المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حين يزدان الشعر بالتمازج العربي الأمازيغي والفارسي



رشيد يلوح
17/01/2010, 06:23 PM
يقوم هذا المقال على نية كشف شكل خاص جدا من أشكال التعبير الشعري عند المسلمين، وجدناه يحضر في الشعر الأمازيغي قديمه وحديثه، كما وجدناه يروج بقوة في الشعر الفارسي يخدم قضايا الحكمة والمعرفة والإنسان، وحينما نتحدث عن اللغة فنحن في الحقيقة نتحدث عن الانسان الذي تمثل لغته مترجما وفيا لمكنوناته، وإذا كانت اللغة كما يقال حصان الفكر والمعتقد، فماذا يعني ذلك الاقتراب الحميمي بين العربية ولغات الشعوب المحتضنة للإسلام؟
ماذا يعني ذلك الحنان الذي نسج بين لغات كثيرة واللغة العربية؟
لقد حقق الإسلام العظيم انسجاما رائعا بين اللغة العربية ولغات الشعوب التي استقبلته، ووجدت لغة القرآن في صدور المؤمنين من شعوب الإسلام الجديدة شوقا وترحيبا كبيرين، فانطلقت العقول في توليد كل ما تستطيعه من أشكال الإبداع المعبرة عن الانصهار في الإسلام وابتكار كل ما يعني الاستقواء بلغة القرآن، كلام الله ومعجزة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله عزو جل: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).
وإنه لمن دواعي الاندهاش فعلا استمرار علاقة الحب بين اللغة العربية واللغات التي احتضنت الإسلام إلى يومنا هذا، علاقة حب لم تستطع قرون الظلام والفتن أن تطفئها وتفسد التحامها واندماجها. وهي العلاقة التي نلمسها في ارتباط العربية بالأمازيغية في الغرب والفارسية في الشرق. انصهرت هاتان اللغتان منذ قرون في الإسلام واستمر ارتباطهما بالعربية دون انقطاع، والذي يطلع على تاريخ اللغتين سيصادف المحاولات الحثيثة للأعداء من أجل سلخهما عن العربية وإحداث فصل بينهما، لكن النتائج تخيب آمالهم .
سنحاول في هذا المقال الوقوف مع الأمازيغية والفارسية في مظهر من مظاهر انسجامهما مع العربية، وهو مشهد لغوي مثير للإنتباه، خاصة وأنه يرد بشكل متشابه في شعر اللغتين ليؤكد على مبدء القرابة والحميمية، إذ أبى الشاعر المسلم الفارسي أو الأمازيغي إلا أن يعكس معاني تلك الحميمية والتزاوج بين لغة أرضه ولغة دينه، حميمية تغيب معها خلفية الانفصام والتقابل، إنها روح واحدة حلت في لغتين، انسابت في مفرداتهما كما ينساب الماء الزلال في تفاصيل المروج الزاهرة.

بين العربية والأمازيغية:
مع الشاعر بن عبد السميع الرسموكي:
استطاع الفقيه أحمد بن عبد السميع الذي عاش في أواسط القرن الحادي عشر الهجري أن يؤلف أشهر قصيدة زاوجت بين العربية والأمازيغية، ذكرت بعض المصادر أن مناسبتها كانت في أروقة إحدى المدارس العلمية بمدينة فاس المغربية، حيث تبارى الطلبة السوسيون مع الفاسيين في نظم قصيدة لن يستطيع الطرف الآخر فهمها، فكانت هذه القصيدة من قريحة الطالب بن عبد السميع، إلا أن المختار السوسي رحمه الله استبعد هذه الرواية في موسوعته المعسول. وأيا كانت مناسبة هذه القصيدة فقد وفقت في تقديم العربية إلى جانب الأمازيغية في حلة جذابة وسياق شيق، إذ تحكي وقائع عاشها الفقيه عندما كان يتنقل بين القبائل في إحدى رحلاته، فهو يصف بمنتهى الدقة أحوال الناس من فقر مدقع وبخل و صراعات مختلفة.
ولعل من أجمل ما أبدعه شاعرنا مطلع القصيدة الذي كان ثناء على الخالق سبحانه وتعالى ثم الصلاة على نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قال:

اسم الاله في الكلام إيزوار(سابق)
وهو على عون العبيد إيزضار (قادر)(1)
وهو الذي له جميع تولغتين(الأمداح)
وهو المجير عبده من تومرتين (المتاعب)
وبعده على النبي تازالّيت (الصلاة)
أعظم بها أجرا ولو تاموليت (مرة واحدة)

لقد جمع الرجل هنا بين جمال المعنى ودقته، وتكامل الموسيقى وتناسب الإيقاع، ولا يخفى ما يستلزمه هذا العمل من الجهد والابداع، ولعل توفر أسباب الذهاب والاياب بين الأمازيغية و العربية وانتفاء العوائق النفسية والعقلية هو ما سهل الأمر على الرجل رحمه الله، لذلك نجده ينطلق بكل تلقائية ليمتع إخوانه الفاسيين بعرض أحداث رحلته التي استهلها بسبب خروجه في رحلته، قال:
سافرت دهرا ووصيفي وينزار (اسم خادمه)
في سنة قد قل فيها أنزار (المطر)
والقصد في السفر جوب تيميزار (البلدان)
والسير في خيامها و إيكيدار (الحصون)
فلم نزل نجوب أرضاف أكال (الأرض)
ونقتضي العجب ليلا و أزال (النهار)
حتى حللنا بعد سير أوسان (أيام)
في قرية يدعونها ب أورفان (اسم قرية)
أول ما رأته فيها تيطي (العين)
والظن في لومهم أوريخطي (غير مخطئ)
قوم عجاف نزلو بـ"تاكنيت" (كدية)
قد اقتنوا خوف الضيوف تايديت (كلبة)
وقد نزلنا عندهم تيووتشي(وقت المغرب)
وكلنا من أمسه أوريشي (لم يأكل)
ما رحبوا بنا ولا إيويندي (قدموا)
من القرى شيئا ولا أوسيندي (حملوا لنا)

ويستمر فقيهنا الشاعر في وصف محنته مع أولئك القوم دون أن يضعف تماسك اللغتين العربية والأمازيغية، وفي الوقت نفسه حافظت الصورة الشعرية على وضوحها ومتعتها.وقد يحير القارئ الكريم خاصة الذي يفهم المفردات الأمازيغية في أمرأي اللغتين تقدم الأخرى، هل الأمازيغية هي التي تقدم العربية هنا أم العكس؟ وبصيغة أكثر وضوحا: أيهما تخدم الأخرى في هذا المقام هل الأمازيغية أم العربية؟ لاشك أنه سؤال جدير بالتأمل، إلا أن جوابه في اعتقادنا يبقى حبيس قلب الشاعر ووجدانه، ذلك الطالب السوسي الذي هجر رسموكة في سوس نحو فاس في أحد الأيام من اجل امتياح العلوم، يطوي المسافات طيا سقطت معه الحواجز وعاشت فيه عناصر وجوده في سلام شامل.

مع قصيدة الغريب:
حصلنا على هذه القصيدة من خزانة المختار السوسي(2)، وهي لشاعر سوسي معاصر اسمه عبد الله بن إبراهيم البوبكري أنشدها عام 1995م، ويحكي هذا الرجل - الذي يبدو أنه تأثر بمنهج قصيدة ابن عبد السميع-معاناته خلال رحلة قطعها في القفار، ووصف فيها قساوة الطبيعة وشدة السفر وانعدام الزاد، وأشار إلى تباين معاملات الناس، كما أكد فيها على مضامين أخلاقية ووعظية، وتتميز لغة هذا النص باندماج أعمق بين العربية والأمازيغية.
يفتتح الشاعر البوبكري قصيدته بمطلع أثنى فيه على الله سبحانه وتعالى وقابل به مطلع ابن عبد السميع، يقول فيه:
الحمد لله القدير إزوار(سابق)
في قصة الغريب غكي نودرار(فوق الجبل)
وما جرى له غوبريد ياكوكني(الطريق البعيد)
والوعر والقفار دي إجرفني (والصخور)

في قصيدة القرابة والحميمية، التي تتعالق فيها لغتان لاتجمعهما إلا رابطة الدين، مضى شاعرنا الأمازيغي يسرد أحداث رحلته المضنية إذ يقول:
البرد في الجبال إنساكيسني (بات فيه)
والحر في السهول إكلا كيسني(ضل فيه)
وقد يبيت خائفا إغ إجلا (إذا ضل الطريق)
في سبسب الخلاء زوند إغ إخلا (كالمجنون)
كم سار وحده إمون ديسفني (مشى بجانب الوديان)
يشرب ماء باردا أرفني (حتى منطقة إسمها إفني)
ورب ليلة قضاها غودرار نتبقال(في جبل تبقال)
قضاها فوق ربوة زند أيلال (مثل الطائر)
ورب أخرى بتلات نغ أكدال(في رابية أو روض )
بقرب عين ماؤه زوند أسلال (مثل )

نلاحظ أن النص يستعمل مفردات طبيعية وجغرافية متنوعة بشكل متناوب بين العربية والأمازيغية، ونفس الشئ نلاحظه بالنسبة لتوظيف الأفعال والأسماء والحروف، وهذا من ناحية يؤكد مسألة انصهار اللغتين في بعضهما البعض، ومن ناحية أخرى يكشف تمكن الشاعر من اللغتين و مرونته في التعامل معهما والتنقل بينهما شكلا وروحا، الأمر الذي يعكس جانبا من وجدان الانسان الأمازيغي المسلم الذي سقي بماء التوحيد واستغلظ واستوى على سوقه بشمس الاسلام الساطعة، لا حدود هناك ولا وسائط.
بعد تصوير الرجل لمشاهد تنقلاته البرية الصعبة، يمر إلى مرحلة أخرى يصف فيها وضعه وحالته النفسية في إحدى ليالي الغربة الموحشة، يقول:
كم ليلة أضاعها في أخربيش (في خربة)
حول الرماد أور إديل أور إفريش(بدون غطاء ولا فراش )
وشمعة بقربه أركاتلا(تبكي)
في ليلة مظلمة أرد يس يلا (يبكي معها)

وخلافا لحالة الشاعر بن عبد السميع التقى الشاعر البوبكري في رحلته أناسا كراما ولئاما، فكان يتأرجح بين مقامي المحبة والكراهية، فعبر عن ذلك قائلا:
وللكريم أفوس إكان أومليل (يدا بيضاء )
عليه في الغربة حتى أمزيل( الحداد )
فمعشر الكرام هان حبنتي (يحبونه)
ومعشر اللئام هان كرهنتي (يكرهونه)

وفي النهاية يودعنا شاعرنا السوسي، بموعظة حسنة قال فيها:
عليك بالفعل الجميل أكرا (ياهذا)
فإن ذلك إفولكي بهرا(جميل جدا)
قد انتهى بحمد الله أفلان (يافلان)
لعل ربنا يهدي يان إجلان(الضال)


فارسية في ثوب عربي:

تدرج في الاندماج:
في الوقت الذي استقبلت فيه الأمازيغية العربية في المغرب، كانت الفارسية تعيش عمرا جديدا إلى جانب لغة القرآن في المشرق، فبعد دخول الاسلام إلى بلاد فارس أصبحت اللغة العربية لغة رسمية في كل المجالات الحيوية، وتفاعلت معها اللغة الفارسية البهلوية التي استمدت عناصر كثيرة من العربية، فسميت فيما بعد بالفارسية الدرية نسبة إلى(دربار)أي البلاط الذي اضطر الشعراء الفرس إلى القاء قصائدهم المدحية فيه بلغة يستطيع فهمها الخلفاء والأمراء، ومنها ولدت الفارسية الجديدة المتداولة اليوم في إيران والتي تشكل الكلمات ذات الأصل العربي ستون بالمائة من مجموع كلماتها.
هذا اللقاء المتدرج بين العربية والفارسية عرف مراحل مشرقة عبر عنها الأدباء المسلمون الفرس خاصة من القرن الخامس إلى التاسع الهجري من خلال نصوص رائعة بقيت شاهدة على مدى إخلاص مؤمني بلاد فارس وتعلقهم بلغة الدين الذي أخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهاهي نصوص الجامي وحافظ ومولانا وسعدي والعطار وغيرهم من الشعراء أرباب الحكمة والعرفان تقدم العبقرية والسمو في اندماج لغتين كانتا حتى الأمس بعيدتين عن بعضهما بكل مايحمله البعد من معنى.

مطلع عربي لقصيدة فارسية:
دأب العديد من الشعراء المسلمين الفرس على استهلال قصائدهم بكلام عربي جميل غالبا ما يكون ثتاء عن الله سبحانه وتعالى وصلاة على نبيه وآله عليهم الصلاة والسلام، تماما كما يفعل إخوانهم المسلمون الأمازيغ، ومن تلك المطالع ما أنشده الشاعر العارف عبد الرحمان الجامي الذي عاش في أواخر القرن التاسع الهجري، إذ يحمد الله سبحانه وتعالى، ثم يشير إلى أنه لافائدة من كثرة الكلام والأفضل له السكوت، يقول الجامي:
به صفات الجلال و الاکرام
لله الحمد قبل کل کلام
هيج سودي نديده، جند زيان؟
جامي از كفت و كو ببند زبان

أما شاعر الغزل والأخلاق في القرن السابع الهجري سعدي الشيرازي، فيفتتح إحدى قصائده بالثناء والحمد، مازجا العربية بالفارسية، امتزاج اللون بالماء و العطر بالهواء:
ثنا و حمد بي‌ بايان خدا را
(الحمد والثناء لله بلا نهاية)
كه صنعش در وجود آورد ما را
(الذي أبدع في صنعنا)
الها قادرا بروردكارا
(إلاها قادرا ربا)
كريما منعما آمرزكارا
(كريما منعما غفورا)
جه باشد بادشاه بادشاهان
(ماذا يساوي ملك الملوك)
اكر رحمت كني مشتي كدا را
(إذا رحمت ياربي عبدك الفقير)

الشاعر حافظ الشيرازي رمز الشعر الغزلي الصوفي، لا يكاد يخلو بيت إيراني اليوم من ديوانه الذي عادة مايستخدم لقراءة الطالع، والذي اختار له مطلعا يخاطب فيه الساقي و يخبره بأن الحب يبدو سهلا في بدايته لكنه لايلبث يقع في شباك المشاكل، ثم يقدم صورة غزلية يهب فيها نسيم الصبا وترتخي معه ظفيرة المعشوق المعطرة وهو المشهد الذي أذهل قلوب الناظرين.يقول حافظ الشيرازي:
الا يا أيها الساقي أدر كأسا و ناولها
كه عشق آسان نمود أول ولي افتاد مشكلها
به بوي نافه‌اى كاخر صبا زان طره بكشايد
ز تاب جعد مشكينش جه خون افتاد در دلها

معنى عالي في لغتين متعاونتين:
عرف الفرس عبر التاريخ بقوم الحكمة والعاطفة، ويكفي لك أن تلقي نظرة على آثارهم الفكرية والروحية الضخمة لتكتشف أن القوم خزائن للمعاني، لذلك اشتهر بينهم شعر الحكمة والعرفان والأخلاق،ولاعجب أن تجد المواطن الإيراني البسيط ينشد أبياتا للشاعر حافظ أو سعدي للتعبير عن مشاعره وخواطره.
وقد استفاد أولئك الشعراء الذين يعتبرون اليوم رموزا للثقافة الفارسية من العربية، ووجدوا في لغة النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم ما يحتاجونه من مفردات لغوية ومعنوية لتبليغ معانيهم الدقيقة، ونظرا لعدم كفاية المجال سنكتفي بذكر نماذج فقط لذلك التلاقي العجيب بين العربية والفارسية.
عندما أراد سعدي مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنشد أبياتا غلبت عربيتها فارسيتها، فقال:
كريم السجايا جميل الشيم
نبي البرايا شفيع الامم
امام رسل، بيشواي سبيل
امين خدا، مهبط جبرئيل
شفيع الورى خواجه بعث ونشر
إمام الهدى صدر ديوان حشر

نلاحظ كذلك أنه تكثر في ثنايا الشعر الفارسي أبيات عربية تشرح مضامين سابقتها الفارسية أو العكس، الأمر الذي لم يرد في التجربة الأمازيغية السوسية.في هذين البيتين لشاعر العرفان الكبير مولانا جلال الدين الرومي توضح الفارسية المضمون العربي كما يلي:
وقطر على قطر إذا اتفقت نهر
ونهر على نهر إذا اجتمعت بحر
اندك اندك بهم شود بسيار
دانه دانه است غله در انبار
أدر لي راح توحيد ألا ياأيها الساقي
أرحني ساعة عني وعن قيدي وإطلاقي
به جام صرف توحيدم بدان سان محو كن از خود
كه از فانى شوم فانى وباقى شوم باقى

وعادة عندما يشتد حال العاشق تخونه اللغة ونادرا مايجد بين آلاف الكلمات ما يلبي غرض البوح، إلا أن شاعر الغزل سعدي الشيرازي وجد في جعبة العربية مايكفيه إلى جانب لغة أرضه وأجداده، فانبرى يصف حاله عندما عجز القلم عن رسم الصورة الكاملة للذي أرقه وشغل قلبه، كما أن أوراق دفترالألم في قلبه المجروح لن تنتهي أبدا حينما تسجل أوصاف الحبيب ولو أضافوا إليها أوراق الأبد، ونلاحظ هنا تكاملامرنا بيت اللغتين كما سبق أن وقفنا عليه بين الأمازيغية والعربية، تكامل يتحول عند لحظات الذروة إلى ذوبان تغيب معه الفوارق والحواجز، يقول سعدي:
به قلم راست نيايد صفت مشتاقي
سادتي احترق القلب من الاشواق
نشود دفتر درد دل مجروح تمام
لو اضافوا صحف الدهر الى اوراقي

وقد تجنب سعدي لوقت طويل وارد الحب إلا أنه يهجم في لحظة، فيهيم شاعرنا مصورا نفسه بشمعة تحترق أمام المعشوق، فالحب قد قام بينهما منذ الأزل فلا داعي للتراجع، والروح شئ رخيص فداء للذي ملئ القلب،وإلا فما ذا يساوي الدرهم في يد الكريم المشهور حاتم الطائي؟ هذه هي المعاني التي سكبها سعدي مناصفة في العربية والفارسية، حين قال بلسانه:
عمرها برهيز مي ‌كردم ز عشق
ما حسبت الان إلا قد هجم
خلياني نحو منظوري أقف
تا جو شمع از سر بسوزم تا قدم
در ازل رفتست ما را دوستي
لا تخونوني فعهدي ماانصرم
بذل روحي فيك امر هين
خود جه باشد در كف حاتم درم

يلتمس سعدي من اللائمين العذر لأن جرح الحب قديم في وجدانه، مشيرا إلى أحد المعاني الصوفية التي تعتبر التجرد من العوالق المختلفة شرطا لتحقيق المحو أي التجرد من الحجب والوقوف على حقيقة الدنيا، وهذا يفيد أن الرجل يمزج في غزله بين غزل المرأة و الحب الإلاهي، وهذا من خصائص شعر سعدي الشيرازي الذي عرف بالجمع بين المتناقضات مما يحير الدارسين في شخصيته الإبداعية، عكس الشاعرين مولانا والعطار اللذان تخصصا في شعر الحب الإلاهي، يقول شاعرنا:
كر بنالم وقتي از زخمي قديم
لا تلوموني فجرحي ما التحم
ان ترد محو البرايا فانكشف
تا وجود خلق ريزي درعدم

ثم يخاطب الذين نصحوه بالصبر والتعقل لأن الحب يهدم العقل، مؤكدا أن اللائم عادة لايحس بألم العاشق، ليدعو نفسه في النهاية إلى بذل الروح عند قدم المحبوب لأن الأماني لابد أن تغتنم، فينشد سعدي الشيرازي هذه المضامين العربية الفارسية بتلقائية وصدق بارزين قائلا:
عقل و صبر از من جه مي‌ جويي
که عشق كلما أسست بنيانا هدم
أنت في قلبي ألم تعلم به
كز نصيحت كن نمي‌ بيند الم
سعديا جان صرف كن در باي دوست
إن غايات الأماني تغتنم

كان غرضنا في هذه الوقفة المتسرعة أن نوجه نظر قارئنا إلى إحدى الظواهر العجيبة في التراث اللغوي الإسلامي شاهدناها في الفارسية والأمازيغية، وهي ظاهرة تعلق اللغات الأصلية باللغة العربية، واحتفائهن بها بفسح المجال للغة القرآن للمشاركة والتفاعل في أدق وأرقى مجالات الوجود الإنساني:الفكر والقلب لتحقيق أكبر وأوضح فرص للتواصل، كانت هذه المحاولة إشارة فقط وإلا فالأمر يستحق الدراسة و علم المقارنة من أجل خلاصات علمية.

رشيد يلوح
نشر في صحيفة التجديد المغربية 2006

د.محمد فتحي الحريري
17/01/2010, 10:57 PM
موضوع جيد يغطي جانبا معرفيا مهما
انصح بالاختصار قدر الامكان وبشكل لايمسخ فيه النص وتصل الفكرة
ودي ....

رشيد يلوح
18/01/2010, 06:04 PM
شكرا أستاذي الفاضل على ملاحظتك القيمة..
حذفت مقدمة المقال الثاني لأنها مكررة، وارتأيت أن تبقى العناصر الأخرى لعل الأحبة الزائرين يستفيدون من بعضها..خاصة النصوص
يسر الله أمرك
أخوك رشيد

مصطفى توفيق ابراهيم
18/01/2010, 11:42 PM
مع شديد اعتذاري من حضرتكم ولكن أليس يغني الشعر العربي كثرة مافيه من الخير واللغة والعبر والغزل والحب والتصوف و و و و و الخ من الوانه التي لاحصر لها لكي يستعين او يتودد الى غيره من الشعر او الوان الفن الأخرى؟ قد يكون التأثر في بعض الاحيان بشكل فردي أو وقتي أو حتى ظرفي ولكن يبقى الشعر العربي عربيا والامازيغي امازيغيا والفارسي فارسيا .

موضوعك الجميل شدني للمتابعة وابداء الرأي فتقبل مني المودة

مصطفى بلعيد
19/01/2010, 09:44 AM
موضوع جميل وشيق هكذا الحضارة العربية الاسلامية قد حوت بستان من الازهار المختلفة واللغات المختلفة والشعوب المختلفة ولذلك كانت عالمية التوجه لا عنصرية فيها كل له الحق كل الحق في ان يشارك في صنع التقدم دون اعتبار للون او جنس اودين فشارك الجميع في صنعها

رشيد يلوح
20/01/2010, 08:42 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا لك أستاذي الفاضل مصطفى توفيق، أتفق معك في أن عربيتنا غنية بما فيه الكفاية، لكن لهذا السبب أخي الكريم تعلقت بها اللغات الاسلامية الأخرى، ومن هذا الباب كان شعراء وأدباء تلك اللغات يتسابقون في تزيين أدبهم بمفرداتها..
كانت العربية حضن الجميع، يأخذون منها وإليها يرجعون..وإذا لاحظت المضامين الرائجة هي مضامين إسلامية نقية..
ولاأحد يفكر بتخريبها أوقتلها كما نرى اليوم، حملة عالمية على العربية، برامج شتى: دعم اللغات المحلية مع تجريدها مع كل مايتصل بالاسلام، مع خطط التمكين للغات الغربية ..
شكرا أيضا لأخي الحبيب مصطفى بلعيد..ولكل الزائرين