amr abdelnaby
25/01/2010, 01:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وصلاة على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه:
سيكون محور حديثنا اليوم هو تقديم دليل جلي على مسألة منزلة العقل في الإسلام, والتي يشنع أعداء الدين حولها ويقولون أن الإسلام يعادي العقل والفكر! وهذا الدليل الجلي هو "الآيات"! ومنزلتها في دين الله العلي!
وعندما يقرأ القارئ المعاصر كلمة "الآيات" فإنه غالبا ما يكاد ينصرف ذهنه إلى آيات القرآن فقط, وذلك لانتشار استعمالها معها! أما نحن فنستعمل "الآيات" بالمعنى اللساني الأصلي لها, والذي استعمله الرب القدير –خالق الإنسان واللسان- وهو أنها بمعنى الدليل والعلامة الجلية! وذلك كما في قوله تعالى:
َقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة : 248]
َقالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران : 41]
ومع غلبة استعمالها مع آيات القرآن, أُهمل ونسي استعمالها مع آيات الله الأصلية في خلقه, وهي آيات الله الكونية, وآيات الله التأييدية التي أرسلها مع الرسل, والتي اشتُهر الإشارة إليها بلفظة "المعجزات"!
على الرغم من أن الآية أصلا استعملت لخلق الله الذي يراه الإنسان, ثم استعملت فيما بعد كدال على جُمل القرآن, وذلك لأن جُمل القرآن في الإشارة للرحمن آيات بينات مثل خلقه الذي يشير دوما إليه ويدل عليه!
ونحن إذ نستخدم "الآيات" كدليل على منزلة العقل في الإسلام, فإنا نشير بذلك إلى أن الله تعالى عندما خاطب الإنسان في الرسالة الإسلامية الأخيرة "المحمدية" استعمل نوعين من الآيات لهداية الناس وهي آياته الكونية المخلوقة, وآيات القرآن المقروءة, أما النوع الثالث من الآيات –والذي اشتهر ب المعجزات, وهي تسمية خاطئة وسنوضح لما- فلم يكن له أي دور في الرسالة الإسلامية, وفي ذلك الآية! الواضحة على منزلة العقل في الإسلام, في مقابل الذين يطالبون بالآيات الحسية في زماننا هذا؟ -والعجيب أن الملاحدة يقولون أن محمد عجز عن الإتيان بالآيات فأخذ يتكلم عن الإيمان العقلي بالقرآن فقط!, ولو أتى الرسول بالآيات الحسية لكذبوا بها وبه ولقالوا أنها دجل وافتراءات مثل التي افتراها الأقوام السابقون مع أنبيائهم! فهم لن يؤمنوا بحال!-ونفصل فنقول:
خلق الله تعالى الإنسان, وأمده بمؤهلات جسدية وفكرية كافية تؤهلة لبسط سيطرته على هذا الكون, بصفته خليفة في الأرض! وكان على الإنسان أن يقوم بهذا الدور, ولكن هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم, جمع في داخله غريزة الحيوان والعقل المفكر, وكان عليه أن يغلب العقل على الغريزة, ولما كان عامة البشر يميلون بطبعهم الحيواني إلى مجاراة الغرائز اتبع الناس أوامر غرائزهم, وأدرك بعض البشر هذه النقطة فعملوا على تضخيم متطلبات الغرائز عند البشر حتى سيطرت عليهم تماما, وأصبح الإنسان يسخر العقل لخدمة الغريزة! ولما سيطر الحيوان على الإنسان .... مات الإنسان! فلم يخلق الله تعالى الإنسان ويكرمه ويميزه عن الحيوان ليرتد إلى الحيوانية مرة أخرى, فيعبد مخلوق مثله ويقتل ويظلم! ولما كان الله تعالى كريما بخلقه, أرسل الرسل لإحياء الناس ولإخراجهم من الظلمات إلى النور حقيقة لا مجازا, فالإنسان المعرض ميت أعمى أصم:
أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام : 122]
ولما كان الإنسان بطبعه الحيواني يميل إلى التقليد وينفر من الجديد, ويجنح إلى الالتزام بالقطيع والتمسك به, -هذا إذا غضضنا الطرف عن المعاندين لدعوة الرسل قصدا, لأنها تقضي على مكاسبهم وتحطم سلطانهم وعلوهم على إخوانهم من البشر-, كان من حقه أن يشك في هذا القادم المتكلم باسم الرب, وأن يطالبه بالدليل على أنه مرسل من عند الله عزوجل! فظهرت الدعاوى المطالبة بأن يرسل الله عزوجل ملائكة:
"فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون : 24]
فلما جاء أول الرسل من البشر سيدنا نوح عليه السلام وتكلم باسم الرب, ودعا قومه إلى عبادته وحده, تعجب قومه من دعوته وقالوا أنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين, فلم لم يرسل الله ملائكة كما حدث مع الأسبقين حتى نضمن أنهم من عند الله عزوجل؟! –كانت هذه المرحلة في بداية البشرية عندما أرسل الله الملائكة لتعليم الناس! وكانت الملائكة تظهر في شكل مختلف عن شكلها الحقيقي, ولكنه شكل يدل على أنهم ليسوا بشرا, وتأثرت البشرية كثيرة بهذه المرحلة وتناقلتها الأجيال, وسجلها بعضهم على الجدران, فأتى علماء الغرب وجعلوها رمزا للأسطورة!-
ويتوالى هذا الطلب مع عاد وثمود, فيعترضون على رسلهم أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة!
إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت : 14]
ويستمر الأمر حتى أن أهل مكة يعترضون على بشرية الرسول ويطالبونه بإنزال الملائكة!
َوقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان : 7]
فيأتيهم الرد الجازم الحازم أنه لا آيات حسية وإنما هناك آيات القرآن!
ونتوقف هنا لنناقش مسألة شهيرة في الفكر الإسلامي, وهي أن الله تعالى أرسل الرسل بالآيات الحسية في مرحلة "طفولة الفكر البشري"! فلما نضج العقل البشري, حُبست الآيات الحسية واكتفي بالآيات والأدلة العقلية الواردة في القرآن!
وهذا القول من عجيب ما سمعت, فهل يعني هذا أن القرآن غير كاف لمخاطبة الإنسان البدائي الذي يعيش في مجاهل أفريقيا, وإنما لا بد من مرافقته بآية أو آيات حسية حتى يؤمن!
وأعجب أكثر من مسألة طفولة الفكر البشري! والتي أسقطها السادة المفكرين! على الإنسان البدائي, فالإنسان في كل زمان ومكان هو الإنسان, بدائيا كان أو حتى من ساكني القرن الثلاثين! ولا فرق.
إن العقل البشري لم يمر بمرحلة طفولة إلا في مرحلة الخلق الأول, حيث كانت الملائكة وسيدنا آدم يعلمون البشر ما يحتاجون, ويعرفونهم بدهيات العالم, وبعد ذلك توارث البشر هذه العلوم وتناقلوها, ومهما تخلفوا وتأخروا تظل هذه البدهيات لديهم, ولو نزعت منهم لعاشوا عيشة الحيوان فعلا! وهذا ما لا نجده في أشد قبائل العالم تخلفا وانعزالا!
ثم إن هذا القول مخالف تماما لسير الرسالات! فالناظر يجد أن الرسالات بدأت بلا آيات حسية وختمت بلا آيات حسية كذلك, فسيدنا نوح وكذلك هود لم يأتيا بآيات حسية إلى أقوامهما وإنما خاطبوهم بالأدلة العقلية فقط! "قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود : 53]" وكذلك فعل الرسول محمد, فخاطب قومه بكتاب ربه المشتمل على الأدلة والبراهين القاطعة فقط! ونجد أن الآيات الحسية جاءت مع باقي الرسل بين أول الرسالات وآخرها, فهذا دليل جازم على أن الآيات ليس لها أي علاقة بتطور العقل البشري المزعوم.
إذا فالآيات كانت تأتي لغاية معينة يريدها الله عزوجل, وليست ارتباطا بتطور عقلي أو بمطالبة أقوام الرسل!
ونتوقف هنا مرة أخرى مع هذه النقطة, فالشائع والمشتهر أن الله عزوجل يرسل الرسل بالآيات الحسية في المجال الذي برع فيه القوم, فيبزهم فيعرفون أنه مرسل من عند الله عزوجل!
وهذا التصور الواهم مرتبط بالقول ب "الإعجاز" والذي سنناقشه بإذن الله تعالى في العنصر القادم, وأتوقف وأتساءل: من أين للمدعين هذا القول؟
هذا القول ظهر وانتشر وتلقفته ألسنة الخطباء وأقلام الكاتبين بدون تدقيق أو تمحيص, فنجد أنهم يقولون أن الله أرسل سيدنا موسى باليد والعصا لم اشتهر أهل موسى بالسحر! وأرسل عيسى بالطب لما اشتهر اليهود به, وأرسل الرسول بالقرآن لما اشتهر العرب بالبلاغة والفصاحة! وأعجب ثم أعجب وأتساءل:
بما اشتهر أهل ثمود حتى أرسل الله عزوجل لهم ناقة؟
من قال أن أهل مصر اشتهروا بالسحر؟ ومن قال أن هناك حقيقة للسحر؟ السحر ما هو إلا تخييل وتوهم وقد يصل إلى مرحلة التأثير النفسي, وأكثر من ذلك لا وجود له. نعم كان هناك سحرة في عهد فرعون, ولكنهم موجودون في كل الأزمنة وفي كل الأماكن والدول, فبما اختلفوا في زمن سيدنا موسى؟ إن سحرة فرعون لم يزيدوا عن أن يكونوا مجموعة من الكهان الذي يعرفون كثيرا من الأسرار العلمية التي لا يعرفها العوام ويموهون بها عليهم! فهل أرسل الله تعالى سيدنا موسى ليتحدى! ويعجز سحرة فرعون فقط؟ أم أنه أرسل إلى بني إسرائيل وإلى فرعون وأهل مصر؟
ولست أدري متى اشتهر اليهود بالطب حتى يبعث إليهم عيسى بإحياء الموتى, وإبراء الأكمه والأبرص؟! ما اشتهر اليهود إلا بالتعاملات المالية بأحسن الطرق وأخبثها! فلم لم يرسل لهم محاسب أو تاجر بأعلى الإمكانيات؟
والطامة الكبرى مع الرسول الأعظم التي أضاعت آية القرآن البينة, أنهم قالوا أن الله تعالى أرسل الرسول بالقرآن للعرب البلغاء, فهل يعني هذا أن الأوروبي أو الأمريكي الذي لا يتقن العربية, بله عن أن يعرفها, ليس مخاطبا بالقرآن, وإذا قرأ القرآن مترجما مثلا ولم يؤمن فلا حرج عليه!
المشكلة أن التصورات الفاسدة يرتبط بعضها ببعض, ويُبنى عليها هيكل من الوهم, يحتاج إلى من يأتيه من الأساس, فهذا التصور الفاسد مرتبط بقولهم أن الأنبياء أتوا بالمعجزات! وهذا قول ظاهر الفساد!
قد يظن البعض أن القول بالمعجزة أمر هين, فالمقصود منها أن الله تعالى أرسل رسله بما يعجز البشر بالآتيان بمثله!
ولكن هذا فاسد مرتبط بتصور دور الآية في رسالة الرسول, فالله عزوجل عندما أرسل الرسل لمخاطبة الناس, لم يرسلهم بالغريب المستعجب وإنما أرسلهم بالفطري المعقول, ومن المفترض ألا يُجادل في هذا أو يُشك:
"قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [إبراهيم : 10]"
فليس محتوى الرسالة نفسه في حاجة إلى تأييد, فهو بدهي منطقي, ولكن المسألة الفاصلة هي التدليل على أن المتكلم باسم الرب هذا مرسل من عنده, فقد يستغل بعض البشر هذه المسألة لتحقيق أهداف وأغراض دنيئة لهم! يغلفونها بغلاف الرسالة والكلام عن الله!
لذا كان لا بد أن يكون مع الرسول الأدلة الدامغة على أنه يتكلم من عند الله عزوجل, وهذه الأدلة "الآيات" كانت غالبا ما تنحصر في الرسالة نفسها, فتكون دليلا على أنها من عند الله عزوجل, فنجد أنها تأتي بصياغة مخالفة لكلام البشر, بمحتوى يجزم معه الإنسان على أنها لا يمكن أن تصدر من بشري! -وما الشعر إلا محاولة الإنسان منذ الأزل لتقليد كلام الله الموحى!-, كما يمكن أن تكون الآيات في الرسول نفسه, فالرسول نفسه يكون إنسانا صادقا مشتهرا بحسن الأخلاق, فلم يكذب ويفتري هذه الفرية, وكذلك يكون في أوامر الرسول, فإذا كان يطلب لنفسه الأجر فهذا موطن ريبة, أما إذا دعى إلى الله وأجره على الله فما المبرر إلا الرسالة؟!
الحمدلله رب العالمين وصلاة على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه:
سيكون محور حديثنا اليوم هو تقديم دليل جلي على مسألة منزلة العقل في الإسلام, والتي يشنع أعداء الدين حولها ويقولون أن الإسلام يعادي العقل والفكر! وهذا الدليل الجلي هو "الآيات"! ومنزلتها في دين الله العلي!
وعندما يقرأ القارئ المعاصر كلمة "الآيات" فإنه غالبا ما يكاد ينصرف ذهنه إلى آيات القرآن فقط, وذلك لانتشار استعمالها معها! أما نحن فنستعمل "الآيات" بالمعنى اللساني الأصلي لها, والذي استعمله الرب القدير –خالق الإنسان واللسان- وهو أنها بمعنى الدليل والعلامة الجلية! وذلك كما في قوله تعالى:
َقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة : 248]
َقالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران : 41]
ومع غلبة استعمالها مع آيات القرآن, أُهمل ونسي استعمالها مع آيات الله الأصلية في خلقه, وهي آيات الله الكونية, وآيات الله التأييدية التي أرسلها مع الرسل, والتي اشتُهر الإشارة إليها بلفظة "المعجزات"!
على الرغم من أن الآية أصلا استعملت لخلق الله الذي يراه الإنسان, ثم استعملت فيما بعد كدال على جُمل القرآن, وذلك لأن جُمل القرآن في الإشارة للرحمن آيات بينات مثل خلقه الذي يشير دوما إليه ويدل عليه!
ونحن إذ نستخدم "الآيات" كدليل على منزلة العقل في الإسلام, فإنا نشير بذلك إلى أن الله تعالى عندما خاطب الإنسان في الرسالة الإسلامية الأخيرة "المحمدية" استعمل نوعين من الآيات لهداية الناس وهي آياته الكونية المخلوقة, وآيات القرآن المقروءة, أما النوع الثالث من الآيات –والذي اشتهر ب المعجزات, وهي تسمية خاطئة وسنوضح لما- فلم يكن له أي دور في الرسالة الإسلامية, وفي ذلك الآية! الواضحة على منزلة العقل في الإسلام, في مقابل الذين يطالبون بالآيات الحسية في زماننا هذا؟ -والعجيب أن الملاحدة يقولون أن محمد عجز عن الإتيان بالآيات فأخذ يتكلم عن الإيمان العقلي بالقرآن فقط!, ولو أتى الرسول بالآيات الحسية لكذبوا بها وبه ولقالوا أنها دجل وافتراءات مثل التي افتراها الأقوام السابقون مع أنبيائهم! فهم لن يؤمنوا بحال!-ونفصل فنقول:
خلق الله تعالى الإنسان, وأمده بمؤهلات جسدية وفكرية كافية تؤهلة لبسط سيطرته على هذا الكون, بصفته خليفة في الأرض! وكان على الإنسان أن يقوم بهذا الدور, ولكن هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم, جمع في داخله غريزة الحيوان والعقل المفكر, وكان عليه أن يغلب العقل على الغريزة, ولما كان عامة البشر يميلون بطبعهم الحيواني إلى مجاراة الغرائز اتبع الناس أوامر غرائزهم, وأدرك بعض البشر هذه النقطة فعملوا على تضخيم متطلبات الغرائز عند البشر حتى سيطرت عليهم تماما, وأصبح الإنسان يسخر العقل لخدمة الغريزة! ولما سيطر الحيوان على الإنسان .... مات الإنسان! فلم يخلق الله تعالى الإنسان ويكرمه ويميزه عن الحيوان ليرتد إلى الحيوانية مرة أخرى, فيعبد مخلوق مثله ويقتل ويظلم! ولما كان الله تعالى كريما بخلقه, أرسل الرسل لإحياء الناس ولإخراجهم من الظلمات إلى النور حقيقة لا مجازا, فالإنسان المعرض ميت أعمى أصم:
أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام : 122]
ولما كان الإنسان بطبعه الحيواني يميل إلى التقليد وينفر من الجديد, ويجنح إلى الالتزام بالقطيع والتمسك به, -هذا إذا غضضنا الطرف عن المعاندين لدعوة الرسل قصدا, لأنها تقضي على مكاسبهم وتحطم سلطانهم وعلوهم على إخوانهم من البشر-, كان من حقه أن يشك في هذا القادم المتكلم باسم الرب, وأن يطالبه بالدليل على أنه مرسل من عند الله عزوجل! فظهرت الدعاوى المطالبة بأن يرسل الله عزوجل ملائكة:
"فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون : 24]
فلما جاء أول الرسل من البشر سيدنا نوح عليه السلام وتكلم باسم الرب, ودعا قومه إلى عبادته وحده, تعجب قومه من دعوته وقالوا أنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين, فلم لم يرسل الله ملائكة كما حدث مع الأسبقين حتى نضمن أنهم من عند الله عزوجل؟! –كانت هذه المرحلة في بداية البشرية عندما أرسل الله الملائكة لتعليم الناس! وكانت الملائكة تظهر في شكل مختلف عن شكلها الحقيقي, ولكنه شكل يدل على أنهم ليسوا بشرا, وتأثرت البشرية كثيرة بهذه المرحلة وتناقلتها الأجيال, وسجلها بعضهم على الجدران, فأتى علماء الغرب وجعلوها رمزا للأسطورة!-
ويتوالى هذا الطلب مع عاد وثمود, فيعترضون على رسلهم أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة!
إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت : 14]
ويستمر الأمر حتى أن أهل مكة يعترضون على بشرية الرسول ويطالبونه بإنزال الملائكة!
َوقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان : 7]
فيأتيهم الرد الجازم الحازم أنه لا آيات حسية وإنما هناك آيات القرآن!
ونتوقف هنا لنناقش مسألة شهيرة في الفكر الإسلامي, وهي أن الله تعالى أرسل الرسل بالآيات الحسية في مرحلة "طفولة الفكر البشري"! فلما نضج العقل البشري, حُبست الآيات الحسية واكتفي بالآيات والأدلة العقلية الواردة في القرآن!
وهذا القول من عجيب ما سمعت, فهل يعني هذا أن القرآن غير كاف لمخاطبة الإنسان البدائي الذي يعيش في مجاهل أفريقيا, وإنما لا بد من مرافقته بآية أو آيات حسية حتى يؤمن!
وأعجب أكثر من مسألة طفولة الفكر البشري! والتي أسقطها السادة المفكرين! على الإنسان البدائي, فالإنسان في كل زمان ومكان هو الإنسان, بدائيا كان أو حتى من ساكني القرن الثلاثين! ولا فرق.
إن العقل البشري لم يمر بمرحلة طفولة إلا في مرحلة الخلق الأول, حيث كانت الملائكة وسيدنا آدم يعلمون البشر ما يحتاجون, ويعرفونهم بدهيات العالم, وبعد ذلك توارث البشر هذه العلوم وتناقلوها, ومهما تخلفوا وتأخروا تظل هذه البدهيات لديهم, ولو نزعت منهم لعاشوا عيشة الحيوان فعلا! وهذا ما لا نجده في أشد قبائل العالم تخلفا وانعزالا!
ثم إن هذا القول مخالف تماما لسير الرسالات! فالناظر يجد أن الرسالات بدأت بلا آيات حسية وختمت بلا آيات حسية كذلك, فسيدنا نوح وكذلك هود لم يأتيا بآيات حسية إلى أقوامهما وإنما خاطبوهم بالأدلة العقلية فقط! "قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود : 53]" وكذلك فعل الرسول محمد, فخاطب قومه بكتاب ربه المشتمل على الأدلة والبراهين القاطعة فقط! ونجد أن الآيات الحسية جاءت مع باقي الرسل بين أول الرسالات وآخرها, فهذا دليل جازم على أن الآيات ليس لها أي علاقة بتطور العقل البشري المزعوم.
إذا فالآيات كانت تأتي لغاية معينة يريدها الله عزوجل, وليست ارتباطا بتطور عقلي أو بمطالبة أقوام الرسل!
ونتوقف هنا مرة أخرى مع هذه النقطة, فالشائع والمشتهر أن الله عزوجل يرسل الرسل بالآيات الحسية في المجال الذي برع فيه القوم, فيبزهم فيعرفون أنه مرسل من عند الله عزوجل!
وهذا التصور الواهم مرتبط بالقول ب "الإعجاز" والذي سنناقشه بإذن الله تعالى في العنصر القادم, وأتوقف وأتساءل: من أين للمدعين هذا القول؟
هذا القول ظهر وانتشر وتلقفته ألسنة الخطباء وأقلام الكاتبين بدون تدقيق أو تمحيص, فنجد أنهم يقولون أن الله أرسل سيدنا موسى باليد والعصا لم اشتهر أهل موسى بالسحر! وأرسل عيسى بالطب لما اشتهر اليهود به, وأرسل الرسول بالقرآن لما اشتهر العرب بالبلاغة والفصاحة! وأعجب ثم أعجب وأتساءل:
بما اشتهر أهل ثمود حتى أرسل الله عزوجل لهم ناقة؟
من قال أن أهل مصر اشتهروا بالسحر؟ ومن قال أن هناك حقيقة للسحر؟ السحر ما هو إلا تخييل وتوهم وقد يصل إلى مرحلة التأثير النفسي, وأكثر من ذلك لا وجود له. نعم كان هناك سحرة في عهد فرعون, ولكنهم موجودون في كل الأزمنة وفي كل الأماكن والدول, فبما اختلفوا في زمن سيدنا موسى؟ إن سحرة فرعون لم يزيدوا عن أن يكونوا مجموعة من الكهان الذي يعرفون كثيرا من الأسرار العلمية التي لا يعرفها العوام ويموهون بها عليهم! فهل أرسل الله تعالى سيدنا موسى ليتحدى! ويعجز سحرة فرعون فقط؟ أم أنه أرسل إلى بني إسرائيل وإلى فرعون وأهل مصر؟
ولست أدري متى اشتهر اليهود بالطب حتى يبعث إليهم عيسى بإحياء الموتى, وإبراء الأكمه والأبرص؟! ما اشتهر اليهود إلا بالتعاملات المالية بأحسن الطرق وأخبثها! فلم لم يرسل لهم محاسب أو تاجر بأعلى الإمكانيات؟
والطامة الكبرى مع الرسول الأعظم التي أضاعت آية القرآن البينة, أنهم قالوا أن الله تعالى أرسل الرسول بالقرآن للعرب البلغاء, فهل يعني هذا أن الأوروبي أو الأمريكي الذي لا يتقن العربية, بله عن أن يعرفها, ليس مخاطبا بالقرآن, وإذا قرأ القرآن مترجما مثلا ولم يؤمن فلا حرج عليه!
المشكلة أن التصورات الفاسدة يرتبط بعضها ببعض, ويُبنى عليها هيكل من الوهم, يحتاج إلى من يأتيه من الأساس, فهذا التصور الفاسد مرتبط بقولهم أن الأنبياء أتوا بالمعجزات! وهذا قول ظاهر الفساد!
قد يظن البعض أن القول بالمعجزة أمر هين, فالمقصود منها أن الله تعالى أرسل رسله بما يعجز البشر بالآتيان بمثله!
ولكن هذا فاسد مرتبط بتصور دور الآية في رسالة الرسول, فالله عزوجل عندما أرسل الرسل لمخاطبة الناس, لم يرسلهم بالغريب المستعجب وإنما أرسلهم بالفطري المعقول, ومن المفترض ألا يُجادل في هذا أو يُشك:
"قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [إبراهيم : 10]"
فليس محتوى الرسالة نفسه في حاجة إلى تأييد, فهو بدهي منطقي, ولكن المسألة الفاصلة هي التدليل على أن المتكلم باسم الرب هذا مرسل من عنده, فقد يستغل بعض البشر هذه المسألة لتحقيق أهداف وأغراض دنيئة لهم! يغلفونها بغلاف الرسالة والكلام عن الله!
لذا كان لا بد أن يكون مع الرسول الأدلة الدامغة على أنه يتكلم من عند الله عزوجل, وهذه الأدلة "الآيات" كانت غالبا ما تنحصر في الرسالة نفسها, فتكون دليلا على أنها من عند الله عزوجل, فنجد أنها تأتي بصياغة مخالفة لكلام البشر, بمحتوى يجزم معه الإنسان على أنها لا يمكن أن تصدر من بشري! -وما الشعر إلا محاولة الإنسان منذ الأزل لتقليد كلام الله الموحى!-, كما يمكن أن تكون الآيات في الرسول نفسه, فالرسول نفسه يكون إنسانا صادقا مشتهرا بحسن الأخلاق, فلم يكذب ويفتري هذه الفرية, وكذلك يكون في أوامر الرسول, فإذا كان يطلب لنفسه الأجر فهذا موطن ريبة, أما إذا دعى إلى الله وأجره على الله فما المبرر إلا الرسالة؟!