المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آية طائر السنونو



خالد ساحلي
01/03/2007, 07:38 PM
يرجع للبيت متأخرا، لا ينام غير ساعات يريح بها نفسه ، مشوار طريقه ذاك التراجي الطويل ، في هزيع الليل يتأرق ، مسكنه غرفة من طوب الاسمنت وسقــف من قصدير، عشــة يسمـــيها" نواله" يطبـخ وينــام فيها،الغرفة ذات الثلاث أمتار تستعملها أخته ، لم يترك لهما والديهما شيئا فحظ الوالدين رحمهما الله لم يكن أحـسن مـن حـظ أبنائهما ، مـن نعـومة أظافـره وهـو يعوّل عـلى نفسـه ، تكـفل بأخته ، تمكن من إيجاد مكان في المدينة لكشك حديدي لا يتعدى المترين ، يبيع فيه التبغ ، يستعين به على نائبات الدهر وعلى غــلاء المعيشة ، دراجته الهوائية يكبرها بعشــر سنين ما فرّط فيها مــذ اشــتراها ، يــروح ويغدو بهــا، سكنه يبعد عن المدينة بكيلومترات، القرية يعتبرها سجن كبير وبيته زنزانة ، كم من وعود قدمها له المسئولون المنتفخون كما يسميهم ، وعدوه بسكن ، فلا يليق بإنسان أن يحــيا فــي ــ عشة كعشة الدجاج ــ فالحياة الكريمة من حق الجميع أخته صفية صارت في عمر الزواج ، يكبرها بعشرين سنة ، لم يتزوج لأجلها ، حالته لا تسمح له في الوقت الراهن ، لقد تعدى الأربعين و لا يزال أعزب، كلما دخل البيت رأى في عين أخته حزنا عميقا غائرا مؤلما موجعا وَخِزًا ، يشعر حينها انه المعّزى ، دائما يتجاهل نظراتها إشفاقا عليها وعلى نفسه ، وعده المسئولون في لجنة السكن بأن سيكون في قائمة المستفيدين هذه السنة علّـق أملا كبـيرا هـذه المــرة ، ولـقد أكـدوا لـه وعـدهم، أضحى لا يبرح مكاتبهم، وصل به الأمر إلى كتابة رسـائل شكــوى حتى لوزيـر السـكــن والرئيس ، يعلم أن شكواه يُـغيّر مسارها، وإن لحقت سوف تحجب في علب الرسـائل الـواردة ، عقـد الـعزم عـلى مواصلة إزعــاج المســئولين، صار يتحاشاه كل عضو في اللجنة ، سـمع مــرة مسـئول يتــكلم عنه فــي إحــدى المقاهي "صار أكثر من الظل يلازمنا أينما حللنا صار يضايقني، فليعطى السكن ونربح إزعاجه على الأقل" لم يندهش لما سمع ، لم يحز ذلك شيئا في نفسه لقد سمع الأكثر من هذا ، وصل الأمر في إحدى أيام الاستقبال أن طرده رئيس البلدية، صبّ عليه وابل من اللعنات ، راح ينتهك شرفه بكلام قبيح بدئ ، هو لا يملك الخيار ، استسلم فوّض أمره لله ، ماذا يفعل في وطن ضاعت منه الحقوق، القانون يطبق على الضعيف ، الضعفاء البسطاء هم ركيزة مجد وثراء الأثرياء و السياسيين والمسئولين، خشي مواجهتهم لئلا يرمى فـي السجـن والسـجن لم يـعد للصوص والـقـتلى والمجــرمين وقطاع الطرق ، إنما صار مكانا لأصحاب الرأي والأبرياء ، يخشى أن تبقى أخته من بعده فريسة للكلاب المدربة ، يرجئ عذاباته ينوّم غضبه ،أخبر صفية بوثوقه هذه المرة من حصوله على سكن ، كرروا له الوعد بالقسم بشرف أبائهم وأبنائهم ، هو لا يثق في كل مسئول هنا في هذا البلد ، المسئول هنا لا يعرف حلالا ولا حراما لا يحترم عهدا ولا ميثاقا ، الشرف عنده لعبة يقدمها مساءا مع اللعب لأطفاله المتنعمون برشاوى الأب وهم الأبرياء لا يعلمون ... يربط دائما أمله بالله ، يمسح القلق العالق بزجاج مخيلة أخته حتى يبعد عنها شبح التفكير في حالته ، كان ذلك اليـوم بالـنسـبة لــه يــوم مشهود، سيغير له حياته ، يطوي به صفحات العذاب والحرمان والمأساة سيودع القلق والأرق والتوتر، سيدفن هاجس الحيرة وخبط العشواء وتيه فكره وشروده ، الجريدة التي ستنـشر فيـها قائمة المستـفيدين معلومة عـند الجميع راح الجميع في البلدة يقتنيها ، مباشرة تفتح صفحاتها ، إلى صفحة الإعلانات، الجريدة حكومية غير ذائعة الصيت ،الأعين محدقة ، تركيز كبير، تمعن فائق الدقة في البحث عن الأسماء ، ولأنه بطيء القراءة يقرّب الصفحة من بصره أكثر بسبابته يسـلسل قائمة الأسماء، مـن أعلى لأسفل ، كـانت دقـات قلبـه تـزداد أكـثر مـن نبضات عـداء مئة متر تعـدت نبضاته المائـتين في الدقـيقة ، بالـقرب منه كـان صديقه عـمر يقـرأ ملامح وجهه، حركه من ذراعه: " ما بك وجهك صار أصفر كورقة بستان خريفي إنك ترتـعد ضع ثقـتك في الـله ستـجد اسـمك من بــين الأسـماء اهـدأ حتى وان حـرموك فـالله حـي لا يمـوت ابحـث عن اسـمك بهدوء ثـقــل عقـلك اكـبح عواطفك" نظر إلى صديقه عمر بعينين كأن ملك الموت ينزع منهما الحياة، راح يكمل قراءة أسماء القائمة أنهاها ثم أعاد القراءة مجددا ، يــداه لازالـتا ترتـجفان أعـاد القراءة الثالثة للأسماء ، فـقد اتزانه ، تـمايل شمالا ثم يمينا ، كاد يسقط لولا أمسك به عمر ، ضرب كفه على ناصيته : "كذبوا عليّ من جديد المنافقون المنتفخون حسبي الله ونعم الوكيل " رد عليه عمر: "تعرفهم وكـّل أمرك لله " خط خطوات ترك يد صديقه التي كانت تمسكه ، مشى الهوينى وراح يتساءل " ما معنى أن يقرروا أن يجعلوا حدا لحياتيك، أن يدفعوك للانتحار، لممارسة الحرام و الجريمة ، أن يخرجوك من الملة ، أن يدفعوك للتـخلص مـن معــاناتك وعذاباتك بـأن تصير نذلا مثلهم أو لصا أو مـجـرما ،أن يجعلوك لا تحتمل ، تخـور قواك ، لا تقـاوم ،لا تقوى عـلى رعاية بـذرة الخـير التي فـي نفـسك " قصد كشــك الـتبغ والمكان الذي ألفه سنوات طـوال واحتضنه دون أن يضيق بـه ، راح يــرفع نـظره إلى أعلى، إلى عمود الكهرباء ، لـقد منحه الـله مـشهدا كان له آيــة للاعتبار، بمصباح الإنارة العمومي لعمود الكهرباء وجد عصفور سنونو معلقا من رقبته بخيط رقـيق ملتصق بعـشه، كـان الخيط الـذي جـلبه العصفور كــان حبل مشنقته، اندهش للمشهد ، حادثة لم يقرأها ولم يراها ولم يسمع أحدا قصها عليه مثلما راءاها اليوم ، تزامنت دهشته لمّا قرنها مع ما كان يحدّث به نفسه ، أكان ينـوي بنفسه شـرا ؟ لمح صديقه عمر الـذي كان يـراقبه ويتبعه من قريب:
" عـمر انـظر إلـى فـوق، حيث عش السـنونـو في عمود الكهرباء بالضبط مصباح الإنارة العمومية " رفع عمر رأسـه : " آية حتى لا تحدث نفـسك بشيء ، هل كنت تفكر أن تـقدم على هذا الأمـر أصدقني القـول ؟ ـ تحدّثت به في نفسي يا عمر" قال له عمر وهو يربت على كتفه : " من لأختك بعدك لو فعلتها "
ـ أستغفر الله العظيم
ـ لن يكون أمرك إلا مثل هذا السنونو لا يعبأ لحالك أحد .
راح يستغفر الله و عيناه في مصباح الإنارة العمومي وعصفور السنونو معلقا من رقبته بخيط تحت عشه.

محمد فؤاد منصور
26/07/2007, 12:04 AM
الأخ خالد ساحلى
قصتك تنقل الواقع كماهو بكل سيئاته فى لغة مشحونة باليأس تتجلى خيبة الأمل وفقدان الثقة حتى يصل الأمر للتفكير بالتخلص من الحياة ذاتها ، بالرغم من مأساويتها إلا أنك أستطعت أن تصور مشاعر الأنسان المهزوم داخلياً ببراعة وإقتدار وقدرة تحسب لك فى إمتلاك ناصية الحكى ، ليس لى عليها سوى النصح بمراجعتها نحوياً حتى لايعيبها شئ ..تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

مالكة عسال
26/07/2007, 01:27 AM
قصة تؤثث للهم اليومي والفقر وقضية السكن المفقود
والوعود الكاذبة من طرف المخزن ..
فماأكثر من مثل هذه الكوارث القاتلة لأبناء الشعب ،
مجهضة لأحلامهم،حتى غدوا يقدمون أ نفسهم قرابين للهجرات السرية
أو للمشانق أو لحبوب الهروين ،ليرحلوا عن أتعاب الحياة
بكل ألوانها ..
قصة بلغة سلسة لينة لاتستعصي على قارئها ..
فقط أشير إلى أن الصحيح للجملة الآتية :
يــداه لازالـتا هو :مازالتا
مودتي

خالد ساحلي
28/07/2007, 12:30 PM
الأخ خالد ساحلى
قصتك تنقل الواقع كماهو بكل سيئاته فى لغة مشحونة باليأس تتجلى خيبة الأمل وفقدان الثقة حتى يصل الأمر للتفكير بالتخلص من الحياة ذاتها ، بالرغم من مأساويتها إلا أنك أستطعت أن تصور مشاعر الأنسان المهزوم داخلياً ببراعة وإقتدار وقدرة تحسب لك فى إمتلاك ناصية الحكى ، ليس لى عليها سوى النصح بمراجعتها نحوياً حتى لايعيبها شئ ..تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته
الفاضل الدكتور محمد فؤاد : نشرت هذه القصة دون مراجعتها نحويا ولغويا ، تلقيت على اثرها:fl: نفس النصيحة من صديق أديب مخلص ... آخذ بكل نصائحك وشكرا على تنبيهك .:fl:
تحياتي

خالد ساحلي
28/07/2007, 12:38 PM
قصة تؤثث للهم اليومي والفقر وقضية السكن المفقود
والوعود الكاذبة من طرف المخزن ..
فماأكثر من مثل هذه الكوارث القاتلة لأبناء الشعب ،
مجهضة لأحلامهم،حتى غدوا يقدمون أ نفسهم قرابين للهجرات السرية
أو للمشانق أو لحبوب الهروين ،ليرحلوا عن أتعاب الحياة
بكل ألوانها ..
قصة بلغة سلسة لينة لاتستعصي على قارئها ..
فقط أشير إلى أن الصحيح للجملة الآتية :
يــداه لازالـتا هو :مازالتا
مودتي

السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته
الفاضلة القاصة الرائعة مالكة عسال : سعدت بمرورك جارتي ، و أسعدني أكثر شعورك النبيل اتجاه العامة من الشعب ، الأدب في الأخير ليس سوى ارتباط الكاتب مع الآخر لا غير .
شكرا على تصويبك اللغوي .
تحياتي :fl:
تحياتي