المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نقوش باقية



محمد البوهي
04/03/2007, 12:33 PM
نقوش باقية


سار أمام خطواته يشق عُقًد الشوارع المتشابكة ، يستعير من قوانين الحياة الرابضة فوق مصاطب الأزقة القديمة ، ينفض عنها الغبار المستلقي على ألحان الأغاني المنقرضة ، فشل أن يدفن صوت أبيه خارج جسده العائم على متاهات المستقبل ، تدحرج خلفه على سُلم المنزل المتهالك ، فملأ جيوبه الخاوية إلا من بعض فلول النقود ، كانت آخر ما تبقى له من حصاد عمله الأخير ،يلتصق بصره بالحجارة السوداء من تحت قدميه ،ينقع رؤوس الموجودات حوله في نفس الصبغة ؛ الشيخ الكالح ، الطفل الصغير ، البيوت القصيرة ، المحال الضيقة المتراصة ، حتى السماء من فوقه ، كانت ظلاماً في وسط النهار ، مازال يراه ... رآه من حوله منذ أمد بعيد ،تتدلى فوقه أحبال المسابح الفسفورية ، الفوانيس الملونة ،التماثيل الرخامية ، الجنون المحفور على الأطباق النحاسية ، لم تعد هذه الأصنام تُدر عليه فائدة يأملها ، مهما قدم لها من قرابين .
طُرق السفر ترصف نفسها أمام أفكاره ، حاول أبوه مراراً ، وتكراراً أن يعترض سيرها ؛ لكنه عاد صفر يدين ،توسله كثيراً بهرم العمر ، بضعفه الذي فقأ قوة جسده ، لكن تمرده أبَى أن يخفض له جناح الرحمة ؛ فصب عليه حجارة أسقطها من قلبه ، صفع خلفه الباب طريداً حيث لاهدف يؤيه ، خاض ثورته تحت أضواء اللهب المتسللة من الورش الصغيرة، أبخرة القصدير المنصهر تستمريء أنفاسه ، صيحات النحاس المطروق تهز أطراف أنامله ، توقف أمام محل أبيه الموصود ،قصفه بمدافع الآلام التي تحاصره ،هرب من السلطان الموروث إلى فلول النقود المعدنية بأعماق جيبه ، تمعن في الصور المنقوشة على وجهيها ، أطاح بها لتنطلق في الهواء ، انقضت عليها أصابعه قبل الهروب ، انغمس في البحيرة بقارب السير ، ألقاه على محطة القطار يتنسم زحام الرحيل ، على مقعد بعيد ارتمى بجسده ، يعُد تلك الوجوه على عملات النقود ، لا تملك له الحق في شراء ورقة للرحيل ، يعيد عدها من جديد ، يطيح بها في الهواء ، تلتهمها أصابعه قبل السقوط ، صوت يتسلل إليه من جوار نافذة الأوراق ، فتاة شقراء تحاول جذب الحديث من عامل النظافة ، لا يفهم لغتها ، لا تفهم لغته ، نأى عنها إلى خُرجه الممتلئ ببقايا البشر ، علمه أبوه ما تقول كي يقرأ عليهم لغة التماثيل المنحوتة على الجدران ، تحولت إلى صبي صغير ، يطوف بزجاجات المياه الغازية حول المنتظرين ، هَمّ بفتح زجاجة مم يبيع ، ليس هذا ما تريد ،رمى إليها ظهر كفه المبلل،أعرض نحو الدلو المخلوط بالزجاجات ،وقطع الثلج .
قام من مقعده إلى ركن احتلته لإشعال السيجار ، ألقى تحيتها ، ردت عليه التحية كأنها عثرت على كنز الدنيا ، قبل أن تسترسل في الطلب المُجهَد ، مد يده طالباً قيمة التذكرة التي تريدها، أخرجت حقيبة صغيرة من بين أشيائها ، جذبت منها وريقات من عملة بلاده ، سحبها من بين أصابعها ، اتجه صوب نافذة التذاكر ، جال الموظف حول ملامحه ، أبدله أوراق النقود بتذكرة للسفر ، عاد إلى الركن المعبأ بدخان السجائر ، استقبلته بهالات الثناء ، مخرجة ورقة من نقود بلادها ، قدمتها إليه على ابتسامة مستديرة ، رفض استقبالها على طاولته العربية ، بعد إصرار حولَ سعادتها لمسخ من الدهشة ، سألته عن رفضه المقابل لما قدم لها ،فقد ساعدها على الهروب من الرسوم الزائدة التي تُفرض على تعاملات الأجانب ، وهم لديهم لكل خدمة مقابل ، لولا أنها تنتظر الرحيل لقدمت له الثمن بطريقتها الخاصة ، هزّ رأسه بلاءات تلقائية مع راحة يده اليمنى ،تراجع حيث كان يجلس ، لم تسقط نظراتها عنه حتى حملها القطار ، وقف يودع صوره المطبوعة على أدبار العربات المنسحبة ، أمسك بنقوده المعدنية ، تحسس النقوش البارزة، أطاح بها لأعلى ، ضمتها أصابعه قبل السقوط ، عاد من حيث أتى .

محمد سامي البوهي

عبلة محمد زقزوق
04/03/2007, 03:06 PM
نعم عاد من حيث أتى ، عاد إلى حضن أبيه يسترضيه ويطلب منه الصفح والعفو ، فلقد علمه أباه لغة الغير ورباه على مباديء وقيم لا تستحق إلا الركوع والخشوع لله للحمد .
تقديري وثنائي على للاغتك القصصية أخينا القاص أ. محمد البوهي :vg:

عبد الحميد الغرباوي
04/03/2007, 04:32 PM
التماثيل و النقوش، و الإرث الذي لا يستجيب لأحلام و متطلبات شاب يطمح إلى ما هو أفضل و أحسن، و المحطة، القطار و الرغبة في الرحيل ...ثم هذه الأنفة التي أبت عليه أن يتسلم نقودا (عملة أجنبية) مقابل تقديمه خدمة إنسانية لأجنبية، رغم أنه في حاجة ماسة إليها..
ماذا أقول؟...
نص قوي. أعدت كتابة أسطره الأولى،قدمتها في بناء شعري، فكانت قصيدة..
تعابير فيها الكثير و الكثير من الاجتهاد من أجل إبداع لغة جديدة و عميقة تصور مواقف و تترجم معاناة ...
مودتي

محمد البوهي
04/03/2007, 09:20 PM
السلام عليكم ورحمة الله

أختي القديرة / عبلة

وسط فقاعات الأنفاس المتصاعدة نلمح صورنا المنقوشة عليها ، فنسرع نحو القلم كي ننسخها ، قبل أن تنفجر وتصبح في طائلة العدم .


كم أشكرك تواجدك .... واعذري عدم تواجدي لظروف قاهرة

محمد

محمد البوهي
04/03/2007, 09:28 PM
الأديب القدير
الأستاذ/ عبد الحميد

نجتهد من أجل حقنا في الخلق ، لنقش أسماءنا على جدار الوجود ، فنعود دائماً إلى حيث بدأنا مهما اختلفت وسائل العودة .

كم أسعدني تواجدك ، وسط نقوش آلامي الحاضرة

جزاك الله كل خير .

محمد

نزار ب. الزين
08/03/2007, 05:32 PM
نقوش باقية
نص رائع بجميع المقاييس ، محبوك بمهارة و بلغة شاعرية ، مرتدٍ لغلالة شفافة من الرمزية ، و الهدف نبيل ، يعكس حالة البطالة التي يعاني منها الشبان العرب مقرونة بتشبث الكثيرين منهم بكرامتهم رغم ضيق ذات اليد .
و على العموم ،نحن أمام أديب متمكن ؛ أشد يدي على يد الأستاذ البوهي مهنئا ، راجيا له دوام النجاح.
نزار ب. الزين

محمد البوهي
09/03/2007, 02:53 PM
الأستاذ الكبير القدير

الأديب / نزار

هذه شهادة أضعها وساما على صدري ، فقد جاءت في وقت أنا في أمس الحاجة اليها في ظل الصراعات التي اواجهها في الدفاع عن هذا الاسلوب القصصي .

دمت رائعاً

هلال الفارع
09/03/2007, 11:36 PM
أخي محمد.
تحية طيبة.
قرأت هذا النص، فوجدته متطورًا لغةً، ومتقدمًا حبكةً.
لن أناقش إسقاطاته، ودراميته، فهي مفصّلة له،
فقط.. وددتُ لو أنك لم تسهب في التفاصيل في آخر القصة،
فقد فقدت القصة بعضًا من تركيزها لحظة تداول الألفاظ بشأن النقود والمقابل...
كنتَ تستطيع الاستغناء عن كثير من اللفظ، في مقابل إشعال اللحظة الأخيرة، أو إبهامها
- على الأقل - ........... قصتك جيدة.
تحياتي لك.
هلال

صبيحة شبر
10/03/2007, 12:00 AM
قصة ممتعة نصور لنا معاناة الانسان في تحقيق اماله
ولكنه يبقى نظيفا ابيا رغم الحرمان
اللغة جميلة والفكرة رائعة ، المشاعر صادقة
نص مسبوك بعناية
دمت مبدعا

مالكة عسال
10/03/2007, 12:34 AM
قصة تلخص للهم اليومي تجوس بين الفعل المضارع
والماضي بلغة شعرية خالصة ، وسرد اللأحداث بشكل سلس
السارد العالم بكل شيء ليس طرفا في الموضوع
بينه وبين الشخوص مسافة ..معجم منتقى بعناية
مما يدل على أن الكاتب له مراس ودربة في المتن القصصي
مودتي

ثروت الخرباوي
10/03/2007, 01:15 AM
الأديب الرقيق ... الدقيق ... الرفيق ...العميق ... محمد البوهي

أعجبتني لغتك في هذه القصة فهي بحق لغة راقية .. لغة شاعر وليست لغة قاص .. لغة بليغة حساسة عميقة متدفقة شاعرية ... كامل التقدير يامحمد لهذا النص الذهبي :vg: .. إلا قل لي .. إنت بتكتب شعر من ورانا :good:

ايمان حمد
10/03/2007, 10:57 AM
السلام عليكم

الأديب الراقى والمتميز / محمد سامى البوهى

قرأت أقصوصتك هذه ، واطلق عليها اقصوصة لأنها كلها لقطات حركية سمعية بصرية فى مشاهد حيه انطبعت فى ذاكرتنى بالفعل

مما اعجبنى فى الفكرة انه مازال بعض ابناء مصر عندهم شهامة واصالة التى تربوا عليها
يقدمون الخدمة حبا فى الخدمة فقط لا غير ، وهذا طبع الناس الأصيلة

لا شك انه مازال به بقايا تربية ابوه والذى خرج عن طوعه وفشل فى ان


يدفن صوت أبيه خارج جسده العائم على متاهات المستقبل

نعم اخى الكريم محمد ان لكل شىء مقابل ، ولكن ابن الأصول لا يتغير ابدا
كما ان من حقه التمرد لأن عنده طموح ويريد الا يظل سجينا لشىء فرض عليه !

رغم حاجته لم تغرية النقود لتبديل مبادئه او بيع قيمه ، وآثر ان يترك نقوش جميلة فى ذهن الأجنبية ليعلمها من هم اهل بلاده :good:

نعم هذه هى النقوش الباقية بحق ... هكذا قرأتها

شكرا محمد .. قصة راقية وامتعتنى قراءتها

تحيتى وتقديرى :fl:

ريمه الخاني
10/03/2007, 07:30 PM
تنتابنا احيانا لحظات ضعف نتمنى لو لم نصل اليها ولكن عندما نعود نشكر الله انه مازال هناك حضن دافي يحوينا
سلمت يداك كاتبنا الشاعري

عبد الفتاح غنيم
11/03/2007, 02:04 AM
المبدع محمد البوهى: هو عمل ادبى رائع توافرت فيه مقومات القصه القصيره من حيث الشكل والمضمون 0000هى لحظه قصيره جدا وجلت بنا الى اماكن عديده تلاحقت انفاسى وانا اعدو خلف الاحداث التى صنعتها ورسمتها بلغة شاعره 000تحياتى

محمد البوهي
11/03/2007, 04:30 PM
أخي محمد.
تحية طيبة.
قرأت هذا النص، فوجدته متطورًا لغةً، ومتقدمًا حبكةً.
لن أناقش إسقاطاته، ودراميته، فهي مفصّلة له،
فقط.. وددتُ لو أنك لم تسهب في التفاصيل في آخر القصة،
فقد فقدت القصة بعضًا من تركيزها لحظة تداول الألفاظ بشأن النقود والمقابل...
كنتَ تستطيع الاستغناء عن كثير من اللفظ، في مقابل إشعال اللحظة الأخيرة، أو إبهامها
- على الأقل - ........... قصتك جيدة.
تحياتي لك.
هلال


أستاذي القدير
الشاعر / هلال الفارع

أشكر نقدك هذا البناء ، وكم أن ملاحظتك في محلها فعلاً ، لكن أعاني من مشكلة كبيرة في كتاباتي ، ما يخرج من قلمي هو مثل الرصاصة ، لا يمكن إعادتها مرة أخرى ، بمعنى أن ما اكتبه أكتبه دفعة واحدة ، ولا أعود اليه ، وان عدت ليه شوهته وربما مزقته .

أشكرك جدا على هذه الملاحظة .

محمد

محمد البوهي
12/03/2007, 03:16 PM
قصة تلخص للهم اليومي تجوس بين الفعل المضارع
والماضي بلغة شعرية خالصة ، وسرد اللأحداث بشكل سلس
السارد العالم بكل شيء ليس طرفا في الموضوع
بينه وبين الشخوص مسافة ..معجم منتقى بعناية
مما يدل على أن الكاتب له مراس ودربة في المتن القصصي
مودتي

القاصة القديرة

الأستاذة / مالكة العسال

كم أشكرك على هذا الرد الذي له وزنه في عالمي القصضصي من مبدعة مثلك ، أعيد شكري وامتناني .

محمد البوهي
14/03/2007, 11:29 AM
قصة ممتعة نصور لنا معاناة الانسان في تحقيق اماله
ولكنه يبقى نظيفا ابيا رغم الحرمان
اللغة جميلة والفكرة رائعة ، المشاعر صادقة
نص مسبوك بعناية
دمت مبدعا


الأستاذة القاصة القديرة / صبيحة شبر
أشكرك جدا على هذا التعليق الواعي المتفهم لسير الأحداث ، أشكر أفكارك دائما التي تضفي على أفكارا جديدة طازجة .

عبدالرحمن الجميعان
14/03/2007, 11:55 AM
نقوش باقية نص مكثف، ومركز لغة، وحوادث وفكرة..النص كاسمه، نقوش، والنقوش، تدل على أثر، والأثر يدل على زمان ومكان، ولكنه يبقى صامتا، وهنا لا حظنا أن النص صامت، لا حوار فيه، مع حركة صخب المشاهد، وتلك براعة في التقنية القصصية.الشخصية مرسومة منذ البدء بأنها شخصية مهزوزة مضطربة اجتماعيا، معاناة، وطلب رزق، وتأفف من المعيشة..حتى يضيق بوالديه ذرعا..شخصية مثل هذه تجوب الشوارع و ووجوه الناس تقف أمامنا، ليبهرنا بعمل يصدم القاري ء، و هو العفة في الحاجة،وهي قيمة اجتماعية جميلة عرضها القاص بهذا الأسلوب الهادي ء، وهنا نقول بأن الأدب في خدمة المجتمع.لغة الكاتب في هذه القصة لغة رفيعة عالية، فيها الصور والأخيلة والشاعرية.....الصمت هو الصفة السائدة في القصة.. وتبقى النهاية تنطق بالكثير فمهما حاول المرء أن يفلت من قدره، سيظل القدر يتحكم في عملنا...عمل ممتاز ليس لي قول بعد قول اساتيذي الكبار...

محمد البوهي
18/03/2007, 11:52 AM
الأديب الرقيق ... الدقيق ... الرفيق ...العميق ... محمد البوهي

أعجبتني لغتك في هذه القصة فهي بحق لغة راقية .. لغة شاعر وليست لغة قاص .. لغة بليغة حساسة عميقة متدفقة شاعرية ... كامل التقدير يامحمد لهذا النص الذهبي :vg: .. إلا قل لي .. إنت بتكتب شعر من ورانا :good:




الأديب القدير
الاستاذ / ثروت الخرباوي

تعلم أنني انتظرك دائماً ، فردودك دائماً تأتي لي بابتسامة من العمق الملتف بالتفكير فيما كتبت .

دمت مبدعاً .

محمد البوهي
19/03/2007, 01:41 PM
السلام عليكم

الأديب الراقى والمتميز / محمد سامى البوهى

قرأت أقصوصتك هذه ، واطلق عليها اقصوصة لأنها كلها لقطات حركية سمعية بصرية فى مشاهد حيه انطبعت فى ذاكرتنى بالفعل

مما اعجبنى فى الفكرة انه مازال بعض ابناء مصر عندهم شهامة واصالة التى تربوا عليها
يقدمون الخدمة حبا فى الخدمة فقط لا غير ، وهذا طبع الناس الأصيلة

لا شك انه مازال به بقايا تربية ابوه والذى خرج عن طوعه وفشل فى ان


نعم اخى الكريم محمد ان لكل شىء مقابل ، ولكن ابن الأصول لا يتغير ابدا
كما ان من حقه التمرد لأن عنده طموح ويريد الا يظل سجينا لشىء فرض عليه !

رغم حاجته لم تغرية النقود لتبديل مبادئه او بيع قيمه ، وآثر ان يترك نقوش جميلة فى ذهن الأجنبية ليعلمها من هم اهل بلاده :good:

نعم هذه هى النقوش الباقية بحق ... هكذا قرأتها

شكرا محمد .. قصة راقية وامتعتنى قراءتها

تحيتى وتقديرى :fl:

السلام عليكم ورحمة الله

الأستاذة القديرة

أختي المكرمة

إيمان

تحليل من فوقه تحليل في بواطن الكلم ، تتراقص على ألحانه السطور فتنفض عنها أكاسيد الغموض ، فيلاحقها البريق بالوضوح ....

دمت مبدعة