المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحنين يا مريوم .. جزء من سيرة كائنات هامشية ( مشروع عمل روائي )



معاوية محمد الحسن
19/02/2010, 03:56 PM
الحنين يا مريوم .. (جزء من سيرة كائنات هامشية !!)
--------------------------------------------------------------------------------
هذه أوقات المسرة , تجارة اللهو التي لا تبور أبدا , انغماس الليل إلي حد الفجر في الترهات و التفاهات العظيمة . نزول وحي الحكايات القديمة التي تنمو في الداخل مثلما تنمو الأعشاب النيلية عند عتبات عتمة الماء المقدسة , أوقات ينضو فيها الحنين عن ثيابه فيصعد باتجاه أعالي القلب و هو يتسلق حائط الشجن و الذكريات القديمة عاريا . ندهت علي روحي العليلة ,ناديت عليها من وسط ركام المساجد , الحانات . قلوب المحبين , بيوت العاهرات , سنابل الحنطة و الشعير , رحيق النحل و حفيف الأشجار , أوكار المجرمين و القتلة و مستودعات الوقود و الطعام في تلك البلاد البعيدة القابعة بين النهر و الصحراء. ألفيتها باردة كأوصال ميت كان قد أصيب بالصعق الكهربائي و شاحبة شحوب صحراء جفاها المطر و هجرتها أقدام المسافرين , حتى أطل ذلك المساء غير الاعتيادي تماما و كانت (مريوم ) حاضرة . فتحت نافذة قلبها فنفذ ضوء شفيف تسلل إلي دواخلي فذهبت غشاوة بصر الروح و سرت في نشوة ما أفقت منها حتى أنبهني وقع أقدام علي الدرج و المكان شبه معتم .سعلت سعالا خفيفا متصلا حتى ألفت انتباههم إلي كوني موجودا" فيلقون التحية علي الأقل فتسري روح الألفة شيئا ما . لماذا تصر هذه المدينة دوما علي نفي الإحساس بأن ثمة شيء أخر غير حمي العمل و الإنتاج يستحق قدرا من الحياة , لحظة من فعل الاحتفاء و الدهشة , لماذا يعتقلون أدميتنا تحت أزيز الماكينات و الآلات , لا شيء ينبئ كل ذات صباح بأن شيئا ما طارئ يمكن أن يحدث سائر اليوم . ذات الوجوه و الشوارع و السيارات المسرعة دوما , أشارات المرور والأبنية الأسمنتية الصلدة الباردة .
بان وجه في الدهليز المظلم الكائن بين الحجرات الضيقة فلسعني كتراب القبر ينهال علي وجه محب قبر من يحب و أنتحب .
يوم نكد .. ملعون أبو الدنيا .
قال قاسم و هو يخرج زجاجة (العرقي ) التي جلبها معه و كان يخفيها تحت سرواله
كنت أدرك ذلك دون أن يتفوه بكلمة فملامحه تشي بكل هذا , الوجه المجهد و ذاك الجحوظ البادي في عينيه و حشرجات صوته التي تشبه كثيرا حشرجات المنهكين .
َضغط عل زر الكهرباء فأضاء المكان . كانت مخلفات سهرة الأمس كما هي , أعقاب السجائر المتناثرة في كل بقعة من المكان , بقايا الطعام و تلك الحشرات المنزلية الأليفة تخرج في أوان دوريتها الليلية المعتادة
كانت (مريوم ) آنذاك تحلق فوق سماء الذاكرة و الوجدان . تسقي حمام الشوق و تورد ظمأن الحب بحيرة ألقها الدائم .تذكرتها في تلك الليلة التي سبقت الرحيل بيوم , الضفائر المسدلة و الوجه الملائكي يتكئ علي حضن زهو حسنها الفريد . كانت تقول :
- باكر بتنسي . أنت قايل بين الذكري و النسيان شنو يعني ؟
- شنو يعني ؟
- مسافة أقصر أحيانا من انك تغفو غفوة صغيرة و تصحو و أطول أحيانا من الرحيل إلي القمر
طفقت أنظر إلي صور خيالي في مرآة الذاكرة تلك الساعة. فخرجت الغابات و الصحاري و الأنهار . ارتعشت أم درمان في قلبي مثل طفلة أصابها خوف مفاجئ فارتعدت حين أرتعد قلبي لشوقها و أظنها كذلك خالجها الحنين إلي فارتعشت . سبحت الحارات و الأزقة و ميدان الشهداء و هو غاص بالخلق في دمي و علي دمي . غالبني الحنين إلي (مريوم ) كم غنيت لها أغاني العشق و الهيام و الحنين و كانت عني نافرة حتى جاء يوم و كنت منهمكا في الحديث إليها فطفر شجن غريب من عينيها في ذاك اليوم فقالت :
- و اخر المشوار دا شنو؟
- معاك المشوار ما ح يخلص
- و مستعد تمشي ؟
- ..................
- للنهاية ؟
- لغاية النهاية
أذكر حين قالت (مريوم ) و نحن قافلان يوما ما من (السوق الشعبي ) و كانت قد أشترت بلوزة و (طرحة ) حمراء موردة مثل خدودها و كنت و كالعادة دائما أصطحبها في زياراتها الي السوق :
- خلاص قررت تسافر ؟
كان البص الذي يقلنا قد ولج شارعا عديم الإضاءة فسيطرت الظلمة علي العالم و سرت نسمات شتوية جعلتني أحس حنينا غامضا . أخذت بيدها و همست :
- يظهر أنو مافي حل غير كدا .
- عموما ح أنتظرك عمري كلو .
أنفقنا أصيل اليوم الثاني و مسائه في حدائق الشهداء . احتسينا عصير المانجو و الفراولة و تعاهدنا علي أشياء كثيرة من بينها الحب و الوفاء و الإخلاص و كل أجندة العشاق . كانت تضحك و تقول
- -بكرة أنا عارفة
- -عارفة شنو ؟
- -انك ح تنسي . انت قايل بين الذكري و النسيان شنو يعني ؟
- - شنو يعني ؟
- -مسافة أقصر من أنك تغفو و تصحو و أحيانا ..
- -أحيانا ؟
- - أطول من مسافة الرحيل الي القمر .
منذ ذاك اليوم اختبأت (مريوم ) بداخلي مثلما يختبئ الرحيق بجوف الفراشات و صارت مشوار الحياة الجميل , أصيل العمر و صبحه الباكر , و سيف حبي المصقول و المسلول في وجه عاديات الأيام .
يتبع .....
-