، في وهج المصباحين الامامين، متجهماً. لا يبدو، الان، انني جلبت معي المفاتيح. " لا تقلق، سنفتح الباب بطريقة ما. "
صعد الى الباب، وهو بخرج من جيبه شيئاً معدنياً صغيراً، وراح يعبث بالقفل. انفتح الباب. دخل (ارسكا) مستخدماً مشعله الجيبي، وتبعته (ايريا) في الدخول. لم احصل بعد على الكهرباء، اتفهمين... يجب ان نفعل شيئاً بشأنها... ولكننا يمكننا الحصول على ضوء من هذا المصباح النفطي، على علاّته. " اشعل (ارسكا) عود ثقاب وانار المصباح، الذي كانت تعلوه كرة زجاجية واسعة.
ليس جيدا جداً، ولكن لا بأس به. "
كان الضوء الاصفر المريح للنظر يخفق اثناء اشتعاله، فهو يومض تارة، ثم يوشك ان يخبو تارة اخرى. شاهدت (ايريا) مستوقداً مفتوحاً مع كومة من حطب الوقود الى جانبيه، رأت منضدة ومقاعد طويلة وصواناً ذا واجهة زجاجية وبداخله خزف صيني نفيس، ورفاً يحتوي على اعداد كبيرة من الكتب. ماذا يريد ارسكا من هذه الكتب العديدة، تساءلت باندهاش. شرعت تتمشى حول الغرفة، شعرت بسجادة على الارض من جلد الدب الاسمر خشنة النسيج، ازدادت نبضات قلبها سرعة. تلمست الكتب، فتحت باب صوان ووجدت اغطية سرير من الكتان، بعضها ملابس بيضاء وامضة، وبعضها بلون ازرق باهت او احمر صبياني برّاق، وعندما سحبت كيس وسادة مطرزاً شاهدت عليه الحرفين (E.B) .
" هل كل هذا لك حقاً ؟ " سألت بصوت حالم. " لم يسبق لي ان تخيلت... "
" حسناً، اجلسي... سوف اشعل النار... انظري، لم امتلك هذا المكان الصغير منذ زمن طويل... لا ادري ما اذا سأحتفظ به ام قد ابيعه واكسب ربحاً جيداً. لنبحث عن شيء نأكله، يوجد طعام في هذه الاصونة... توجد بعض العلب من الطعام المحفوظ هنا. هذا هو الموقد الغازي في هذا الموضع المنعزل، انظري، ليس ثمرة عمل طويل. هنا ايضاً بعض الزجاجات، يمكننا ان نتناول شراباً. لم تكن رغبتي في ممارسة الجنس. لكن على كل حال، يمكننا الانغماس في الشراب هنا لمدة قصيرة، اليس كذلك ؟ "
" لكن اين تنام ؟ " سألت (ايريا) اخيراً.
" هنا . " ببطء، ببطء شديد، تحرك (ارسكا) الى داخل حجرة الجلوس الرئيسية، وفي يده المشعل، وفتح باباً آخر. " تفضلي، هذه لك، مكان مناسب لغفوة، الا تظنين ذلك ؟ "
كانت الغرفة تضمّ هيكلين من اسرّة النوم، مصنوعين من خشب مخطط لامع وصقيل، كانت الافرشة مجزومة. شعاع المشعل اظهر شرعت (ايريا) ترتجف من قمة رأسها الى اخمص قدمها بطريقة تعبّر عن الشك. التفتت بحياء الى (ارسكا)، عندما اتخذت (ايريا) خطوة باتجاهه. بدت على وجهه امارات الذعر عندما كان يتراجع عبر غرفة الجلوس المظلمة، ومعه المشعل. تلمست (ايريا) طريقها خلفه.
" ما الامر ؟ "
" لا شيء. "
لقد هدّأ من روعه الان، وكان واقفاً بجانب المدفأة " من الافضل لنا الذهاب الى المدينة برغم كل شيء. بامكانك النوم في بيت الشاب، سوف اتدبر الامر، بطريقة ما. "
" ولكن سوف يكون المبيت هنا جميلاً جداً. "
" هيا. "
" لكني احب جداً ان انام في فراش مثل ذلك الفراش. "
ظلت اصبع (ايريا) السبابة الصغيرة الممتلئة تؤشر في اتجاه غرفة النوم. وقفت هناك بتذلل وتضرّع، امرأة قصيرة وبدينة. اطلق (ارسكا) النار الى الامام فاحدث هديراً مدوياً ومفاجئاً، ولكن بعد ان اتخذ خطوة باتجاهها كبح جماح نفسه من جديد، وتراجع.
" هيا، لنذهب. "
" لا،" همست (ايريا).
تلمست يد (ارسكا) شيئاً ما في جيبه. ابقى ظهره في مواجهة (ايريا). ارتجف صوته غيظاً وفزعاً. " امرأة غبية! يالك من عاهرة حقيرة! لم جلبتك الى هنا ؟ "
" لا، لا! " تراجعت (ايريا) نحو الباب المغلق. عاد (ارسكا) ثانية الى هدوئه. " حسناً. لنذهب. عودة الى المدينة. انت فناة لطيفة يا (ايريا). اود التحدث اليك. لكن البشر... مثل الذئاب، اتفهمين ؟ ... لذا فمن الضروري. لنذهب. "
اطفأ (ارسكا) المشعل، ما ان خرجا الى الظلام حتى اغلق الباب خلفهما. ادركت (ايريا) بانه كان يلبس قفازين جلديين، كانا بحوزته طول الوقت. تحركا باتجاه الشاحنة، كانت (ايريا) تتمشى امام (ارسكا). كانت تجر قدميها على الارض جراً، حتى ادواتها كانت تبدو ثقيلة، مسمار القدم على اصبع قدمها الكبير بدأ يؤلمها، اصبحت كل خطوة اصعب من سابقتها. كان اخمصا قدميها يبدوان كأنهما ملتصقتان بالارض. كان الظلام مقيداً وخانقاً كالكيس. انتزعت نفسها بجهد جهيد في محاولة الصعود الى درجة مقصورة السائق. يا لها من درجة عالية، لقد اصابت ظهرها بألم. كانت على وشك ان ترفع كامل جسمها لولا انها أرخت قبضتها عندما اضاء ضوء خلفها. ادارت رأسها واطلقت صرخة حادة: كان (ارسكا) هناك، مسلطاً ضوء المشعل عليها، وكانت يد (ارسكا) مرفوعة، وقد عمرها ضوء المشعل. ازدادت اليد اقتراباً، صرخت (ايريا) صرخة حادة، احكمت اليد قبضتها، صرخت ثانية، صرخة ضعيفة جداً..