المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يد خشنة ومنظر مخيف



الدكتور حسين فيلالي
18/02/2010, 08:42 PM
يد خشنة ومنظر مخيف.
مقطع من رواية اليربوع
حسين فيلالي.
تستيقظ والدتي في الثلث الأخير من الليل، تصلي تذكر أورادها، و عند أذان الفجر توقظني لأصلي فأجد في نفسي ميلا إلى التكاسل، و النوم ثم أتذكر قولها:
- إن الشياطين تتبول في آذان الذين يؤخرون صلاة الفجر، فأنهض مذعورا.
أعود من المسجد، فتستقبلني رائحة القدر، وتقودني إلى الكانون أجلس بالقرب من أمي، أشرب حساء الشعير، وأتعمد استفزازها ببعض الأسئلة، فتضحك حتى ينفلت وتد الرحى من يديها:
- إيه كبرت،وصرت تسخر من كلامي.
لم يكن يتجاوز عمري الثانية عشر، و مع ذلك تصر والدتي على أنني أصبحت رجلا، و كنت أحس ذلك فعلا، و أشعر بالخجل من وجهي الطفولي فينصحني بعض الأصدقاء باستعمال دم الفراشات، حتى ينمو الشعر بسرعة.
كنت أتصرف كإنسان راشد، و كلما جاء بن عمي من بشار لزيارتنا
و صافحته، و أحسست بيده لينة يصغر في نظري.
كان والدي رحمه الله، يأخذ يدي اليمنى من حين لآخر يراقبها، و يقول في ما يشبه الأمر:
- عليك أن تعمل بجد حتى لا يكون جسمك طريا كجسم الفتاة، الرجل يا بني يجب أن تكون يده خشنة و منظره مخيفا.
الآن وقد كبرت صرت أعرف مغزى عبارة:
- يد خشنة، ومنظر مخيف.
فكلما مررت بقاعات كمال الأجسام، و رأيت الشباب يخرج منها بصدور ناتئة، و أجسام رشيقة، أتذكر شكل هتلر، ونابليون، فأقول في نفسي:
- لو أن الأمر بيدي، لأخذت هؤلاء الشباب إلى فلسطين، والعراق أحرر بهم القدس، وبغداد، و أحولهم إلى رجال ،الأمة في حاجة إلى أياد خشنة، و مناظر مخيفة كما كان يقول أبي.
بعد أن أشرب الحساء، تأمرني والدتي بتجهيز الحمار الهزيل الذي كنت أكرهه، و أتمنى له الموت.
فأنا كلما رسبت في امتحان من امتحانات أبي الكثيرة إلا و قال:
كأنك توأم هذا الحمار.
كانت امتحانات أبي من نوع خاص:
كأن أمشي على الرمل، حافي القدمين في عز الصيف، علي ألا أهرول، أو أسرع الخطى، أو أظهر التألم.
أضع البردعة، والقرب، والدلو، على الحمار، و ننطلق لجلب الماء قبل طلوع الشمس.
أسير حافي القدمين، فأشعر بلذة خاصة و أنا أطأ الرمل البارد،فأنطلق أجري بجانب الحمار، و تزداد متعتي و أنا أتخيل نفسي أسابق تربي، آتيه من الخلف، أمسكه من ذيله، فتنهرني والدتي، فأهرب أقهقه.
أصر على أن أركب الحمار الهزيل، فترفض والدتي، فأتظاهر بالبكاء، فترفض،فأولي وجهي شطر القرية فتخوفني بخوخو، فألتصق بذيل الحمار حتى أغدو كأني جزء منه.
في طريق عودتنا، تحكي لي والدتي عن الحمار، و عن سر مقدمة أنفه البيضاء، فتقول:
إنه أدخل رأسه الجنة، فلما رأى الأطفال ولى مدبرا.
أضحك من جبنه، وأضربه على مؤخرته برجلي و انطلق أبحث عن آثار اليرابيع.
لليربوع براعة نادرة في هندسة المكان، وهو من القوارض الدائمة التوجس.
ولعله أن يكون الوحيد الذي يتخذ لبيته بابان:
واحد سري وآخر معلوم.
كنت مولعا بصيد اليرابيع، أستيقظ باكرا رفقة أصدقائي، نتفرق في وادي قير، نتعقب أثر اليربوع حتى إذا ما عثرنا على مسكنه، ينصحنا سليمان ألا نأتيه من الباب المعلوم.
نبدأ بتحديد باب النجدة السري، حتى إذا ما وجدناه وضعنا عليه قطعة من القماش الرقيقة.
وما أن نطرق الباب المعلوم بعصانا حتى يفزع اليربوع، ويقفز من الباب السري الذي يتوهم أنه لا يعرفه غيره، فتلتف عليه قطعة القماش الموضوعة على الباب السري، ويقع في الأسر.
نذبح اليربوع، ونسلخه ، نجمع الحطب، و نتخذ من حجر رقيق مشوى له.
نجتمع حول سليمان الذي كان يكبرنا بسنوات وهو أكثرنا خبرة بصيد اليرابيع ، وبطبخها.
كان سليمان يتولى قسمة الصيد وهو يقول:
- إن على اليربوع دعوة الصالحين، فلقد حدث أن مرت مجموعة من الحيوانات على شيخ صالح تائه في الصحراء فاستسقاهم، فأبوا ،ولما كاد أن يشرف على الهلاك، مر به اليربوع فوجده فاقد الوعي، فسقاه وأطعمه ،فلما استفاق دعا الله أن يجعل فيه قوة حصان.
أطلق أهل الحي على سليمان اليربوع، و كان يتباهى باسمه أمامنا
و يزعم أنه سمع جدته تقول:
- إن اليربوع كان شابا وسيما، وقويا، وكان مولعا بشرب حليب الغزالة ساخنا ، وكان يسابقها فيغلبها ويرضع حليبها، ويتركها تعود ضامرة الضرع .
اشتكت الغزالة إلى الله أن يخلصها من شر اليربوع الماكر، فأرسل عليه ريحا باردة في يوم مظلم، سخرها عليه سبع ليال، فمسخته وأصبح على ما هو عليه الآن.
كان شكل سليمان كاليربوع: قصير اليدين، طويل الرجلين، وكان كلما حضر وليمة بالبلدة خطف قطعة اللحم من على القصعة، وفر كاليربوع، فلا يقدر على مجاراته أحد من أترابه.

صادق الرعوي
18/02/2010, 09:01 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت واستمتعت وما شدني فعلاً هو سلاسة الإنتقال في مجريات الرواية ..
لكن حكايات أمك عجيبة خاصة سر مقدمة أنف الحمار البيضاء.
لك شكري وتحيتي.

الدكتور حسين فيلالي
19/02/2010, 11:44 PM
السلام عليكم ،أشكرك أخي صادق الرعوي على تخصيص شيئا من وقتك لقراءة خربشاتي.بالفعل كثيرا ما يغترف الكاتب من حكايات الأمهات ،والجدات حتى وإن جنحت هذه الحكايات أحيانا إلى التفسير الأسطور الذي هو بداية تفكير ما قبل الكتابة كما يقول أهل الانتروبولوجيا.ما شدني كثيرا هو إيمان جداتنا وأمهاتنا وحرصهن على الصلاة رغم جهلهن.لم أكن أعلم أن قول والدتي :(الشياطين تتبول في آذان من يؤخر صلاة الفجر) هو من آحاديث الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد ان كبرت.
ولك خالص مودتي
حسين فيلالي

مصطفى توفيق ابراهيم
20/02/2010, 01:55 AM
ذكرني أول القصة بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى يدا خشنة فقبلها وقال هذه يد يحبها الله ورسوله. وقال ايضا اخشوشنو.

تلك كانت الرجولة ايام زمان رحمها الله من ايام ورحم والديك ايها القاص البارع.

الدكتور حسين فيلالي
24/02/2010, 05:28 PM
أخي المحترم الأستاذ مصطفى توفيق ابراهيم
تحية تقدير واحترام وبعد،اشكرك على الملاحظة الطيبة ويرحم الله والديك، ووالدي، وجميع المسلمين آمين. ويعلم الله أن ما نبغي من وراء جهدنا هو رحمة الوالدين.
وشكرا مرة ثانية.حسين فيلالي