المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة: القلوب



عبد الحميد الغرباوي
23/02/2007, 11:00 PM
القـلـــــوب

أفلت يده البضة من يدها و انطلق يقفز جذلان...
هنا،..
في الجانب الأيسر من الممر العريض المترب، اعتادت أمه الجلوس على أحد المقاعد الأربعة المقابلة لوسط الحديقة الصغيرة المزين بأزهار و ورود تحف بها أشكال هندسية من عشب..
و هنا، اعتاد أن يجد كوثر بشعرها الحريري المتهدل على الكتفين و العينين الواسعتين العسليتين، طلقة المحيا، عذبة الابتسام، جالسة جوار أمها على أحد المقاعد الأربعة لا تريم مكانها تنتظره.
جلست أمه على المقعد الأثير إلى نفسها، من حسن الحظ كان فارغا، فجلس إلى جوارها..
" لعل أمرا ما حال دون مجيئها"
رفع عينيه إلى السماء...
لا تعجبه السماء حين تكون دكناء..
انتظر كوثر كثيرا..
و حين عيل صبره، قام، التقط عودا رفيعا لمحه على مقربة من المقعد.
ابتعد قليلا عن أمه، جلس القرفصاء، و راح يخط على أرضية الممر المتربة خطوطا...
عثمان.
طفل صغير ذو وجه مستدير أبيض كالشمع، مضيء كالبدر، و شعر فاحم السواد، و عينين براقتين حالمتين.
عثمان لا تعجبه السماء حين تكون متجهمة دكناء.
يحبها في تلك الزرقة الرائقة الشفافة، و على جانب منها تتفتح شمس كأقحوانة ربيع صفراء بعينين كبيرتين و فم يضحك..
" أين يمكن أن تكون كوثر الآن ! "
العصافير شقشقاتها تملأ المكان ضجيجا..
أن يكون له جناحان!
ياه،
ذاك حلم..
آه لو يكون له جناحان، لكان الآن مثل هاته العصافير يسبح حرا طليقا في الفضاء...
أي شيء أمتع و أحلى من التحليق بعيدا...
بعيدا عن الأعين الصارمة، الراصدة لكل حركة و نأمة. و فوق الخطوط المتقاطعة، راح يرسم شمسا ضاحكة، و عصافير مغردة و أطفالا بأجنحة كبيرة...
ضحكت أمه بصوت عال فانتبه إليها، إلى جوارها تجلس امرأة لا يعرفها..
أحنى رأسه يواصل خربشاته.
ـ ماذا تفعل في التراب؟..
دق قلبه عنيفا..
حذاءان أسودان ثقيلان مغبران، سروال كاكي، حزام جلدي بني سميك، بطن آخذة في الاندلاق، قميص في لون السروال ينزل على صدر عريض، عنق غليظ مشعر، ذقن حليق، شفتان مكتنزتان شديدتا الازرقاق، منفرجتان عن ابتسامة باردة، أنف كبير ، عينان واسعتان لكنهما باردتان لا حرارة فيهما، حاجبان شعيراتهما غزيرة كحلاء طويلة ، و قبعة كاكية تخفي رأسا كبيرا...
هذا الحارس،..
ـ انتبه إلى ثيابك .. أنت تعفرها بالتراب...
رمى العود جانبا و استقام واقفا، متراجعا قليلا إلى الخلف،ينفض عن يديه التراب ، و يمسح بهما على سرواله بطريقة آلية..
حيا الحارس أمه و واصل سيره مبتعدا ، فيما ظل عثمان يلاحقه بعينيه.
هذا الحارس، كم هو ممل و ثقيل و سخيف...
و ما كاد يتوارى خلف الأشجار حتى عاد إلى مكانه ملتقطا العود و راح يرسم مزيدا من شموس و عصافير و أطفالا بأجنحة كبيرة...
آه لو كانت كوثر معه الآن ، لأعادا معا رسم مدينتهما بشكل أوسع و أبهى...
كشفت غيمة سوداء عن بقعة من السماء فانثال على المكان دفق من أشعة الشمس..
قال:
" الشمس تختبئ خلف هذه الغيوم"..
استقام واقفا.
أجال بصره في الحديقة. لمح غير بعيد، قرب شجرة، فتى و فتاة.
هو في قميص مورد أخضر قصير الأكمام و سروال " دجين" ينتعل حذاء رياضيا أبيض.
هي في فستان من "الجيرزي" الأصفر البارد. تنتعل حذاء مشبكا أخضر.
كانا يتضاحكان..
نقل بصره إلى حيث تجلس أمه. لا تزال هي و صاحبتها تتحاوران...
عاد إلى الفتى و الفتاة.
الفتى يفعل شيئا على جذع الشجرة ثم يشد فتاته إلى جانبه، يلف خصرها بساعده و يغادران الحديقة..
انطلق يعدو صوب الشجرة.
تبدو أكبر شجرة بالحديقة.
وقف لحظة يتأمل جذعها ثم ولى مسرعا إلى حيث كان...
رمى أمه بنظرة خاطفة. كانت لا تزال لاهية عنه بالحديث إلى صاحبتها.
جلس القرفصاء و بالعود الرفيع راح يرسم على أرضية ممر الحديقة المتربة قلوبا تخترقها نبال.

صبيحة شبر
27/02/2007, 04:04 PM
القاص القدير عبد الحميد الغرباوي
بقلم مبدع جميل يرسم الكاتب احلام الصغار
في مدينة جميلة يظللها الحب وتجمعها الالفة
يرسم الصغير خطوطا على الارض ويحلم بفتاته الغائبة
وينظر الى طفلين رائعين يعيشان البراءة بعيدا عن قوانين الكبار
التي كثيرا ما تكون متشككة وصارمة

عبد الحميد الغرباوي
28/02/2007, 12:00 AM
إطلالتك طمأنتني إلى أنك هنا..
أتمنى ألا يكون إصدارك الأخير قد شغلك عن منتدى القصة الأخيرة.
مودتي

بديعة بنمراح
28/02/2007, 12:17 AM
المبدع القدير عببد الحميد
ما أبهى هذه القصة. الحب عندما يترجم وردا وأقحوانا في فكر البراعم الخضراء المتفتحة .
متفتحة على الحياة و الحب والصفاء والعطاء ..خارج عالم الكبار.. عالم المسؤوليات و الاوامر والممنوعات ..أسلوب شيق يجعلك تتورط مع الأحداث والشخصيات ..قرأتها ثلات مرات و استمتعت كثيرا..أسجل إعجابي الكبير
مع كل الود

عبد الحميد الغرباوي
28/02/2007, 08:37 PM
...الحب عندما يترجم وردا وأقحوانا في فكر البراعم الخضراء المتفتحة .
متفتحة على الحياة و الحب والصفاء والعطاء ..خارج عالم الكبار../ بديعة بنمراح
ما أحوجنا أختاه إلى هذا الحب.. الحب الذي يملأ قلوب الصغار..
ليكن هذا الرد ،مرة أخرى، دعوة إلى المحبة و التآخي..
مودتي

هويدا صالح
02/03/2007, 04:37 PM
المبدع الجميل عبد الحميد الغرباوي
سرد محكم .. وعالم باذخ مليئ بالحلم والأمنيات .. أحلام أطفال تخطها بقلمك البديع ولغتك البصرية
... عل الأحلام تتحقق .. والفرح يملأنا .. محبتي علي هذا النص الرائق

عبد الحميد الغرباوي
03/03/2007, 06:55 AM
المبدع الجميل عبد الحميد الغرباوي
سرد محكم .. وعالم باذخ مليئ بالحلم والأمنيات .. أحلام أطفال تخطها بقلمك البديع ولغتك البصرية
... عل الأحلام تتحقق .. والفرح يملأنا .. محبتي علي هذا النص الرائق/ هويدا صالح
المحبة متبادلة، أختي هويدا.
يدهشني تنوع الكتابة عندك، و حضورك المتميز.
مودتي

الشربيني المهندس
03/03/2007, 06:00 PM
مابين محاولة العود الرفيع في ان يخط خطوطا متقاطعة وخربشات الشموس والعصافير والأطفال باجنحتهم الكبيرة لم اشعر بسطو الراوي علي القلوب وقد عشنا نحلم بكوثر
كسب الراوي رهانات الكتابة والتخييل وأنا أردد مع لحظات المخاض الفنية
آه لو كان لي جناحان

اشرف الخريبي
03/03/2007, 10:22 PM
المبدع الجميل الصديق عبد الحميد الغرباوي
لا اعرف ولكن الصداقة تفرض على ّ ان اكون اكثر صراحة
النص بالطبع جميل ويطرح عالم هادىء وبسيط يمتلىء ببزخ المحبة
وهذا بحد ذاته جميل
ولكن العالم الذى يصنعه المبدع الجميل عبد الحميد الغرباوى
اعتقد انه اعمق من ذلك بكثير لا يمكن ان انسى هذه القصص الخلابة
التى قرأتها لك لازالت روحها البديعة تسيطر على تلقى كقارىء
اذ تقدم بنية سردية عالية ومتوافقة ليس مقارنة بالطبع
فهذا نص وذاك نص اخر
ومع ذلك
امتعنى هذا الموقف البسيط فى بساطته المعتادة
وان كانت المسألة فى النهاية تعود الى تلقىّ انا وليس الى النص

خالص تقديرى لتقبلك رأى المتواضع
اشرف

عبد الحميد الغرباوي
03/03/2007, 11:37 PM
مابين محاولة العود الرفيع في ان يخط خطوطا متقاطعة وخربشات الشموس والعصافير والأطفال باجنحتهم الكبيرة لم اشعر بسطو الراوي علي القلوب وقد عشنا نحلم بكوثر
كسب الراوي رهانات الكتابة والتخييل وأنا أردد مع لحظات المخاض الفنية
آه لو كان لي جناحان/ الشربيني المهندس
حتى في تعليقاتك يكمن الإبداع..
سلم يراعك
مودتي

http://www.arabswata.org/forums/showthread.php?t=7437

عبد الحميد الغرباوي
04/03/2007, 08:39 AM
امتعنى هذا الموقف البسيط فى بساطته المعتادة
وان كانت المسألة فى النهاية تعود الى تلقىّ انا وليس الى النص
خالص تقديرى لتقبلك رأى المتواضع
اشرف
شكرا لك أخي أشرف.
إطلالتك هنا، أو هناك، تسعدني..
أنا في انتظار جديدك.
مودتي
ــــ
http://www.arabswata.org/forums/showthread.php?t=7437

هري عبدالرحيم
07/03/2007, 01:56 AM
المبدع الناقد عبد الحميد الغرباوي:
"القلوب"،قصة تختزل زمن الطفولة بين طياتها،قصة تُعيد الماضي كي يصبح حاضراً يُسمعُ.
القصة بطلها طفل ،تتبعه الكاتبُ في أدق تفاصيل حياته،مُشاكساته،أحلام يقظته،لهوهِ،وفي حُبِّهِ.
ثم البطلة الوهمية، على الأقل بالنسبة للقاريء،فهي لم تدخل خشبة العرض ِ إلا من خلال ما يتمناه الطفل .
تبقى الأم حيث وظفها الكاتب ككومبارس في فيلمٍ مفروض عليها لعب دورٍ فيه،ثم الحارسُ الذي ظهر واختفى كثعلب محمد زفزاف.
الحلقة التي تجمع هذه الشخوص هي الطفل،وللقاريء الحق في أن يسأل ما علاقة كل هذا والعنوان "القلب"؟
الطفل غرير، هل يُحبُّ؟
نعم ،يُحب كوثر،حبا قد لا نفهم كلَّ تفاصيله،فمشاركة اللعب حُبٌّ،والجلوس في الحديقة للحكي حبٌّ،وتبادل الحلوى حُبٌّ،وتمثيل دور العروس والعروسة حُبٌّ.
هذا الحب لا يعي طبيعته إلا الأطفالُ،فهو غضٌّ كأعمارهم،وهو بريءٌ كأفكارهم.
ينتظرُ طويلا ،ثم ينسحبُ دون أن يُحْدِثَ صخبا ،كأنه مُعتاد على مثل هذا،مرة يلتقيان ومراتٍ لا يلتقيان،تلك عادة مواعيد الصغار يتركونها للصُّدف، ونحن الكبار نَقولُ رُبَّ صُدْفَةٍ خيرٌ من ألفِ ميعادٍ،نقولها ،أما الأطفال فهم يعيشونها ويُطَبِّقونها.
القاموس المُستعملُ قاموس يتأرجحُ بين البسيط حينا، والأكاديمي حيناً.
الزمنُ المُستَهلكُ زمنٌ قياسي يُحيل النص إلى دائرة القصة القصيرة.
إبداعٌ رائعٌ،جعلني لا ألتفتُ لبعض الهفوات الناتجة حتما عن سرعة الرقن،بمراجعة بسيطة ستتجلى للكاتب .
أُحييك أديبنا المُتَمَيّز.
مزيدا من الإبداع فمنه نغترفُ.

عبد الحميد الغرباوي
07/03/2007, 10:58 AM
أخي هري،
يسعدني تفاعلك مع النصوص، و انتقالك من نص إلى آخر محللا مستجليا خفاياه..عارضا وجهة نظرك، و كل ذلك بحرفية الأستاذ المبدع المتمكن.
نص " القلوب" هو من مجموعتي الأخيرة (شامة)الصادرة عن " دار الحوار" (اللاذقية ـ سوريا)، كما النصوص الأخرى المثبتة هنا، و آلمني كثيرا أن تصدر المجموعة مثقلة بالأخطاء، فقررت مراجعتها و تصحيحها و عرضها على القراء، قبل أن أعيد طبعها في إصدار ثان، إن شاء الله.
الهفوات، كما قلت، ناتجة عن الرقن، و قد تكون نتاج تصوري لتركيبة الجملة، عدْتُ، أخي، إلى النص، فما وجدت سوى هذه الجملة :
و راح يرسم مزيدا من شموس و عصافير و أطفالا بأجنحة كبيرة...
و ( أطفال) هنا، كما تعلم، معطوفة على (مزيدا)..
مودتي

محمد فؤاد منصور
14/05/2008, 05:34 AM
أخي العزيز عبد الحميد
النص جميل والقص مدهش ، والأسلوب الهادئ الناعم الذي يصور براءة المشاعر ورقة الأحساس يتفق تماما ً مع الموضوع ..لكأن الكاتب حين يكتب مثل الموسيقي يختار لموضوعه المقام الموسيقي المناسب والمعبر عمايلحنه من أغان فهو صاخب هادر حين يغني للوطن والكفاح وهو ناعم منساب حين يغازل الحبيبة أو يبثها لواعجه ...باختصار أنت اخترت المقام المناسب لنصك وشخوصك فأخرجت لنا إبداعاً راقياً..تحياتي.
د. محمد فؤاد منصور :fl: