المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليوم "حَبْس" وغداً.. !



جواد البشيتي
05/03/2007, 01:42 PM
اليوم "حَبْس" وغداً.. !

جواد البشيتي

الصحافي عندنا، وعَبْر الصحيفة التي من خلالها يَنْشُر رأياً، أو معلومة، يمكن أن يرتكب "جريمة"، أو "جناية"، مهنية، حدَّدها القانون مع عقوبتها، التي قد تشمل "الحبس"، الذي لا يُعاقِب به الصحافي "المُجْرِم"، مهنياً، إلا لغايةٍ أهم وأعظم، وهي "الردع".. ردع غيره من الصحافيين عن الإتيان بما أتى به، أو بما يشابهه، وردعه هو عن ارتكاب مزيد من "الجرائم المهنية" بعد الإفراج عنه، فـ "حرِّية التعبير (عن الرأي والفكر..)"، التي كفلها الدستور والقوانين المشتقَّة منه والمتَّفِقة معه، لها "حدود"؛ وليس كل تجاوز للحدود يعني التحرُّر؛ كما أنَّها حقٌّ للصحافي، قد يفضي "التطرُّف" في ممارسته إلى ارتكابه "جرائم" في حق آخرين، بعضهم نواب، وبعضهم وزراء، وبعضهم من ذوي المناصب العامة الأخرى!

لقد سمعنا كثيرا عن صحافيين (وصُحُف) ارتكبوا "جرائم" مهنية، وقد عوقبوا عليها (بالقانون، وبما يخالف القانون، نصا وروحا) ولكننا لم نسمع قط، وربما لن نسمع أبدا، عن أشخاص (ومؤسسات) ارتكبوا جرائم في حق "حرِّية التعبير"، المكفولة دستوريا، وفي حق من مارسوها، فعوقِبوا عليها، مع أنَّ جرائمهم أكثر وأخطر من "الجرائم المهنية" للصحافي!

تاريخ حرِّية الصحافة عندنا يَشْهَدُ على أنَّ "الجرائم المهنية" للصحافي تَعْدِل قطرة في بحر ما ارتُكِب، ويُرْتَكب، من جرائم في حق "حرِّية التعبير" ذاتها.. وقد كان آخرها، وأخطرها، جريمة تأييد مجلس النواب، أي "ممثِّلو الأمة" المنتخَبون في طريقة تَحُول بين الأمة وبين تمثيلها سياسيا في البرلمان، "حبس الصحافيين (وتعريضهم لعقوبات مالية قاسية) لارتكابهم جرائم النشر".

في القضايا التي تشبه، لجهة ضآلة نفعها وأهميتها، الماء الصالح للشرب، على ضآلته عندنا، حُرِّرَ الصحافي، قلما ولسانا، من كل قيد، وكأنَّها، أي تلك القضايا، هي المحتوى السياسي والفكري والثقافي لـ "حرِّية التعبير"؛ أمَّا القضايا، التي يتحَّدانا التطوُّر الحضاري والفكري والديمقراطي العالمي على اقتحامها، بحثا وتفكيرا وتعبيرا، فقد أقاموا من حولها سياجا من العقوبات، بعدما أدخلوها في "صندوق المحرَّمات"، الذي يشبه "صندوق بانادورا"، كفانا الله شرَّ فتحه!

لقد مارسنا "حرِّية التعبير" في تلك القضايا التي ليست بالمُخْتَبَر الحقيقي لـ "حرِّية التعبير"، ولـ "الحق" في ممارستها، فكانت العاقبة أنْ أصبحت الصحافة عندنا "جمهورا من الكتَّاب يبحث بلا جدوى عن جمهور من القرَّاء"، فَلِمَ المواطِن يقرأ آراءً صحافية في قضايا لا جاذبية لها، لا تستفزه عقلا وشعورا، لا تجيب عن أسئلته، ولا تلبي احتياجاته، وكأنَّها بضائع لم تنتهِ صلاحية استعمالها منذ زمن بعيد فحسب، وإنَّما انتفت لديه الحاجة إليها؟!

وكانت العاقبة أيضا أنَّ الصفحات التي يُحرِّرها عزرائيل (صفحات الوفيَّات) والتي يُحرِّرها "التاجر"، أي "صفحات الإعلان التجاري"، هي التي تجتذب إلى الجريدة غالبية الشراة!

لو أنَّ مواطنا في الغرب قرأ أنَّ "البرلمانيين" عندنا، والذين أخذوا حصَّة الأسد من الزيادة الجديدة في الرواتب مكافأة لهم على قِلَّة العمل، وقِلَّة جودته، يستنفدون جهدهم ووقتهم في سنِّ مزيد من القوانين لمعاقبة الصحافيين "الجناة"، وردع وتخويف "غير الجناة" منهم حتى الآن، لظنَّ أنَّ لدينا "تمرُّدا صحافيا" لا بدَّ من إخماده، وأنَّ "حرِّية التعبير" عندنا، ولفرطها، قد أوشك شرُّها أن يغلب خيرها.

أمَّا لو جاء ليقف بنفسه على الحقيقة، وليراها رؤية عيانية، لأشفق على أولئك "البرلمانيين" الذين يحاربون ظلالا فَقَدَت أجسامها، فصحافيونا يملكون في ذواتهم المهنية والإنسانية من احتياط الحَذَر والخوف.. ومن "الحكمة" و"التعقُّل" و"حب الحرِّية المسؤولة"، ما ينبغي له أن يلغي كل مبرِّر لمزيد من "القوانين العقابية".

ولو سلَّمْنا بأنَّ "نفس الصحافي" أمَّارة بالسوء فإنَّ "نفس المؤسَّسة" التي يعمل فيها أمَّارة بما يقيها شرور "نفس الصحافي". وكثيرا ما رأيْنا "المؤسَّسة الصحافية" أقل ليبرالية من الحكومة ذاتها، وترى من "المَخاطِر" في "المقالة"، و"الخبر"، و"التقرير"، ما لا تراه الحكومة ذاتها، وكأننا نطلب مزيدا من "حرِّية التعبير" حيث لم تَحِن بَعْد ساعة ولادة الصحافة والصحافيين!

"حرِّية التعبير" لم نمارِس منها بَعْد إلا ما يُشَدِّد الحاجة إلى جعلها حقيقة واقعة. ولم نملك بَعْد من مقوِّماتها، أي من الحرِّيات المؤسِّسة والمتمِّمة لها، ما يسمح بإنشاء وتكوين وتطوير آراء جديرة بالتعبير. ثمَّ أنَّ الغاية العظمى الكامنة في "حرِّية التعبير"، ألا وهي "حرِّية التغيير"، ما زالت في "كمون"، بينه وبين "الظهور" من الأسوار ما يُقَزِّم سور الصين العظيم!