المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مفلس القلب



الدكتور حسين فيلالي
25/02/2010, 05:54 PM
مفلس القلب
مقطع من رواية اليربوع
حسين فيلالي- الجزائر
عادت الجازية من وهران ،أخبرتني أن حالتها الصحية قد حسنت،وأنها شاركت في مسابقة توظيف صحفيين،وهي تنتظر الرد من إحدى الفضائيات العربية،و ربما ستسافر إلى الخليج.
تذكرني وهران بأيام الدراسة، وبحكاية عبد الله وهب بن عامر .
كان يقتحم علينا مجالسنا في المقاهي، يرتشف ما تبقى من كؤوسنا، ثم يبصق في الأكواب، وينسحب، يجوب شوارع مدينة وهران عاريا.
و كان كلما تجمع حوله بعض الشباب، قام بحركات بهلوانية و قال:
نئوم الضحى وهران
تستيقظ متأخرة
وتنام متأخرة
و تضحي قنينات الخمر فوق فراشها
تستدرج الزائر إلى حضنها
وتكشف عن مفاتنها
حتى إذا ما تعلق بها، ووله وقال:
- هيت لك
أخرجت له قاطع طريق أعاد ختانه.
كلما ظهر عبد الله وهب بن عامر النسناس بأحياء جامعة السانية تجمهر حوله الفضوليون ،و طلبوا منه أن ينشدهم بعض أشعاره الغزلية، أ و يكتب لهم رسائل غرامية لصديقاتهم فينشدهم:
جاء يستفتيها في هواها، كأنما يملك أمر قلبه
بسطت كفه اليسرى وقالت:
أحمق الحماقات سيدي، أن تهوى امرأة بألف قلب
أن تمنح قلبك إلى امرأة
ولغيرك تمنح هي القلب
وتظل واقفا على باب قلبها
تسترق السمع إلى عشاقها
محترق القلب.
حتى إذا ما احتاجت إلى دمية
تلعب دور العشيق
ألقت إليك بنظرة
ببسمة، بهمسة
لا تطفئ ظمأ القلب
وانصرفت تقهقه
إلى عشاقها تروي حكاية مغفل
يقف خلف الباب مفلس القلب.
عبد الله كان يختتم وقفته بالصياح:
أنا عريس البحر، أنا عطيل، أنا طارق بن زياد، أنا صلاح الدين ثم يجهش بالبكاء، وفي انكسار يقول:
- صدق مصطفى سعيد ،عطيل أكذوبة، وأنا أقول لكم:
أنتم، وأنا أكذوبة الأكاذيب.
إسرائيل لم تلق في البحر، وفلسطين لم تحرر،و الأمة العربية بقيت أكذوبة في أكذوبة، تتقاتل على قيادة سفينة معطوبة، والسفينة تكاد تغرق،يقذفها الموج تارة إلى الشرق وأخرى إلى الغرب ، وإسرائيل فاغرة فاها تبتلع البر ، و البحر، والجو.
و يروى أن وهب بن عامر كان يحمل معه آلة موسيقية وترية صنعها بيده، و يطوف بأحياء وهران وينشد بعض أشعاره الثورية.
ويحكى أنه كان إذا ما انتهى من غنائه انطلق يقفز على رجل واحدة يبكي حتى يبتلعه البحر.
الصيادون رووا حكايات عجيبة عن البحر، وقالوا:
إن مجنون وهران هو عبد الله البحري الذي تحدثت عنه الحكايات القديمة، وزاد راو آخر أن عبد الله هو النسناس المذكور في الأساطير القديمة وقيل إنه الفقيه وهب بن عامر.
يقال إن عبد الله شهد برجل واحدة، وعين تتوسط رأسه، يخرج ليلا من البحر محاطا بحرسه ثم تنصب له منصة فوق الماء، وتلتف حوله مخلوقات عجيبة ترقص على الماء، وتعزف الموسيقى حتى مطلع الفجر ثم يبتلعهم البحر.
احتضن عبد الله وهب بن عامر النسناس وهران توحد معها، صارا اثنين في واحد، انصهر العارض في الجوهر، حل الأول في الثاني وراح يهتف بأعلى صوته:
- ما في القلب إلا وهران، و أغمي عليه.
ولما استيقظ وجد نفسه بحي الدرب بوهران، أحس وكأن معصرة تطحن أضلعه، تكتم أنفاسه، فتح عينيه رأى الرجل العملاق، المزركش صدره بالوشام، بدا له كسجاد فارسي، تتوسطه صورة نسر عظيم مخالبه بارزة كرماح مسمومة، فاغرا منقاره، كفم حية أسطورية.
القضبان تضغط على الضلوع، والتنفس يوشك أن يتوقف، والنسر يحلق عاليا، و وهب معلق كالدلو في مخالب النسر، والنسر يحلق ويحلق، يرتفع في السماء والهواء ينضب، والصدر يضيق، ثم يهوي وهب على صدر الرجل العملاق.
أمره بإفراغ جيوبه، حاول التمرد، غضب الرجل وأمره بنزع سرواله، توسل وهب بسيدي الهواري،استنجد بالشرطة ، بالمارة أصر الرجل على طلبه . نزع وهب سرواله، نفضه، لم يكن في الجيوب ما يرضي، احتقن وجه الرجل العملاق ، وأشبعه ضربا، ثم أخرج من جيبه موسى، وأعاد ختانه وأسرف في الختن، وأشهد على ذلك المارة و شرطة المدينة.
افتقدت وهران عبد الله وهب بن عامر النسناس، اختفى أثره قيل أنه سافر مع البعثة التي قدمت إلى مدينة بشار تبحث عن رفات الجنرال الفرنسي كلافري وقيل أنه وصل إلى القنادسة مع المخرج السينمائي الذي جاء يقتفي أثر إيزابيل إيبرارت.
ما يزال أهل القنادسة يروون عن راهبة الصحراء إيزابيل ما يشبه الأساطير، فقد حلت بأرضهم أيام الاستعمار الفرنسي، و هي تعرف لديهم باسم سي محمود المتصوف.
لا زم سي محمود زاوية سيدي أمحمد بن بوزيان سنين، اطمئن أهل القنادسة إليه، وآووه دون تحفظ كما آوى جدودهم لورنس العرب.
و ما يزال أهل القنادسة يرون حكاية اكتشاف سر المرأة الرجل الراهبة، و يقولون:
إن أحد عبيد الزاوية شك في تصرفات الرجل، المرأة فراقبه عندما ذهب إلى الخلاء لقضاء حاجته في برقة القنادسة، فاكتشف السر مرسوما على الرمل..
المرأة، الأديبة، الرجل، الراهبة، إيزابيل إ يبرارت انتهت حياتها في جوف واد العين الصفراء، كما انتهت حياة الشاعر الرحالة لورنس العرب على عجلات دراجة نارية.
ترك الجاسوس لورنس خلفه جدلا كبيرا، كما خلفت إيزابيل إيبرارت وراءها سرا غامضا لا يزال محجوبا بين جبة سي محمود المتصوف و فستان الجاسوسة إيزابيل إيبرارت، وتأبى جدران الزاوية الزيانية أن تبوح بالسر الكامل.
وروى بعض القادمين من تيهرت، أنهم شاهدوا وهب بن عامر في مغارة، لا يبرحها إلا نادرا، يتأبط بعض المخطوطات القديمة، ويصعد بها ربوة، ولا يعود إلى المدينة إلا بعد أيام، يتزود بالأوراق، والأقلام ثم تبتلعه المغارة. وزاد البعض أنهم أبصروا نورا يخرج من المغارة وينتشر فوق فضاء المدينة ويمتد في اتجاه المشرق.
عاد وهب إلى وهران يحمل المخطوطات في كيس مصنوع من جلد الماعز، وراح يقبل جدرانها، ويتمرغ على أرض سيدي الهواري ويقول:
ورثتها، ورثتها، عن العلامة، ثم يضيف:
اكتشفته اكتشفت السر.
و كان الناس يتعجبون من قوله:
رحم الله بن خلدون، كأنه يجلس معنا اليوم، ويملي علينا فصول مقدمته، لفقد كتب في الفصل السابع والثلاثين:
(اعلم أن الحروب و أنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله. و أصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبية.فإذا تذامروا لذلك، وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام، والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل. وسبب هذا الانتقام في الأكثر:إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعي في تمهيده.)
وكان وهب إذا ما وصل إلى الفقرة الأخيرة بكى حتى تبتل لحيته.
وصل الخبر إلى أهل المدينة، وراحت جهات عديدة تجتهد للحصول على المخطوطات، فعرضت على وهب بن عامر بيعها، لكنه رفض, واكتفي بالقول:
لقد أعطاني شيخي السر ثم أنشد:
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم...وكذا دماء العاشقين تباح
ركبوا على سفن الوفاء دموعهم...بحر وشدة شوقهم ملاح.
الذين أرادوا شراء المخطوطات، زعموا:
أنها عبارة عن ورد من أوراد الصوفية النادرة معللين ذلك بقول وهب أعطاني شيخي السر.
وقال آخرون إنها فصل من مقدمة بن خلدون لم ينشر من قبل، أفرده العلامة لفساد الحكام,
وكان عبد الله وهب بن عامر كثيرا ما يغير حديثه أو يوقفه فجأة، إذا ما سئل عن السر، ويحمل مخطوطاته ويختفي كالمطلوب بالثأر.
الذي وشى بوهب بن عامر النسناس، نسب له قوله:
- اليوم في زمننا العربي أصبح كألف عام، المعاناة صارت متشابهة والهزائم متشابهة، والحكام متشابهون والأيام متشابهة، تنصرم لا عز فيها ولا كرامة.
عبد الله وهب بن عامر، النسناس اغتيل، وتفرق دمه بين الحكومة وأطراف أخرى كانت ترى فيه جاسوسا للحكومة في جبة مجنون.