المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أجراس غرناطة



الدكتور حسين فيلالي
05/03/2010, 08:01 PM
أجراس غرناطة
مقطع من رواية اليربوع
حسين فيلالي
رن الهاتف وأنا بين صحو، و نوم، حملت السماعة فوجدت صوت مدير النزل:
- سيدي وصلت برقية من العراق، هل تريد أن تستلمها الآن، أم نضعها مع بريدك؟
أجبت بصوت مرهق:
- لو سمحت، ابعثها لي.
غادرت السرير إلى الحمام، غسلت وجهي، تأملته في المرآة، تذكرت الشاعر الحطيئة، رددت بعض أبياته في سري، لعنت المرآة وانصرفت.
علمت من البرقية أن الجازية قد نجت من محاولة اغتيال، وأنها ستعود إلى الجزائر قريبا.
لم استغرب الخبر لأني كنت أتوقع ذلك منذ أن نشرت الجازية مقالها عن الاحتلال الأمريكي للعراق
و أشارت إلى أن الاحتلال يهدف إلى تغيير وجه، ووجهة العراق .
استرجعت صورة أحد المغدورين في العراق، كان مقطوع الأطراف ومسلوخ الرأس ، ومعلق كالشاة. تذكرت أني بكيت يومها كامرأة تفقد بكرها.
وتذكرت أيضا أن زوجتي سألتني إن كان المغدور من أصدقائي فأجبت بالنفي.
أخبرتها أن إحساسا غريبا، وهواجس كثيرة تسيطر علي منذ حرب الخليج الأولى، إحساس بموت غير عادي يحضر في الظل.
قلت لها:
كأني أسمع أجراسا تقرع، كأجراس فقدان غرناطة.
حاولت زوجتي أن تخفف من حزني فقالت:
أنت متشائم، وتعالج الأمور بخيال شاعر، وأن العراق ليست الأندلس.
قلت :
محاكم التفتيش هي، هي، وملوك الطوائف هم أنفسهم، و بغداد بعد غرناطة ضيعناها.
كأني أسمع لوركا يصرخ من هناك:
نهرا غرناطة..واحد من دمع وآخر من دم.
فيرد الصوت من هنا:
نهرا العراق.. واحد من دمع وآخر من دم.
مزقت البرقية، تمددت على السرير، أحسست بضيق شديد، وبحرارة غير مألوفة تجتاح القاهرة. امتدت يدي لتشعل المكيف ثم تقلصت لما تذكرت وصية طبيبي الخاص:
عليك أن تتجنب مكيف الهواء، وتستحمل الحرارة، هي أسلم لمثل حالتك.
غادرت شارع عدلي بحثا عن مشروب بارد، انعطفت على شارع طلعت حرب، وقفت أمام تمثاله، ولا أدري كيف خالطني إحساس غريب، جعلني أميل إلى أن الفنان لم يوفق في نحت صورة الرجل.
شعرت أنه رسمه بأسلوب خال من أي إحساس.
عدت فعذرت الرسام، وقلت:
وهل تركوا لنا إحساسا؟
وخشيت أن يكون أحدهم قد سمعني، تخيلته يبحث عما يعود الضمير هم في تركوا ، ويتساءل عن جماعة نا في لنا.
تصورت أسئلتهم تنزل علي كأمطار حمضية:
بماذا تحس ؟
وخشيت أن يتحرر المكبوت وأقولها.
بماذا تحلم؟
أتلعثم ،لا أد.. ر.. ي.
لا تدري ؟نحن نعلم بما تحس:
تكلم
لا أدري
لقد ادعيت أنك تحس بالظلم.
وبماذا تحلم؟
لا شيء.
لقد فضحتك عباراتك.
كيف ؟وأنا تعودت ألا أكتب حرفا حتى أضع رقيبا عن يميني، وعن شمالي، ومن خلفي، ومن أمامي، وبذلك ضاقت العبارة.
اهتديت إلى أن هذه الجملة قديمة:كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة وأن قائلها لم يكن يقصد ما توهمه النقاد،والفلاسفة، قدرت أن يكون واجه موقفا يشبه موقفي ،كانوا عن يمينه، ومن خلفه ،وعن شماله ومن أمامه فضاقت به العبارات وانكمشت.
- قال المحقق في غضب:
- لقد كتبت أنك تحلم بتغيير النظام.
- ومن يتعجل خروج الدابة؟
- اقرأ.
- هذا ليس خطي.
- هل تنكر أيضا أنه كتابك؟
هل تنكر أنك... ؟
هل..؟
هل..؟
انتبهت إلى أني في الشارع،وأني أقوم ببعض الحركات المستريبة التفت يمينا، وشمالا ابتلعت لساني، و توجهت تلقاء ميدان التحرير.
جلست بأحد المقاعد، وانهمكت في تدوين بعض الخواطر.
سجلت ما حدث لصديقي ليلة البارحة مع العجوز قمقم، قدرت أن يكون قمقم من بقايا نسل أبسخرون كما قدرت أن يكون نسل طه الشاذلي قد انقرض، أو أنه انتحر قبل أن يتزوج ببثينة.
رأيت طه يخرج من مركز الشرطة يبكي، ويصرخ ما ذنبي إذا كان أبي يشتغل بوابا.؟أنا تعبت يا ناس وقرأت، وطلعت الأول، ثم يلقي بنفسه من عمارة يعقوبيان.
قمقم يتشمم رائحة الغريب، ككلب بوليسي مدرب على اقتفاء الأثر .
استعدت الحوار الذي دار بين صديقي وبين قمقم:
- بدك صبية حلوة تجيد الرقص الشرقي. تعرف كم الليلة يا بيه.
قلت: هو،هو أبسخرون.
دفع له عشرين جنيها ثمن خدمته، وسار خلفه.
دخلا عمارة قديمة صعدا السلم حتى انتهيا إلى أحد الطوابق.
قرع قمقم الجرس،فتحت الباب عجوز شمطاء رحبت وقالت:
- من أين السيد؟
قال قمقم:
- هو من أشقائنا؟
قالت :
- ماذا يشرب السيد؟
أجاب قمقم:
-عصير ليمون.
عادت العجوز بعد أن لبست لباسا فاضحا يكشف عن تجاعيد جسد تعافه حتى الكلاب الضالة، وضعت كوبين من العصير، أشعلت سيجارة، وقالت:
- هل السيد يرغب في قضاء الليلة عندنا؟
- قال وهو يلعن قمقم في سره:
- سأعود بعد أن أنهي بعض الأشغال، واستأذن بالانصراف.
اعترضت العجوز طريقه، انتفخت أوداجها كأفعى كوبرا تتأهب للهجوم نادت :
سيدو، فخرج زنجي كأنه جان وفي يده مدية تلمع كالبرق، طلب منه إفراغ جيوبه، ففعل في صمت ثم ألقي به خارجا .
انصرف بعد أن حمد الله على سلامة البدن، و توعد قمقم بالانتقام.