المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جميلة الحجازية: عبقرية..جمال..قوة أنوثة وتأثير لحن



محمود عباس مسعود
09/03/2010, 06:05 AM
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/1/1d/ReinassanceLute.jpg/250px-ReinassanceLute.jpg


جميلة الحجازية




كانت جميلة مغنية، قبل أن تكون جميلة ً وسيمة، يساعد جمالها على تأثير غنائها في النفوس، وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة:

وتلكم جميلةُ زين النساءِ
إذا هي تزادانُ للمخرجِ
إذا جئتنها بذلتْ ودّها
بوجهٍ منيرٍ لها أبلجِ

كانت مولاة أنصارية، دفعها إلى الغناء ميل طبيعي إلى الغناء والتنغيم بينها وبين نفسها. والمصادفة هي التي هيأت لها ذلك. وما أكثر ما توجّه المصادفات أهل العبقرية إلى هياكلهم التي خلقوا لها. وهي لا تريد أن تدّعي بأن غناءها وحي عبقرية أو نتاج درس، وإنما تردّه إلى هذه المصادفة وتسكت. على أن هذه المصادفة وحدها لن تكون مخصبة أبداً إذا لم تنزل أرضاً فيها أسباب الخصب والتوليد.

سئلت جميلة: أنـّى لكِ هذا الغناء؟ فقالت: "والله ما هو إلهام ولا تعليم..."

فما هو إذاً؟ أيُغْني الإلهام وحده الفن؟ أيغني التعليم وحده أيضاً؟ حقا أن الفن لا يمكن أن يكون واحداً مستقلاً عن هذين الإثنين. قالت:

"ولكن جاراً لنا كنت أسمعه يغني، ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات فبنيت عليها غنائي."

إذن هو التقليد. ومن لم يضرب في التقليد لا يصل إلى سر الابتكار..
وقالت: "فجاءت نغماتي أجود من تأليف ذلك الغناء، تعلمت وألقيت."
ذلك لأن العبقري لا يقف عند التقليد، وإنما يتخذه معارج يتنقل فيها حتى يأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه عن نفسه، وتتجلى له عبقريته. فإذا بكل ما كان عنده يضحي قشورا... لأنه مكتسب، وما في نفسه وحدها، ما بان وما لم يبن، هو الجدير بأن يعبر عما في نفسه.

جمال جميلة
كانت جميلة تجمع من حسن الخلقة ورقة الخلق والطبع ما يزيد أنوثتها قوة، ولحنها تأثيراً. وقد جاءنا أن العرب كانوا يطلبون في المغني أن يكون جميل الطلعة، حسن الزي، لأن قبح الوجه يعطل جمال الصوت. فكيف في المغنية التي تلائم بين رقة الصوت ورقة الجمال؟

مرح جميلة وتواضعها
وكانت إلى ذلك مرحة، شديدة المرح. والمرح لعمري من صفات الطبع الحي الذي لا يكتفي بما فيه من حياة وحركة، حتى يعمل على بث هذا المرح في ما حوله من أرواح وأشياء. كانت تسود مجالسها النكتة ويغلب عليها شيء من التواضع..

أدب جميلة وثقافتها
وقد جمعت إلى ذلك ثقافة فنية أدبية، كان يعتز بها هؤلاء الأقدمون، اعتقاداً منهم بأنهم لا يستطيعون أداء الرسالة الفنية بدونها. هذه الثقافة هي التي أنمت فيهم الذوق المرهف في الفن والحياة، حتى باتت عباراتهم ذات مدلولات خاصة.

بالرغم من مرحها أبكت سامعيها
وهذه الروح التي تؤثِر المرح، هذه الروح التي يغلب عليها الجانب العاطفي الشجي في بعض ألحانها، تقول حين سمعت أبياتاً لعمرو بن أحمر في عمر بن الخطاب: "والله لأعملن فيها لحناً لا يسمعه أحد أبداً إلا بكى". ويقول من سمعه منها: "وصدقت، والله ما سمعته قط إلا أبكاني، لأني أجد حين أسمعه شيئاً يضغط قلبي ويحرقه، فلا أملك عيني، وما رأيت أحداً قط سمعه إلا كانت هذه حاله".

وكانت جميلة ذواقة نقادة
ويبدو من أخبار جميلة أنها لم تكن فنانة فحسب. بل كانت بطبيعة ذوقها النافذ نقادة فنية ، تحسن الحكم على الأذواق، ويكون لرأيها قيمة في الأصوات. ولطالما اجتمع عندها كبار المغنين والمغنيات، فأسمعتهم وأسمعوها، وحكموا لها وحكمت لهم، ولهذه الأحكام قيمة فنية خاصة لأنها تدل على اتجاهات الأذواق الفنية والألحان الصوتية في ذلك العصر. ومن الناحية التاريخية هي كل ما تبقى لنا من ثروتهم الفنية.

اجتمع عندها خمسة من المغنين، وليس فيهم إلا محسن ومجيد. قالت لهم جميلة: كلكم محسن، وكلكم مجيد في معناه ومذهبه.

قال ابن عائشة: ليس هذا بمقنع دون التفضيل.

قالت: أما أنت – يا أبا حفص – فتضحك الثكلى بحسن صوتك ومشاكلته للنفوس. وأما أنت يا أبا عباد فنسيج وحدك بجودة تأليفك وحسن نظمك مع عذوبة غنائك. وأما أنت يا أبا عثمان فلك أولية هذا الأمر فضيلة. وأما أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح. وأما أنت يا أبا خطاب فلو قدّمت أحداً على نفسي لقدمتك.

هذه أحكام عامة – لا شك – ليس لها مدلول فني خاص. ولكنها مع ذلك تحمل بعض البوادر التي صار بها الترجيح. فحسن الصوت ومشاكلته للنفوس، أو بالأحرى لأهواء النفوس، وجودة التأليف وحسن النظم مع عذوبة الغناء، كلها أشياء تعد من عمود الغناء في ذلك العصر. بل هي من عمود الغناء في كل عصر، لأن هذا كله إذا اجتمع للإنسان ولم تجتمع له هذه الملاءمة للنفوس وهواها، والمعاني وصداها، لم يجتمع له شيء.

أحكام أخرى لجميلة على المغنين
ذكر صاحب الأغاني:
"في مجلس اجتمع فيه جماعة من حذاق أهل الغناء، غنى معبد لحناً من صنعه، قالت جميلة: ما عدمت الظن بك، ولا تجاوزت الطريقة التي أنت عليها.. وغنى مالك فقالت: جميل ما قلت، وحسن ما نظمت، وإن صوتك يا مالك لمما يزيد العقل قوة والنفس طيباً والطبيعة سهولة. وما أحسب أن مجلسنا هذا إلا سيكون علما، وفي آخر الزمن متواصفاً، والواصف ليس كالمعاين."

ولا أحسب جميلة مغالية في كل هذا، ولا يدل هذا الكلام إلا على نفس مازجها الفن ولاءم منها غاياته. فهي تحيا لفنها وتقدّر ما يترك هذا الفن من أثر في نواحي النفس. حتى إذا غنت لهؤلاء الحذاق سُمعت للبيت زلزلة وللدار همهمة. حتى يقول عمر بن أبي ربيعة "لله درك يا جميلة. ماذا أعطيت. أنتِ أول الغناء وآخره.."

الغناء الجوقي كان في عصر جميلة
ومن عجيب الغناء في ذلك العصر أن يكون فيه الغناء الجوقي، وأن تجمع هذه المغنية الجواري ليعزفن لحناً واحداً، ويغنين صوتاً واحداً. وهي تضع لذلك شروطاً وأسبابا عميقة تجيز هذا الجمع.

من ذلك: أقبلت جميلة على نافع وبديج، فقالت: "أحب أن تغنياني صوتاً واحداً، فغنيا بصوت واحد ولحن واحد، حتى إذا انتهيا قالت جميلة: "هواكما والله واحد، وغناؤكما واحد". ثم أقبلت على هزليين ثلاثة فقالت: "غنوا صوتاً واحدا فاندفعوا فغنوا.. فقالت: "ما رأيت أشبه بغنائكم من اتفاق أرواحكم". فأين هذه الوثبة النفسية من مغنين يجتمعون ويعزفون، لا يجمع بينهم إلا نقر الآلات، وأرواحهم شتى غير مؤتلفة؟!

حينما تزلزلت الدار وجرت جموع العيون
وفي يوم ضربت جميلة ستارة وأجلست الجواري كلهن، فضربن على خمسين وتراً فتزلزلت الدار. ثم غنت على عودها وهن يضربن على ضربها، فدمعت الأعين حتى ابتلت الأثواب...

أقرأ هذا الخبر فأتمثل ندوة فخمة للأوبرا الحديثة، تعزف آلاتها إحدى سيمفونيات بيتهوفن الرقيقة، التي لا تخاطب الجسد وإنما تخاطب الروح، وتوقظ فيها من أحاسيس ومشاعر يعرفها من استحالت قلوبهم وعواطفهم إلى أوتار. وهذا هو عزف الخلود الذي يبقى أثره ويرفع النفسَ وقعُه.

مجالس جميلة
كانت أيام الغناء مواسم يأتيها الناس من أطراف قريبة وبعيدة. تقام في البيوت والمجالس الجامعة. يقبل عليها الشعراء والعلماء والأمراء... لأنها مواسم الأدب والغناء..

قال سياط: جلست جميلة يوماً للوفادة عليها، وجعلت على رؤوس جواريها شعوراً مسدلة كالعناقيد... وألبستهن أنواع الثياب المصبغة، ووضعت فوق الشعور التيجان، وزينتهن بأنواع الحلي، ووجهت إلى عبد الله بن جعفر تدعوه "إلى مجلس هيأته، لا يسحن إلا بك، ولا يتم إلا معك، ولا يصلح أن ينقل من موضعه، ولا يسلك به غير طريقه".

جلس عبد الله وقامت على رأسه، وقامت الجواري صفين فأقسم عليها، فجلست غير بعيد، ثم دعت لكل جارية بعود وأمرتهن بالجلوس على كراسي صغار قد أعدتها لهن. فضربن وغنت عليهن، وغنى جواريها على غنائها. فلما ضربن جميعاً قال عبد الله: ما ظننت أن مثل هذا قد يكون. وإنه لمما يفتن القلوب.

شهادة شيخ ذو علم وفقه في الغناء
على أن الحكم على الغناء نفسه، أيحل أم يحرم، هو حكم يختلف فيه الناس. وجميلة نفسها تشك يوماً في الغناء فتجمع الناس في دارها لتقص عليهم رؤيا أفزعتها وأرعبتها... "ولست أعرف ما سبب ذلك، وقد خفتُ أن يكون قرب أجلي، وليس ينفعني إلا صالح عملي. وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي."

فوجم الناس بين محبذ وآسف، حتى قام شيخ منهم ذو سن وعِلم وفقه وتجربة وانطلق يقول: "إن الغناء من أكبر اللذات وأسرّ للنفوس من جميع الشهوات. يحيي القلب، ويزيد في العقل، ويسرّ النفوس، ويفسح في الرأي ويتيسر به العسير، وتفتح به الجيوش ويذل به الجباّرون حتى يمتهنوا أنفسهم عند سماعه، ويبرئ المرضى ومن مات قلبه وعقله وبصره، ويزيد أهل الثروة غنى وأهل الفقر قناعة ورضا باستماعه، فيعزفون عن طلب الأموال. من تمسك به كان عالماً ومن فارقه كان جاهلا.. لأن لا منزلة أرفع ولا شيء أحسن منه. فكيف يُستصوب تركه ولا يستعان به على النشاط في العبادة؟"

هذه الكلمة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن القوم لم ينظروا إلى الفن وسيلة إلى الشهوات، ولا ذريعة إلى الملذات. وإنما هو آلة لإحياء القلوب وسرور النفس وشفاء المريض. فإذا بهذا المجلس الذي اجتمع ليسمع توبة جميلة، يجتمع ليسمع صوت جميلة، ويفرح فرحاً جديداً بانتصار الفن والغناء.. وليس الغناء إلا سببا – كأسباب الفنون جميعاً – يميل إلى الخير والفضيلة ويميل إلى الشر والرذيلة بحسب نفس صاحبه.

فيقول الشيخ بعد استماعه لحنها "حسن والله. أمثل هذا يترك؟ لا والله لا كرامة لمن خالف الحق". ثم قام وقام الناس معه وقال: "الحمد لله الذي لم يفرق جماعتنا على اليأس من الغناء ولا جحود فضيلته. وسلام عليك ورحمة الله يا جميلة!"

والسلام عليكم

خليل الهنداوي
مجلسة العربي – العدد 62 – يناير 1964

الإعداد بتصرف: محمود عباس مسعود

د.محمد فتحي الحريري
09/03/2010, 06:47 PM
شكرا اخي الجميل الاستاذ محمود
شوقتنا لاخبارجميلــــــــــــة التي تنتمي الى الزمن الجميل
وكأنني قرأت عنها في كتاب ( قيان ومغنيات بغداد ) لست متاكدا
لك الجمال والهاء اخي مخلوطا بالشكر .

محمود عباس مسعود
09/03/2010, 09:25 PM
شكرا اخي الجميل الاستاذ محمود
شوقتنا لاخبارجميلــــــــــــة التي تنتمي الى الزمن الجميل
وكأنني قرأت عنها في كتاب ( قيان ومغنيات بغداد ) لست متاكدا
لك الجمال والهاء اخي مخلوطا بالشكر .


أهلا بأخي الفاضل الدكتور محمد
وهو كذلك يا مولاي..
زمن جميل بأصالته
ببساطته
بمجالس سمره
بصدق عواطف أهله.. بنقائه
ولك المحبة ممزوجة بمسك الماضي المعتق
ومضمخة بنفحات الروح والريحان.
حيا الله وجه الخير.