المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رأس المال الفكري - دكتور محمود ابو الوفا



سيد أمين
30/01/2010, 07:13 PM
رأس المال الفكري


بقلم الدكتور محمود ابو الوفا
خبير مالي واقتصادي واداري
maw01000@yahoo.com
1- مدخل الي التقدم
يذكر ان صاحب مصطلح "رأس المال الفكري" هو رالف ستير مدير شركة جونسون فيلي للأطعمة حيث قال: " في السابق كانت المصادر الطبيعية أهم مكونات الثروة الوطنية وأهم الموجودات، بعد ذلك أصبح رأس المال متمثلاً في
النقد والموجودات الثابتة هما أهم مكونات المنظمات والمجتمع، أما الآن فقد حل محل المصادر الطبيعية والنقد والموجودات الثابتة رأس المال الفكري الذي يعد أهم مكونات الثروة الوطنية وأغلي موجودات الامم"، ويقصد برأس المال الفكري تلك..
الفئة من البشر التي تمتلك الخبرة والمعرفة والقدرة الإبداعية والمواهب الفطريه التي تمكنها من دفع عجلة التقدم علي المستوي القومي، إن رأس المال الحقيقي الذي تملكه الامم هو "رأس المال الفكري" وما تتميز به امه عن اخري هو القدر الذي تستطيع به تحويل رأس المال الفكري إلي قيمة من خلال ما تحدثه من الاختراعات والابتكارات في شتي المجالات، ومما لاشك فيه ان قيمة رأس المال الفكري استثمار له عائد علي المدي الطويل، ولكي يتحقق هذا العائد يجب أن تكون هناك تكاليف تتحملها الامه نظير حصولها علي هذا العائد لاحقا، لذلك يجب ان تبذل من أجله كل الطاقات في سبيل الحصول عليه، ولكن يبدو ان واقع الحال مختلف تماما، حيث لايدرك كثير من القائمين علي الامور ان أي فكرة أو معرفة لا تصبح ذات قيمة أوفائدة ما لم يتم تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ، لقد كان مفهوم رأس المال الفكري – ومازال - في اذهان من نادوا به او من عملوا علي تنظيره ينسحب فقط علي منظمات الاعمال من الشركات والمؤسسات والهيئات ولكنني اعتقد ان هذا المفهوم جدير بالتطبيق علي الامم والدول، وخاصة بالدول التي في طور التقدم او التي تخلفت عنه .
ان نقطة الانطلاق الاولي لرأس المال الفكري علي مستوي الدول لابد ان تنبع من الاقتناع بانه الاساس في النهضه والتنميه، ومدي هذا الاقتناع لابد ان يكون باتساع يشمل القمه والقاعده علي حد سواء، ويقصد بالقمه النخب سواء اكانت الحاكمه ام المثقفه، ويقصد بالقاعده جميع الافراد في سوق العمل، و برأيي ان البدايه يجب ان تكون باتجاهين متوازيين : الاول يتمثل في النشأ بكافة المستويات التعليميه، اما الثاني فيتمثل في كافة المفردات المكونه لسوق العمل . وبالطبع لن يكون كل هؤلاء من المبدعين، فليس من المتصور ان يكون هناك مجتمع بالكامل من المفكرين او المخترعين، لكن افراز مبدعين ومفكرين سيكون بالامر الهين ان توافرت البيئه الملائمه والتي تعني في المقام الاول اتجاه المجتمع بكافة طبقاته الي المعرفه كوسيله للتميز وتجاوز الكبوه الحضاريه التي يمر بها، والتي من ابراز دلائلها " الاستهلاك لا الانتاج – الاستيراد لا التصدير "، ان اتخاذ المعرفه طريقا لتجاوز الكبوه الحضاريه، وارتياد ركب التقدم لابد ان يكون علي ثلاث محاور: المحور الأولي يشمل الاهتمام بتوفير التعليم كعامل من عوامل اكتساب وتطوير التكنولوجيا، المحور الثاني يتركز علي ربط متطلبات سوق العمل بنوعية التعليم من حيث الكم والتخصصيه، المحور الثالث يتمثل في حق كل فرد بالمجتمع في الحصول علي التعليم الكافي الذي يجعل منه قيمه انسانيه قادره علي توجيه سلوكه للتكيف مع نفسه ومع مجتمعه، لكن حتي لو استطعنا الوصول الي صياغه جيده لتلك البيئه التي نصفها بالملائمه الا ان هناك عقبات كثيره ستقف حائلا بيننا وبين ما نصبو اليه، اهم تلك العقبات عدم وجود منظومه اصلاحيه تعمل جنبا الي جنب مع المنظومه التعليميه، ونقصد بالاصلاحيه تكييف النظم واللوائح والتعليمات لتتامشي في نفس الخط، حيث يمثل الكثير منها حجر عثره امام التقدم والتنميه، وخاصة فيما يتعلق باسلوب عمل الجهات الرقابيه المختلفه، والتي لاتعي الدور المنوط بها، يواكب ذلك اسلوب الاختيار لاصحاب القرار في الوظائف القياديه العليا وما يمكن ان تحدثه هذه القيادات من تغيير وتقدم ان كانوا من المبدعين والموهبين في الاداره، او ما يحدثوه من تأخر وتخلف ان كانوا من اصحاب الاقلام المرتعشه التي تخشي اتخاذ او التوقيع علي اي قرار خوفا من ان يقترفوا اخطاء بحق اللوائح او التعليمات، ان فكرة رأس المال الفكري تحتاج لكثير من التأمل حيث تتشابك فيها الكثير من المحددات والمعطيات وتتعلق بكثير من القناعات في اذهان المجتمع بكافة مستوياته، لكنها فكره تحتاج منا وقفه جاده مع انفسنا كأمه تريد ان تنهض من كبوتها الحضاريه.

2- الفقر الابداعي والفقر المعرفي
ان المكون الاول لثروات الامم والذي تقوم عليه نهضتها، رأسمالها الفكري المكون من مجموعه من المبدعين في شتي المجالات، وعلي ذلك فأن الامم التي اهتمت بهذا العنصر استطاعت ان تأخذ باسباب التقدم، لكن دائما كان هناك سدا منيعا يقف حائلا بين استغلال رأس المال الفكري لدي الامم يمكننا ان نطلق عليه " الفقر الابداعي " ويتمثل في عدم وجود طاقات ابداعيه بالمجتمع يمكن ان تبتكر او تخترع او تحدث نظريات جديده تؤدي الي تقدم العلوم او الاداب وبالتالي الي تقدم الامه، وظاهرة الفقر الابداعي يمكن ان نتأملها علي مدار التاريخ بامتداد الحضارات المختلفه، بدءً من الحضاره الفرعونيه مرورا بالحضاره اليونانيه والفينيقيه والاشوريه والفارسيه والصينيه والرومانيه والاسلاميه ثم عصر النهضه الحديثه، فغالبا ما كان الفقر الابداعي يصاحبه – بل احد اسبابه – الفقر المعرفي، والذي يتمثل في نقص او تشوه المعارف لدي الامه فيما يخص العلوم المختلفه، وظاهرة الفقر المعرفي تبدأ تتنامي في فترات ضعف وتراخي الامم علي المستوي الفردي والجماعي، وقد تمتد باتجاه جيل او جيلين او اكثر، حتي تنطفئ شعلة الابداع رويداً رويداً ، و تغرق الامه في ظلام الفقر المعرفي الشبه تام ويمتد في الاجيال التاليه ضاربا بجذوره بامتداد تاريخا طويلا، ويصاحب الفقر المعرفي جميع انواع الفقر الاخري - اقتصاديه واجتماعيه وصحيه ودينيه وسياسيه – ونتيجه لذلك كله تصاب الامه بالفقر الابداعي التام.
ومما يجدر ذكره ان مصطلح ادارة المعرفه ظهر علي يد كارل ويج وذلك في ندوة لمنظمة العمل الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة عام 1986م، ولا يعني ذلك ان ادارة المعرفه موضوع جديد، بل انه مفهوم قديم، حيث ان ممارسة إدارة المعرفه من الامور المتداوله علي مر العصور، وادارة المعرفه هي مجموعة من الاجراءات التي تساعد في الحصول علي المعرفة واختيارها و تنظيمها واستخدامها ونشرها، وتحويل المعلومات والخبرات والمهارات التي يمتلكها الافراد الي منظومه جماعيه تمثل الامه، حيث تكون الاساس الذي يبني عليه الابداع الفردي والجماعي اللازم لصنع التقدم في شتي مجالات الحياه، وتنقسم المعرفه الي قسمين احدهما المعرفة الضمنيه والاخري المعرفة الظاهرية ، وفي حين تهتم المعرفة الضمنية بالمهارات والتي هي مرتكزه في عقل وقلب الشخص، وهي معارف يصعب اكسابها أو تحويلها للآخرين، كما انه يصعب وضع المعرفه الضمنية في كلمات منطوقة وهناك مقوله معروفه: " أننا نعرف أكثر مما يمكننا أن نقول" ، و تتعلق المعرفه الضمنية بالمهارات والخبرات الفنية والادراكيه، اما المعارف الظاهرية فتتعلق بما هو مدون في الكتب او في القصص المتوارث وغالبا ما يتمكن غالبية الأفراد من الاطلاع عليها او سماعها أو استخدامها، وتمثل القيم والصور الذهنية والحدس والاستعارات ونفاذ البصيرة جانبا مهما من جوانب المعرفه التي ينبغي الاعتناء والاهتمام بها لأنها تشكل جزءا مهما من الابداع، وفي مجال المعرفه يمكننا ان نفرق بين : نظرية المعرفه وعلم المعرفه، فنظرية المعرفة تتناول عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث الطبيعه والقيمه والحدود والعلاقه بالواقع، وعلي ذلك فانها تركز علي الاتجاهات الاختبارية والعقلانية والمادية والمثالية، اما علم المعرفه ويطلق عليه " الإبستيمولوجية " وهو مصطلح إغريقي يتألف من كلمتين: epistemo وتعني المعرفة و logos وتعني علم، ويعني عند البعض " علم المعرفة أو علم العلم "، كما يعني عند البعض: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية، والإبستيمولوجية عملت علي تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم، والخطوات التي يتكون منها، وكذلك نقد العلوم والعودة إلي مبادئه الاساسيه، وقد حض علي ذلك التقدم العلمي السريع والمتنامي، وظهور مبدأ التخصص كاساسا ثابتا في الاعمال، وكذلك تلك التغيرات الجوهريه في بنية منظومة العلوم، لكن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط دون سواها، كما انها تنظر في وسائل إنتاج المعرفة، و تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة، في حين تنزع نظرية المعرفة الي تقديم اجابات مطلقة وعامة وشاملة، ان المعرفه سواء علي مستوي النظريه او مستوي العلم تحتاج الي بيئه حاضنه مبنيه علي اسس صحيحه وسليمه يمكن من خلالها ان تتشكل معارف الامه وبالتالي ينمو الوعي، والذي لابد ان يؤدي الي ولادة الابداع الذي لا محيص عنه للتقدم .

3- سياسات التعليم
ان الهدف الاساسي من تنمية رأس المال الفكري هو افراز مبدعين ومفكرين في شتي مجالات المعرفه النظريه والتطبيقيه، ويمكن تحقيق ذلك في ظل توافر البيئه الملائمه والتي تبدأ يوم ان يتجه المجتمع بكل افراده وامكاناته نحو المعرفه كوسيله للتقدم، ويمثل التعليم حجر الزاويه في منظومة المعرفه حيث يعتبره كثيرا من المتخصصين هدفا ووسيلة في آن واحد، وتتمثل ازمة الدول الناميه او المتخلفه في عدم قدرتها علي توفير متطلبات التقدم، بسبب عدم القدره علي تسخير والاستفاده من المعرفة وما يتوافر لها من المعلومات والتكنولوجيا الحديثه، وعلي ذلك فان منظومة التعليم لابد ان تتعرض لاعادة الصياغه فيما يخص المجالات و المضمون والوسائل، والاهتمام بالتعليم يجب ان يبني علي ثلاث محاور اساسيه اولها يتمثل في طرق ووسائل تنظيم اكتساب وتطوير العلوم وخاصة العلوم التكنولوجيه الحديثه، وثانيهما ربط التعليم باحتياجات سوق العمل سواء من حيث الكم او التخصص، وثالثهما حق كل مواطن في اكتساب قدر كافي من التعليم يؤهله للقيام بدوره الفعال في المجتمع، لكن حتي اذا استطعنا الوصول الي صياغه جيده لتلك المنظومه فلابد ان نوجد منظومه اصلاحيه تعمل جنبا الي جنب مع المنظومه التعليميه، وتتمثل المنظومه الاصلاحيه في توفير بيئه حاضنه للتقدم وتبدأ من تكييف القوانين و النظم واللوائح والتعليمات لتتامشي مع المنظومه الجديده، بالاضافه الي توجيه كافة الطاقات والامكانيات الماديه والبشريه نحو الارتقاء المعرفي، ويتطلب ذلك الدراسه الكامله لتجارب الدول التي اخذت باسباب التقدم المعرفي كمدخل للتقدم الشامل في مختلف نواحي الحياه، وذلك فيما يخص السياسات او الخطط علي المستويين الاستراتيجي والتكتيكي سواء فيما يخص المناهج او طرق التدريس او وسائل اعداد المعلم او المؤسسات التعليميه والعمل علي تكامل دورها مع دور المجتمع سواء علي مستوي الاسره او الافراد .
ان معظم الدراسات الخاصه بالتعليم في الوطن العربي توصلت الي ان الخلل في المنظومه التعليميه ادت الي تشوه كبير في الهيكل المعرفي للمتعلمين متمثلا في الانخفاض الشديد في التحصيل المعرفي، وعدم وجود قدرات كافيه علي مستوي التحليل والابتكار، فمن حيث المجالات فهناك خلل جوهري واضح تتمثل اهم مظاهره في عدم وجود موائمه بين سوق العمل ومتطلبات التنمية من ناحية وبين ناتج التعليم من ناحية أخري، وبالطبع يتضح ذلك في ضعف إنتاجية الفرد بالاضافه الي وجود اضطراب كبير في هيكل الأجور في كثير من شرائح وقطاعات السوق، علاوه علي انخفاض العوائد الاقتصاديه والاجتماعيه المتحققه من العمليه التعليميه، كناتج طبيعي للمعادله الصعبه المتوافره الان بالوطن العربي من كثرة الخريجين وقلة المقبول منهم في سوق العمل لضعف مستواهم التعليمي والمهاري وبالتالي ارتفاع معدل البطاله، اما من حيث المضمون فيتمثل في عدم قدرة النظام التعليمي الحالي علي توفير المتطلبات الضروريه للاخذ باسباب التقدم، وقد ادي ذلك الي وجود هوه او منطقه عازله بين المجتمع والمعرفه الحضاريه والانسانيه، اما الوسائل والاساليب فهي متخلفه كثيرا في اغلب المؤسسات التعليميه خاصة في الدول العربيه كثيفة السكان او الدول ذات الامكانيات الماديه المتواضعه وذلك في المؤسسات التعليميه الحكوميه، وحتي في المؤسسات التعليميه الخاصه او المؤسسات التعليميه الحكوميه في الدول ذات الدخل المرتفع الا ان جميعها تفتقر الي الاساليب والوسائل الناجحه لتعظيم قدرات المتعلمين وامدادهم بالمهارات اللازمه لسوق العمل، كذلك التوقف عن التعليم لمجرد حصول الفرد علي المؤهل اللازم لالتحاقه بسوق العمل يمثل كارثه حقيقيه علي المستوي المعرفي للمجتمع، حيث يتوقف التحصيل المعرفي لاولئك الافراد ويفقدون الاتصال بكل ما هو جديد وحديث علي مستوي ما حصلوا عليه من تعليم او حتي علي مستوي ما يقومون به من ادوار وظيفيه في مجال اعمالهم، فلا يجب ان يكون التعليم بالمدارس او الجامعات هو نهاية المطاف للافراد ولايعد كافيا لتأهيل المجتمع وتنميته، بل يجب ان يكون التعليم مستمرا بامتداد عمر الفرد "مدي الحياة"، ويمثل التدريب الامتداد الطبيعي للتعليم المدرسي والجامعي وهو لا يختص بفئه دون غيرها وانما ضروريا لكافة الافرد في سوق العمل او خارجه، فقد يحتاجه الفرد خارج نطاق تخصصه وايضا خارج نطاق عمله، فقد يحتاجه لتنمية مهارات اتصاله وتفاعله مع اولاده او مجتمعه علي وجه العموم، وعلي ذلك فاننا نحتاج الي اعادة تاهيل لافراد المجتمع والمؤسسات التعليميه والتدريبيه وفق افاق جديده اكبر مما نحن عليه الان في ظل فلسفه اقرب ما تكون الي مدخل متقدم للمعرفه في اوسع معانيها، حتي لا نجد انفسنا في معزل عما يدور حولنا من تغيرات وتحولات سريعه بعد ان فاتنا الكثير، فلابد لنا ان نتبني منظومة اصلاحيه واسعه للتعليم فهو الاساس والخيار الاول للحاق بركب الحضاره.

4- القيم الانسانية
أن عقل الإنسان وفكره وما ينتج عنهما من ابداع هو المصدر الاساسي لرأس المال الفكري ووهناك نوع اخر من انواع رأس المال يطلق عليه رأس المال الاجتماعي، وهو يعني قدرة المجتمع علي الارتقاء ذاتيا من خلال تكامل مجهودات وعطاء أفراده دون التزام بقوانين وانما نتاج اقتناع كامل بضرورة المساهمه في نهضة المجتمع، علي ذلك فان رأس المال الاجتماعي مصدره الاساسي هو التنظيم المبني علي القيم الانسانيه، والمتأمل لمسيره الحضاره الانسانيه علي مر التاريخ سيري ان المجتمعات التي استطاعت ان توجد منظومه مستنده علي قواعد قيميه، كانت الأكثر حظا في التفوق علي غيرها من المجتمعات المعاصره لها، وان كان هناك استثناء في بعض مراحل التاريخ الانساني فلا تعدو عن كونها شواذ القاعده، وحتي وقت ليس بالبعيد لم يكن في محيط النظريات الاقتصادية الحديثه او القديمه اي تنظير يشمل مجموعة القيم والأخلاق الاجتماعيه كمساهم في عملية التنمية، ولم تعترف تلك النظريات الا بالمعايير المادية البحتة في صياغات التنميه مثل متوسط دخل فرد، والناتج القومي الإجمالي، ومقدرة الدولة علي زيادة الإنتاج بمعدلات اعلي من معدلات النمو السكاني، وغاب في الفكر الاقتصادي البعد الإنساني في علاقته بالتنمية، وعلي الرغم من ان المجتمعات المتقدمه قد اخذت بمبدأ القيم الاجتماعيه الا ان ربط تلك القيم بالنظريات والمذاهب الاقتصاديه قد تاخر كثيرا في الادبيات الاقتصاديه، وان بدا في الافق بعضا منها مثل ما يعرف بالمسئوليه الاجتماعيه للشركات والذي يعني في مجمله ان تلعب الشركات دورا في تنمية مجتمعاتها من خلال ما تقدمه من مال او جهد او مشوره في تنمية بعض الفئات الغير قادره او البذل لبعض المجالات التي تقصر عنها جهود الدوله اوالتناغم مع امال الامه في اتمام مشروعات مصيريه تدفع بها قدما الي الامام، ولا يتوقف الامر عند الشركات فقط بل هو مزيجا متكاملا في كل نواحي الحياه، تقوده مجموعة من القيم والأخلاق الاجتماعية بما يسهل عمليات التفاعل الاقتصادي والسياسي علي المستوي المؤسسي والفردي بما يشكل بنية أساسية للعلاقات الاقتصادية والسياسية والتنظيميه، حيث تتجسد القيم والأخلاق من خلال هياكل وبني اجتماعية لصالح كل افراد المجتمع مدعمه لمصالحهم ومقويه لتماسكهم، فتصبح الحياه ليست قاصره علي تبادل السلع فقط، بل يشملها تعزيز دور الموطنين كافراد او جماعات فاعله في مجتمعاتها، فتتراكم في المجتمع قيم التنظيم والعدالة والشفافية واحترام الآخر والنفع العام والمحافظه علي مكتسبات الامه، فيصبح المجتمع قادرا علي التغلب علي مشكلاته الواحده تلو الاخري، ومن الطبيعي ان ينتج ذلك تقوية للثقة في عمليات ومؤسسات التبادل الاقتصادي وبالتالي يزيد من كفاءتها وسرعتها، كما أنه يخلق علاقة قوية بين الدولة والمجتمع يمكن من خلالها مد جسور التفاهم المؤسسي للاشتراك في تحديد الأهداف والسياسات المتعلقه بالتنمية، فالتبرع بالأموال لدعم المؤسسات والجهات التي تفيد المجتمع وكذلك التطوع بالوقت والجهد للمشاركة في بناء المجتمع هي اليوم من المسلمات في كثير من البلدان المتقدمه، فما الذي يدفع بيل جيتس صاحب شركة مايكروسوفت للتبرع بأكثر من 30 مليار دولار تخصص للأعمال الخيرية في الصحة والتعليم ، ويقررالتخلي عن مهام إدارة شركته ليسخر نفسه ووقته وفكره لخدمة المجتمع، لقد بلغت أوقاف جامعة هارفارد امريكيه اليوم أكثر من 30 مليار دولار، كما بلغت اوقاف جامعة تكساس أكثر من عشرة مليارات دولار، ولا يمر شهرعلي جامعة فلوريدا دون ان تتلقي تبرع يفوق المليون دولار لدعم نشاط من أنشطتها التعليمية أو البحثية، ان ذلك كله نتاج افعال افراد عاديين يستشعرون دورهم القيمي في مجتمعهم ولا يقتصر الامر علي رجال الاعمال فقط بل يتعداه الي شرائح المجتمع كلها فهناك مطربه امريكيه شهيره تتبرع باكثر من ثلثي دخلها لدعم المجتمع، انها منظومه قيميه ينصهر في بوتقتها الكثير من الافعال التي تدفع بالتنميه قدما الي الامام.

5- مزيج من المعرفه والابداع وثقافه المجتمع
اذا قرر المجتمع بكافة طبقاته الاتجاه الي المعرفه كوسيله للتميز وتجاوز الهوه الحضاريه التي وقع فيها، فلابد ان يبدأ من المعرفه والتي لابد ان ينطلق من طياتها الابداع، لكن هذا الابداع يحتاج الي امكانيات واليات، تتمثل في موارد ماليه يتم من خلالها اقامة مراكز بحثيه جديده او تمويل المراكز البحثيه القائمه والتي تعاني الاهمال او البيروقراطيه المفرطه والتي يتحول بمقتضاها الباحثين الي موظفين قتلهم الاحباط وقضي علي مواهبهم الروتين العقيم ودمر نفسياتهم رؤساء لا يجدون من يحاسبهم علي انتاجهم او مخرجات مراكزهم البحثيه او مدي اجادتهم في الادارة، واذا اعتبرنا ان اقسام الدراسات العليا بالجامعات والاكاديميات مراكز بحثيه عامه، فهل هناك خطة بكل قسم من الاقسام سواء تغطي الاجل القصير او الطويل، ولا اقصد بالخطط الكم اي اعداد المقبولين كل عام او كل فصل دراسي او عدد الابحاث وانما اقصد مواضيع البحث التي يتم التركيز عليها، فهل عمل القائمون علي الدراسات العليا بدراسة احتياجات المجتمع المحلي او حتي العالمي لتحديد المواطن التي يجب التركيز عليها لتقابل هذه الاحتياجات، فتحل مشاكل التصنيع اوتكتشف طرق اواساليب جديده لتخفيض تكلفة منتج ما او اكتشاف علاج لمرض ما او صنع اله طبيه او هندسيه، او العمل علي حل مشاكل ضعف الخبره والمهاره لدي الخريجين او تاهيلهم للدخول الي سوق العمل، او ابتكار نظريات اداريه جديده ؟، وماهي الموازنات الماليه المرصوده لكي يتمكن الباحثون من انجاز فروضهم البحثيه ؟، وما الذي يتقضاه الاساتذه المشرفين علي الباحثين حتي يتمكنوا من متابعة عملهم ؟ انني اعتقد ان هذه الاماكن هي اول منابع الابداع وهي ايضا التي تضع البذره الاولي للمعرفه، لكن هذه المراكز البحثيه ماذا قدمت للمجتمع ؟ وماذا قدم لها المجتمع حتي تتمكن من تقديم ما يعمل علي تطويره سواء علي مستوي الفرد او المؤسسات او حتي علي مستوي الاسره ؟ ان التواصل بين منابع المعرفه والابداع والمجتمع تحتاج الي جسور قويه من التبادل والالمام بحجم المنافع التي ستعود علي المجتمع باكمله، كما تحتاج الي الشفافيه التي يتولد عنها الثقه التي تجعل الجميع يعمل من خلال منظومه قوامها المصلحه والمنفعه المتبادله للجميع، ولقد ذكرنا من قبل ان الاوقاف التي رصدها المجتمع لجامعة هارفارد بامريكا تبلغ اليوم حوالي ثلاثين مليار دولار، مساهمه منه في تمويل مورد من موارد المعرفه والابداع، فكم تبلغ التبرعات اواوقاف المجتمع اليوم لكل الجامعات المصريه او العربيه؟ ومن الجدير بالذكر ان جامعة القاهره 'والتي كانت تعرف باسم جامعة فؤاد الاول' اقيمت علي ارض اوقفتها الاميره الأميرة "فاطمة إسماعيل" '1853-1920' حيث أوقفت مساحة من أراضيها الزراعية ليذهب ريعها إلي الجامعة فتضمن بذلك مصدرا للتمويل، كما تبرعت بجزء كبير من مجواهراتها كسيوله ماليه للبدء في المشروع، كما خصصت الارض المقام عليها الحرم الجامعي من حيازتها الخاصه، وشاركت في وضع حجر الأساس في الاحتفال الذي أقيم في 31 مارس 1914م،وقد ساهم كثيرون غيرالاميره فاطمه في استكمال بناء جامعة القاهره،فقد تبرعت كافة طوائف الشعب بالمال واوقف اخرين ريع اراضيهم الزراعيه للصرف علي استكمال البناء، لقد غابت هذه الروح واضحت منارات العلم والمعرفه لا تمثل للمجتمع وحتي للمنتسبين اليها الا تخريج الاف الشباب كل عام لينضم اكثرهم الي سوق البطاله، ومن انضم منهم الي سوق العمل ترك تخصصه الاصلي ليعمل في مجال ليس له علاقه بما درسه في الجامعه، بلاضافه الي بضعة الاف من الرسائل والابحاث العلميه التي يكون مآلها ارفف المكتبات او الارشيف، لاتفيد المجتمع ولايتلاقي اكثرها مع متطلباته، هذا هو حال منارات المعرفه في اوطاننا، ناهيك عن الضعف التام في اجور الاساتذه المفترض انهم يبدعون ويصنعوا المبدعين، هل درس القائمون علي منارات العلم ببلادنا لماذا لم تحصل جامعاتنا علي اي مراكز متقدمه في التصنيف العالمي للجامعات' طبقا للتصنيف الامريكي او الاوربي' ؟ في حين حازت دول مثل الهند وجنوب افريقيا علي مراكز متقدمه في التصنيف، وما هي الخطوات التي اتخذت للارتفاع بالمستوي الذي يؤهل جامعتنا لمنافسه حقيقيه مع الجامعات العالميه ؟، انني اعتقد ان الحكومات مسئوله بدرجه كبيره علي توجيه نظر الجامعات الي التواصل مع المجتمع، كما انها مسئوله ايضا عن خلق ثقافه المعرفه لدي المجتمع، ان ثقافة المجتمع تنبع من وسائل كثيره يجب ان تكون متسقه معا لتحقق اهدافها، مثل القوانين والتعبئه العامه نحو موضوع ما، وعمل المنظمات الاهليه او ما يسمي منظمات المجتمع المدني من جمعيات اهليه ونقابات مهنيه واحزاب سياسيه، ان التناغم والتوافق بين المعرفه والابداع وثقافة المجتمع هي البدايه الحقيقيه نحو التقدم واللحاق بركب الحضارة.