المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أندلسيون: هكذا يكون الرجال!



محمود عباس مسعود
04/02/2010, 06:06 PM
بين قاضي القضاة وأميره الحكم بن هشام

من خيار الرجال الذين يفخر بهم العلم ومنصب القضاء أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل المعافري، واشتهر باسم
محمد بن بشير، وهو عربي أصيل، انتقل قومه إلى باجه وبها كانت نشأته، ثم رحل إلى المشرق، فوصل المدينة ولقي إمام مالكا وجالسه وسمع منه، واقتبس أيضاً من علماء مصر في عودته، ثم انصرف إلى الأندلس، فلزم ضيعته بباجه، إلى أن استدعي ليتولى القضاء بقرطبه في أيام الأمير الحكم بن هشام.

وصف المؤرخين له
قالوا عنه: إنه كان من عيون القضاة الهداة، ومن أولى السداد والمذاهب الجميلة، وأصالة الرأي والسيرة العادلة والذكر الجميل الخالد. وكان شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، صلباً في الحق، لا هوادة عنده لأحد من أصحاب السلطان، ولا مداهن لديه لأحد، لا يؤثر غير الحق في أحكامه، جيّد الفطنة قوي الإدراك.

كان مصعب بن عمران يتولى القضاء، وكان محمد بن بشير كاتباً له، ثم تخلى عن الكتابة، فلما توفي مصعب استشار الأمير الحكم بن هشام من حوله فيمن يستقضيه فأجمع له وزراؤه وأعلام الناس على أن يولي محمد بن بشير، فولاّه الأمير الحكم القضاء، فأبَرَّ على (مصعب) وبعُدَ في الفضل والعدل صيته، وخلدت آثاره بعده، فلم يزل قاضياً إلى أن توفي بقرطبة سنة ثمان وتسعين ومائة 198 هـ فاستقضى الحكم بعده ابنه سعيد بن محمد.

ابن بشير والوزير
كان ابن فطيس وزيراً للأمير الحكم بن هشام. وقد تقدم أحد خصومه إلى القاضي محمد بن بشير مدعياً بحق له عليه، وقدّم الشهود الذين وثق بهم القاضي، وقبل شهادتهم، فأصدر حكمه على الوزير ابن فطيس دون أن يبعث إليه أو إلى وكيله أسماء الشهود الذين اعتمد على شهادتهم في إثبات الحق عليه، ودون انتظار حضوره هو أو وكيله، وذلك لأمر في نفس القاضي لم يبده. فشكا ابن فطيس ذلك إلى الأمير الحكم وتظلم منه. واهتم الأمير بالأمر وبعث إلى القاضي محمد بن بشير بذلك، وعرّفه بشكوى الوزير من أنه أمضى القضاء عليه دون أعذار، ودون أن يذكر له أسماء الشهود الذين اعتمد شهادتهم، مع أن هذا حق له بإجماع أهل العلم.

فكتب القاضي ابن بشير إلى الأمير الحكم يقول له: ليس ابن فطيس ممن يُعرّف بمن شهد عليه، لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن أذاهم فيتركوا الشهادة هم ومن اقتدى بهم فيضيع أمر الناس.

ابن بشير والأمير الحكم
وكان للأمير الحكم بن هشام عم اسمه سعيد الخير. وقد كان لهذا العم وكيل وكـّله ليخاصم له عند القاضي محمد بن بشير في مطلب له يريد إثبات حقه فيه. وكانت عند سعيد الخير وثيقة فيها شهادات جماعة من الناس الموصوفين بالعدالة والصدق، لكنهم كلهم ماتوا، ما عدا شاهدين ، تقدم أحدهما فأدلى بشهادته وقبلها القاضي محمد بن بشير، ولكنه لم يصدر الحكم لصالح سعيد الخير، في انتظار أن يتقدم شاهدٌ ثانٍ ليثبت بهما الحق، ولم يكن الشاهد الثاني الباقي حياً إلا ابن أخي سعيد الخير، وهو الأمير الحكم نفسه، فاضطر سعيد إلى أن يلجأ إلى ابن أخيه، ليقدّم شهادته لدى القاضي، فدخل عليه وعرّفه حاجته إلى شهادته.

وكان الأمير الحكم معظـّماً لعمه، فقال له: يا عم أعفني من هذه الكلفة، فقد تعلم أننا لسنا من أهل الشهادة عند قضاتنا، إذ التبسنا من فتن هذه الدنيا بما لا نرضى به عن أنفسنا، ولا نلومهم على مثل ذلك فينا، ونخشى أن توقفنا مع هذا القاضي موقف خزي نفديه بملكنا. فسر في خصومتك إلى حيث ينتهي بك الحق، وعلينا أن نخلف لك ما ينقصك، وأن نعطيك أضعافه.

لكن عمه سعيدا لم يقبل ذلك، وألح على ابن أخيه، إلى أن وجّه فقيهين يحملان شهادته نيابة عنه، ويؤديانها إلى القاضي محمد بن بشير. وحضرا إليه، وأديا الشهادة التي حملاها، فقال لهما القاضي: قد سمعت منكما فقوما راشدين.

وجاء دور وكيل سعيد الخير، فتقدم مدلاً واثقاً بالحكم لموكله فقال: أيها القاضي قد نقلت إليك شهادة الأمير، فما تقول؟ فأخذ القاضي كتاب الشهادة، وأعاد النظر فيها، ثم قال: هذه شهادة لا تـُقبل عندي، فجئني بغيرها.

فمضى الوكيل إلى سعيد، وأعلمه بما حدث، فركب من فوره إلى الأمير الحكم وهو يتميز من الغيظ وقال: ذهب سلطاننا، وأهينت عزتنا، بتجرؤ قاضيك على رد شهادتك. هذا ما لا يجب أن تتحمله عليه.

وأكثر من هذا الكلام، وأخذ يغري الأمير بالقاضي ابن بشير والأمير الحكم مُطرق. فلما فرغ من كلامه قال له: يا عم، هذا ما قد ظننته، وقد آن لك أن تقصُر عنه بالحق فالحق أولى بك. والقاضي قد أخلص يقينه لله، وفعل ما يجب عليه، ولو لم يفعل ما فعله لأجال الله بصيرتنا فيه – وقد يجعلنا ننظر في أمر عزله. فأحسن الله جزاءه عنا وعن نفسه، ولست والله أعترض على القاضي بعد ذلك فيما احتاط لنفسه.

أما القاضي فقد كانت حجته فيما فعل من أعظم ما يتخذ ذريعة لحماية حقوق الناس. ذلك أن بعض إخوان القاضي محمد بن بشير لأمه (أنحى عليه باللائمة) فيما فعله، فقال له القاضي: يا عاجز ألا تعلم أنه لا بد من الأعذار في الشهادات، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها، ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه.

الخليفة يدعو بالليل
ومثل هذه المواقف مما يقدّرها المخلصون الذين يريدون الخير للرعية ويحرصون على بقاء أمثال هؤلاء الرجال مناصبهم لصيانة الحقوق.

ولقد وُجد الأمير الحكم في إحدى الليالي قائما تحت شجرة يصلي ويدعو ويجتهد في الدعاء، فلما انصرف إلى مرقده سألته حظيته التي رأته يفعل ذلك عن السبب الموجب لهذا الوقوف والدعاء، وظنت أن أمراً قد دهاه وطرَقه، فقال لها: ما فعلت ذلك إلا أن محمد بن بشير القاضي في سكرات الموت، فأشفقت من فقده وأعجزني الإعتياض عنه، فقد كنت جعلته فيما بيني وبين الله في أحكام الناس، فاعتمدت عليه واثقاً، إذ كانت نفسي مستريحة إلى عدله، فناجيت الله تعالى ودعوته دعوة مضطر إلى إجابته في أن يحسن عزائي، ويجعل لي عوضاً عنه.

ومات محمد بن بشير سنة 198 هـ ومات الأمير الحكم بعده بثمانية أعوام.

مواطن الإمتحان في الإنسان
يقال أن محمد بن بشير لما وُجّه إليه ليذهب إلى قرطبة عرّج في طريقه على صديق له عابد، وقال له صديقه ما أرى أنه بعث إليك إلا لتولـّى منصب القضاء، فقد مات قاضي قرطبة. فقال له ابن بشير: فإذا قبلتها فما ترى؟ فانصح لي وأشر عليّ.

قال له العابد: أسألك عن ثلاثة أشياء فاصدقني فيها: كيف حبك لأكل الطيّب، ولباس الليّن، وركوب الفاره من الدواب؟ فقال ابن بشير: والله ما أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به رجلي.

فقال: هذه واحدة، فكيف حبّك للوجوه الحسان وشبه هذا من الشهوات؟ فقال ابن بشير: هذه حالة والله ما استشرفت نفسي إليها قط ولا خطرت ببالي.

قال: هذه ثانية، فكيف حبك للمدح والثناء وحبك للولاية وكراهتك للعزل؟
قال: والله ما أبالي في الحق من مدحني أو ذمني، وما أسر بالولاية، ولا أستوحش للعزل.
فقال له صديقه العابد: أقبل القضاء ولا بأس عليك

ثم تولى القضاء وأظهر صلابته في أحكامه، فعُزل فرجع إلى بلده، فما لبث إلا يسيراً حتى أتى فيه بريد من قبل الأمير الحكم بن هشام ليرجع إلى قرطبة، فعدل في بعض الطريق إلى صديقه الزاهد وقال له: قد أرسل فيّ الأمير وأظن أنه يردّني إلى القضاء ثانية، فما ترى؟

فقال له صديقه: إن كنت تعلم أنك تنفذ الحق على القريب والبعيد، ولا تأخذك في الله لومة لائم فلست أرى لك أن تحرم الناس خيرك. وإن كنت تخاف أن لا تعدل فترك الولاية أفضل لك.

قال ابن بشير: أما الحق فلست أبالي على من أقررته إذا ظهر لي. فقال له، لست أرى أن تمنع الناس خيرك. فورد قرطبه وولي القضاء ثانية. وكان مما اشترط على الأمير الحكم لقبوله المنصب: أن ينفذ حكمه على كل أحد، من أعلى درجة في الوظائف إلى أقل الدرجات. وأنه إن ظهر له في نفسه عجز واستعفى فعلى الأمير أن يعفيه.

وهكذا يكون الرجال.. وهكذا تعظم الأقدار وتخلـّد الآثار.

والسلام عليكم

عبد الستار أحمد فراج
مجلة العربي – العدد 163 يونيو 1972
الإعداد بتصرف: محمود عباس مسعود

د.محمد فتحي الحريري
07/02/2010, 08:20 PM
اخي الهمام البحاثة
الاستاذ المفضال محمود بخير وود
اسعدتني بهذه القامة الاندلسية التي تنتمي للفردوس المفقود
وذكرتني بمجلة العربي الرائعة وانا من متابعيها منذ العدد39 كم اظن لان الوالد رحمه الله كان يؤثرها ، واليوم كما يقال فيها وفي غيرها :
تبدلت غزلانها بقرود !!!!!
لكم الحب والود كله .............:mh78:

محمود عباس مسعود
07/02/2010, 09:24 PM
اخي الهمام البحاثة
الاستاذ المفضال محمود بخير وود
اسعدتني بهذه القامة الاندلسية التي تنتمي للفردوس المفقود
وذكرتني بمجلة العربي الرائعة وانا من متابعيها منذ العدد39 كم اظن لان الوالد رحمه الله كان يؤثرها ، واليوم كما يقال فيها وفي غيرها :
تبدلت غزلانها بقرود !!!!!
لكم الحب والود كله .............:mh78:

أخي العالم الفذ الدكتور محمد حفظك الله
أعجبتني عبارتك (التي تنتمي للفردوس المفقود) فتلك الجرأة غير العادية يبدو أنها تبخرت وأصبحت من خبر بل أخبار كان. الأعداد القديمة من مجلة العربي تحفٌ رائعة ملأى بكنوز وجواهر لا تقدر بثمن، فتلك الحقبة الذهبية استقطبت عقول الأمة آنذاك وكانت الأيدي تتهاتف أعدادها فور وصولها إلى المكتبات فتنفد الأعداد أحياناً خلال ساعات قليلة. وكان الكثيريون يوصون عليها ويدفعون ثمنها سلفاً حتى لا يفوتهم عدد واحد من أعدادها. وها نحن نستعيد بعض تلك المواد الرائعة ونشارك القراء بها.
كل المودة والتقدير أخي الحبيب
وعليك السلام

هشام بالرايس
09/02/2010, 01:12 PM
بسم الله الرحمن الحيم
الأخ الفاضل محمود عباس مسعود
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
شكرا لك لهذا الإقتباس و هذا يذكرني ما قاله العلامة ابن خلدون في المقدمة " العدل أساس العمران " سلام

هشام بالرايس
09/02/2010, 01:15 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل محمود عباس مسعود
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته و بعد: اختار جيد و مفيد ذكرني بما قاله العلامة عبد الرحمان بن خلدون في المقدمة " العدل أساس العمران " سلام

مصطفى عودة
09/02/2010, 09:09 PM
هل من تعليق لمحرري العربي ومعدي مادتها الان، ام ان الامر قد انتهى منذ تجميد العمل بنظام القيم والاصالة ؟؟

هل ثقافة الشيبس والبلاستيك والسنكرز والجينز ومفهوم " عادي " ومباريات كرة القدم والضرب بالسيولة الاخلاقية وجاكسون وجيمس بوند والصور المتحركة قد حركت القيم لمربع العيش بين الفراغ والفراغ ، يا ايها العربي الابي؟؟

محمود عباس مسعود
11/02/2010, 02:05 PM
بسم الله الرحمن الحيم
الأخ الفاضل محمود عباس مسعود
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
شكرا لك لهذا الإقتباس و هذا يذكرني ما قاله العلامة ابن خلدون في المقدمة " العدل أساس العمران " سلام

أخي العزيز هشام بالرايس
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم العدل هو ميزان الحق وأساس العمران ومؤشر الرقي في المجتمعات.
تحياتي ومودتي