المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شاعـر يبحـث عـن نصفـه الآخـر



عبدالسلام مصباح
02/03/2007, 09:25 PM
شاعـر يبحـث عـن جزئـه الآخـر
الجـزء الضائـع
قـــراءة
فــــي ديــــوان
حـاءات متمـردة

بقلــــــم
إدريـس قـزداريقول د :عبد الله محمد الغدامي :
(إن الشعر في حقيقته تمرد لغوي مهذب)


بادئ ذي بدء؛لابد من الاعتراف بأن عالم عبد السلام مصباح الشعري،عالم - حاءات متمردةـ حاءات جادة وساخرة..صادق في سخريته وحاءاته وأحلامه إلى درجة تصيب القارئ بالدهشة. ذلك انه ينقل إليه هذا الحلم في أوج ألمه وحزنه،ودون ريش طاووسي تخفي رماد شعره، وزمن إحباطه ،وتراب خيبته ،ولو جاز لنا التعبير،فإننا نفضل تشبيهه بغابة كثيفة،أشجارها ـ حاءات متمردة ـ يحفها أكثر من واد ،وهذه الأودية حاملة لقوارب حبلى بالحلم والفرح ،والحب والحرف والحزن وحواء وحبات الرمل والحيرة والوحدة ،والكلمة التي تحطم الزمن ،والحنجرة النابضة بالصوت والرفض والحب والأحلام الرومانسية الثائرة في وجه الحضارة المادية الرهيبة ،والخصبان والميلشيات الثقافية والحزبية ؛ومع ذلك فإن تلك الغابة ساحرة فاتنة تفتن من يراها ألا يقف على حروفها الحائيه الثائرة ،أو يدور حول أشجارها المتمردة .بل تفتنه وتغريه كي يتوغل فيها
ـ ما حيلة القارئ؟وكيف يدخل تلك الغابة المتمردة ؟ كي يستكشف ما فيها من صور الحلم والفرح والنداءات والحروف والأسماء،ويخضع نفسه الى سلسلة من سفر الخروج والاعترافات والمرسوم ومدارات العشق والبعث وآخر العام و شفشاون وسنفونية الخصوبة والعشاق الذين يرسمون وردة للفجر ،ويقرأ ون في كف الغجرية والزمن العربي. ثم يخرج القارئ منها سالما من حمى الحاءات وحربها .دون أن تلسعه حية الحياة او تنغرس في عينيه شوكة السحر والحلم ،دون أن يفاجأ بالخصيان والأخناث وتماثيل الرماد وهو يمسك بؤرة الحرف والضوء والحب والأخضر.
وفي شعر عبد السلام مصباح ،فإن ظاهرة الغموض لا تبرز إلا نادرا ،وحتى في حالة وجودها ،فإنها تندرج تحت ـ سريالية الصورة التي ترسمها الجملة الشعرية منفصلة كانت أو متصلة أكثر من فقدان "العلاقة المتوارثة" بين أجزاء الجملة ، كما يتضح ذلك في الصور التالية من قصيدة ـ"عن الحلم والفرح"ـ ص(8)
طَـارَ
يَبْغِي الأَنْجٌم الْحُبْلَـى
وَأَثْمَارَ السُّحُـبِ
ثُمّ عَـادَ
حَامِـلاً
تَحْتَ جَنَاحَيْهِ الأَلَـم
وَبَنَى الْعُـشَّ
عَلَى أَشْوَاكِ وَرْدَه
ثُمَّ غَنَّى مِنْ فَـرَح
نجد اللغة الشعرية مقيدة بالمجاز الذي لا يسبق إلى الذهن ،و ما لا يفيد ذلك المغنى إلا مع قرينة مقيدة بقيود تزيل عنه الإطلاق ،والقرينة من هذه القيود ،ولفظ الكلام لا يستعمل إلا في المقيد وهو الجملة التامة ؛فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف ،فهو لا يسمى في كلام العرب كلمة ،وإنما تسميته هذا اصطلاح نحوي ،كالفعل والاسم ،ويمكن ان نقف عند هذا السطر الشعري
تحت جناحيه الألم
والجناح يظن انه حقيقة في الجناح ذي الريش ،مجاز في غيره ،وهو لم يرد إلا مضافا ليدل على معناه ،فجناح الطائر ما يخفق به في الطيران ،وجناحاه يداه ،وجناح الإنسان يده وجناحاه يداه .وفي القرآن الكريم "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة "أي ألن لهما جانبك ،وقال الزجاج :معنى جناحك ،العضد ،وكله راجع إلى معنى الميل ،لأن جناح الإنسان في احد شقيه ،وفي الحديث الشريف ."إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم "،وهو بمعنى التواضع له ،تعظيما لحقه ،فكان الميل جزء من المعنى ،وهو من باب ما يطلق عليه semé ،ويستوعب طائفة من الألفاظ.
إن لغة الشاعر عبد السلام مصباح هي لغة التجربة مع الكلمة المستيسرة .لغة تتطلع إلى معنى فوق المعنى على أجنحة الخيال ،وتقتنص اليقظة في طريق الأحلام ،وتقتنص الفعل في طريق التفاعل والانسجام والتناغم ،ونلاحظ ذلك على مستوى الأفعال
(طار/ينبغي /بنى/غنى)
فمن الذي قام بهذه الأفعال ؟هل الطائر أم الشاعر؟....
انه الشاعر الطائري.. يطير محلقا في أفق الحلم والخيال.. يبغي الأنجم الحبلى بالحب والبراءة ،وأثمار السحب تمطر مطرا لا حجرا ..تمطر حبا لا شـرا .. تمطر كلمة لا مطرقة .. ثم يعود الشاعر حاملا بين يديه ،وتحت جوانحه الألم كي يبني عشه على أشواك الورود ثم يغني لأن الغناء سر الكينونة والوجود،وسر تحدى الأحزان والإحباط .فالغناء على حد قول جبران خليل جبران في قصيدته

"المواكبـ ":
أَعْطِنِي النَّايَ وَغَنِّ فَالْغِنَا يَرْعَى الْعٌقٌول
أَعْطِنِي النَّايَ وَغَنِّ فَالْغِنَا حُبٌّ صَحيــح
وديوان "حاءات متمردة "ـ حافل بالإيحاءات المتعددة التي تعتبر دعامة أساسية في قصائده لا يستقيم القارئ إلى أغوارها الأبعد أن يعي تماما جوانب هذه الأبعاد،وما تعكسه من إيحاءات ورموز .
لنقف مثلا عند "الطير"، وهو من عالم الشدو والغناء ،ورمز للحرية والبراء ة والطفولة الندية الهاربة من هذا العصر الذي شاخ ،والطائر يحلق في الأفق موزعا سيمفونيته في كل مرتفع ومنخفض ومنحدر. دون أن ينتظر مقابلا من احد ،ورغم ذلك تنصب له الفخاخ ليقع أسير المكان لكنه لا يبالي شأنه في ذلك شأن طرفة بن العبد الذي جاء الموت بقدميه وتحداه ،كذلك عبد السلام مصباح .طار ونفذ إلى السماء الحبلى بالسمو والأرواح والشعر والوحي ،ولم يبال بأشواط الميلشيات المحملة بقشور الثقافة والإبداع ،ثم عاد إلى شجرة خضراء كي يبني عشه و إيحاءاته على أشواك الورد رغم الألم الذي يقتات من جناحيه ،وباقة القلق والحزن بأعماقه ،فهو يبحث عن الحب والمياه والدفء في كل الفصول .رغم انف النصابين والدجالين والطفيليين على مملكة الشعر الذين تنطبق عليهم هذه الوصفة القبانية "الكبريت في يدي"
وَالشِّعْـرُ مَاذَا سَيَبْقَـى مِـنْ أَصَالَتِـهِ
إِذَا تَـــوَلاَّهُ نَصَّـــابٌ وَمَـــدَّاح؟
وَكَيْفَ نَكْتُبُ وَالأَقْفَـالُ فِي فَمِنَـــا
وَكُــلُّ ثَانِيَــة] يَأْتِيــكَ سَفًَّـــاح؟
إن عبد السلام مصباح ـ شاعر طائري ـ يصر أن يولد في هذا ،وان يبحر بعيدا خلف شرايين الريح وان ينمو ويتناسل ويخترق الأفق كي يزيل اللثام عن وجه الشمس التي تحرق كل ظل:
أَبْحَـرَ الطَّيْـرُ
بَعِيـداً
غَـابَ خَلْـفَ الرِّيـحِ
فِـي جَفْنَيْـهِ صَـوتُ الْحُلْـمِ
غِنْـوَه
فَـرَحٌ يُولَـدُ
يَنْمُـو
يَتَنَاسَـل...
ثُـمَّ فَجْـأَة
يَفْتَـحُ الآفَـاقَ
حَيْـثُ الشَّمْـس
تَمْحُـو كُـلَّ ظِـلٍّ ـ
ص(8/7)
نلاحظ في هذه الأسطر الشعرية كيف تولد اللغة الشعرية المصباحية ؟
نها تولد من نطفة ماء شعرية ،تبحر بعيد ة.. تغيب متأملة رحم الريح على نغمات طائر يراود القصيدة على نفسها ،فيفلح في معانقتها ولثم شفتيها ،وقذف الحلم في رحمها كي تحبل بالفرح ،وتضع وزرها الجميل الساحر ،فيعتني الطائر بولادته ونموه، ويفتح له كتاب الحب ،ويعلمه لغة الحاءات والحمراء (الشمس) والدفء والمحبة المجهضة في عصرنا ،وهذه هي رسالة الشعراء ،وفي هذا المقام قال الدكتور عبد الله محمد الغدامي في مقالة له بمجلة "الشعر"ـ السنة الأولى العدد4 ربيع 1984(الموقف من الحداثة ):"...وعلى الشعر أن يحاول الارتفاع بروح إنسان هذا العصر بكل ما أوتي من وسائل حتى لا تتفرد المادة بالإنسان فنهوى إلى الدرك الأخير . ومادامت العلوم الطبيعية والإنسانية قد شقت طريقها في هذا العصر فلم نطلب من الشعر التقاعس والانطواء بأطهار التاريخ ؟إن من يطلب ذلك يحكم على الشعر بالموت والفناء ".ص (23).
ولغة مصباح عبد السلام يشكلها على نهج إبداعي متميز بحيث يرتفع على مستوى التراكيب الجاهزة ،ويتجاوز القوالب المعدة سلفا ،فهو شاعر خرج من جلبابه المغربي ،بلغة غبر مألوفة ..لغة متمردة .وفي الرؤية للغة يقول نزار القباني :"اللغة عصيان لغوي خطير "ـ ما الشعر؟ص(43).كما نشير إلى سمة أخرى من سمات اللغة الشعرية عند هذا الشاعر إنها جاءت في قالب قصصي قصير شأنه في ذلك شأن بعض الشعراء القدامى والمحدثين مثل أبي نواس ،ونزار القباني
وظاهرة أخرى تلفت النظر لمن تغني وقرأ ديوان "حاءات متمردة" ـ هي ظاهرة الحلم ؟فما هو الحلم ؟
نجد بعض علماء النفس قد عرفوا الحلم بأنه رغبة في تحقيق مجموعة من الرغبات والأمنيات في لحظة الشعور واليقظة،وحينما لا تتحقق في الواقع فإنه يتم تحقيقها عن طريق اللاشعور والخيال،وعن طريق الشعر؟
فما يملك الشعراء في هذا العالم .غير الشعر؟ الحلم:
فبم يحلم شاعرنا؟
هل يحلم بالصولة والصولجان ؟
هل يحلم بخواتم من ذهب وماس ؟
هل يحلم بالوصاية على مملكة الشعر والشعراء ؟
هل يحلم بامرأة شهرزادية يجني من خدها التفاح،ومن صدرها الإجاص ،ثم يفصل رأسها عن رقبتهــا؟
لنتأمل قصيدته ـ حلم ـ ص (12/11)
أَحْلُـمُ
أَحْلُـمُ بِامْـرَأَةٍ
تَأْتِينِـي
مِـنْ اَقْصَـى الْيَـأْسِ الْمُتَرَاكَـمِ
مِـنْ أَقْبِيَـةِ الْحُـزْنِ
وَمِـنْ أَكْـوَامِ الْقَهْـرِ
مُحَمَّلَـةً بِالصَّبَـوَاتِ
وَبِالْعِشْـقِ
وَبِالـدِّفْءِ
وَتُلْبِسُنِـي ثَـوْبَ الأُلْفَـةِ
وَالرَّحْمَـه
* * *
أَحْلُـمُ...
أَحْلُـمُ بِامْـرَأَةٍ
لاَ تُشْبِهُهَـا وَاحِـدَةٌ
فِـي السِّـرْبِ
اِمْـرَأَةٍ
تُسْكِنُنِـي جَفْنَيْهَـا
تَمْسَـحُ عَـنْ شَعـرِي الأَبْيَـشض
أَزْمِنَـةَ الإِحْبَـاطِ
وَأَتْرِبَـةَ الْخَيْبَـه
وَتُقَاسِمُنِـي
تَعَـبَ الرِّحْلَـةَ
فِـي صَحْـرَاءِ الْحَـرْفِ
وَبَيْـنَ شِعَـابِ الْهَـمِّ الْيَوْمِـي...
يأخذ الحلم أربعة مستويات من الإرهاص والنبوة،والدال "امرأة" رمز للصبابة والعشق والدفء المركزية (الأنا).

فعلى المستوى الأول:
امرأة تأتي الشاعر محملة بالصبابة والعشق والدفء . الآتية من أقصى اليأس ،وأقبية الحزن والقلق والقهر ،فتدرك بعض مشاعرها.صفات امرأة اسطورية لم تفقد أنوثتها ومروءتها ورقتها كي تدثر الشاعر بلباس الألفة والرحمة ،وما تنطوي عليه من بشارتي(الخصب والليونة)

وعلى المستوى الثاني:
تصبح الرسالة (المرأة) في نطاق السكينة والمسخ ،فالسكينة تسكن جفن الشاعر،والمسح بمعنى أدق"المحو" تمحو عن رماد شعره أزمنة وأمكنه الإحباط والخيبة ،وتقاسمه (المرأة) مثل جميع الحالمين بالحب ..الخبز الأسمر ،وحبات الزيتون ،وفاكهة الشعر ،والكلمات الجميلة وتقاسمه تعب الرحلة الجحيمية والفردوسية (الحرف+الهم اليومي)
وعلى المستوى الثالث :
امراة من صلب وترائب برومثيوس ،توقد في "الأنا" نيران الحب ،وتوقظ في جوهره الحلم المتأجج لتستيقظ اللغة الحبلى بالبوح وبالشوق المحاصر..امرأة بدوية أصيلة شمالية لم تلوثها المدينة المريضة .. تثقن لغة الطرز والنساجة والفلاحة كي تكون قادرة أن ترسم "اللأنــا"
فَرَاشَـاتٍ أَوْ حَقْـلَ الْقَمْـحِ.
وعلى المستوى الرابع :
الرسالة (امرأة) تتحد "باللأنا"،وتنفسها تنفسا طبيعيا ..امرأة تغسل وجه الصبح من العتمة والخطيئة والحمق والعمش والكرى ،بعطر النسيم والابتسامات،وتسقي الشاعر خمرة الحب والأمل والتصوف
نستنتج بأن حلم الشاعر ـ عبد السلام مصباح ـ "حلما ناريا "،والنار عند القدماء مطهر فعال إذ تطلق الإنسان من قيود المادة ،لكي يكون قادرا على الاتصال بالآلهة والعودة إلى الحياة من جديد،حاملا معه الحلم والخصب والنماء واللاءات:
لاَ تَبْـذُرُ
فِـي مَـرْجِ الْقَلْـبِ
قُشُـورَ الْحُـبِّ
وَلَا تَفْتَـحُ لِلصَّرَخَـاتِ
نَوَافِذَهَـا ـ
ص (16/15)
ويستمد الشاعر إيحاءاته من الأفعال المقدسة الطاهرة مثل "تلبسني /تسكنني" حيث نجد في المتن الحكيم "النساء لباس للرجال،والرجال لباس للنساء "."هن سكن لكم وأنتم سكن لهم"، وهذا ما قصده الأستاذ الميلود عثماني في مداخلته أثناء حفل توقيع ديوان ـ حاءات متمردة ـ حيث قال:(في ديوان عبد مصباح . نجد تيمتين : تيمة الحب وتيمة الثورة ،فالرجل و المرأة ينسجان العالم،ويوقعان أول ميثاق للحب رغم أن الحب في عالمنا آل إلى السقوط ،ودور الشاعر في هذه الحياة هو حمل الراية."
ونلاحظ تقاربا بين حلم الشاعر عبد السلام مصباح ،وحلم نزار قباني،ولا عيب في ذلك ،فنزار شاعر المرأة دون منازع أو مدافع ، فقد حلم بامرأة تقلم أضافوه،وترتب أوراقه و تدخله روض الأطفال.. امرأة عيونها طيران أخضران ،وشعرها قصيدة طويلة لم تقبل الملوك والقصور والجواهر لأنها كانت تحب شاعرا يلقى على شرفـتها كل مساء وردة جميلة ،وكلمة جميلة ..
نجد تداعيا في الأفكار والعواطف والرؤى ،ولا نعتبر تلاصا بل تناصا ،وقد عالج الناقد محمد منذور هذه القضية معالجة دقيقة أوجب بمقتضاها التمييز بين أربعة أشياء هي :
-1الاستيحاء:وهو يأتي الشاعر بمعان جديدة تستدعيها مطالعاته فيما كتب الغير.
-2استعارة الهياكل: كأن يأخذ الشاعر موضوع قصيدته عن أسطورة شعبية أو حدث تاريخي ،وينفث الحياة في هذا الهيكل حتى ليكاد يخلقه من العدم.
-3التأثر : وهو أن يأخذ الشاعر بمذهب غيره في الفن أو الأسلوب ،وقد يكون هذا التأثر تتلمذا،كما قد يكون على غير وعي ،وإنما النقد هو الذي يكشف عنه.
-4السرقات: وهذه لا تطلق اليوم إلا على أخذ جمل أو أفكار أصلية وانتحالها ببعضها دون الإشارة إلى مأخذها ..."
ويمكنا أن نأخذ بالاستيحاء لأن الشاعر عبد السلام مصباح له بصماته الشعرية الخاصة وهو الشاعر الذي ولد في مدينة الشعر و الشعراء ـ شفشاون ـ وتغنى بالشعر ما يقرب عشرين عاما ، ورضع من ثدي لغة الضاد واختار مسارين : مسار الشعر ومسار الترجمة .
ودخل عالم الشعر العمودي والأفقي، وارتشف من خمرة غواية شعراء الأندلسيين والجاهليين والإسبان المعاصرين ، باعتباره مترجما عن الإسبانية ،وهو شاعر ينحت لغته من البيئة المغربية، لنتأمل هذه المقاطع الشعرية:
أَتْرِبَةَ الْخَيْبَة /تُقَاسِمُنِي /الْخُبْزَ الأَسْمَرَ /وَحَبَّاتِ الزَّيْتُون /اِمْرَأَةٍ تُطْرِزُ ِني/...
فالخيبة في لساننا العادي نقصد به القبح والخبز الأسمر وحبات الزيتون هي وجبة البسطاء
فما الذي يجمع بين نزار ومصباح في الشعر ؟
إن الرابط الذي يجمع بينهما هو الحلم و الحب والثورة من أجل تحدي الكوابيس والخصبان ،ومن النكسات والنكبات والإحباط؟
كيف يبني عبد السلام مصباح قصائده ؟
إن بناء القصيدة عند الشاعر عبد السلام مصباح يتـم على مستويين :
* مستوى التطوير الفكري لموضوعها الذي يشكل مادة الدلالة الشاملة والتي هي أساسية عنده ؛خصوصا فيما نسميه "بالتنظيم العضوي للقصيدة "،فمن خلاله تطرح القصيدة جدلية الرؤية والموقف
* ومستوى معماريتها فهي قصيدة تقوم على حضور المعاني وتواصلها واتصالها ببعضها. والتمثل الفني لتجربتها ،والتعبير بالصورة عن كثير من مكوناتها ـ حيث نظام "التصور المشهدي". هو القائم في معظم مفاصل القصيدة .
وهنا تقف اللغة عنصرا تعبيريا .كما يكون للنظام الإيقاعي فيها دوره في تحقيق "التناسق" ،في نظامها ،والتوالد المتتابع في معانيها ،ويمكن التمثيل على هذا بمعظم قصائد الديوان وخاصة ـ قصيدة ـ "باسم الحب وباسم الحرف "ـ وقصيدة ـ "ما تيسر من سفر الخروج" .
وفي قصيدة ـ "نداءات "ـ نجد الشاعر قد وظف النداء ثلاثة مرات ،وهو نداء متكرر الأسطر الشعريةـ يا قطتي الشرسة ـ كلازمة شعرية ،والمعروف أن القطة الشرسة تكون متوحشة عدوانية مشاكسة تهوى لعبة الخدش والتمزيق،ويراها الشاعر من شرفة أحلامه مغسولة بالقرنفل والنار،ونهرا أخضر ينساب وتدخل حقول العشق نخيلا ،وتدخل مع الشاعر خيمة العشق كي يؤثثا عالما بلا خرائط ..بلا حدود.. بلا جمارك.. عالما ليس فيه سوى الشاعر والقطة والحب والألفة . إن القطة إذن هي رمز للمرأة والكلمة .. رمز للطهارة ،وبرزخ بين الحلو والمر ،والدنس والنقاء ،والشر و الخير..
وهذه الرؤية الشعرية المصباحية تمثل لغة النص الإبداعي الحديث بأبعاد لغوية غير مألوفة ،تتناسب مع ما تطرحه القصيدة الحديثة من رؤى لم تكن معروفة من قبل وفي هذا المقال يقول ادونيس في مؤلفه "زمن الشعر ".. ص 42
"فالشعر الجديد هو ..فن يجعل اللغة تقول ما لم نتعود أن نقوله .. يصبح الشعر ثورة في هذه الحالة. ثورة على اللغة ،وفي هذا يبدو الشعر الحديث نوعا من السحر لأنه يجعل ما يفلت من الإدراك مدركا "
ونجد في ديوان ـ"حاءات متمردة"ـ غموض بياني ناتج عن كثافة الصورة ،والطاقة الشعرية على نحو ما يجعل النص الشعر قابلا لتعدد القراءات التي يتحول فيها الغموض من عنصر هدم إلى عنصر بناء ،ويمكننا أن نستشهد بمقاطع من قصيدة ـ "سيدة الأسماء "ص (32/31)
وَحِينَ أَعُبُّ الْخَمْـرَةَ
مِنْ ثَغْـرِكِ
حَرْفَيْـنِ
حَـاءً
بَـاءً
تَتَفَتَّحُ أَوْرِدَتِـي
وَشَرَايِينِـي
تَتَفَتَّحُ فِي صَـدْرِي
آفَـاقٌ
لَمْ تَطْرُقْهَـا
الْخَفَقَاتُ الْمَذْبُوحَـةُ
الْخَفَقَاتُ الْمَسْلُولَـةُ
الْخَفَقَاتُ الْمَأْلُوفَـةُ
الْخَفَقَاتُ الْمُـرَّة
تَتَفَتَّحُ فِي وَهَجِ الْجُـرْحِ
أَكَالِيلُ رَمَـادِي
يَصْعَدُ مِنْهَا عُصْفُـورٌ
فِي لَوْنِ نِدَاءَاتِ الأَرْضِ
وَفِي سُمْكِ الْفَرَحِ الْمُـورِقِ...
نجد التلاعب اللفظي والتكرار والثنائية الضدية التي تخلف إيقاعات موسيقية تنساب هادئة ثم تصعد ثائرة مجلجلة ،ونجد التكرار يأتي في سياق ما هو دلالي حتى تكاد تغد و رموزا،ولكنها تظل رموزا لا تحصر دلالتها في حالة واحدة . أوفي موقف متكرر .ومن أكثر هذه الأسماء والرموز حضورا عند الشاعر:

* الحلم والمرأة

ـ تكرر الحلم في قصيدة ـ حلم ـ 9 مرات ،والمرأةـ7 مرات...فما هي العلاقة بين المرأة والحلم و الأنا؟
إنها علاقة إميسية وجودية حيث لا يمكن أن تتحقق لعبة الحياة واستمرارها إلا عن طريق التوحد بين حواء وآدم . والمرأة عند عبد السلام مصباح رمز للخصب .إنها امتداد للطبيعة ...حيث يجد الإنسان الطمأنينة والتوحد مع الكون . لذا نلاحظ انه يستعمل أفعالا حسية حركية من اجل خلق حركة،وتفاعل أكثر وذلك للوصول إلى تلك الوحدة مثل قوله :
أَحْلمُ بِامْرَأَةٍ ./.تَأْتِينِي./... مُحَمَّلَةً ./. بِالصَّبَوَاتِ ./.وَبِاْلِعْشِق...
*وَتُلْبِسُنِي ثَوْبَ الأُلْفَةِ ./..اِمْرَأَةٍ تُسْكِنُنِي جَفْنَيْهَا ./.تَمْسَحُ عَنْ شَعرِي الأَبْيَضِ./...وَتُقَاسِمُنِي فَاكِهَةَ الْهَمْسِ./.اِمْرَأَةٍ تُوقِدُ فِي جَسَدِي نَارَ الْحُبِّ ./. وَتُوقِظُ. فِي أَعْمَاِقي الْحُلْمَ الْمُتَأَجِّجَ ./. تُخْرِجُنِي مِنْ شَرْنَقَتٍي./ اِمْرَاضةٍ تَغْسِلُ وَجْهَ الصُّبْحِ./..وَتَسْقِيضنِي مِنْ نَبْعِ الْحُبِّ كُؤُوسَ الأَمَلِ ./.(ص 13/14و18/17)
نستشف ان المرأة عند عبد السلام مصباح . هي جزؤه الآخر، الجزء الضائع.
* السعادة./.القطة./.الغياب./.النسيان./. الإبحار./...
- ماأسعدني ـ تكررت خمس مرات في قصيدة: نداءات
- القــطة ـ تكررت ثلاثة مرات في نفس النص
- نغيب ـ مرتين
- ننســى ـ مرتين
فالتكرار هنا كتمكين في النفس ، وكالحسرة على السعادة والحلم والعشق والحب ورغبة في نسيان الأسى والسوء والقبح ، والخروج من قبضة الزمان المخصي ، والعطش إلى الإبحار في بحر ماؤه الحب والحلم والأنسنة
وفي قصيدة:"قراءة في السيرة الغجرية "ص (103) المهداة إلى لوركا في ذكرى اغتياله...نجد التكرار في بعض الأسماء والأفعال، مثل:
* نَتَأَبَّطُ./. قِيثَاراً./.كَلِمَاتٍ./.نَتَأَبَّطُ./.دَمْعاً ./. دَعَوَاتٍ./.نَتَأَبَّطُ./.صَمْتاً./.نَتَأَبَّطُ./...أَحْلاَماً...
* وَنَرْحَلُ./.نَرْحلُ./.نَرْحضلُ./.لَيْلَ ـ شِتَاء./. بِالطُّحْلُبِ./.وَالْمَوْتِ./.نَرْحَل./.
* بَيْنَ الْخَطْوَةِ وَالْخَطْوَةِ./ نَسْقُط./.نَسْقَط./. نَسْقُطُ مَرَّاتٍ./.. مرات ./.. مرات ./. نَنْهَضُ ./. نَسْقُطُ ./.فِي كُلِّ الأَزْمِةَ./.الْحَالاَتِ الصَّعْبَة./.نَنْهُض./.
* كُنَّا./.نَمْشِي./.نَمشِي./.نَمْشِي./.نَمْشِي./.فِي الَّليْلِ./.الظَّالِم
إن فعل ـ تأبط ـ يحيلنا على مرجعية شعرية تراثية ،ونقصد به عروة بن الورد الذي لقب بتأبط شرا ،لأنه كان يلاعب الأفاعي ويتأبطها دون أن يخشى من سمومها وهو شاعر صعلوك متمرد على النظام القبلي والعادات والتقاليد . أما شاعرنا فيتأبط قيثارا وكلمات ودعوات وصمتا وأحلاما . شأنه في ذلك شأن شعراء الغجر من حيث الشكل لا المضمون ،فشعراء الغجر في تيه بلا نهاية ، لا وطن لهم .. ليس لهم من عودة .. إنها اويسية تجوال الكستناء التي تعلمت أن تضحك على كل شيء وهي تعلب على الأوتار ،ومن أشعار الغجر المنقولة عن اللغة الصربية ،وقد ترجمها عن الألمانية الدكتور نامق كامل:

"أميـنة"
آه لو كنت طيرا./.أطيرانى شئت./.لسقطت على قدر./.قدر كبير./.لالتهمت اللحم حتى الشبع./.لالتقطت لي قطعة./. وانطلقت بها إلى الأعشاب./.لئلا يشاهدني أحد./. وكي أشبع جيدا./..
نلاحظ في هذا النص الشعري السرد هو مضمون القصيدة التي لم تبق في ذاكرته ،كما نجد السرد في قصائد عبد السلام مصباح بأحدث تقنياتها الحديثة ...
إن التكرار لازمة شعرية ،وبصمة من بصمات الشاعر المصباحي، يتأبط قيثارة مشاعره وأغانيه الممزوجة بالدمع والدعوات و الأحلام ،فهل الدموع والأحلام تتأبط ؟
إنها لغة المفاجأة والدهشة الحالمة والمتمردة
* أما فعل "نرحل" الذي تكرر ثمانية مرات ،فما هي دلالتـه؟وما هي الفضاءات التي يبغي الشاعر الرحيل إليها. لنتأمل هذه المقاطع الشعرية المأخوذة من قصيدة " قراءة في السيرة الغجرية "ص 104
لَيْلَ ـ شِتَـاء
نَرْحَـل
نَرْحَـل
نَرْحَـل
تَتَلَقَّفُنُا الطُّرُقَـاتُ
أَنْبِذَةُ الْعِنَبِ/ السُّنْبُـلِ
فِي أَسْوَاقِ الصَّمْـتِ
وَفِي الرَّقَصَاتِ الْمَجْنُونَـةِ
فِي أَجْوَاءِ التِّبْـغِ
بِالطُّحْلُـبِ
وَالْمَـوْتِ
نَرْحَـلُ
إن الرحيل هو السفر ،وهو هروب من النفس ،وطلب للنسيان .. نسيان العتمة و الدموع ،وينضم السفر إلى التمرد والسخط ، إذ هو سبيل إلى الهرب من الوعي لا إلى الالتقاء بالعقل ، هرب ورحيل غلى النبيذ العنبي وماء الشعير "السنبل " قصد النسيان والانتحار البطىء والشعور بالمهانة ، لذلك تتحول الخمرة إلى ثورة وتمرد سلبي ، ورغبة جامحة إلى محو وإلغاء العقل . يقول الفيلسوف الاسباني ميغيل دي اونامونو
MIGUEl de UNAMUNO
في كتابة:
Le sentiment tragique de la vie
paris ,gallimard;1937 p.2
" إن كل ما هو حيوي ليس عقلانيا ،و ما هو عقلاني ليس حيويا .. إن العقل عدو الحياة". لأن العقل نزاع الى الموت إذ هو يبحث عن هوية الأشياء .ولما كان كل شيء لا يبقى هو هو في زمنين متعاقبين من كينونته ،إذ الحياة حركة دائمة ،وتطور وتغير دائم ،فإن العقل يسعى إلى تجميد الحياة حتى يقدر من بعد على تفكيكها وتشريحها .
ومن هذا المنطلق نطرح السؤال التالي : هل السقوط واليأس الوجداني التقيا في كوامن الشاعر
ـ"نَسْقُطُ ./.فِي كُلِّ الأَزْمِنَةِ ./. الْحَالاَتِ ./.نَنْهَض ./.تَتَقَاذَفٌنَا الْمُدُنُ ./.السَّاحَاتُ./.الْعَتَبَاتُ الْمَزْرُوعَةُ ./. بِالَّليِلِ الْمُوحِشِ./.الرَّافِضِ./. وَالَّلحْنِ الْمُنضفَرِّدِ./.وَالنَّبْعِ الصَّافِي./. وَالْحُبِّ ..ص106".
إن هذا الارتباط بين السقوط بالليل الموحش و القهر، هو ارتباط مأساوي سوف يتفجر ينبوع الحياة. حياة جديدة بالنبع النقي و الحب واللحن، والشاعر يقاوم القهر والغربة والجنون بالحب، لأن الحب أفضل طريقة لفهم الإنسان الآخر ،والحب علاقة عاطفية وجدانية تربطنا بشخص آخر ،فتجعلنا نستوعبه ونفهمه ،ولأن من أحب أخاه الإنسان فإنه يشتاق إليه ،إلى أن يصير وإياه واحدا ،وعندما يحب الإنسان الآخر فإنه يحل فبه ،ويلبسه ،ويسكنه ،وقد صدق الرسول (ص) في حكمته "لا يسلم المسلم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
ويقول الحلاج " أنا من أهوى ،ومن أهوى أنا " ويقول عبد السلام مصباح في قصيدته ـ باسم الحب وباسم الحرف ـ ص (27)
بِاسْمِ الْحُـبِّ
وَبِاسْمِ الْحَـرْفِ
أُعَانِقُكُـمْ
أَدْعُوكُـمْ
كَيْ نَرْسُـمَ
نَنْسُجَ لِلْعَالَـمِ
لِلطِّفْلِ الآتِـي
مِنْ لُؤْلؤَةِ الْحَـرْفِ
خَارِطَـةً
تَتَلاَحَـمُ
فَي دَمِهَـا
سُنْبُلَةَ الْحُـبِّ
وَفَاكِهَةَ النَّشْـوَه.
فما الذي يدفع الشاعر إلى الحب ؟
إن الألم الذي يعاني منه الشاعر ،وهو ثمرة من ثمرات الحرمان من حاجه أو عجزه عن إشباع شوق ما،أو من يشاركه في الألم ، لذلك يقسم باسم الحب والحب ويدعو (المتلقي اللبق) للمشاركة في الألم والحزن والفرح والحياة الخالية من الحزن والألم لا تصنع حبا رحبا يشمل الجميع ،ولألم الكبير هو الذي يصنع الحب الكبير .بالألم نعي الأنا و الآخر،بالألم لم نشعر بكينونتنا ،ونتلاحم ونتعاطف ونتعاون كي نبني عالما جديدا وجميلا ،أو كما يحلو للشاعر محمد بو جبيري أن يقول " كاد العالم أن يكون جميلا "فبالحب نروض أنفسنا على الجمال ونرسم سلاما ،وننسج سعادة للعالم ، وللطفل الداخل فينا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


إشـــــــــارة* هذه المداخلة ألقيت أثناء حفل توقيع ديوان حاءات متمردة ـ تحت إشراف فرع اتحاد كتاب المغرب ـ بالبيضاء
بالمركب الثقافي "كمال الزبـدي "
* حاءات متمردة : للشاعر المغربي عبد السلام مصباح
ـ الطبعة الأولى: ابريل 1999
-المطبعة: دار القرويين
ـ الغلاف: من تصميم الشاعر


* المــــــــراجع
*زمن الشعر ـ لأدونيس
*شعرنا الحديث إلى أين ؟غالي شكري
*قضايا حول الشعرـ عبده بدوي
* الإحسان بالجمال :جورج سانتيانا ،ترجمة :مصطفى بدوي
الصورة الأدبية : مصطفى ناصف
* مجلة الشعر (تونس) السنة 1 العدد4 ربيع 1983
* القصيدة المغربية المعاصرة بنية الشهادة والاستشهاد
للشاعر : عبد الله راجع
* المدخل إلى المأساة : أنطوان معلوف
* ديوان : حاءات متمردة