المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سوسن



د.أحمد محمد كنعان
05/04/2010, 10:48 AM
قصة قصيرة
سوسن
د.أحمد محمد كنعان

هل تتذكرون .. سادتي .. مواسم الصيف ؟ مواسم الطفولة والبراءة والعذوبة ؟ أيام كنا تلاميذ نترقَّب عطلة الصيف بفارغ الصبر ، لنخلص من هَمِّ الواجبات اليومية التي لا تنتهي ، ونخرج من جوِّ المدرسة الطينية العابق بالرطوبة والعفونة إلى البساتين التي هواؤها يردُّ الروح ؟
هل تتذكرون تلك الأيام السعيدة ؟ أما أنا فإنني أتذكرها .. أتذكرها وكأنني أعيشها في هذه اللحظة .. أتذكرها بحلوها ومُرِّها ( في الحقيقة لم يكن فيها شيء مُرٌّ غير زهير ، وأرجوكم لا تسألوني مَنْ يكون زهير هذا ، فإن ذكراه تنكأ في قلبي جراح النكسة والهزيمة ! )
أجل سادتي مازلتُ أتذكَّر تلك المواسم البعيدة ، بكلِّ لحظاتها العذبة ، وفراشاتها الملوَّنة ، وسمائها الصافية ، وشمسها المشرقة التي يشبه وجهها وجه سوسن ..
- 000 ؟
- ماذا ؟ تسألون مَنْ سوسن ؟ لا تعرفون من سوسن ؟! حسناً ، حسناً ، سأحدثكم عنها ، ولا أخفي عنكم أني لم أفتح هذا الحديث معكم إلا لأحدثكم عنها ، عن تلكم الزهرة النّدية التي ما إن تفتَّحت في عالمي حتى جعلتني أسير وجودها ، وأحالتني إلى فراشة تهفو لعبيرها حيثما طارت ، وأينما حلَّت ، في الصباح وفي المساء ، في الصحو وفي النوم ، وفي كل حين !
تلكم الزهرة الندية سادتي هي بنت جارنا الشَّاميِّ أبي محمود الذي كان يعيش مع أسرته في الشام ( دمشق ) طوال العام ، حتى إذا بشَّر الصيف بالقدوم وأغلقت المدارس أبوابها قدم إلى ضيعتنا ليُصيِّف مع أسرته في قصره الرُّخاميّ المسور بأشجار الحور والزيزفون ، المتربع كالعروس هناك في أعلى التلة الممتدة نحو الأسفل باتجاه السهل الذي يحتضن بيوتنا العتيقة المبنية من الطوب والطين وجذوع الشوح وألواح القرميد ..
- 000 ؟!
- ماذا ؟ تريدون أن أحدثكم عن سوسن لا عن أبيها ، حسناً .. حسناً .. معكم حق ، فقد وعدتكم أن أحدِّثكم عنها لا عن أبيها ، ولا أخفي عنكم أنني شخصياً لا أحبُّ الحديث عن هذا الرجل ، صاحب الشاربين المعقوفين على طريقة أبي زيد الهلالي ، ففي نفسي منه غُصَّة ، وفي قلبي منه جراح ، فقد تسبَّب لي بمشاكل كثيرة نغَّصت عليَّ أياماً طويلة من طفولتي ( وسوف تنغِّص عليَّ بعد ذلك أياماً طويلة من شبابي ) وكاد في يوم من الأيام أن يقضي على مستقبلي ، وفي الخمسينات أوقع والدي بضائقة مالية كادت تسبِّب لنا فضيحة مجلجلة بين أهل الضيعة ، فقد حاول مرة ..
- 000 !
- أوه ، أنا آسف .. آسف جداً .. آسف مرة أخرى .. فقد نسيت مجدداً واستدرجتني مرارة الذكرى للحديث عن أبيها بدل الحديث عنها ، ولكن سادتي الكرام ماذا أصنع وقد وضع القدر هذا الرجل العجيب في طريقي ، وجعله والداً لأول بنت أحببتها في حياتي ؟! أنا آسف ، آسف مرة أخرى ، وأرجو أن تقدِّروا موقفي ، فإنَّ الجراح التي خلَّفها هذا الرجل في نفسي لن تبرأ على مَرِّ الأيام والليالي ، غير أني إكراماً لعيونكم سوف أنساه ، ولو إلى حين ، لأحدثكم عن سوسن فهي وحدها التي تستحق الحديث ..
**
كانت سوسن سادتي في العاشرة من عمرها حين رأيتُها لأول مرة وهي تلعب في الساحة بين صبيان الحارة ، وللحقيقة والتاريخ أقول لكم هي التي زعمت أنها في العاشرة حين سألها أحد الصبيان عن عمرها ، أما أنا فإنني بالرغم من قوامها الرشيق ، وشعرها الناعم الذي يشبه شعر قطة مدللة ، فقد رأيتُ فيها صبيَّة ناضجة أكبر من سنها الذي باحت به .. وبلا طول سيرة أقول لكم إن هذه القطة الشامية المدللة سرعان ما أسَرَتْ قلوبنا برقَّتها وعذوبتها ، فصرنا نحبها من أعماق قلوبنا حباً مَلَكَ علينا كلَّ مشاعرنا .. لا .. لا .. أرجوكم انسوا الجملة الأخيرة ، انسوها تماماً ، فقد قلت لكم : صرنا نحبها ، وهذا غير صحيح ، غير صحيح على الإطلاق ، فلم يكن أحد غيري يحبها حباً حقيقياً من أعماق قلبي ، أما بقية الصبيان فقد كانوا يحبون فقط أن يلعبوا معها وأن تلعب معهم ، لكنهم لم يحبوها قط كما أحببتها أنا ، وكم كنت أتضرع لله في سرّي وفي علني أن لا تفارقني أبداً ، في ليلي ولا نهاري ، وكنت أؤثرها على نفسي فأعطيها كل ما أجلبه من البيت من جوز وتين وزبيب ، لأنَّ ذلك كان يفرحها ، ولفرط ما أسرني حبُّها فقد كنت أحتمل أيَّ تصرف يصدر عنها حتى وإن كان ضدي ، أما الآخرون فلم يكونوا يرتاحون لكثير من تصرفاتها ، بل لم يكونوا يترددون في الإعراب لها عن تبرُّمهم من تصرفاتها الغريبة العجيبة التي كانت تفاجئنا بها بين الحين والحين ..
- 000 ؟!
- ماذا ؟ تسألون عن تصرفاتها ؟ إيه ما أحلى الحديث عن تصرفاتها .. ولكن بما أن الحديث عن تصرفاتها سوف يطول فإنني سأحدثكم فقط عن بعض تصرفاتها ، ولكني قبل أن أفعل سأفضي لكم بهذا السرّ الذي كتمته طويلاً حتى عن أقرب المقربين إليَّ ، فإن سوسن ، على الرغم من تصرفاتها الغريبة العجيبة التي لم تكن تخطر حتى على بال العفاريت ، كانت تشدُّ قلبي لدنياها شدّاً عنيفاً ، بل أزيدكم من الشعر بيتين ، فأقول لكم إنها كلما كانت تمعن في الغرابة والعفرتة كلما كان تعلقي بها يزداد ، لماذا ؟ لست أدري .. لكنَّ ما أدريه تماماً أن سوسن بتصرفاتها تلك أصبحت شمسي التي يدور كوكب أحلامي في مدارها .. دون إرادة .. دون إرادة على الإطلاق .. وحتى لا تلوموني على موقفي الضعيف هذا الذي لا مناص لي من الاعتراف به ، فسوف أحدثكم عن قصة هذه الزهرة الشامية من أولها لآخرها ، وأترك لكم الحكم الأخير ..
**
كانت سوسن .. سادتي .. بنتاً ، لكنها لم تكن مثل بقية البنات ، بل لم تكن كبقية مخلوقات الله ، فكأنها ملاك هبطت علينا من سابع سما ، وكان لهبوطها دويٌّ وجلجلة ، ومن اللحظة الأولى التي ظهرت فيها على مسرح الأحداث تغيَّر حال الدنيا فلم تعد كما كانت ، فقد دبَّت الحركة في حياتنا وأصبح للوقت طعم آخر ، وللدنيا لون آخر يموج بالغرابة والدهشة !
أجل .. سادتي .. كانت سوسن شيئاً فوق العادة ، كانت حدثاً فريداً فوق التوقعات وفوق الخيال ، وقبل هذا وذاك كانت سوسن تمتاز بذكاء لماح ونشاط نادر لم نألفه في بنات ضيعتنا ، فقد كانت تواصل اللعب معنا لساعات طويلة ، فتراها تلف وتدور وتنط وتركض وتضحك ، طوال اليوم ، دون أن يصيبها تعب ولا ملل ، حتى إن ابن الجيران خليل أطلق عليها اسم ( اللعبة ) ، وكان بالفعل محقاً بهذا الوصف الدقيق ، فقد كانت سوسن أشبه باللعب التي تدور بالزنبرك ، ولكن مع ميزة إضافية انفردت بها سوسن عن سائر اللعب ، إذ لم يكن زنبركها يفتر لحظة واحدة مهما طال تحركها ، وكان هذا يسعدنا غاية السعادة .. لا .. عفواً .. عفواً .. أعني كان هذا يسعدني أنا شخصياً غاية السعادة لأنه كان يتيح لي أن أقضي معها اليوم كله فلا يضيع عليَّ شيء من بركات ابتساماتها ، وبهاء طلعتها !
ويبدو .. سادتي .. أن العيشة في المدينة منحت سوسن جرأة نادرة فلم تكن تتحرَّج من اللعب معنا نحن الصبيان حتى في الألعاب التي لا تلعبها البنات عادة ، فكان هذا السلوك منها أشبه بالثورة على تقاليد الضيعة التي كان محرماً على بناتها اللعب خارج البيوت ، واللواتي لم نكن نراهن إلا خلسة ، أو في المناسبات العامة !
وكان يسعدنا أن تأتينا سوسن في كل عام بضروب من الألعاب الجديدة التي تعلَّمَتْها في المدينة ، فتثير بتلك الألعاب رغبتنا لمواصلة اللعب معها حتى الغروب ، وكنا ندفع ضريبة تأخرنا حتى تلك الساعة علقات ساخنة من أهالينا ، ونحن مبسوطين .. آخر انبساط !
وكانت سوسن .. سادتي .. تمتاز بثقة عالية بنفسها ، وكان فيها أنَفَة أقرب إلى التكبُّر ، فكان الصبيان يتضايقون من تكبرها عليهم ، لكنهم كانوا يخفون ذلك عنها ويحتملونها على مضض حتى لا يعتكر مزاجها فتترك اللعب !
ولأمر لا نعلمه .. سادتي .. كانت سوسن مولعة بالمشاكسة ، فلم يكن يمضي يوم واحد من أيامها معنا دون أن توقع بيننا فتنة ، أو تشعل بيننا معارك حامية تنتهي بتمزيق ثيابنا ، وتلطيخنا بالطين ، وبعد أن تصنع ذلك بنا كانت تقف غير بعيد عنا تتفرج علينا ونحن نتعارك وننتف ريش بعضنا مثل الديوك ، ثم لا تلبث أن تنطلق بالضحك ، وتظل تضحك وتضحك حتى تسيل دموعها على خديها اللذين كانا يتوردان ويزدادان نضارة كلما ضحكت ، وبعد أن ترتوي من المشهد تمضي عنّا دون أن تعيرنا التفاتاً !
أجل .. سادتي .. هكذا كان دأب سوسن ، لا مفرَّ لي من الاعتراف بهذه الحقيقة على ما فيها من غمز وتعريض بالبنت التي كانت أول حب في حياتي ، فقد وعدتكم أن أقول الحقيقة ، ولا شيء غير الحقيقة ، وأزيدكم من الشعر بيتين آخرين فأقول : لقد كانت سوسن فوق كل هذه الصفات الغريبة العجيبة صعبة المزاج ، فكانت كثيراً ما تحرن وتتمنع عن اللعب معنا إلاّ بشروط ، وكانت شروطها صعبة للغاية لا يقدر على تحقيقها غير ( زهير البردان ) الذي كان أكبرنا سنّاً وأكثرنا فتوة ( آه .. زهير مرّة أخرى ، أرجوكم انسوه .. انسوه تماماً .. فأنا لا أريد أن أنكأ الجراح في قلبي من جديد ! ) أما شقاوة سوسن .. سادتي .. فحدثوا عنها ولا حرج ..
- 000 ؟
- ماذا ؟! تسألون عن شقاوتها ؟ حسناً .. حسناً .. سأحدثكم عن شقاوتها وعما كانت تلك الزهرة الشقية تفعله بنا نحن الصبيان الذين كان بعضنا قد نبت شارباه واقترب من سن الرجولة ، فقد بلغ من شقاوتها يوماً أنها أرادت أن تلاعبنا ( لعبة الجوز ) فطلبت منّا إحضار عشر حبّات من الجوز من الشجرة العملاقة التي يملكها جارنا أبو سليم ، وكان أبو سليم هذا مشهوراً بين أهل الضيعة ببخله الشديد وفظاظته وقسوته حتى على بنته الوحيدة فاطمة ، غير أننا بسبب حرصنا على رضا سوسن لم نأبه للمخاطرة التي ينطوي عليها اعتداؤنا على أملاك أبي سليم هذا ، فتسابقنا على الفور بكلِّ براءة الطفولة إلى الشجرة لكي نحضر حبات الجوز التي طلبتها سوسن .. ويا غافل لك الله .. فبينما كنا نرمي الجوز بالحجارة والعصي إذ طلع علينا أبو سليم فجأة كالعفريت من خلف السور ، وما إن رآنا نعتدي على شجرته العزيزة حتى ركض نحونا غاضباً كالثور الهائج ، وكان الشَّرر يتطاير من عينيه الواسعتين اللتين كان يكحلهما بكحل كثيف أسود يزيد من فظاعة منظره ، لكنّا بما يشبه المعجزة أفلتنا منه بعد أن شاغلناه برشقات متلاحقة من الجوز والحجارة ، إلا ابن الجيران خليل فقد وقع في قبضته الحديدية ، ونال منه علقة ساخنة ألزمته الفراش أسبوعاً كاملاً ، سبعة أيام بالتمام والكمال !
أجل .. سادتي .. هذه واحدة من ورطات سوسن التي لم يكن يمضي يوم إلا ورطتنا بمثلها أو أشد منها ، لكن أرجو أن لا يجمح بكم الخيال بعيداً فتحسبوا أنّ سوسن مجرد بنت طائشة ، كلا ، فإن سوسن لم تكن كذلك دوماً ، وأقسم بالله العظيم أنَّ حبّي لها ، عشقي لها ، هيامي بها ، انحيازي لها ، قولوا ما شئتم ، ليس هو الذي يجعلني أدافع عنها ، كلا ، ولكنها الحقيقة التي يشهد بها صبيان الحارة كلهم ، أجل ، صدقوني ، فقد كانت سوسن بالرغم من كل ما ذكرت قمّة في العقل والتدبير ، وكانت قبل هذا وذاك ذات حسٍّ وطنيٍّ مبكِّر لا ندري كيف اكتسبته وهي لمَّا تتجاوز العاشرة من عمرها بعد !
- 000 ؟
- ماذا ؟! تسألون عن قصة هذا الحس الوطني المبكر ؟ تستغربونه من طفلة صغيرة مثلها ؟ حسناً ، حسناً ، لا تستغربوا ولا تستعجلوا ، فمازال هناك الكثير والكثير من دواوين هذه البنت مما لم تسمعوا بمثله أبداً ، فما رويته لكم من حكايات حتى الآن ليس سوى قطرة من بحر هذه البنت الشامية العجيبة .. وها أنذا أكمل الحكاية ..
فقد كانت الشام في تلك الأيام البعيدة تحتفل بأعياد الوحدة مع الشقيقة مصر ، وبهذه المناسبة جمعتنا سوسن في الصباح الباكر تحت شجرة الكينا ، قرب النبع ، وأخبرتنا أن الرّيس جمال عبد الناصر جاء إلى الشام في الليلة الماضية ، وأنه سيلقي اليوم خطاباً وطنياً جامعاً من قصر الضيافة في حي المهاجرين ، وبعد أن خطبت فينا سوسن خطبة عصماء عن حب الوطن والوحدة العربية وتحرير فلسطين ، وأيقنت أنها ملكت قلوبنا ومشاعرنا ، راحت تحرضنا على المشاركة بهذه المناسبة القومية الكبرى ، وطلبت منّا أن نرافقها إلى قصر الضيافة في الشام لكي نشاهد الرّيس شخصياً ، وعندما سألناها عن التفاصيل راحت تشرح لنا الخطة التي رتبتها بعناية فائقة تنم عن حنكة سياسية واعدة ..
وتفصيل ذلك ، أن يذهب كل منّا إلى بيته ، فيلبس ثياباً جديدة تليق بهذه المناسبة الوطنية العزيزة ، دون أن يثير انتباه أهله لما عزم عليه ، ثم يتسلل خلسة عبر الحقول إلى ( الجسر الأسود ) وهو مكان معروف لنا جميعاً يقع غرب الضيعة جهة الشام ، ومن هناك تنطلق المجموعة عبر البساتين إلى قصر الضيافة سيراً على الأقدام ، ولم تنس سوسن أن تطلب منّا إحضار بعض الطعام والشراب لأن الرحلة قد تستغرق اليوم كله ، كما طلبت منّا إحضار بعض النقود لأننا بسبب التعب والمشقة قد نضطر للعودة بالباص آخر النهار !
وهكذا التقينا في الوقت الذي حددته الأميرة ( وهذا وصف جديد اختارته لنفسها من ذلك اليوم وأمرتنا أن ننايدها به ، وإلا .. ) وبعد أن اطمأنَّت الأميرة أن كلّ شيء قد تمّ كما أمرت سارت بنا عبر الطريق الزراعية بعيداً عن العيون ، وما بين الحين والآخر كانت تنبهنا أن نسير بصورة عفوية كيلا نثير الشبهة ونلفت إلينا الأنظار ، وكانت بين الحين والآخر كذلك تنبهنا أن نخفض أصواتنا ، ولسوء الحظ لم نكد نقطع مسافة يسيرة في الطريق حتى وقعت الواقعة ، فقد رآنا بعض الفلاحين وأمسكوا بنا ، ولما علموا بتدبيرنا ضحكوا كثيراً حتى ظننا أنهم سيخلون سبيلنا لنمضي فنستمع إلى الريس ، لكنهم بعد أن ارتووا من الضحك أمسكوا بنا وأعادونا مخفورين وسلمونا لأهالينا تسليم اليد حيث نال كلٌّ منّا علقة ساخنة ما زلنا نؤرِّخ بها حتى اليوم !
أجل .. سادتي .. هذه هي سوسن .. هذه هي الأميرة .. بل هذه مجرد نتف متفرقة من سيرتها الحافلة بالأعاجيب ، ولكي تكتمل الصورة لديكم سادتي دعوني أحدثكم عن قلبها الرقيق الذي يذوب رحمة وشفقة بالضعفاء والمساكين ، فقد كان من عادتنا ، نحن الصبيان ، أن نتحرَّش برجل مبروك من ضيعتنا ، كان الناس يتقرَّبون إليه ويلتمسون منه الدُّعاء لاعتقادهم بأنه من ( أصحاب الخطوة ) وأنه رجل واصل من أولياء الله الصالحين ، أما نحن الصبيان فقد كنّا نرى فيه مجرد رجل أهبل يثير الضحك ، وكنَّا كلما رأيناه بخرقته البالية ، وعكازه الطويلة الملفوفة بحبل من الليف ، نركض خلفه ونسأله أن يرقِّص لنا عصاه السحرية ، فكان يُسَرُّ لذلك ، وتنبسط أساريره ، ويتهلل وجهه ، ويقف مزهواً منتفشاً بعد أن يصفَّنا حلقة من حوله ، وقبل أن يبدأ المشهد كان يقف ليشدُّ مئزره المهترئ على وسطه ، ويعدِّل الكوفية فوق رأسه ، ويبرم شاربيه باعتداد كأنما هو مقبل على أمر عظيم لم تستطعه الأوائل ، ثم يبدأ محاولاته المضنية ليوازن عصاه فوق سبابته ، حتى إذا بلغ به التعب مبلغه وتوازنت العصا فوق إصبعه وتهلل وجهه بالبشر صرخنا فيه بصوت واحد : أبا الفروة ! فكان عندما يسمع هذا النعت ينتفض كالمجنون ، وتقع العصا من يده ، ويتملكه الغضب ويثور ويرغي ويزبد ، ويأتي بحركات غريبة تثير ضحكنا وسرورنا ، وقد استمرت حالنا معه على هذه الشاكلة ولم نقلع عن مشاكسته إلا يوم تدخلت سوسن في القضية !
- 000 ؟!
- حسناً ، حسناً .. سادتي .. سأشرح لكم كل شيء ، فلا تستعجلوا ، ففي أحد الأيام رأينا أبا الفروة واقفاً عند الجدار ، شارداً يكلم نفسه ، فتبادلنا الإشارات المعهودة فيما بيننا وتوجهنا على الفور إليه استعداداً للتحرُّش به ، لكن سوسن اعترضتنا في الطريق ، وصرخت فينا غاضبة ، وأمرتنا أن نرجع ونترك الرجل في حاله ، وهددتنا بالمقاطعة إذا نحن أسأنا إليه ..
- ولكن .. دعينا نتفاهم !
قلنا لها ، فردّت بنبرة قاطعة :
- لا تفاهم !
ورفعت يدها في وجوهنا مهددة :
- اتركوا الرجل يمضي في حال سبيله ، وإلا .. !
وكنّا نعرف في وجهها أمارات الغضب الحقيقي ، وكنا نعلم أيضاً أنها وإن كانت بنتاً فإن كلمتها ( كلمة رجال ) ، فتراجعنا عن الرجل حرصاً منَّا على رضاها ، فلما رأى أبو الفروة ما فعلت من أجله ابتسم ، وانبسطت أساريره ، ومشى نحوها متهللاً ، ووقف أمامها كالطفل يعالج العَبَرات التي فرَّت من مقلتيه اعترافاً منه بجميلها ، وانحنى على يدها ليقبِّلها ، وكان شيخاً عجوزاً ما في رأسه ولا لحيته شعرة سوداء واحدة ، لكنها لم تُمكِّنه من يدها بل سارعت هي فأخذت يده وراحت تقبلها قبلات كثيرة متلاحقة وهي تقول :
- بل نحن الذين يجب أن نقبل يدك .. عمي أبا أحمد ..
وانخرطت بالبكاء كأنما لتكفِّر عمّا ارتكبناه نحن الصبيان في حقِّ الرجل الذي عرفنا للمرة الأولى اسمه الحقيقي ، ومن يومها كففنا عن التحرش به ، ولم نعد نناديه بالاسم الذي يثير سخطه !
**
ومن العجيب .. سادتي .. أن سوسن نفسها ، تلك البنت الشفافة الناعمة ، ذات القلب الرقيق الذي ذاب شفقة على الرجل الطيِّب ، هي نفسها التي هشّمت رأس ( صيّاح الأشرم ) ابن رئيس المخفر ، وكان صياح هذا ولداً أزعر لا يجرؤ أحد على التحرش به ، حتى إن صبيان الحارة درجوا على مناداته باسم ( عنتر ) لشدة بأسه وبطشه ، وكان فوق هذا معروفاً بمكره ورذالته ، فكان كلما أحس بالهزيمة فزع إلى أبيه صاحب السطوة في الضيعة فشدَّ ظهره به ، وانتقم من خصومه !
غير أن هذا ( العنتر ) الرهيب تحوَّل بفضل سوسن إلى أرنب وضيع يثير الشفقة ، وتلك قصة طريفة تستحقُّ أن تروى ، لا لأنها تضيء جانباً هاماً من شخصية سوسن فحسب ، بل لأنها كذلك غيرت ثلاثة أشياء في حياة ( عنتر )
وملخَّص الحكاية أن تنُّور الدَّاية ( أم سعيد ) كان مشاعاً لأهل الحي ، فكانت كل عائلة تخبز فيه يوماً من أيام الأسبوع ، وقد خطط ( عنتر ) لاستغلال هذه الحكاية فادَّعى في أحد الأيام أن الدور في التنور دور عائلته ، واستدرج سوسن إلى هناك بحجة إطعامها الحلوى التي زعم أن أمه تخبزها ذلك اليوم !
وكان الخبيث يعرف ولع سوسن بالحلوى ، وأنها لا يمكن أن تعتذر عن دعوة لذيذة كهذه الدعوة ، فذهبت إلى التنور في الموعد المحدد غير عارفة بما بيِّت لها الخبيث في سرِّه ، فلما أصبحت وإياه داخل الفناء ، ووجدت التنور خامداً وليس هناك أي مخلوق سواهما ، أدركت قصده الدنيء ، وقبل أن يوصد الباب لينفرد بها استدارت نحوه غاضبة كاللبوة التي خطفوا أولادها ، وصرخت في وجهه صرخة مدويِّة ارتعدت لها فرائصه ، وجعلته لهول المفاجأة يتسمَّر في مكانه مثل الصنم ، وكأنه لم يصدِّق أن تتحول هذه القطَّةَ الوديعة الناعمة إلى وحش كاسر بهذه السهولة .. ولم تكتفِ سوسنُ بتلك الصَّرخة المرعبة ، بل سارعت إلى بيت النار الذي يخبئون فيه أدوات الخبز والعجن ، فسحبت منه مجراف العجين ، وناولته ضربة حانقة وقعت على يده ، وأتبعتها بضربة أخرى أصابته في وجهه وألقته على الأرض يتلوى من شدة الألم ، وكانت هاتان الضربتان كافيتان لتغيير ثلاثة أشياء في حياة عنتر ، فقد غيَّرت سلوكه فاستقام بعد عِوَج ، وغيَّرت معالم وجهه فأصبح فيه ندبة دائمة شَرَمَت شفته ، وغيَّرت اسمه بسبب شفته المشرومة فأصبحنا نناديه ( صياح الأشرم ) بدل صيّاح النجار !
**
ولكن مع هذا .. سادتي الكرام .. أرجو أن لا يجمح بكم الخيال فتحسبوا أنَّ الشراسة طبع من طباع سوسن ، فهي لم تكن شرسة إلا في الملمَّات ، أما فيما عدا ذلك فقد كانت شفافة ناعمة مثل زهرة برّية تفتَّحت للتّو ، بل كانت أشبه بحبة مكتنزة من التفاح السكري ، بشرة بيضاء صافية كالحليب ، وشعر أسود فاحم كالليل البهيم اعتادت أن ترسله حراً طليقاً يهفهف فوق كتفيها ، فكان وجهها الأبيض المشرق يبدو تحت سواد الشعر كالبدر ليلة التَّمام !
ويظهر أن سوسن لاحظت منذ لقائنا الأول بها شغفنا الشديد بتأمُّل وجهها الآسر ، وولعنا بابتساماتها الفطرية العذبة ، فكان يحلو لها أن تتظاهر بالعبوس لكي تثير بيننا المنافسة على الفوز بابتسامة منها ، ومما فعلته بنا لأجل ذلك أنها طلبت منّا ذات مرَّة أن نعبر نهر الضيعة سباحة إلى الضفة الأخرى ، وكان النَّهر في حالة فيضان وهيجان ، ولهذا لم يتقدَّم أحد منّا لخوض هذه المغامرة المجنونة .. إلا زهير .. آه .. زهير مرة أخرى .. ولكن لا بأس ، أمري لله ، سأحدثكم عنه وليكن بعد ذلك ما يكون ..
تقدَّم زهير .. سادتي .. إلى حافَّة النهر ليعبر إلى الطرف الآخر كما طلبت سوسن ، وكان زهير معروفاً بيننا بأنه سبّاح ماهر ، فوقف عند الحافة مبتسماً مزهوّاً بجسمه الرياضي وعضلاته المفتولة ، وراح يرمقنا بنظراته المتعالية يتحدانا على المنافسة ، وعندما رآنا خائفين محجمين عن المشاركة ، وأيقن أن الساحة قد خلت له وحده ، وأنَّ الطريق أصبح سالكاً أمامه إلى قلب سوسن ، تمادى في التحدي ، فانتفش مثل طاووس مغرور ، وراح يرقِّص عضلاته مثل أبطال المصارعة ..
( آه يا نذل ! ) صرخت به في سري ، ورميته بنظرة حادة أردت منها أن يفهم بأن لعبته مكشوفة سلفاً ، وأن حركاته الصبيانية لا تعني لي شيئاً ، ثم تنبهت بأن هذه الحركات منه قد تعني لسوسن غير ما تعني لي ، فارتعد قلبي خشية أن يسرقها مني ويستميل قلبها ، وعندما رأيته يتهيأ للقفز في الماء طار صوابي ، وبلا تفكير بالعواقب قررت أن أوقفه عند حده ، وأن أسبقه إلى الضفة الأخرى ، لكني تذكرت في اللحظة الأخيرة أنني لا أعرف السباحة ، وأنني أغرق في شبر ماء ، فسخطت من نفسي ومن ضعفي ، وكدت أبكي ، ورحت ألوم نفسي على أنني لم أتعلم السباحة مبكراً ، ولم أصغ لنصيحة خليل الذي كان دوماً يشجعني ويدعوني لأذهب معه إلى البركة ليعلمني السباحة .. واسترقتُ نظرة إلى وجه سوسن فلمحت في عينيها دعوة ملحَّة كي أشارك في المنافسة ضد زهير ..
- أنا ؟ سألتها بعيني وأنا أجاهد نفسي لأخفي عنها ارتباكي ، فابتسمت لي تلك الابتسامة التي تسلبني الإرادة ، وأومأت لي برأسها أن أتقدم للمنافسة ، فقال قلبي بلا تردد : حاضر . ووقفت إلى جانب زهير الذي فوجئ بي أول الأمر ، وتفحَّص وجهي مراراً ليتأكد أنني أنا الذي أقف بجانبه وليس ولداً آخر ، فقد كان الخبيث يعرف جيداً أنني أغرق في شبر ماء ، وعندما تأكد أنني أنا المنافس أطلق ضحكة مجلجلة لا تخلو من شماتة علنية ، وعاد ينتفش كالطاووس ، فانتهرته همساً كيلا يسمع الآخرون :
- سوسن أبعد عنك من نجوم السماء !
وأردت أن أنتفش مثله لكي أخفف من غلوائه ، لكني فشلت ، فقد بدأت ساقاي ترتجفان وأنا أرى النهر يتدفق مثل الريح ، وراحت الأرض تهتز من تحتي كأن الثور الذي يحملها فوق قرنيه قد أفاق فجأة وراح يركض في الفلوات .. وعدت أنظر إلى سوسن بقلب ضارع لعلها تتراجع عن مطلبها المجنون هذا ، لكنها لم تفعل ، بل نفحتني بابتسامة أخرى وأومأت لي برأسها أن أقذف بنفسي في التيار ، فأغمضت عيني ممتثلاً للأمر وأنا أضرع لله أن يوصلني إلى الشَّطِّ الآخر بالسلامة ، ثم لم أعرف ما الذي حدث !
وحين أفقت ، وفتحت عينيّ ، وجدت سوسن وبقية الصبيان متحلقين فوقي ، وكانوا يدلكون يديّ ورجليّ ويلطمون على خدّي لكي أفيق ، وحين استعدت الإحساس بالحياة ، وعاد الدم يجري في عروقي ، قمت غضبان أنافح في وجه زهير الذي راح يتبجَّح أنه هو الذي انتشلني من الماء وأنقذني من موت محقق ، وأنني لولاه لكنت الآن في خبر كان ، وصرخت فيه مستشاطاً :
- أنت ولد أحمق !
واندفعت نحوه بكل ما تبقى بي من رمق وصرخت فيه بصوت أعلى :
- أنت الذي أعقتني عن السباحة وكدت أن تغرقني !
( كان يجب أن أصطنع هذا الموقف على ما فيه من مجازفة كيلا أخسر الجولة ) وفي هذه اللحظة تدخلت سوسن ، تلك الزهرة الندية التي تعرف بالضبط متى يجب أن يفوح العطر منها ، وطلبت مني أن أفلته ، ولكي تعزز موقفي تجاهه قالت لي وهي تمسح على ذقنها :
- لأجل خاطري ، اتركه هذه المرة !
فتظاهرتُ بالتمنع للحظات ، ثم أفلته خشية أن يعاجلني بلكمة من قبضته الحديدية وينقلب الموقف ضدي ، واختلست نظرة نحو الميرة لأعرف حقيقة مشاعرها فرأيتها تضحك بانبساط ، وكانت تداري بكفها أسنانها الناصعة التي تشبه أسنان سنجابة حلوة ، ثم انطلقت نحو دارها كعادتها بعد كل مقلب تصنعه بنا وكأن أمرنا لا يعنيها !
وحين رآها الخبيث تبتعد عنا ، وأيقن أنها ذهبت إلى غير رجعة ، التفت نحوي بعينين جاحظتين تقدحان شرراً ، وأمسك بي ورفعني بلمح البصر فوق رأسه مثل أبطال المصارعة ، واتجه صوب النهر ليعيدني إلى الماء ، ولولا رحمة الله بي وتدخُّل الصبيان وبعض الجيران لكان مصيري كمصير ( صاحب الحوت ) !
**
أجل .. سادتي .. هكذا كان دأب سوسن ، نحن نجازف بأرواحنا وسمعتنا وراحتنا من أجل خاطرها ، وهي لا تتورع عن توريطنا بورطة بعد ورطة ، ثم تضحك علينا وتمضي غير عابئة بنا ، وقد ظلت على تلك الحال ولم تتوقف عن عادتها غير مرة واحدة لا أنساها ما حييت ..
- 000 ؟!
- ماذا ؟! تسألون كيف ؟ حسناً ، حسناً ، سأخبركم ، ساخبركم بكل التفاصيل ، وأروي لكم حكاية أجمل صفعة تلقيتها في حياتي ..
- 000 ؟!
- أجل .. أجل .. أجمل صفعة تلقيتها في حياتي ، لا تتعجبوا ولا تستغربوا ولا تدهشوا ، فبعد قليل حين تعرفون ما حصل في ذلك اليوم المبارك سوف تزول دهشتكم ، وربما تمنى بعضكم صفعة عذبة كتلك الصفعة التي غيَّرت مجرى حياتي .. وتفصيل الحكاية .. سادتي .. أننا في صباح ذلك اليوم المبارك ( وأنا هنا أؤكد مرارا وتكراراً على بركة ذلك اليوم لأنه كان نقطة تحول حاسمة في مجرى حياتي ) أقول : في صباح ذلك اليوم المبارك جاءتنا سوسن مهمومة حزينة مكسورة الخاطر تبكي بحرقة ، والدموع تطفر من مقلتيها العسليتين ، ولأني لأول مرة في حياتي أراها تبكي انخلع قلبي لمرآها ، إذ لم يخطر ببالي أبداً قبل تلك اللحظة أن هذه الزهرة البريَّة الفواحة بالعطر والمرح يمكن أن تبكي أو تعرف كيف يكون البكاء ، وعندما سألها بعض الصبيان عمَّا أصابها أخبرتنا أن عصفورها الكناريّ قد مات ، فضحك الجميع لهذا الخبر الغريب ، فالأمر عندهم لا يستحقُّ كلَّ هذا الحزن والبكاء ، وتدخَّل ابن الجيران ( خليل ) صاحب التعليقات اللاذعة فرفع كفيه إلى السماء وقال بنبرة مسرحية متقنة :
- رحمة الله عليه !
ورسم على وجهه ملامح مأساوية ، وأخذ من فمه بعض اللعاب ووضعه على عينيه كالدموع مبالغة منه في أداء المشهد ، وأضاف :
- الفاتحة يا شباب !
فانفجر الأولاد بالضحك حتى انقلب بعضهم على ظهره من شدة الانبساط ، وانتظرتُ أنا أن أراها تضحك لتخرج من حالة الحزن التي قطعت نياط قلبي ، لكنها على غير ما توقعتُ ظلت مقطبة ، وأخذت تقذف الأولاد بنظراتها الغاضبة ، وتصفهم بأنهم قساة القلوب لا يعرفون الرحمة ، وعاد خليل فتدخل مرّة أخرى وقال وهو ينحني أمامها كالخادم المطيع :
- والآن .. ما هي طلبات الأميرة ؟
فردت عليه بنبرة حاسمة :
- أريد عصفوراً !
وحلفت بالله ثلاثاً أنها لن تلعب معنا ثانيةً إذا لم نحضر لها العصفور الذي تريد ، وكنا نعرف لهجة الجد منها ، فتبادلنا النظرات ، وتوقفنا عن الضحك ، وأخذنا نفكر : من أين نأتي لها بعصفور كناريّ بدل عصفورها الذي مات ؟ من أين ؟ من أين ؟ لكنها لم تمهلنا بل قالت بنبرة حاسمة :
- أريد عصفوراً من ذلك العشّ ..
وأشارت بإصبعها إلى عشّ العصافير المعلق بين السماء والأرض في قمة شجرة الحور التي كنّا نقف تحتها ..
- معقول !
- مستحيل !
- هذه البنت مجنونة دون ريب !
صرخ الصبيان واحداً بعد الآخر ، وتضجروا ، وأداروا لها ظهورهم متبرمين من طلباتها المستحيلة ، إلا أنا وزهير فقد أخذنا المسألة جدّ ، ونظرت إليه ونظر إليَّ ، ثم عدنا ننظر إلى سوسن غير مصدقين أن يبلغ بها الدَّلال والدلع هذا الحد من المجازفة بحياتنا ، فما كان منها حين رأتنا مترددين إلا أن قطَّبت وحَرَنت وأشاحت بوجهها عنّا مؤكدة أن طلباتها غير قابلة للمناقشة !
( يا إلهي ! ) تأفَّفتُ في سرّي ، وسخطتُ عليها .. لا .. بل عتبتُ .. لا .. بل في الحقيقة بدأت أفكر أن معها حقّ ، وعدت أحدِّق بقمة الشجرة السامقة التي تتجاوز مئذنة الجامع الكبير ، وخيِّل لي أن الوصول إلى القمر أهون من الوصول إلى العش الذي كان يتأرجح بين الأغصان الواهية حتى ليكاد يهوي إلى الأرض ، وبعد لحظات من التردد والتوتر والحيرة فاجأني زهير للمرة الأولى في مثل هذه المواقف فقال :
- أنا منسحب !
وتنحّى جانباً ، وافترش العشب ، وأسند ظهره إلى جذع الحورة وراح يرمقني بنظرات متخابثة لكي ينال من عزيمتي ، غير أني لم آبه له ، وغمرني إحساس غامر بالنشوة لانسحابه على هذه الصورة المزرية التي تعد هزيمة نكراء طالما حلمت بها ، وقلت في نفسي ( الآن خَلَتْ لكَ الساحة يا بطل ) وفكرت أني إذا فزت هذه المرّة فسوف يكون فوزي ساحقاً ، وأكسب قلب سوسن إلى الأبد ( وإذا فشلتَ يا بطل ؟! ) وسوست لي نفسي ، فاعتكر مزاجي ، وغضبت ، وصعد الدم إلى قمة رأسي ، وشعرت بجسمي يشتعل من الداخل ، واختلست نظرة أخرى إلى زهير فرأيت في عينيه نظرات غريبة ، وخشيت أن يعيد حساباته ويعود للمنافسة ضدي ، فأسرعت أشمِّر عن ساعدي ، وخلعت حذائي وألقيت به ناحيته مبالغة منِّي في التحدّي والشماتة ، وقبل أن أمسك بجذع الشجرة وأبدأ بالصعود كففت ساقي بنطالي كيلا يعوقني عن التسلق ، ورفعت ناظري إلى العشِّ فرأيته بعيداً مثل نجمة لا تطال ( يا إلهي كم هو بعيد ! ) قلت في سري ، وانتابني الذعر ، ذعر شديد لم أحس بمثله في حياتي ، وأحسست بحجم المخاطرة التي ورَّطتُ نفسي فيها طائعاً مختاراً ، وهممت أن أتراجع لولا ابتسامات الأميرة التي ظلت تأمرني بالصعود ، فسلّمت أمري للمقادير وانطلقت نحو الأعلى وأنا أناجيها من أعماق روحي ( من أجل عينيك يا أميرتي مستعد أن أتحدى قوانين الجاذبية ، بل قوانين العالم كلها .. فقط .. اطلبي وتمني ) ولم أكد أقطع خطوات قليلة نحو الأعلى حتى سمعتها تناديني أن أتوقف .. فتوقفت .. والتفت إليها فرأيتها تشير إلي أن أنزل ..
- ( لماذا !؟ )
سألتها بعيني ، وأنا لا أصدق ما أسمع ، فعادت ترجوني :
- أرجوكَ .. انزل !
( يا إلهي ! ما الذي يدور ببال هذه المخلوقة العجيبة ؟ وما الذي تنوي فعله بنا ! ) تسمَّرتُ في مكاني ، ومرّت لحظات عصيبة صَمَت فيها الكون كله بما فيه من شجر وعصافير ورياح وأنهار وإنس وجن ، حتى ابن الجيران خليل الثرثار اعتقل لسانه ، وفتح فمه على مداه ، ولم يصدق ما يجري ، والصبيان الذين كانوا قد تفرقوا عادوا فتجمعوا حول سوسن وراحوا ينظرون إليها بفضول ليعرفوا ما الذي تنوي أن تفعله هذه البنت الشامية التي لا تكفّ عن المفاجآت !
أما أنا فقد نزلت كما أمرت ، ولم أكد أنزل وتلامس رجلاي الأرض حتى رأيتها تقبل نحوي بخطوات متمهلة واثقة ، وكانت ما بين الخطوة والأخرى تتلفت إلى الصبيان وترميهم بنظرات مفعمة بالكبرياء ، حتى إذا دنت منّي رأيت في مقلتيها العسليتين حناناً لم أختبره من قبل ، ورأيتها تمد ذراعيها نحوي وتطوِّقني ، وقبل أن أستوعب الموقف العجيب وجدتها تطبع على خدِّي قبلة دافئة متأنية .. ثم .. أطلقتني وهي تقول بصوت عال كأنما تريد أن تسمعه للدنيا بأسرها :
- أنتَ .. حبيبي !
و انطلقتْ تجري نحو دارها ..
- المجنونة !
- يا إلهي !
- مستحيل !
- هذا غير معقول !
هتف الصبيان واحداً بعد الآخر ، وصرخ عبد العظيم صرخة عظيمة شقَّت عنان السماء لم أسمع مثلها في حياتي ، وراح خليل يلطم على خده ويشتم حظه العاثر ، وهبَّ زهير واقفاً كالعفريت وراح يضرب جذع الشجرة في غضب ، فيما وقف عبد العظيم فاغراً فمه واضعاً كفيه على رأسه كأنه يتقي صاعقة سوف تنزل من السماء .. أما أنا فلم أصدق ما حصل ، ويبدو أن زهيراً هو الآخر لم يصدق أن يحصل هذا الأمر العظيم بهذه السهولة ، فلما أفاق من ذهوله اندفع نحوي مستشاطاً ، وكان شيء كالشرر يتطاير من عينيه ، وعلى غير انتظار عاجلني بصفعة نزلت كالصاعقة على خدِّي الذي نال القبلة من سوسن ، وقبل أن أردَّ عليه رأيته يطرق إلى الأرض بانكسار ، ويخمد دفعة واحدة مثل كومة من الرماد أصابها المطر ، واغرورقت عيناه وأدار ظهره وانسحب من الساحة وهو يجرُّ أذيال الخيبة ، بينما رحتُ أنا أتحسَّس على خدّي أثر القبلة التي توَّجتني آخر المطاف .. بطلاً بلا منازع !
د.أحمد محمد كنعان