المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية /القسم الثاني / قضية الجزية



نبيل الجلبي
05/02/2010, 09:52 PM
حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية

القسم الثاني

قضية الجزية

سيل من الأقاويل والمغالطات والمهاترات حِيكَ حول قضية الجزية في الإسلام، وكان المبشِّرون والمستشرقون هم الذين تَوَلَّوْا كِبْرَهَا، الأمر الذي جعل أهل الذِّمَّة أو الأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة يفزعون من مجرد ذكر اسمها؛ إذ إنهم يرونها - كما صُوِّرت لهم - صورة من صُوَرِ الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت تحت وِلاية المسلمين، وعقوبة فُرِضت عليهم مقابل امتناعهم عن الإسلام!! والحقيقة أن هذا فيه إجحاف كبير ومغالطة للحقيقة، ونحن بصدد الكشف عنه وبيانه فيما يلي:

تعريف الجزية

الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، والعرب تقول: جزى، يجزي، إذا كافأ عمَّا أسدي إليه. والجزية مشتقٌّ على وزن فِعلة من الجزاء والمجازاة، بمعنى: أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وقال ابن المطرِّز: بل هي من الإجْزَاء؛ لأنها تُجْزِئُ عن الذِّمِّيِّ.
وعلى كِلاَ المعنيين فهي ليست - كما زعم بعض الفقهاء وتلقَّفها المتربِّصون - عقوبة ينالها الكافر على كُفْرِه؛ فإن عقوبة الكفر لن تكون بضعة دنانير، ولو كانت الجزية عقوبة على الكفر لما أسقطت عن النساء والشيوخ والأطفال – وغيرهم كما سيأتي في موضعه - لاشتراكهم في صفة الكفر، بل لو كان كذلك لزاد مقدارها على الرهبان ورجال الدين، بدلاً من أن يُعفوا منها (منقذ بن محمود السقار: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي: المطلع على أبواب الفقه ).
وأما الجزية عند أهل الاصطلاح فتعني: ضريبة سنويَّة على الرءوس، تتمثَّل في مقدار زهيد من المال، يدفعها فئة معينة – سنبينها قريبًا – من أهل الكتاب بصفة عامَّة، والمجوس والمشركون في آراء بعض الفقهاء، وذلك نظير أن يُدَافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا، وسنرى قريبًا بعضًا منه.

على من تجب الجزية؟

رغم أن الإسلام لم يكن بدعًا بين الأديان حين فرض الجزية على غير المسلمين في الدولة الإسلاميَّة، كما لم يكن المسلمون كذلك بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية ممن دخلوا في كنف دولتهم وصاروا تحت ولايتهم، حيث أن أخذ الأمم الغالبة للجزية - كما يقول الدكتور السقار - من الأمم المغلوبة أشهر من علم، والتاريخ البشري أصدق شاهد على ذلك، رغم ذلك فإن الإسلام كان متفرِّدًا بين كل الأديان والقوانين الوضعيَّة في معاملة الأقلِّيَّات التي تعيش على أرض دولته من هذه الناحية.
فبعد أن أعطاهم كافَّة حقوقهم، والتي وضَّحناها أنفًا، والتي يستحيل أن تتوافر لهم أو لغيرهم من الأقلِّيَّات في كنف أي دولة أخرى غير مسلمة، بعد كل هذا كان من رحمته وسماحته أن فرض الجزية على فئة معيَّنة منهم ومنعها عن آخرين، فالجزية تؤخذ من الرجال البالغين القادرين المشاركين في القتال فقط والذين يستطيعون حمل السلاح، ولا تؤخذ ممن سواهم.

مقدار الجزية

رحمة الإسلام وسماحته تجاه الأقلِّيَّات على أرضه في أمر الجزية لم تقف فقط عند تعيين وتحديد الفئة التي يجب عليها وحدها دفع الجزية، وإنما ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: " لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا "( سورة الطلاق ـ 7 )، ويقول أيضًا:
" لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا " (البقرة:286)، وكانت هذه هي القاعدة العامَّة والعريضة في تحديد قيمة ومقدار الجزية، فليس للجزية - كما يقول الدكتور القرضاوي- حدُّ مُعين، وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة عامَّةً للأمَّة، يقول: وقد جعل عمر الجزية على الموسرين 48 درهمًا، وعلى المتوسِّطين في اليسار 24 درهمًا، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين 12 درهمًا، وبهذا سَبَقَ الفكرَ الضريبي الحديث في تقرير مبدأ تفاوت الضريبة بتفاوت القدرة على الدفع، ولا تَعَارُض بين صنيع عمر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا " (النسائي: كتاب الزكاة، باب زكاة البقر (2407)، وأبو داود (2642)، والترمذي (556)، وقال: حديث حسن. وأحمد (21027)) ؛لأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم حالتهم (د. يوسف القرضاوي:غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)
وإن تعجب فعجب أن قيمة الجزية هذه وفي كل الأحوال كانت أقل بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة المفروضة عليهم رجالاً ونساء وشيوخًا، والتي هي عبارة عن 2.5% من إجمالي مال المسلم إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، والتي هي بدورها أقلُّ من أي ضريبة في العالم!!
وأعجب منه أن الجزية هذه كانت – بلسان أهلهم - أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْمِ أنفسهم من غير المسلمين على شعوبهم وأبناء جلدتهم..!!

لماذا الجزية؟!!

لم يكن الإسلام يومًا ما متعسِّفًا في فرضه الجزية على الأقلِّيَّات التي تعيش في دولته، بل كان منصفًا كل الإنصاف في إيجابه هذه الجزية وإلزامها على القادرين عليها كما سبق أن رأينا، وفي سبيل توضيح سبب ذلك يقول الدكتور القرضاوي: أوجب الإسلام على أبنائه (الخدمة العسكريَّة) باعتبارها (فرض كفاية) أو (فرض عين)، وناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفى من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظلِّ دولته؛ ذلك أن الدولة الإسلاميَّة دولة (عقائديَّة) أو بتعبير المعاصرين دولة (أيديولوجيَّة)، أي أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يُقَاتِل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحَّة مبدئها وسلامة فكرتها، وليس من المعقول أن يُؤخذ شخصٌ ليضع رأسه على كفِّه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به، والغالب أن دين المخالفين ذاته لا يسمح لهم بالدفاع عن دين آخر، والقتالِ من أجله.
ولهذا – والكلام ما زال للدكتور القرضاوي - قصر الإسلامُ واجب (الجهاد) على المسلمين؛ لأنه يُعَدُّ فريضة دينيَّة مقدَّسة، وعبادة يتقرَّب بها المسلم إلى ربه... ولكنَّ الإسلام فرض على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين أن يساهموا في نفقات الدفاع والحماية للوطن عن طريق ما عُرِفَ في المصطلح الإسلامي باسم (الجزية). فالجزية - فضلاً عن كونها علامة خضوع للحكم الإسلامي- هي في الحقيقة بدل مالي عن (الخدمة العسكريَّة) المفروضة على المسلمين؛ ولهذا فرضها الإسلام على كل قادر على حمل السلاح من الرجال، فلا تجب على امرأة ولا صبي؛ لأنهما ليسا من أهل القتال، ومثل المرأةِ والصبيِّ الشيخُ الكبيرُ، والأعمى، والزَّمِن (صاحب العاهة)، والمعتوه، وكل مَن ليس من أهل السلاح.
وفي ذلك قدَّم الدكتور القرضاوي شهادة المؤرِّخ الغربي آدم ميتز حين قال: "كان أهل الذِّمَّة - بحكم ما يتمتَّعون به من تَسَامُح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم - يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهِّبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار.
ويُكمل الدكتور القرضاوي فيقول: على أن هناك علَّة أخرى لإيجاب الجزية على أهل الذِّمَّة، وهي العلَّة التي تُبَرِّرُ فرض الضرائب من أي حكومة في أي عصر على رعاياها، وهي إشراكهم في نفقات المرافق العامَّة، التي يتمتَّع الجميع بثمراتها ووجوه نشاطها، كالقضاء والشرطة، وما تقوم به الدولة من إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وغيرها. فالجزية إذن هي بدل عن فريضتين فُرِضتا على المسلمين، وهما: فريضة الجهاد وفريضة الزكاة؛ ونظرًا للطبيعة والقدسيَّة الدينيَّة لهاتين الفريضتين عند المسلمين فلم يُلزم بهما غيرهم (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).

هل تسقط الجزية؟!!

كانت الجزية من قِبَل المسلمين - كما أوضحنا سابقًا - بعد توفير أوَّلاً كافَّة الحقوق لأهل ذمَّتهم أو للأقلِّيَّات التي على أرضهم، ثم ثانيًا بعد إلزام المسلمين أنفسهم الكفَّ والدفاع والحماية عنهم، ومن هنا فليست هذه القاعدة مطلقة، وبطبيعة الحال فإنه إذا لم تستطع الدولة الإسلاميَّة – مثلاً - أن تقوم بدورها في حمايتهم، فإنه - ولا شكَّ - لن يعود لها أدنى حقٌّ في طلب هذه الجزية، وهو عين ما حدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حشد هرقل جيشًا ضخمًا لصدِّ قوَّات المسلمين في بلاد الشام؛ إذ إنه لما علم قائد المسلمين أبو عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه بذلك كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بردِّ ما جُبي من أهل الذمَّة من الجزية والخراج في هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنَّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وهنا دعا النصارى بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردَّكم الله علينا، ونصركم عليهم - أي على الروم - فلو كانوا هم لم يردُّوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي لنا"( د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).
هذا، وبطبيعة الحال أيضًا فإن الجزية تسقط كذلك – كما يقول الدكتور القرضاوي - باشتراك أهل الذِّمَّة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضدَّ أعداء الإسلام، وقد نُصَّ على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أُبْرِمَتْ بين المسلمين وأهل الذِّمَّة في عهد عمر رضي الله عنه (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).
إذن فالجزية تسقط عن تلك الأقلِّيَّات في حال إذا ما لم يستطع المسلمون الدفاع عنهم، وفي حال ما إذا اشتركوا في الخدمة العسكريَّة والدفاع عن الدولة والوطن الأم مع المسلمين، وعليه فإذا كانت الأوضاع الآن قد تغير الكثير منها عمَّا كان من ذي قبل، وصار جميع أبناء الدولة الواحدة والوطن الواحد يشتركون في الدفاع عنه، بغضِّ النظر عن الملَّة أو الديانة، ومثل ذلك أيضًا في أداء الضرائب ومستحقَّات الدولة، فإنه وفي سياق هذه المتغيِّرات يمكن الوصول إلى حلٍّ إيجابي فيما يتعلَّق بقضية الجزية هذه، ومع الوضع في الحسبان فرضيَّة الزكاة عند المسلمين.
وعن قضية الجزية يقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على النصارى - كما يريدنا بعض الباحثين على الظنِّ - لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذِّمَّة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تَحُولُ ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كَفَلَتها لهم سيوف المسلمين" (الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن، وإسماعيل النحراوي، وعبد المجيد عابدين.)

عن موقع قصة الإسلام

يتبع