المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غبطة الممرات



ريان الشققي
21/02/2007, 08:22 AM
غبطة الممرات

اللون الأبيض أعمى نظري، هو في كل اتجاه وفي كل زاوية، بعضه ثابت وبعضه متحرك، أخذ يرمقني ويترصدني، منذ دخولي وهو يرسل سهامه نحوي، رأيي حتما سيتغير حياله، ممرات وممرات ومصاعد وحركة دائبة، ها هي الغرفة المطلوبة، باب موصد يعلوه ضوء أحمر، لا أحب الأحمر أيضا وهو يمتزج مع صراخ اللون الأبيض في كل مكان، الخطر يقترب والعمر يداهم أوقاتي الماضية، جلست متماسكا على المقعد، عظمة الحوض تلامس الخشب الأبيض، والعمود الفقري يتنضد على الجدار ويطبع نتوءات متعرجة محاطة بهالات بيضاء، في الداخل جرح ينز في الخفاء، لا أحد يراه أو يسمعه، الغرفة أمامي مقفلة والضوء الأحمر تزداد حدته لحظة بلحظة، وأنا أقرأ بين لحظة وأخرى: غرفة التنظير الشعاعي. حرارة البروتستات تعلو وتعلن الحرب على الجسد، أنين صامت في الأسفل يصل جزء منه إلى خلايا الدماغ، هو لا يتعطل عن الحركة بل عن التفكير والانطلاق، وهو لا يجرؤ أن ينتقل إلى مسامات الكون البعيدة كي لا أخاف فأقعد ولا أقوم، توازن حذر شفاف، وهناك ضحكات تنطلق من الغرفة المجاورة لغرفة الأشعة، ضحكات تعلو ثم تخبو مختلطة بالكلام والأكل، مشروع سعادة غامرة للقلوب، أحسست برذاذ من الطعام شلالا من أفواه تأكل وتتكلم وتضحك ثم تضحك، الباب مغلق تقريبا إلا من قيد إصبع، تنحبس فيه الضحكات ثم تنفجر نحو الممر الأبيض، تعلن الفرحة والسرور وتغمر الممرات البيضاء والمصاعد، والجرح في الداخل يتقد ويتسعر، يكشر عن أنيابه ثم يهاجم نهايات الأعصاب الحسية، يهتك ستر الخلايا التفكيرية ويحكي للدماغ حكايا لا تنتهي، ما هو الأسوأ! ما هو الآتي! ماذا سيجدون هنا في هذه الغرفة ذات الضوء الأحمر! ثم انتبهتُ إلى نفسي تتمتم: إنه قسم العظام، العظام البشرية، أعضاء الجسم البشري، الهيكل الذي يحملنا ويحمل العبء في الحركة والنزال مع الحياة. تململتُ ورفعت طرف مقعدي عن الخشب الأبيض، ونبض الألم يرتفع ويتزايد، انفتح باب غرفة الأشعة وخرجت منه ممرضة، اتجهتْ نحوي قائلة:
- أين الورقة.
مددت يدي نحوها بعبوس وسألتها:
- لماذا حولوني إلى هنا، أليس هذا قسم العظام؟
سحبت الورقة من يدي قائلة:
- نعم إنه جناح العظام وهذه غرفة الأشعة التابعة لهذا القسم، حولوك من جراء الازدحام في أشعة العيادات الخارجية.
.. ومازالت الضحكات تتعالى والكلام يختلط في صداها من كل حدب وصوب، إنها حفلة تنكرية أم حفلة عرس، في المستشفى!! اتجهت بنظري نحو الغرفة المجاورة ثم نحوها علامة الاستنكار من الضحكات والجلبة، أومأتْ برأسها ورفعت حاجبيها الدقيقين مبتسمة ثم اختفتْ وأوصدت باب غرفة الأشعة خلفها، الضوء الأحمر يسطع، وقسم العظام يتمدد من الضحكات في الممرات، أسندت ظهري إلى الجدار أنتظر دوري، آلاف الومضات في خاطري تحثني على الفزع ونبضات تخرجني من الدنيا وأحلامها الوديعة، قالوا عليك بالتصوير بالأشعة الصوتية من الأسفل، البروتستات خداعة، انتبه، وأخافوني ثم وضعوني على جناح الرعب يطير بي ثم يهوي بي في مكان عميق ويحبسني في لجة مظلمة، أستيقظ من جديد وأعود إلى رشدي ثم تنطمس أفكاري إلى الهاوية مرة أخرى، طال انتظاري وتحجرت عظامي، قلت لنفسي: لأتمشى قليلا في الممر . ومازالت الضحكات تتعالى والقهقهات تتمازج مع الكلام، هم يأكلون ويمرحون، نظرت إلماما من فتحة الباب فلم أر إلا ضحكات وضحكات، خرجت الممرضة مرة أخرى فأشرت إليها وهي متجهة بعيدا عني فقالت: جاءتنا حالة مستعجلة أرجو الانتظار . ثم ذهبت وابتلعها الممر الأبيض، العقل في عمل والبال في حراك وتوتر، والضحكات تشغلني تارة وتزعجني تارة، مهموم مهموم، عجبي من النتيجة، ما هي! أريد أن أعرف، لماذا الانتظار، هي الدنيا هكذا انتظار في انتظار، ثم ماذا! ضحكات وضحكات، ثم خبت الضحكات وتحول الهرج والمرج إلى كلام ومحادثة، طرق مسامعي صرير مفاصل الباب، صوت حاد يتداخل مع أجواء اللون الأبيض في الممرات، خرج من الغرفة كرسي متحرك ثم خرج آخر ثم تبعهما آخر، نظرت إلى الداخل فإذا بطاولة عليها بقايا من طعام وشراب وكرسي متحرك فارغ إلى جانب السرير وعلى السرير شخص متمدد نصفه الأسفل مسجى بالبياض، هو في مقتبل العمر وهم كلهم كذلك، يتحركون بأيديهم، خرجوا وقد انتشرت الضحكات إلى الأجواء والممرات وتبدلت إلى ابتسامات مألوفة منتعشة، وأضحى المقعد الخشبي وسادة طرية، وها هي الجدران خضراء تزهو، توقف الجسد عندي عن الإيلام، وابتلع العقل كل الألوان، مزجها بعفوية وحللها بأريحية وها هو يرسلها قوساً للمطر.

زاهية بنت البحر
23/02/2007, 10:48 PM
ريان الشققي أخي المكرم قرأت القصة منذاللحظة الأولى لنشرها ..أعجبت بها حدًا ,ولكنني وقفت أفكر بكل ماجاء فيها من دروس تفيدنا في الحياة في زمن باتت فيه الأوجاع لاتستثني جسدا دون مداهمة تكون أحيانًا فتاكة ,سبحان الله عندما نجد من يبتسم رغم المرض ورغم ملازمة الكرسي المتحرك نسعد ,ونحزن عندما نجد من يتحرك على رجليه وهو مهموم متأفف غير راضٍ ..فلنجعل السعادة ملازمة لنا رغم كل شيء مادمنا لانستطيع تغيير الواقع المقدَّر..دمت مبدعًا متميزًا ..
أختك
بنت البحر

ريان الشققي
05/03/2007, 08:40 AM
تحية لبنت البحر الشامخة ولك الشكر الأوفى على المتابعة
ريان

عبدالرحمن الجميعان
05/03/2007, 12:40 PM
هذا النوع من القصص، تضيع فيه الحبكة، وتتداخل الأحداث، وتذوب فيه الشخصية أو تتماهى مع الحدث، القصة فيها سرد طويل استطاع كاتبها أن يطوف بنا ممرات المستشفى و كأننا مع المريض، وما من شك أنها قدرة إبداعية، وقد يكون أطال الوصف ليشعر القارئ بالملل الذي يعاني منه المنتظر هناك والمريض..
هي وصف لحالة في المستشفى، أكثر منها قصة قصيرة تعالج واقعا، فالحبكة والعقدة لم يتضحا تماما في السرد، وضياع الشخصية الرئيسية بين ركام الممرات.. أرجو أن نرى في المرات القادمة أكثر حبكة و اعمق فكرا و سردا.........

ريان الشققي
06/03/2007, 09:26 AM
الأخ الكريم عبدالرحمن
حياك الله،
لا أراني اتفق مع ما تفضلت به : (هي وصف لحالة في المستشفى، أكثر منها قصة قصيرة تعالج واقعا) بل أراها تعالج واقعا ملموسا جدا بما جاءت به القصة أو غيره مما يماثله، وهي بالمقابل تعالج واقعا يجب أن يكون وقد يكون في المستشفى أو خارجا، الطرح لابد أن يأخذ مجراه في الواقع ويتم إسقاطه على الحالات النفسية للبشر أينما كانوا، وهذ رأيي أيضا كمتبصر للنص بعد أن كنت كاتبا له،،،

الحبكة ناصيتها معقودة كما أراها وأرجو أن يدلي آخرون برأيهم، وتباين الآراء جيد أحيانا...

المهم لك تحيتي الخالصة وتقديري
ريان

عبد الحميد الغرباوي
06/03/2007, 09:58 AM
السلام عليكم،
في هذا النص، يدعونا الكاتب ريان الشققي إلى أن نؤنس وحدة الراوي في ممر من ممرات مستشفى، ريثما يأتي دوره لإجراء فحص طبي..
بالطبع الدعوة مقبولة، و ما شاهدناه، مع الراوي، لا يعدو أن يكون مجرد صور عادية، بالنسبة لنا ، نحن الأصحاء، و الصحة، طبعا، تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى،..
أ ليس ذلك تنبيها من الكاتب، إلى وجوب أخذ الحذر، و الاهتمام بالصحة تجنبا لموقف، يشبه موقف الراوي؟...
و لأن الراوي المريض، مضطرب النفس، لا "خاطر" له ،فعلى الممرضين و الممرضات و الأطباء و الطبيبات ألا يضحكون، و ألا يثرثرون، و ألا يأكلون، فقط لأنه هو مريض، لا شهية له، و لا رغبة له في الضحك و الكلام..و عليهم بالمقابل، أن يهتموا بصحته..
يبدو النص مغرقا في الخصوصية: " البروتستات"..حالة مرضية، قد يكون الكاتب عاشها، فكتب عنها النص الذي أمامنا..و لو ترك أمر المرض غامضا، ليسقط عليه القارئ،حالة قديمة عاشها ، لكان ذلك أفضل...على الكاتب ألا يترك القارئ في حياد..
و لولا اللغة السلسة، و القفلة التي حملت نفحة جمالية تليق بنهاية لقصة قصيرة، لقلت إنها خاطرة بديعة البيان، أو بضع فقرات مقتطعة من رواية أو من سيرة ذاتية..
مودتي

ريان الشققي
08/03/2007, 02:53 PM
عزيزي الناقد عبدالحميد
في الحقيقة أسلوبك النقدي غير مستساغ لدي، وليس رأيك، فالرأي له احترام مهما يكن والنص في المنتدى ولا أعيب على أحد رأيه وإنما قد أتفق أو لا أتفق، وأنا لا أدعو أحدا لأي شيء كما ذكرت أنت مع أنني أشكرك على قبولك الدعوة، وإنما أكتب نصا وأراك تحكم على الخصوصية دون دراية وأن الكاتب مر بالظروف وما إلى ذلك، هذا ليس بأسلوب نقدي علمي وهي إن كانت قصة أم خواطر لا يهم ولعلي أرى شيئا غير النقد في ثنايا ردكم،، أم أني أراك لم تفهم الهدف من النص الذي فهمه أغلب من قرأه وهو أن الحياة جميلة مع ما يعتريها من آلام ومنغصات، والعلاقة التي تربط الأسفل بالأعلى من الألم إلى التفكير، إلى هؤلاء المقعدين المسرورين رغم الإعاقة، وليس للنص علاقة بالأصحاء كما أسلفت أنت في ردك ، أرجو العودة إلى النص إن أردت ذلك وقراءة الخاتمة ودلالاتها التي يبدو أنك أهملت عنها الاهتمام الكافي. لك تقديري .

مع التحية
ريان