المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يتعثر الجاحظ في برنسه



الدكتور حسين فيلالي
20/02/2010, 12:55 AM
يتعثر الجاحظ في برنسه.
مقطع من رواية اليربوع
حسين فيلالي- الجزائر
تتحول مدينة بشار في نهاية الأسبوع إلى ثكنة كبيرة مزدحمة بالعسكر، ويصبح الحصول على مكان هادئ كحلم تحرير فلسطين بالمسيرات، والمفاوضات.
ساحة الجمال بوسط مدينة بشار تتحول في المساءات الصيفية إلى مجثم للمتقاعدين، والعاطلين عن العمل يجترون حكايات عنترة وذياب و الزناتي، ويلوكون سر الغرفة المظلمة، وعجائب عقاقير الشيخ مبروك.
تعودت وأنا عائد إلى البيت أن أحضر مجلس بهلول بساحة الجمال استمتع بحديثه وهو يخوض في السياسة، و حكايات النساء، ويدعي أنه يعرف من أسرارهن، ما لم يعرفه غيره.
يشيع بهلول أن الهلالية كانت توصي ابنتها بإفقار زجها، و تزعم أنه كلما زاد على الهلالي فلسا إلا ونبت في ذهنه عضو زوجة أخرى حتى ولو تعدى عمره الستين.
الشيخ مبروك كان يستريب من تصرفات بهلول، و يدعي أنه عين للدولة، وأنها تطلق لسانه حتى تقبض على المغفلين.
و كان يحذر أتباعه من مجاراته، أو الانخداع بأقواله حتى عندما كان يصرخ:
الحاكم عندنا كاليربوع، دائم التوجس، يغلق الأبواب والنوافذ ويتخذ منفذا سريا،وينام مفتوح العينين.
أدخل المنزل، أروي لوالدتي، وزوجتي حكاية العرافات، وعقاقير الشيخ مبروك.
أسأل والدتي إن كانت قد رأت بيض الغول الذي يتحدث الشيخ عن أسراره العجيبة.
أسألها عن شكل الغول، فتتجاهل أسئلتي، و تنشغل بسبحتها، كما تتجاهل زوجتي حكاية الغول،والشيخ مبروك، و تسألني عن العرافات إن كن جميلات، وهل هن صغيرات، متزوجات، مطلقات، فأدرك أن الجو لن يكون كما أرغب، و أريد.
لقد تعودت أن أقرأ أحوال الطقس كلما دخلت البيت و أحمل مطاريتي،واستبعد ثيران الجاحظ عن منزلي وأحررها من الحطب قبل أن تشتعل النار في عراقيبها، وأنزلها من على الربوة. فالجو غالبا ما يكون في بيتي ماطرا دونما حاجة إلى طقس استمطار.
يروي الجاحظ في كتبه أن العرب كانت إذا شحت السماء، وجدبت الأرض، عمدت إلى بعض الأبقار وجعلت في عراقيبها الحطب وأشعلت النار فيها،وصعدت بها إلى ربوة، وضجت بالدعاء والتضرع ظنا منها أن ذلك سيجلب لها المطر.
أنا لم أكن في حاجة إلى طقس استمطار، وإنما كان علي أن أحمل مطاريتي كلما دخلت بيتي، واستحضر بيت الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري:
رزقت مرابيع النجوم وصابها..ودق الرواعد جودها فرهامها
من كل سارية وغاد مدجن.. وعشية متجاوب ارزامها.
فزوجتي بحمد الله تجمع أنواء الصيف، والشتاء والربيع، والخريف حول رأسي كلما دخلت بكتب جديدة، فهي تزعم أني أستهلك ميزانية البيت في ما لا يجدي نفعا، و تعيرني بجارتنا سميرة وتقول:
إنها طردت من الصف الابتدائي، وهي الآن مسئولة في الدولة، وتملك ما لا أملكه، وأن الشهادات التي أحملها، والكتب التي أكتبها لم تجن من ورائها إلا الرعب. وكنت في نفسي أقر صدق كلامها، لأن العسكر، و الشرطة كثيرا ما داهموني ليلا في غرفة نومي، بدعوى البحث عن كتاب محضور، أو مقال مستور. وكم كنت أحزن، و أنا أسمع الكتب تئن تستغيث، وأنا عاجز عن نجدتها، فتطل من الذاكرة صورة بغداد وهي تحترق تحت حوافر خيل التتار و قنابل الأمريكان وأرى نهر دجلة يتغير لونه،و كتبي الممزقة تأخذ شكل جماجم بشرية تصل إلى السقف.
رأيت الجاحظ بعمامته يمر من أمامي مذعورا،والطبري، والمسعودي مختبئان، يسترقان السمع والنظر، ورأيت بن خلدون يهرول، يتبعه حمو الحيحي هاربان، والحيحي يقول:
سيدي لعل بنسالم حميش أن يكون قد أوشى بنا، لعلهم قرؤوا ما كتبه في روايته العلامة منسوبا إليكم:
( هلاك فن التاريخ إنما يكون على أيدي محترفيه المنتظمين في سلك التعيش والارتزاق، و مثلهم كمثل العساكر، الكتبة، والجواسيس، كمثل أدباء البلاط ومنجميه وسائر خدامه.
الحقيقة لديهم ليست ما نقاربه بعد لأي، واجتهاد، بل ما تمليه القوة القائمة، والسلطة المتربعة، إنهم دوما مع الغالب، يسبحون بواقعه على أنه الحق، ويلهجون بمنطقه، وكأنه عين المعقول..)
ابن خلدون يجري، ويطلب من الحيحي أن يصمت والحيحي يثرثر لعلهم قرؤوا ما كتبه حميش، يتعثر بن خلدون في برنسه، يلتفت إلى حمو:
- أسكت يا غبي، ،لو كانوا يقرؤون ما كانوا بهذه الهمجية، يمزقون أجسادنا، ويتلذذون بآلامنا ويصمون آذانهم عن أنيننا.
غابت زوجتي في المطبخ ثم عادت، وضعت العشاء أمامي، قرأت السماء على غرار ما كان يفعل أجدادي في صحراء شبه الجزيرة العربية، فأعينهم كما يزعم المؤرخون كانت مشدودة دوما إلى السماء تتبع نزول الغيث.
وجدت السحاب متراكما، يعلو بعضه بعضا، و أيقنت أني مبلل، فإن لم يكن وابل، فطل.
تكورت زوجتي في مكانها، وشاحت عني بوجهها.
ثيران الجاحظ أطلقت من الربوة، وأصوات التضرع والدعاء تكاد تفتق طبلتي أذني.
أسألها:
- هل أنت مريضة؟
فتتجاهل سؤالي.
السحاب يتراكم فوق رأسي:
- هل سأل أحد عني؟
- لا أدري.
السحاب يقترب من جبل عنتر:
- هل سمعت نشرة الأخبار؟
- لا
قطرات المطر تنزل ببطء:
- قيل أن أمريكا أحرقت الفلوجة، وأهلها.
- لا اعلم.
ثيران الجاحظ تركض بسرعة.
_أشعلت التلفزيون ورحت أبحث عن الأخبار، كانت بعض الفضائيات العربية تقدم أغاني راقصة تشبه أغاني النصر، و من أخرى كانت تطل منها رؤوس فارغة تتفاءل بدور أمريكا في تحقيق السلم في فلسطين والعراق.
- قالت زوجتي :السيدة خديجة تسلم عليك؟
ثيران الجاحظ تركض بسرعة.
وماذا تريد الجارة خديجة، فنحن لم نراها منذ مدة طويلة.
- أخبرتني أن زوجها سيترشح للانتخابات التشريعية؟
قطرات المطر تتسارع:
- الإسكافي يترشح للانتخابات؟
- هكذا قالت زوجته.
الرعد يقعقع:
- أردفت:
- إنه يطلب منك أن تكون نائبه الأول في القائمة .
الريح تحول مسار السحاب، يتجمع فوق رأس زوجتي:
- أنا نائب الإسكافي ؟
- و ما العيب في ذلك؟
صحيح أنت تحمل شهادات، ولكنك في حاجة إلى تزكية حمو حتى تثق فيك الحكومة.
البرق يضيء سناه:
- الإسكافي يزكي أستاذا جامعيا؟
- منذ سنين وأنت تدرّس، ولم توفر حتى ثمن دراجة هوائية الحكومة خصصت سيارة تأخذ أبناء حمو إلى المدرسة، وتأخذ زوجته إلى حيث تشاء.
المطر ينهمر كأنما فتحت أبواب السماء، يعم الفيضان زوجتي، فيحول بيني، وبينها الموج.
ارتميت على فراشي، استعيد حوار زوجتي، أنت في حاجة إلى تزكية الإسكافي حتى تثق فيك الحكومة. كلماتها تخترق رأسي كصفارات الإنذار، والطوفان يصل إلى الركبة، فالصدر ثم يغطي الرأس.
رأيت نفسي أمام مكتب الإسكافي، أترجاه التدخل عند وزير التعليم العالي، تناهى إلى مسمعي قوله إلى كاتبته:
اصرفيه بأية طريقة، أخبريه أني مشغول في اجتماع.
رجعت إلى البيت، رويت لزوجتي قصتي، فقالت بصوت يشتم منه رائحة الشماتة:
لو قبلت عرضه...، ولم اتركها تكمل فقذفتها بمجموعة من السكاكين الصدئة ، ففرت خارج الغرفة، وغلقت الباب.
شعرت بغضب شديد يطحن صبري، رحت أتأمل كتبي وشهاداتي دخل غرفتي فجأة، لم يكلمني، اتجه نحو المكتبة، جمع كتبه أشعل النار فيها و خرج مسرعا.
استنكرت فعل الرجل، واستهجنته ثم ما لبثت أن عدت فاستحسنت تصرفه.
جمعت كتبي وشهاداتي، وضعتها في صندوق ، وفعلت بها مثل فعلته.
سمعت أصواتا تقهقه،وتصرخ :
- لقد فعل مثل سلفه، حرقوه معها، حرقوه.
امتدت أياد كثيرة، وراحت تدفع بي إلى الصندوق، واستغربوا كيف أني لم أقاومهم.
غمرتني سعادة لم استطع كتمانها، فانفجرت بالضحك وألقيت بنفسي في الصندوق، فتراجعوا مذعورين.
أحسست بالصندوق يتحرك ببطء، كأنما تحول إلى قارب، والكتب صارت مجاذيف، رحت أجذف والقارب يسير ثم تساءلت:
- أين أنا؟
وخيل إلي أني سمعت صوتا:
يا خليج. .
يا واهب الردى.
الصوت يبتعد:
الردى.
الردى.
ثم يبتعد أكثر :
ما مر يوم والعراق ليس فيه جوع
خوف...
موت...
جوع..
غدر...
موت..
أحسست بالمجذاف ينفلت من يدي، والقارب ينقلب في النهر، ووجدت نفسي مقيد الرجلين، واليدين، و ورأسي إلى أسفل يغرق، أصرخ:
موووت..
موووت..
جوووع...
أيقظتني زوجتي، وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فوجدت الصدر ضيقا، والتنفس يكاد يتوقف.