المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البدع في كتاب الاعتصام للإمام لشاطبي



منذر أبو هواش
27/02/2007, 07:29 AM
الباطنية وغلاة المتصوفة ..
بدعهم وتأويلاتهم
من فصول كتاب الاعتصام
للإمام الشاطبي
فصل

( ومنها ) بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل - يدّعون فيها أنها هي المقصود والمراد ، لا ما يفهم العربي - مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل . وذلك أنهم - فيما ذكر العلماء - قوم أرادوا إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً ، وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم ، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحًا ، فيرد ذلك في وجوههم ، وتمتد إليهم أيدي الحكام ، فصرفوا أعناقهم إلى التحلل على ما قصدوا بأنواع من الحيل ، من جملتها صرف الهمم من الظواهر إحالةً على أن لها بواطن هي المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة . فقالوا : كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة رموز إلي بواطن .

فمما زعموا في الشرعيات : أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سرٍّ إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ، ومعنى الغسل : تجديد العهد على من فعل ذلك ، ومعنى مجامعة البهيمة : مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئًا من صدقة النجوى ؛ وهي مائة وتسعة عشر درهمًا عندهم . قالوا : فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به ، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها ؟

والاحتلام : أن يسبق لسانه إلى إفشاء السرّ في غير محله ؛ فعليه الغسل ، أي تجديد المعاهدة . والطهر : هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام . والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام . والصيام : هو الإمساك عن كشف السر .

ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية وأمور التكليف وأمور الآخرة ، وكله حَوْم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً ، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة بل هم منكرون للربوبية . وهم المسمون بـ الباطنية [1] .

وربما تمسكوا بالحروف والأعداد : بأن الثقب في رأس الآدمي سبع ، والكواكب السيارة سبع ، وأيام الأسبوع سبع ، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة ، وبه يتمّ . وأن الطبائع أربع ، وفصول السنة أربع ، فدل على أن أصول الأربعة هي السابق والتالي الإلهان - عندهم - والناطق والأساس - وهما الإمامان . والبروج اثنا عشر ، يدل على أن الحجج اثنا عشر ، وهم الدعاة . إلى أنواع من هذا القبيل ، وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد ، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء ، ربما يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم . أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان الربقة ، وصاروا عرضة لِلَّمْزِ ، وضحكة للعالمين . وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام المعصوم الذي زعموه ، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين ولكن لا بدّ من نكتة مختصرة في الرد عليه .

فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم ما من جهة دعوى بالضرورة وهو محال ؛ لأن الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علمًا وإدراكًا ، وهذا ليس كذلك .

أمّا من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات . فنقول لِمَن زعم ذلك : ما الذي دعاك إلى تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى المعجزة ؟ وليس لإمامك معجزة ، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره ، لا ما زعمت ، فإن قال : ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها منه . قيل لهم : مِن أي جهة تعلمتموها منه ؟ أبمشاهدة قلبه بالعين ؟ أو بسماع منه ؟ ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن . فيقال : فلعلّ لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه ، ولم يُطْلِعْكَ عليه ، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه ، فإن قال : صرّح بالمعنى ، وقال : ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه ، أو : والمراد ظاهره . قيل له : وبماذا عرفت قوله إنه ظاهر لا رمز فيه ؛ بل إنه كما قال ؟ إذ يمكن أن يكون له باطن لم تفهمه أيضًا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر ؛ لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر ، فإن قال : ذلك يؤدي إلى حسم باب التفهيم - قيل له : فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية ، والجنة والنار ، والحشر والنشر ، والأنبياء ، والوحي ، والملائكة ، مؤكدًا ذلك كله بالقسم . وأنتم تقولون : إن ظاهره غير مراد وأن تحته رمزًا . فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
لمصلحة وسرّ له في الرمز - جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم خلاف ما يضمره لمصلحة وسرّ له فيه ، وهذا لا محيص لهم عنه .

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال ؛ إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية ؛ إذ مذهبها إبطال النظر ، وتغيير الألفاظ عن موضعها بدعوى الرمز . وكل ما يتصوّر أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر أو نقل . أمّا النظر فقد أبطلوه ، وأمّا النقل فقد جوّزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه، فلا يبقى لهم معتصم . والتوفيق بيد الله .

وذكر ابن العربي في العواصم مأخذاً آخر في الردّ عليهم أسهل من هذا وقال : إنهم لا قِبَل لهم به - وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال ( بكم ) خاصة ، فكل مَن وجهت عليه منهم سقط في يده . وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها هاهنا ، وتصور المذهب كافٍ في ظهور بطلانِه ، إلا أنه مع ظهور فسادِه وبُعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعًا فاحشةً ، منها مذهب المهدي المغربي ؛ فإنه عدّ نفسه الإمام المنتظر ، وإنه معصوم حتى إن مَن شك في عصمته أو في أنه المهدي المنتظر فهو كافر .

وقد زعم ذَووه أنه ألف في الإمامة كتابًا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام ، وإن مدة الخلافة ثلاثون سنة ، وبعد ذلك فرق وأهواء وشحٌّ مطاع ، وهوًى متّبع ، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه ، فلم يزل الأمر على ذلك ، والباطل ظاهر والحق كامن ، والعلم مرفوع - كما أخبر عليه الصلاة والسلام - والجهل ظاهر ، ولم يبقَ من الدين إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين - كما قال عليه الصلاة والسلام : ( بدئ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ فطوبى للغرباء ) ، وقال : إن طائفته هم الغرباء ، زعمًا من غير برهانٍ زائد على الدعوى . وقال في ذلك الكتاب : جاء الله بالهدى ، وطاعته صافية نقية ، لم يرَ مثلها قبل ولا بعد، وإن به قامت السموات ، والأرض به تقوم ، ولا ضدّ له ، ولا مِثل ، ولا نِدّ . وكَذَبَ ، تعالى الله عن قوله .

وهذا كما نزّل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو بلا شك .

وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبًا فقال : الحمد لله الفعال لما يريد ، القاضي لما يشاء ، لا رادّ لأمره ، ولا معقّب لحكمه ، وصلى الله على النبي المبشر بالمهدي ، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً ، كما مُلئت ظلمًا وجورًا ، يبعثه الله إذا نُسخ الحق بالباطل ، وأُزيل العدل بالجور ، مكانه بالمغرب الأقصى ، وزمانه آخر الزمان ، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام ، ونسبه نسب النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد ظهر جور الأمراء ، وامتلأت الأرض بالفساد ، وهذا آخر الزمان ، والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل . يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي .

فلما فرغ بادَر إليه من أصحابه عشرة . فقالوا : هذه الصفة لا توجد إلا فيك، فأنت المهدي . فبايعوه على ذلك . وأحدث في دين الله أحداثًا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم ، والتخصيص بالعصمة . ثُم وضع ذلك في الخطب ، وضرب في السكك ، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة . فمَن لم يؤمن بها أو شكّ فيها ، فهو كافر كسائر الكفار .

وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها . وهي نحو من ثمانية عشر موضعًا . كترك امتثال أمر مَن يستمع أمره ، وترك حضور مواعظه ثلاث مرّات ، والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل ، وأشياء كثيرة .

وكان مذهبه البدعة الظاهرية ، ومع ذلك فابتدع أشياء ، كوجوه من التثويب ؛ إذ كانوا ينادون عند الصلاة ( بتاصاليت الإسلام ) و ( بقيام تا صاليت ) و(سوردين ) و ( باردي ) و ( وأصبح ولله الحمد ) وغيره . فجرى العمل بجميعها في زمان الموحدين . وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في جامع غِرْنَاطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم ( المهدي المعلوم ) ، إلى أن أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت .

وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي - منهم . ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات . فأمر - حين استقرّ بمراكش - خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله ، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة ، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق ، وأن لا مهدي إلا عيسى ، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة أزالها ، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته .

وذكر أن أباه المنصور همّ بأن يصدع بما به صدع , وأن يرفع الحرف الذي رفع ، فلم يساعده الأجل لذلك . ثُم لمّا مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد ، وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين ، ففتلوا منه في الذروة والغارب ، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته، والوقوف على قدم الخدمة بين يديه ، والمدافعة عنه بما استطاعوا ، لكن على شرط ذكر المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات ، ونقش اسمه الخاص في السكك ، وإعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها ( بتاصاليت الإسلام ) عند كمال الآذان و ( بتقام تاصاليت ) ؛ وهي إقامة الصلاة ، وما أشبه ذلك من ( سودرين ) و( وقادري ) و ( أصبح ولله الحمد ) وغير ذلك .

وقد كان الرشيد استمرّ على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله ، فلمّا انتدب الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك ، فأسعفوا فيه . فلما احتلوا منازلهم أيامًا ولم يعد شيء من تلك العوائد ، ساءت ظنونهم ، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم في دينهم ، وبلغ ذلك الرشيد ، فجدد تأنيسهم بإعادتها .

قال المؤرخ : فيا للهِ ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع تلك الأمور ، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد ، وشملت الأفراح فيهم الكبير والصغير . وهذا شأن صاحب البدعة ، فلن يسرّ بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها ؛ ] وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [ ( المائدة : 41 ) ، وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة .

***
فصل
( ومنها ) رأي قوم التغالي في تعظيم شيوخهم ، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه ، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان ، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور . وهو باطل محض ، وبدعة فاحشة ، لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدًا مبالغ المتقدمين . فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآمنوا به ، ثُم الذين يلونهم ، وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى قيام الساعة . فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ، ثُم لا زال ينقص شيئًا فشيئًا إلى آخر الدنيا . لكن لا يذهب الحق جملة ؛ بل لا بد من طائفةٍ تقوم به وتعتقده ، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم ، لا ما كان عليه الأولون مِن كل وجه ، لأنه لو أنفق أَحد من المتأخرين وزن أُحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أَحَد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نَصِيفه . فخير
القرون : الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى قيام الساعة ، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام . ثم لا زال ينقض شيئًا فشيئًا إلى آخر الدنيا .

وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان ، بشهادة التجربة العادية . ولمّا تقدّم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصليٌّ لا شك فيه . وهو عند أهل السنة والجماعة . فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض ؟ وليس في الأمة ولي غيره ؟ لكن الجهل الغالب ، والغلو في التعظيم ، والتعصب للنِّحَل ، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه .

والمتوسط يزعم أنه مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لا يأتيه الوحي ؛ بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم ، الحاملين لطريقتهم في زعمهم ، نظير ما ادّعاه بعض تلامذة الحلاّج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه ، والغالي[2] يزعم فيه أشنع مِن هذا ، كما ادّعى أصحاب الحلاّج في الحلاّج .

وقد حدّثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال : أقمت زمانًا في بعض القرى البادية ، وفيها مِن هذه الطائفة المشار إليها كثير ، قال : فخرجت يومًا مِن منزلي لبعضِ شأني فرأيت رجلين منهم قاعدين ، فاتهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم ، فقربت منهما على استخفاء لأسمع مِن كلامهم - إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم - فتحدثا في شيخهم وعِظَم منزلته ، وأنه لا أحد في الدنيا مثله ، وطَرِبَا لهذه المقابلة طَرَبًا عظيمًا ، ثُم قال أحدهما للآخر : أتحب الحق ؟- هو النبي - قال : نعم هذا هو الحق . قال المخبر : فقمت مِن ذلك المكان فارًّا أن يصيبني معهم قارعة .

وهذا نمط الشيعة الإمامية . ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب ، والتهالك في محبة المبتدع ، لَمَا وسع ذلك عقل أحد ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ ) الحديث . فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام ؛ حيث قالوا : إن الله هو المسيح ، فقال الله تعالى : ] يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ [ ( المائدة : 77 ) وفي الحديث : (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، ولكن قولوا : عبد الله ورسوله) .

ومَن تأمّل هذه الأصناف وجد لها مِن البدع في فروع الشريعة كثيرًا لأنّ البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع .
***
فصل
وأضعف هؤلاء احتجاجًا : قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها ، فيقولون : رأينا فلانًا الرجل الصالح فقال لنا : اتركوا كذا واعملوا كذا . ويتفق مثل هذا كثيرًا للمتمرسين[3] برسم التصوّف ، وربّما قال بعضهم : رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم ، فقال لي كذا وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة ، وهو خطأ: لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها ، وإلا وجب تركُها والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة ، وأمّا استفادة الأحكام فلا . كما يحكى عن الكتاني - رحمه الله - قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : ادع الله أن لا يميت قلبي . فقال : ( قل كل يوم أربعين : مرة يا حيّ يا قيّوم ، لا إله إلا أنت ) ، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته ، وكون الذكر يحيي القلب صحيح شرعًا . وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير ، وهو مِن ناحية البشارة . وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين ، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام .

وعن أبي يزيد البسطامي - رحمه الله - قال : رأيت ربي في المنام ، فقلت : كيف الطريق إليك ؟ فقال : اترك نفسك وتعالَ . وشأن هذا الكلام من الشرع موجود ، فالعمل بمقتضاه صحيح ؛ لأنه كالتنبيه لموضع الدليل ؛ لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق ، والوقف على قدم العبودية .

والآيات تدلّ على هذا المعنى ، كقوله تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى [ ( النازعات : 40-41 ) ، وما أشبه ذلك . فلو رأى في النوم قائلاً يقول : إن فلانًا سرق فاقطعه ، أو عالم فاسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحدَّه ، وما أشبه ذلك ، لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة ، وإلا كان عاملاً بغير شريعةٍ ، إذ ليس بعد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وحيٌ .

ولا يقال : إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل . وأيضًا إن المخبِر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قد قال : ( مَن رآني في النوم فقد رآني حقًّا ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ) ، وإذا كان … فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة ؛ لأنّا نقول : إن كانت الرؤيا مِن أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ؛ بل جزء من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ؛ بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كاف[4] .

وأيضًا فإن الرؤيا التي هي جزء مِن أجزاء النبوة مِن شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر ، وقد لا تتوفر .

وأيضًا فهي منقسمة إلى الحلم ، وهو من الشيطان ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير الصالحة ؟

ويلزم أيضًا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو منهي عنه بالإجماع .

يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي ، فلما رآه قال : عليَّ بالسيف والنطع . قال : ولِمَ يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على مَن عَبَرَها ، فقال لي : يظهر لك طاعة ويضمر معصية ، فقال له شريك : واللهِ ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولا معبرك بيوسف الصديق عليه السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيى المهدي ، وقال : اخرج عني . ثُم صرفه وأبعده .

وحكى الغزالي عن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن ، فروجع فيه ، فاستدل بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولَمْ يدخلها فقيل : هل دخلتها ؟ فقال : أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن ، فقام ذلك الرجل فقال : لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه ؟ فقالوا : لا ، فقال : قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة .

وأمّا الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضًا ، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته ، فالحكم بما استقرّ ، وإن أخبر بمخالفٍ ، فمحال ، لأنه صلّى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المَرَائي النومية ، لأن ذلك باطل بالإجماع ، فمَن رأى شيئًا مِن ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة . إذ لو رآه حقًّا لم يخبره بما يخالف الشرع .

لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( من رآني في النوم فقد رآني ) ، وفيه تأويلان : أحدهما : ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية ، فلمّا نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ما تحكم بهذه الشهادة ؟ فإنها باطلة . فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا ، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد ، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحيٌ ، ومَن سواهم إنّما رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة .

ثم قال : وليس معنى قوله : ( مَن رآني فقد رآني حقًّا ) ، إن كل مَن رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقةً . بدليل أن الرائي قد يراه مرّات على صورٍ مختلفة ، ويراه الرائي على صفةٍ ، وغيره على صفةٍ أخرى ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه ولا صفاته . وإنّما معنى الحديث : مَن رآني على صورتي التي خلقت عليها . فقد رآني ، إذ لا يتمثل الشيطان بي ؛ إذ لم يقل : مَن رأى أنه رآني ، فقد رآني .

وإنّما قال : مَن رآني فقد رآني وإني لهذا الرائي الذي أرى أنه رآه على صورته أنه رآه عليها ؟ وإن ظن أنه رآه ، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها ، وهذا ما لا طريق لأحدٍ إلى معرفته .

فهذا ما نُقل عن ابنِ رشد . وحاصله يرجع إلى أنّ المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم ، إن اعتقد الرائي أنه هو .

والتأويل الثاني : يقوله علماء التعبير : إن الشيطان قد يأتي النائم في صورةٍ ما مِن معارف الرائي وغيرهم ، فيشير له إلى رجلٍ آخر : هذا فلان النبي ، وهذا الملك الفلاني ؛ أو من أشبه هؤلاء مِمّن لا يتمثل الشيطان به فيوقع اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم ، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلّمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع ، فيظن الرائي أنه مِن قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون كذلك ، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى .

وما أحرى[5] هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفًا لكمال الأول ، حقيقٌ بأن يكون فيه موافقًا ، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال ، نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم ، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر ، وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة . نعم يأتي المرئيَّ تأنيسًا وبشارةً ونذارةً خاصة ، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكمًا ، ولا يبنون عليها أصلاً ، وهو الاعتدال في أخذه ، حسبما فُهِمَ مِن الشرع فيها ، والله أعلم .
***
فصل
وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملةً من الاستدلالات المتقدمة ، وغيرها في معناها ، وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى ، فهو مِمَّا يُحتاج إليه بحسب الوقت والحال ، وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى .

وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء ، يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية ، فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت واحدة ، ثم في الغناء والرقص ، إلى آخر الليل ، ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء ، يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق : هل هذا العلم صحيح في الشرع أم لا ؟

فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات ، المخالفة طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان ، فنفع الله بذلك مَن شاء مِن خلقه .

ثُم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان ، فقامت القيامة على العاملين بتلك البدع ، وخافوا اندراس طريقتهم ، وانقطاع أكلهم بها ، فأرادوا الانتصار لأنفسهم ، بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم ، واشتهرت في الانقطاع إلى الله ، والعمل بالسنة طريقتهم ، فلم يستقرّ لهم الاستدلال ؛ لكونهم على ضدّ ما كان عليه القوم ، في الأخلاق والأفعال ، وأكل الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال ، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول ، فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم .

وكان مِن قدَر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه هذه ، لكن حسّن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل . فأجاب عفا الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرّض إلى ما هم عليه من البدع والضلالات ، ولمّا سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدةٍ أخرى ، فأتى به فرحل إلى غير بلده ، وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة ، وأنه طالب للمناظرة فيها ، فدعي لذلك فلمْ يقم فيه ولا قعد ؛ غير أنه قال : ( إن هذه حُجتي ) وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب ، وكان هو ومجيبه[6] وأشياعه يطيرون بها فرحًا ، فوصلت المسألة إلى غرناطة ، وطلب من الجميع النظر فيها . فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها الأول[7] أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم والصراط المستقيم .

ونص خلاصة السؤال : ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة ، يقرؤون جزءًا من القرآن ، ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت ، ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ، ثم يقوم من بينهم قوّال يذكر شيئًا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين ، وذكر آلاء الله ونعمائه ، ويشوّقهم بذكر المنازل الحجازية ، والمعاهد النبوية فيتواجدون اشتياقًا لذلك ، ثم يأكلون ما حضر مِن الطعام ، ويحمدون الله تعالى ، ويرددون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبتهلون بالأدعية إلى الله في صلاح أمورهم ، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون .

فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر ؟ أم يمنعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من المحبين إلى منزله بقصد التبرك ، هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا ؟

فأجاب بما محصوله : مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي أيضًا الجنة . ثُم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله . وأمّا الإنشادات الشعرية . فإنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وفي القرآن في شعراء الإسلام : ] إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً [ ( الشعراء : 227 ) ، وذلك أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وكعبًا لمّا سمعوا قوله تعالى : ] وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ [( الشعراء : 224 ) ، الآيات بكوا عند سماعهما فنزل الاستثناء ، وقد أُنشد الشعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات أخت النضر ، لِمَا طبع عليه من الرأفة والرحمة .

وأما التواجد عند السماع ، فهو في الأصل رقة النفس واضطراب القلب ، فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن ، قال الله تعالى : ] الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [( الأنفال : 2 ) ، أي اضطربت رَغَبًا أو رَهَبًا ، وعن اضطراب القلب يحصل اضطراب الجسم ، قال الله تعالى : ] لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً [( الكهف : 18 ) ، الآية . وقال : ] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [ ( الذاريات : 50 ) ، فإنما التواجد رقةٌ نفسيةٌ، وهِزّةٌ قلبيةٌ ، ونهضةٌ روحانيةٌ وهذا هو التواجد عن وجد ، ولا يسمع فيه نكير من الشرع .

وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع ، وهي : ] وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا [ ( الكهف : 14 ) الآية .

وكان يقول : إن القلوب مربوطة بالملكوت ، حركتها أنوار الأذكار ، وما يرد عليها من فنون السماع .

ووراء هذا تواجد لا عن وجدٍ ، فهو مناط الذّم ، لمخالفة ما ظهر لِمَا بطن وقد يغرب[8] فيه الأمر عند القصد لاستنهاض العزائم ، وأعمال الحركة في يقظة القلب النائم ( يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) [9] ولكن شتّان ما بينهما .

وأمّا مَن دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته ، وله في ذلك قصده ونيته . فهذا ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر ، واللهُ يتولى السرائر ، وإنّما الأعمال بالنيّات ، انتهى ما قيده .

فكان ممّا ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح ، فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ، حتى يتعلم بعضهم مِن بعض ، ويأخذ بعضهم مِن بعض ، فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما اجتمع قومٌ في بيتٍ مِن بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفّت بهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - مِنَ الاجتماع على تلاوة كلام الله .

وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماعٌ على ذكر الله . ففي رواية أخرى أنه قال ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ) الحديث المذكور ؛ لا الاجتماع للذكر على صوتٍ واحد ، وإذا اجتمع القوم على التذكر لنِعَم الله ، أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء ، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون ، أو اجتمعوا يذكّر بعضهم بعضًا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته وما أشبه ذلك ممّا كان يعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه ، وعمل به الصحابة والتابعون فهذه المجالس كلها مجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء .

كما يحكى عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن القصص . فقال : أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يجلسون ويحدّث هذا بما سمع وهذا بما سمع - فأمّا أن يجلسوا خطيبًا فلا - وكان كالذي نراه معمولاً به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلمٍ يقرئهم في القرآن أو علمًا مِن العلوم الشرعية . أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ، ويذكرهم بأسه ، ويبيّن لهم سنّة نبيهم ليعلموا بها ، ويبيّن لهم المُحدَثات التي هي ضلالةٌ ليحذروا منها ، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها .

فهذه مجالس الذكر على الحقيقة ، وهي التي حرَمَها اللهُ أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقَلَّ ما تجد منهم مَن يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن ، فضلاً عن غيرها ، ولا يعرف كيف يتعبد ، ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة . وكيف يعلمون ذلك وهم حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة ، وتنزل فيها السكينة ، وتحف بها الملائكة ؟ !

فبانطماس هذا النور عنهم ضلّوا ، فاقتدوا بجهّال أمثالهم ، وأخذوا يقرؤون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم ، لا على ما قال أهل العلم فيها ؛ فخرجوا عن الصراط المستقيم ، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئًا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم ، ثم يقولون تعالوا نذكر الله ، فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة - طائفة في جهة، طائفة في جهةٍ أخرى - على صوتٍ واحدٍ يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها ، وكذَبوا . فإنه لو كان حقًّا لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به ، وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على صوتٍ واحدٍ جهرًا عاليًا ؟ وقد قال تعالى : ] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [ ( الأعراف : 55 ) ، والمعتدون في التفسير هم الرّافعون أصواتهم
بالدعاء .

وعن أبي موسى قال : كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا ، إنكم تدعون سميعًا قريبًا ، وهو معكم ) ، وهذا الحديث مِن تمام تفسير الآية ، ولم يكونوا - رضي الله عنهم - يكبّرون على صوتٍ واحدٍ ، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا للآية ممتلئين وقد جاء عن السلف أيضًا النهي عن الاجتماع على الذكر ، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون .

وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك ، وهي الربط التي سموها بالصفة ؛ ذكر من ذلك ابن وهبٍ وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لِمَن وفّقه الله .

فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنه فيما هم عليه مصيبون ، وأساؤوا الظن بالسلف الصالح أهل العلم الراجح الصريح ، وأهل الدين الصحيح . ثُم لمّا طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجبب وهم لا يعلمون ، وقوّلوه ما لا يرضى به العلماء ، وقد بيّن ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا ، فأجاب بـ : إن مجالس الذكر المذكورة في الأحاديث ؛ إنها هي التي يتلى[10] فيها القرآن ، والتي يُتعلم فيها العلم والدين ، والتي تعمُر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة والنار . كمجالس سفيان الثوري والحسن وابن سيرين ، وأضرابهم .

أمّا مجالس الذكر اللساني فقد صرّح بها في حديث الملائكة السياحين ، لكن لمْ يذكر فيه جهرًا بالكلمات ، ولا رفع أصوات ، وكذلك غيره . لكن الأصل المشروع إعلان الفرائض وإخفاء النوافل . وأتى بالآية ، وبقوله تعالى : ] إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا [ ( مريم : 3 ) ، وبحديث : ( أربعوا على أنفسكم ) - قال - : وفقراء الوقت قد تخيّروا بآيات ، وتميّزوا بأصواتٍ ، هي إلى الاعتداء ، أقرب منها إلى الاقتداء ، وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة ، أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة .

انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد . وهي دليلٌ على أن فتواه المحتج بها ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة . فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت ، فأجاب بذمّهم ، وأن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتناول عملهم . وفي الأولى إنما سئل عن قومٍ يجتمعون لقراءة القرآن ، أو لذكر الله . وهذا السؤال يصدق عن قوم يجتمعون مثلاً في المسجد فيذكرون الله ، كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن نفسه ، كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين ، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم التنبيهُ عليه ، فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه ، فلما سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بيّن ما ينبغي أن يعتمد على الموفق ، ولا توفيق إلا بالله العلي العظيم . اهـ المراد منه .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) انقسمت الباطنية إلى عدة فرق يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة ، والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة في مجازٍ ولا كنايةٍ والقول بإمامٍ معصومٍ ، وقد يسمّونه
باسمٍ آخر ، ويجعلونه بعد ذلك إلهًا وآخر فرقهم البابية البهائية .
(2) نص النسخة التي نطبع عنها (والقالي) .
(3) تمرّس بالشيء : احتكّ به ، وتمرّس بدينه تلعب به وعبث به كما يعبث البعير ؛ والمراد بهم هنا
المقلدون للصوفية في رسومهم الظاهرة دون أخلاقهم وأعمالهم .
(4) كذا ولعلّ في الكلام حذفًا .
(5) نص النسخة التي نطبع عنها (أجرى) بالجيم وهو غلط .
(6) كذا ولعلها (ومحبه) أو (ومحبوه) .
(7) لفظ الأول لا يظهر له معنى هنا ، والظاهر أن المقام مقام الاستثناء ، وأن العبارة ربّما دخل فيها
التحريف والسقط .
(8) لعلّه (يعزب) .
(9) لعله أراد حديث : (اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا) فاقتبسه بالمعنى ، وهو في سنن
ابن ماجه مِن حديث سعد ابن أبي وقاص بسند جيد .
(10) في الأصل (يختلا) هكذا ، فصحّحها ناسخ الورق الذي نطبع عنه ؛ فجعلها (يختلى) ، وكلاهما
غلط .

((مجلة المنار ـ المجلد [ 17] الجزء [‌4] ص 273 ‌ ربيع الآخر 1332 ـ مارس 1914))

معتصم الحارث الضوّي
27/02/2007, 07:35 AM
سيدي الفاضل الدكتور منذر
زاد الله قلبك نوراً و ضياء و فتح لك أبواب الجنان .

عاطر تحيتي و تقديري

منذر أبو هواش
27/02/2007, 08:22 AM
سيدي الفاضل الدكتور منذر
زاد الله قلبك نوراً و ضياء و فتح لك أبواب الجنان .
عاطر تحيتي و تقديري

شكر الله لك أخي المعتصم
وأهلا ومرحبا بك :fl: