المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نبت شيطانى جاف قصة قاسم مسعد عليوة



الشاعرمحمدأسامةالبهائي
25/02/2007, 01:04 AM
نبت شيطانى جاف

قاسم مسعد عليوة
جئنا الموقع فوجدناه
نبتاً شيطانياً جافاً

1 - حفرة برميلية
رفعت قامتى المكدودة فاصطدمت عيناى بأجمة الشعر التى عششت فيها الشمس وأفرخت لونها الوردى.

- هيك ما بتنفع لوتد خيمة

اهتز العش لاهتزازة الأصبع فتماوجت حزم الضوء بين عيدان الشعر المهتزة وألقت بظل الجاروف إلى قاع الخندق اكتشفت جرحاً يمتد بطول السبابة المفلطحة إلى ظفر أزرق مشقوق.

- بإمكانى حفرها بها الإصبع.

تحرك الظفر المشقوق تخطى حزم الضوء أحسست بظله يعبر وجهى.. تابعته.. ثمة نقطة سوداء فوق مدخنة المطبخ يزعق بصوته الطفلى :

- لوحفرها ها العصفور لكانت أعمق

قذفته بما تبقى فى الجاروف من رمل لكنه ماد وأفلت مشقشقاً.


2 - اشتباك أرض أرض
«تراعى اليقظة التامة وترفع درجة الاستعداد»
اقتحمت الزوبعة الرملية المحومة فوق شكائر الرمل وصناديق الذخيرة، فيما طرقت أذنى الصلصلة المعتادة لأدوات الطعام وقد ألقى بها أصحابها كالعادة. احتللت مقعدى وراء مدفعى المضاد. أدرته للخلف وضبطت الزوايا والمسافات وهناك فوق تلك التلة فوجئنا به منتصباً مشرئباً باتجاه الضفة الشرقية كفه اليمنى فوق جبهته ليحد من بصره، بينما اليسرى تعبث بفروة كلب عملاق.

«أطقم الميدان .. اشتباك».

مع هدير المدافع تصاعدت من وراء التلة ألحان حادة عزفتها عنزة أفزعها الدوى. من ارتفاع الذراع الصغيرة وانخفاضها أيقنت أنه يقذفها بالحصى، ورأيته يجرى وراءها مشمراً جلبابه عن ساقيه العجفاوين فتميد منه وتهرب ليسقط ثم ينهض ثم يعاود السقوط. خشيت على حذرى من الضحك فكتمته ورحت أرقب السماء.

3 - فروسية

- انظر ..

ناولنى موريس المنظار فأسندته إلى عينى سحابة رملية لا أكثر لعلها دبابة فى تدريب، لكن الغبار يحوى شيئاً مغايراً. مؤكد يحوى شيئاً مغايراً صحت :

- جمل

شىء ما منعنى من ترك المنظار : «انظر .. إنه هو» الصبى ذرب اللسان يبدو فى جلسته فوق قمة السنام كربان مزهو بسفينته. تمتلئ العدستان بملامحه تشع عيناه بريقاً طفلياً يذهب بى الى أيام فرت من يدى. يميد به الجمل يميناً ويساراً كفه الصغيرة ترتفع فى الجو ملوحة. إذن فهو يرانى هذا الصغير.. هذا الصغير. لوحت. دار الجمل حول نفسه. اختفى الولد من فوق السنام. سقط قلبى فى بئر سحيقة.

- ماذا بك ؟

- الصبى.

- .. أى صبى ؟

أعفانى اقتراب الجمل من الإجابة هممت بالقبض عليه فاستدار فوجئنا به متعلقاً برقبته بساقيه فقط. فقط بساقيه. ضحك ولوح لنا بذراعيه الطليقين :

- هأ هأ هاى

تديره النشوة بالموقع مستعرضاً صرخ القائد :

- أمسكوه

بعد ساعة قال له القائد وأنفاسنا من أثر الجرى تتلاحق :

- قص علينا كيف تستطيع ركوب هذا الجمل

شقشق بضحكاته ثم صمت .. سألناه عن سبب ضحكه. قال :

- هيدا ما هو جمل .. هيدى ناقة.


4 - التطواف
يحلو لنا دائماً الاضطجاع فى أوقات الراحة على الرمل. يدفع دفؤه فى جسمى خدراً لذيذاً. مازلت أذكر كلمات وجدى المغموسة بدمه :
«اجعلوا حفرتى عميقه لأنعم بدفء الأرض»
امتدت ضحكاته الرقراقة حبلاً أنقذنى من بئر الذكرى ينساب عبر الحفر فرحاً شفافاً يلوح فى أقصى الموقع بقامته القصيرة يعاكس البعض العنزة المهرولة خلفه.. يتناهى إلى سبابه الممتزج بضحكاته يقذفونه بما فى أيديهم فيتواثب فوق الأشياء يقف على كيس رملى قريب تلمسنى نظراته الطفلية تطفح بجذل تشوبه جرأة جبلية يسكب من إنائه شيئاً فى علبة عدس فارغة يهبط من فوق الكيس ويمد يده بالعلبة. لبن. ابتسمت :

- ما تبتسم .. اشرب

رفعت عينى إليه. دهمنى بنظرة مغيظة «أيها الأنوف» جذبت رأسه فتراجع معانداً أحسست بحبات رمل لزجة تلتصق بكفى. نظراته تمتزج بالتحدى كنظرة أخى يوم تعاركنا على زرٍ لا أدرى لونه داعبت أنفه. شمس تذكرت سؤالاً دائم التسرب من ذهنى .

- ما اسمك ؟

فوجئ.. تململت نظراته من تحت حاجبيه الكثيفين بينما راحت عنزته تتمسح به وتنبس تراب الأرض.

- العسكر اللى كانوا هون بيطلقوا على «دبل»

«دبل ؟» يالسخافات الجند. هذا النحيل كعود سيسبان ؟

تركت رأسه فاحتضن عنزته وشاركنى بسمة ودودة

- واسمك الحقيقى ؟

تربع على الأرض والعنزة إلى جواره :

- أنا أحب ها الاسم .. نادنى به.

شكرته على اللبن فأشار إلى صاحبته :

- ما تشكرنى .. اشكر ها العنزة .

كدت اتقيأ، فهذه أول مرة أشرب فيها لبن الماعز. يالى من غبى. من أين كنت أظن أنه سيأتى باللبن؟ .. ماءت العنزة، فى حين غرق الصغير فى ضحكاته.



5 - النبش فى التراب
بعد وجبة غذاء جاف اتخذت مضجعى المعتاد ورحت أرقب أرتال السحب المثاقلة، مصغياً للرذاذ المتناثر من أصوات تحمل غراميات الزملاء وأحاديثهم المتكررة عن الخدمات الليلية والتعيين وطائرات الفانتوم والنابالم فجأة، رأيته فوق دروة رمل. كان منحنياً تحت ثقل حجر كبير فنهضت إليه. ارتد بصرى من الحجر، الذى لم يستقر بعد تحت قدمى، إلى وجهه:

- بدى أبعت ها الصخرة

أوقفت مخارج الكلمات المهشمة الصول عبد الحميد فسأله مداعباً :

- وين ؟

أشار ناحية الشرق :

- لها الضفة

سأله اسطفانوس

- كيف ؟

استدار لمدفعى :

- بها المدفع

عربد الضحك بالأشداق. تجمع بعض الزملاء وشاركونا الضحك. أربدت ملامحه، فأجلسته وسألته مداعباً :

- ليش يا شيخ العربان ؟

حركة رشيقة خلصته من يدى. عصفور تخلص من قطرات ماء. توسط العنزة والكلب :

- بدى أحارب مثلاتكم

- اسكت وإلا أبعدوك

- إيش تجول ؟

وضع كفاً فى خصره والأخرى أشاح بها فى وجوهنا :

- بالله .. بالله لاجتل اللى يمسنى.

شىء ما فى لهجته منعنا من معاودة الضحك خيمت فوقنا كآبة ثقيلة نبش بعضنا فى التراب، وبعضنا أدار ظهره، بينما اختفى البعض فى الملاجئ نظرت للعينين المتحفزتين. ربت على شعره فاستكان طمأنته إلى أن أياً منا لن يمسه بسوء، وأننا سنرسل الهدية، فاستدار ساحباً عنزته وكلبه دون أن يتكلم. لما ذاب ورفيقاه فى صفرة الرمل انصرفت إلى تأمل السماء المرقشة بنتف السحب وقلبت أمر الفتى فى رأسى متحيراً.

- انظروا

صرخ بها أحدنا

بعد وثبتى العجلى إلى المدفع علمت من اتجاه الأقدام أنها ليست بغارة. ذهبت إلى حيث تكأكأت العيون وأطرقت الرؤوس واحتوانى معهم ظل الوجوم المحوم، فيما مسحت عيناى الاسم المنقوش على الحجر بخط ردىء «دبل» وفى بطن الجبل نبح الكلب.


6 - اشتباك أرض جو
(أ)
يتسلل الصمت إلينا من فجوات الحركة اليومية يحوطنا نحن أفراد الأطقم المضادة بسياج زجاجى رقيق. ترهف الآذان مصغية نعرف أن صمتاً كهذا لا يدوم اختلاجة بعض الآذان تحدث صوتاً يكاد يهشم حاجزنا الزجاجى عينا عبد البر تمسحان السماء. زرقاء ساكنة. تخفف طاقتا أنف برهام ألمح «دبل» منتصباً فوق صناديق الزخيرة الفارغة يداه فى خاصرتيه طبلتا أذنىه تتوتران تهتزان.. ينطبق فكا الشرقاوى. التقاء الأسنان تحدث صوتاً نسمعه يمتزج فى أذنى بأزيز متباعد. جيش من النمل يسرى فى دمائى. صرخت الرتاله :

«غارة» أفقت على نفسى أقرض شاربى، وانهار سور الصمت، فى حين غيبتنى اهتزازات المدفع عن من حولى.

(ب)
جففت عرقى وأسلمت ظهرى لظل المدفع الذى لم يبرد بعد.

اهتز صوت القائد مع اهتزازة ظله المتراقص على قاعدة المدفع: «أسقطنا طائرة تجسس» تنهدات البعض لها صوت شجى. ثمة صباح مكتوم لصوت مألوف، «دبل» .. هو «دبل» :

- أين أنت ؟

- هون .. هون

من قاع الحفرة ابتدرتنى العينان الطفليتان.

- بالله رأيت الطيار عم يبكى .. بالله.

تشبث بيدى الممدودة. لكفيه ملمس بارد. تسلق جدار الحفرة البرميلية بمهارة قط وجلس على حافتها. أشرت إلى شعره المهوش :

- ألا تخشى القمل ؟

فتح صدره :

- ولا اليهود


7 - العلبة
من مقعدى خلف المدفع رحت أتأمل مزق السحب الخفيفة أستخدمها فى مرانى الخاص. لوح لى «دبل» بيده من فوق قمة التلة الأثيرة لديه. نسر صغير يتدرب على ارتياد القمم. يتخايل فى وقفته... فى صباى كنت أهوى الصعود للسطح وأحاول السير فوق سوره. أترانى كنت أحاول إفهام جارتى الصبية بأننى نسر صغير يتدرب على ارتياد القمم ؟ .. لا أدرى فمنذ رآنى أبى، وقصقصت خيزرانته جناحى النسر فى، لم أكرر المحاولة. بصبص الكلب بذنبه وماءت العنزة. رفع يده:

- انظر هايدى العلبة .. عم بتقول تك تك تك

هه ! .. وثب قلبى

- ألق بها ..

يقف الكلب على قائميه الخلفيين محاولاً الإمساك بالذراع المرفوعة :

- كيف تكتكة ساعة يدك بالتمام.

- ارمها يا مجنون

يقف على أطراف أصابعه متفادياً وثبات الكلب :

- يا مجنون .. ارمها

- هايدى جميلة

الدم يغطى عينى تبصق السماء ظلاماً أسود. يهتز وكلبه وعنزته. لتبدأ الكلمات بالحلق خائفه مذعورة تميد الأرض من تحتى. أترك مدفعى.. تعوقنى الأذرع المتشابكة. أحملق فى العيون المتخفية بالخوذات تريد شفتاى «سيموت». فوجئت بى أنطقها أجأر بصوتى كله :

- ارمها يا دبل

يرتد الصدى مصحوباً بنظراته المستغربة

- ستموت

- كيــ

- ودوى الانفجار.


تهميش
«بحثنا عن مخيم أهله فلم نجد سوى خيمة خلقة وقبرين وموقد نار، فدفناه فى قمة تله الأثير.
ولا أملك كلما رأيت أحد الزملاء يلهو مع العنزة إلا أن أدير وجهى، وغالباً ما أرتطم بنظرات كلبه الذى نحل».