المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مواقف وكلمات جريئة لبديع الزمان سعيد النورسي



حازم ناظم فاضل
21/05/2010, 09:56 AM
نشأ الاستاذ النورسي في مجتمع كان أهله يتباهون بالشجاعة ويحبون المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام. فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة. وكان الاستاذ النورسي كذلك يحمل حالة روحية تتسم بالفخر والاعتـزاز، يوم كان في العاشـرة من عمره، بل حتى أحياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكان يتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبته. فكان يقول لنفسه : ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير؟ فكان حائراً وجاهلاً بالجواب.
وعرف بعد فترة باخطار حقيقي : ان أولئك النورسيين، يتباهون لأن قريتهم نورس ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور. حتى ان الذين لم يسـمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ. فهؤلاء النورسيون يظهرون شكرانهم - بحس مسبق - لتلك النعمة الإلهية على صورة زهو وتباهٍ (1).
ونذكر هنا مواقف وكلمات جريئة للأستاذ النورسي والتي مرت في مراحل حياته :

(1)الرجولة المبكرة :
كانت بداية تحصيل العلم سنة 1885م ( 1303 هـ) بتعلّم القرآن الكريم حيث ساقته حالته الروحية إلى مراقبة ما يستفيضه أخوه الكبير عبدالله من العلوم فأعجب بمزاياه الراقية وتكامل خصاله الرفيعة بتحصيله العلوم، وشاهد كيف انه بزّ أقرانه في القرية وهم لا يستطيعون القراءة والكتابة. فدفعه هذا الإعجاب إلى شوق عظيم جاد لتلقي العلم؛ لذا شدّ الرحال إلى طلبه في القرى المجاورة لـنورس حتى حطها في قرية تاغ عند مدرسة الملا محمد أمين أفندي إلاّ أنه لم يتحمل المكوث فيها، فتركها. فعاد إلى قريته نورس وهي المحرومة من كتّاب او مدرسة لتلقي العلم، واكتفى بما يدرّسه له أخوه الكبير الملا عبدالله في أثناء زيارته الأسبوعية للعائلة. وبعد مدة قصيرة ذهب إلى قرية برمس ومن بعدها إلى مراعي شيخان -أي شيخ تاغي - ثم إلى قرية نورشين وبعدها إلى قرية خيزان ولرفضه التحكم به تشاجر في قرية برمس مع أربعة من الطلاب، حيث اتفق هؤلاء الأربعة على مشاكسته باستمرار مما دفعه إلى المثول بين يدي الشيخ سيد نور محمد شاكياً إليه هؤلاء الأربعة قائلاً باعتزاز:
- أيها الشيخ المحترم! أرجو أن تقول لهؤلاء ألاّ يأتوا للشجار معي جميعاً فليأتوا مثنى مثنى!
انشرح الشيخ سيد نور محمد من هذه الرجولة المبكرة في سعيد الصغير وقال ملاطفاً:
- أنت تلميذي، لن يتعرض لك أحد.
وبعد هذه الحادثة أُطلق عليه تلميذ الشيخ فظل في هذه المدرسة مدة، ثم تركها ذاهباً مع أخيه الملا عبد الله إلى قرية نورشين (2).

(2) اقتلوني... ولكن حافظوا على شرف العلم ومكانته

عندما بلغ الاستاذ النورسي الخامسة عشرة من عمره ذاع صيته في مدينة سعرد واشتهر بين الناس بـ ( سعيدى مشهور) أي: سعيد المشهور ، حيث أعلن في سعرد انه مستعد للإجابة عن أي سؤال كان يرد منهم دون ان يسأل احداً سؤالاً ، مما أثار فضول علمائها، فأقبلوا عليه يمتحنونه ويحاولون إحراجه بأسئلتهم وذلك في اجتماع واسع حضره الملا فتح الله ايضاً وكان الاستاذ النورسي كلما يوجّه إليه سؤال يـمعن النظر في وجه أستاذه الملا فتح الله ويجيب وكأنه ينظر إلى كتاب ويقرأ، فالعلماء الذين شاهدوا هذا المنظر حكموا بأنه شاب خارق وأثنوا على ذكائه وعلمه ومنـزلته.
وما لبث خبر هذا الشاب ان شاع وانتشر بين الاهلين في سعرد حتى بدأ الناس يوقرونه كتوقيرهم لولي من الصالحين، مما أثار الحسد عند بعض العلماء وطلاب العلوم الآخرين. ولما كانوا غير قادرين على منازلته والتغلب عليه في ساحة المعرفة وميدان العلوم حاول بعض الشباب إيذاءه بالقوة والصراع والعراك. فطرق سمع أهالي سعرد هذا الخبر فحالوا دون ذلك وأنقذوه من بين ايديهم، ووضعوه في غرفة حفاظاً عليه، ولكنـه لفرط حبه لأهل العلم، اندفع من الغرفة خارجاً وقرر ان يدافع عن معارضيه من طلاب العلوم حتى لو قضوا عليه، وذلك لئلا يكونوا هدفاً للجهلاء. فتوجّه إلى أحد الطلاب قائلاً:
- اقتلوني... ولكن حافظوا على شرف العلم ومكانته.
وانصرف دون ان يهاجمه أحد من الطلبة... وهكذا زال الخلاف.
ولكن عندما سمع متصرف مدينة سعرد الخبر أرسل إلى الملا سعيد ثلة من الجندرمة ليبلغوه أنه أمر بنفي المعارضين له حفاظاً عليه وأنه يستدعيه لمقابلته. ولكن الاستاذ النورسي خاطب رئيس الجندرمة:
- نحن طلاب العلم، قد نتخاصم، ثم نتصالح ونتصافى فيما بيننا. فلا نرى من المناسب ان يتدخل من ليس من مسلكنا فيما يدور بيننا.على ان الخطأ قد صدر مني فأرجو إبلاغ المتصرف اعتذاري عن المجئ (3).

(3)دفع الظلم:
في إحدى الليالي رأى الاستاذ النورسي في المـنام الشيخ عبد القادر الگيلاني (قدس سره) وهو يخاطبه:
- ملا سعيد! اذهب إلى رئيس عشيرة ميران مصطفى پاشا وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف.. واقتله إن لم يستجب.
بادر الملا سعيد إلى الذهاب إلى عشيرة ميران قاصداً خيمة مصطفى پاشا، ولكن لم يجده فجلس ليأخذ قسطاً من الراحة. وما أن دخل مصطفى پاشا الخيمة حتى هبّ الحاضرون قياماً، احتراماً له، سوى الملا سعيد لم يحرك ساكناً. لمح الپاشا ذلك فسأل أحد أمراء العشيرة فتاح آغا عن هذا الشاب فأعلمه انه ملا سعيد المشهور وحاول الپاشا كظم غيظه، وهو الذي ما كان ينشرح للعلماء، وسأل الملا سعيد:
- لِمَ أتيت إلى هنا؟
- جئت لإرشادك إلى الحق، فإما أن تتخلّ عن الظلم وتقيم الصلاة، او أقتلك!
لم يتحمل الپاشا هذا الكلام فاندفع خارج الخيمة، وتجول قليلاً ثم عاد إليها وكرر السؤال نفسه.
فأجابه الملا سعيد: لقد قلت لك ... جئت من اجل ما ذكرت!
أشار الپاشا إلى السيف المعلق بعماد الخيمة وقال بسخرية:
- أبهذا السيف الصدئ تقتلني!؟
- اليد هي التي تقطع لا السيف!
مرة أخرى ترك الپاشا الخيمة وهو يفور غضباً. ثم دخلها مخاطباً الملا سعيد:
- إن لي جمعاً غفيراً من العلماء في منطقة الجزيرة (جزيرة ابن عمر) وسأعقد مناظرة علمية فيما بينكم. فإن أقمت الحجة عليهم وألزمتهم، انفّذ طلبك وإلاّ فسألقيك في النهر.
قال الملا سعيد: - كما انه ليس من شأني إلزام جميع العلماء ، فليس باستطاعتك إن تلقيني في النهر. ولكن إن تفوقت عليهم اطلب منك بندقية ماوزر لأقتلك بـها ان لم تحافظ على وعدك.
عقب هذه المشادة العنيفة ذهبا معاً على الخيول إلى الجزيرة، ولم يتكلم الپاشا مع ملا سعيد طول الطريق. ولما وصلا إلى أحراش باني خاني أخلد الملا سعيد إلى النوم بعد أن أصابه الإرهاق. ولما أفاق وجد علماء الجزيرة ومعهم كتبهم ينتظرون ساعة المناظرة.
انعقد المجلس... وبعد تبادل السلام دارت أقداح الشاى على الحاضرين ولكن العلماء كانوا في شغل شاغل عن الشاي، إذ كانوا يقلبون صفحات الكتب، مأخوذين بشـهرة الملا سعيد ومنتظرين اسئلته، بينما لم يحفل الملا سعيد بالأمر، ولم يكتف بشرب شايه، بل بدأ بارتشاف الشاي الموضوع أمام إثنين أو أكثر ممن حوله من العلماء المشغولين بالنظر في الكتب .
وعندها خاطب مصطفى پاشا العلماء وهو يراقب مجرى الأمور:
- على الرغم من أنني لست متعلماً فإنني أرى أنكم ستُغلبون أمام الملا سعيد في مناظرتكم، لأني لاحظت ان إنكبابكم على الكتب ألهاكم عن شرب الشاي، بينما شرب الملا سعيد شايه ثم عدداً من أقداح غيره.
بدأ الملا سعيد بالملاطفة وشئ من المزاح مع العلماء ثم قال:
- أيها السادة! لقد عاهدت ألاّ اسأل أحداً، وها أنا منتظر أسئلتكم.
فاطمأن العلماء! وبدأوا بطرح ما يقارب الأربعين سؤالاً. وأجاب الملا سعيد عن الأسئلة كلها إجابات صائبة، سوى سؤال واحد أخطأ في جوابه، دون أن ينتبه إليه العلماء، حيث صدرت من الجميع علامات التصديق.
وبعد أن انفضّ المجلس، تبعهم الملا سعيد قائلاً:
- أرجو المعذرة.. لقد سهوت في جواب السؤال الفلاني ولم تفطنوا إليه. والجواب الصحيح هو كذا وكذا...
فقالوا: حقاً إنك قد ألزمتنا الحجة، فإننا معترفون بذلك!
ثم باشر قسم من هؤلاء العلماء يجلسون منه مجلس الطالب لينهلوا من فيض علمه. أما مصطفى پاشا فقد وفى بوعده وأهدى إلى الملا سعيد بندقية ماوزر وبدأ بإقامة الصلاة.
وبعد ان ظل مدة في الجزيرة توجه مع أحد طلابه الملا صالح إلى (بيرو) وهي منطقة بدو العرب. ومكث فيها مدة حتى طرق سمعه ان مصطفى پاشـا قد عاد إلى عادته القديمة في ظلم الناس. فذهب إليه وأبدى له النصائح مدة ثم هدده قائلاً:
- أوَ بدأت بالظلم مرة أخرى؟ سأقتلك باسم الحق.
ولكن كاتب الپاشا تدخل في الأمر وهدّأ الموقف، بينما الملا سعيد استمر في تعنيفه الپاشا وتوبيخه لكثرة مظالمه، فلم يتحمل الپاشا هذه الإهانات وهمّ بقتله فحال شيوخ عشيرة ميران دون ذلك. ثم تقرّب نجل الپاشا عبد الكريم من الملا سعيد ورجاه قائلا:
- لا تكترث بصنيع أبي انه لا يسمع كلاماً من أحد.. عقيدته فاسدة.. أرجوك رجاء خالصاً أن تتشـرف إلى مكان آخر.. فمال الملا سعيد إلى كلام عبد الكريم ورجائه، وغادر المكان متوغلاً في صحراء بيرو واذا به يصادف الأشقياء المسلحين بالحراب والخناجر، ولما كان الملا سعيد يحمل بندقية أطلق عليهم عدة عيارات نارية، فانصرفوا. واستمر في سيـره الاّ انه بعد مدة رأى نفسه محاصراً بين عدد من قطاع الطرق، وعندما همّوا بقتله لمحه أحدهم وقال:
- إنه شخص مشهور شاهدته في عشيرة ميران.
وما أن سمعوا هذا الكلام حتى أخلوا سبيله معتذرين منه، بل أرادوا مرافقته لئلا يصيبه أذى في تلك الأماكن الخطرة. فردّ الملا سعيد طلبهم واستمر في طريقه وحده (4).

(4)ما ضرّ إن مت في سبيل دفع منكر واحد :

طرق سمعه يوماً في بتليس ان الوالي وعدداً من الموظفين يشربون الخمر فثارت ثائرته وقال: لن يرتكب هذا الفعل شخص يمثل الحكومة في مدينة مسلمة مثل بتليس! فذهب فوراً إلى مجلس الخمر، ووعظهم موعظة بليغة اولاً واستهلها بحديث شريف حول الخمر، ثم اخذ ينهال عليهم بكلام جارح، وكانت يده على مسدسه يتوقع إشارة من الوالي للتعدي عليه. إلاّ ان الوالي كان حليماً صبوراً لم ينبس ببنت شفة.
وعندما انصرف الملا سعيد من المجلس قال له مرافق الوالي:
- ماذا فعلتم إن كلامكم هذا يوجب الإعدام.
- لم يرد على خاطري الإعدام، بل كنت أحسب العقاب سجناً او نفياً.. وعلى كل حال.. ما ضرّ إن مت في سبيل دفع منكر واحد!
وبعد ما يقرب من ساعتين من عودته من المجلس ، أرسل إليه الوالي شرطيين لاستدعائه.. فدخل عليه واستقبله الوالي بإعظام وإجلال، وهمّ بتقبيل يده، وقال:لكل أحد أستاذ قدوة، فأنت أستاذي القدوة(5) .

(5) لن تعيشوا بعد قتلي :

* إنكم ترون أن لنا خلافاً ومعارضة كلية معكم، ومعاملاتكم القاسية شاهدة على ذلك. فانتم تضحون بدينكم وآخرتكم في سبيل دنياكم. ونحن بدورنا مستعدون على الدوام للتضحية بدنيانا في سبيل ديننا، وفي سبيل آخرتنا، وهذا هو سر المعارضة التي بيننا حسب ظنكم.
ولا جرم أن التضحية ببضع سنين من حياتنا التي تمضي في ذل وهوان في ظل حُكمكم القاسي قساوة الوحوش لنكسب بها شهادة خالصة في سبيل الله، تعدّ ماء كوثر لنا. ولكن إستناداً إلى فيض القرآن الحكيم وإشاراته، أخبركم يقيناً بالآتي لترتعد فرائصكم:
إنكم لن تعيشوا بعد قتلي، فان يداً قاهرة ستأخذكم من دنياكم هذه التي هي جنتكم وانتم مغرمون بها، وتطردكم عنها، وتقذف بكم فوراً إلى ظلمات أبدية، وسيقتل بعدي رؤساءكم الذين تَنمرَدوا وطغوا قِتلة الدواب، ويُرسَلون إليّ، وسأمسك بخناقهم أمام الحضرة الإلهية، وسآخذ حقي منهم بإلقاء العدالة الإلهية إياهم في أسفل سافلين.
أيها الشقاة الذين باعوا دينهم وآخرتهم بحطام الدنيا!
إن كنتم تريدون أن تعيشوا حقاً فلا تتعرضوا لي ولا تمسّوني بسوء، وان تعرضتم فاعلموا أن ثأري سيؤخذ منكم أضعافاً مضاعفة.
إعلموا هذا جيداً ولترتعد فرائصكم!
وإني آمل من رحمة الله سبحانه أن موتي سيخدم الدين أكثر من حياتي، وان وفاتي ستنفلق على رؤوسكم إنفلاق القنبلة، وستشتت رؤوسكم وتبعثرها.
فان كانت لكم جرأة، فتعرضوا لي، فلئن كان لكم ما تفعلونه بي، فلتَعلمُنّ أن لكم ما تنتظرونه وتلاقونه من عقاب (6) .

(6) المصائب عناية الهية:

* ايها الشقاة!
يا من تضيّقون عليّ الخناق! اعملوا ما شئتم واقضوا ما انتم قاضون، فلا أهمية لعملكم، كل المصائب التي تنزل بنا هينة تافهة، بل انها عناية إلهية محضة ورحمتها بعينها (7).

(7) حواره مع وزير الأمن شفيق باشا:

وزير الأمن: السلطان( المقصود : السلطان عبدالحميد الثاني ) يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتّب شهري لك بملبغ ألف قرش وقال انه سيرتفع إلى ثلاثين ليرة.
فقلت جواباً: أنا لست متسول مرتّب وان بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا الاّ من اجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم ان ما تحاولون تقديمه لي ليس الاّ أتاوة للسكوت!
الوزير: أنت تردّ إرادة السلطان، وهذه الإرادة لا تردّ.
قلت جواباً: إنني أردّها لكي يتكدر السلطان ويستدعيني، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده.
الوزير: ستكون العاقبة وخيمة.
الجواب: لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فان البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وان نفذ إعدامي فسأرقد في قلب الأمة. علماً بانني عندما حضرت إلى استانبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه أبناء أمتي وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جني مرتب. ثم ان الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة الاّ بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها الاّ عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون الاّ عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتب.
شفيق پاشا: ان اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في كردستان هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء.
بديع الزمان: إذن فلماذا أُجّل بحث المعارف واستُعجل في المرتّب؟ وعلى أي أساس تم هذا؟ لماذا تفضلون المنافع الشخصية على المنافع العامة ؟ (8).

(8) فلتعش جهنم للظالمين :

يقول المؤرخ التركي اسماعيل دانشمند :
نشب عصيان بين أفراد الطابور العسكري الذي كان قد اُرسل من قبل الإتحاديين من مدينة سلانيك الى استانبول لحماية المشروطية. فقد ثار الجنود وحبسوا ضباطهم في الثكنة واجتمعوا في منتصف ليلة 31 مارت 1325 رومي ( الموافق 22ربيع الأول 1327هـ) في ميدان (السلطان احمد) حيث انضم إليهم بعض الجنود من المعسكرات الأخرى معلنين عصياناً دام أحد عشر يوماً، راح ضحيته بعض الأشخاص.. وساد جو من الهرج والمرج واطلاق الرصاص عبثاً، وكان الجنود يهتفون: نريد الشريعة.. نريد الشريعة.. انتهت هذه الحادثة بوصول جيش الحركة الذي وجّهه الإتحاديون من سلانيك ، بقيادة "محمود شوكت باشا" لقمع العصيان واعادة سلطة الإتحاديين فوصل استانبول في 23 نيسان. فسيطر على الوضع. كما أعلنت الأحكام العرفية وشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن هذه الحادثة. وعزل السلطان عبدالحميد في 27 نيسان 1909 الموافق ليوم 6ربيع الآخر1327 الساعة 32-1 زوالية رغم ان الحاميات الموجودة في استانبول وخاصة حامية قصر يلدز كانت أقوى بكثير من جيش الحركة إلا أن السلطان رفض بشدة طلب قواده تشتيت هذا الجيش لئلا تراق الدماء من أجله (9).
وسيق الأستاذ الى المحكمة العسكرية العرفية ، ومما قاله في المحكمة :
( إنني طالب شريعة، لذا ازن كل شئ بميزان الشريعة. فالإسلام وحده هو ملتي، لذا اُقيّم كل شئ وانظر إليه بمنظار الإسلام.
وإنني إذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تدعونه السجن منتظراً في محطة الإعدام، القطار الذي يقلني إلى الآخرة اشجب وانقد ما يجري في المجتمع البشري من أحوال ظالمة غدارة. فخطابي ليس موجهاً إليكم وحدكم وانما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر. فلقد انبعثت الحقائق من قبـر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة: (يوم تبلى السرائر) (الطارق: 9) فمن كان اجنبياً غير محرَم فلا ينظر إليها. إنني متهئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة، ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق (حيث يشاهد جثث خمسة عشر من المشنوقين عبر النافذة) . تصوروا مبلغ اشتياقي إليها بهذا المثال:
قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب استانبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق إليها؟ ..فأنا الآن مثل ذلك القروي مشتاق إلى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.
لذا فان إبعادي ونفيي إلى هناك لا يُعدّ عقاباً لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وإيقاع العقاب عليّ فعذّبوني وجداناً، فدونه ليس عذاباً ولا عقاباً بل فخراً وشرفاً. لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الإستبداد. الاّ انها الآن تعادي الحياة بأكملها. فان كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق؛ فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين. لقد كنت آمل ان يهئ لي موضع لأبيّن فيه أفكاري. وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.
في الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري:
وأنت ايضاً قد طالبت بالشريعة!
قلت: لو كان لي ألف روح، لكنت مستعداً لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. اقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون (10)..
وعندما كان يُنتظر صدور حكم الإعدام من تلك المحكمة الرهيبة حكمت ببراءة الاستاذ النورسي - علماً أنها علقت الكثيرين على أعواد المشانق - ولكن الاستاذ النورسي بدلاً من أن يشكر المحكمة على قرارها سار من منطقة بايزيد - حيث المحكمة - إلى منطقة السلطان أحمد ويعقبه جمّ غفير من الناس، ويهتفون :
فلتعش جهنم للظالمين .. ولتعش جهنم للظالمين (11).

(9) ابصقوا في وجوه الظلمة التافهة :

* حينما احتل الإنكليز استانبول، ودمرّوا المدافع في المضيق (في استانبول) سأل في تلك الأيام رئيس أساقفة الكنيسة الانكليكية من المشيخة الإسلامية ستة أسئلة، وكنت حينئذٍ عضواً في دار الحكمة الإسلامية فقالوا لي:اجب عن أسئلتهم بستمائة كلمة كما يريدون.
قلت: ان جواب هذه الأسئلة ليس ستمائة كلمة ولا ست كلمات ولا كلمة واحدة، بل بصقة واحدة.
لانه عندما داست تلك الدولة بأقدامها مضايقنا وأخذت بخناقنا كما ترون، ينبغي البصاق في وجه رئيس أساقفتهم ازاء أسئلته التي سألها بكل غرور.
ولهذا قلت: ابصقوا في وجوه الظلمة التافهة (12) .
وكان الاستاذ النورسي يقصد أنه لا يجيب أسئلة المكر والدس والشماتة، لكنه مستعد لأن يضع الجواب لمن ينشد الحق.

(10) الذي لا يصلي خائن :

تاريخ 19/1/1923 وجه الأستاذ النورسي بياناً الى مجلس الأمة التركي ، تضمن عشر مواد بين فيه أهمية الصلاة ، لأنه لاحظ بأسف بالغ أن معظم نواب مجلس الأمة آنذاك لا يؤدون الصلاة . واستهل الأستاذ النورسي بيانه بـ : (يا أيها المبعوثون .. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم ) .ومما قاله :
" إن الأمة الإسلامية مع أن قسما منهم لا يؤدون الصلاة الا أنهم يتطلعون أن يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة ، بل أن أول ما يبادر أهل الولايات الشرقية مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم ، فأن كانوا مقيمين لها ، فبها ونعمت ويثقون بهم ، والا فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته " (13) .
ويذكر الأستاذ النورسي حادثة شاهدها بأم عينه ليبين للنواب أهمية إقامة الصلاة ، فيقول :
" ولقد حدث في حينه اضطرابات في عشائر (بيت الشباب) فذهبت لا ستقصي أسبابها ، فقالوا : ان مسؤولنا القائمقام لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر ، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين .. هذا علماً إن الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة بل كانوا قطاع طرق ! " (14).
أثر بيان الأستاذ النورسي هذا فيهم ، فأقبل ما يقارب ستين نائبا من النواب الى أداء الصلاة حتى أن مسجد بناية مجلس الأمة لم يكن كافيا للمصلين فانتقلوا الى غرفة مجاورة أكبر منه .
و ما أن رأى رئيس الدولة هذا المشهد حتى أمتعض ، ولم يرضَ عن هذا البيان – وهو الذي كرر دعوة الأستاذ النورسي الى أنقرة مراراً لاستشهاره بعدائه للمحتلين الانكليز ولكون (أنقرة ) مركز حركة المقاومة – فأستدعى الاستاذ النورسي وجرت بينهما مشادة عنيفة ، وكان مما قاله رئيس الدولة :
" لا ريب اننا بحاجة الى أستاذ قدير مثلك ، لقد دعوناك الى هنا للاستفادة من ارائك المهمة ، ولكن أول عمل قمت به لنا هو الحديث عن الصلاة ، لقد كان أول جهودك هنا هو بث الفرقة بين أهل هذا المجلس " . فأجابه الاستاذ النورسي مشيراً اليه بأصبعه في حدة :
باشا .. باشا .. أن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة ، وأن الذي لا يصلي خائن ، وحكم الخائن مردود (15) .
فاضطر الباشا إلى كظم غيظه وإلى إعطاء بعض الترضية له (16) .
" وانها لكرامة ساطعة لرسائل النور وقوة عظيمة خارقة لشخصها المعنوي ولطلابها الروّاد والابطال في المستقبل ان يخشى منها قواد جبابرة كما كانوا يخشون من سعيد القديم." (17) .

(11) الموت .. أكبر وأهم مسألة إنسانية :

* اننا أيها السادة على يقين تام لا يتزعزع بان الموت بالنسبة لنا - بسر القرآن الكريم - ليس اعداماً ابدياً بل تذكرة تسريح.. بينما يعد هذا الموت بالنسبة لمعارضينا وبالنسبة للسائرين في درب الضلالة موتاً اكيداً واعداماً ابدياً (ان لم يكن يؤمن بالآخرة ايماناً لا شبهة فيه).. او ان هذا الموت يعد بالنسبة إليه سجناً انفرادياً ابدياً ومظلماً (ان كان يؤمن بالآخرة ولكنه منغمس في حياة السفاهة والضلالة).
إنني أسألكم: أتوجد في هذه الدنيا مسألة اكبر من مسألة الموت؟.. أهناك مسألة إنسانية أهم واكبر من هذه المسألة؟ فكيف إذن يمكن ان تستغل هذه المسألة من اجل شئ آخر؟.. ومادام من المستحيل ان يكون هناك شئ آخر أهم من هذه المسألة، إذن فلِمَ انتم منشغلون بنا هكذا؟
إننا لا ننظر إلى اشد عقوبتكم واقصاها الا انها تسريح وتذكرة سفر إلى عالم النور، لذا فإننا ننتظرها بثبات كامل.. ولكننا نعلم علم اليقين ان الذين وقفوا ضدنا واصدروا الأحكام ضدنا سيلقون عن قريب عقابهم بالإعدام الأبدي وبالسجن الإنفرادي، ذلك العقاب المرعب.. إننا موقنون من ذلك وكأننا نشاهدهم في عذابهم هذا كما نشاهدكم انتم في هذا المجلس.. إننا نشاهدهم هكذا ونتألم كثيراً من الناحية الإنسانية من أجلهم. وأنا على أتم استعداد لإثبات هذه الحقيقة المهمة والبرهنة عليها وإفحام اكبر المنكرين لها وإلزام اشد المتمردين عليها.. وأنا على اتم استعداد لقبول أي عقاب كان ان لم أقم بهذا الإثبات أوضح من الشمس في رابعة النهار وأمام اكبر علمائكم وفلاسفتكم وليس فقط أمام المختصين من هذه اللجنة الذين لا يملكون أي نصيب من العلم ومن الاختصاص، انهم مشبعون بالحقد ولا علم لهم بالمعنويات ولا يهتمون بها (18) .

(12) سجية تحير العقول :

هذا المقال نشر في مجلة "اهل السنة" الصادرة باستانبول في 15 تشرين الاول 1948 (19).
يروي أحد الشهود هذه الحادثة قائلاً:
عندما جُرحت واُسـرتُ في موضع بتليس في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان ايضاً في اليوم نفسه أسيراً. فاُرسل إلى اكبر معسكر للأسرى في سيبريا، واُرسلتُ إلى جزيرة نانكون التابعة لباكو.
ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولافيج المعسكر المذكور للتفتيش - يقوم له الأسرى احتراماً - وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكناً ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به ايضاً. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:
- أما عرفني؟
- نعم أعرفه انه نيقولا نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.
- فِلمَ إذن قَصَد الإهانة؟
- كلا! معذرة. إنني لم استهن به. وانما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمر العقيدة؟
- إنني عالم مسلم احمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله. فلو أنني قد قمت له احتراماً لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.
- إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فليشكّل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.
وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ انه أجابـهم بالآتي: إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسـول الكريم (صلى الله عليه وسلم) . فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة. ولا أستطيع ان اعمل بما يخالف إيماني...
وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.
وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأودي واجبي.
فيقوم إلى الوضوء وأثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولا نيقولافيج ويخاطبه:
- أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير واعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. واكرر رجائي مراراً: أرجو المعذرة.
ان هذه العزة الدينية،وهذه السجية الرفيعة التي هي قدوة حسنة للمسلمين جميعاً أخبرني عنها أحد أصحابه في معسكر الأسر، وهو برتبة نقيب، وكان شاهد عيان للحادثة.
وأنا ما ان عرفت هذا حتى اغرورقت عيناي بالدموع دون اختيار مني... ( المحامي عبدالرحيم زابصو)

وبعد ان اعلن هذه الحادثة في مجلة "اهل السنة" زيّد من توجه الناس واقبالهم الى الاستاذ النورسي ، فوجه رسالة الى طلابه :
ان اعلان الحادثة التي وقعت اثناء أسري في روسيا في الجريدة، قد زيّد من توجه الناس واقبالهم رغم شدة المنع والسعي لتجنيب الناس عنّا. وقد قال رئيس الحراس: ان ثلاثة اشخاص رسميين قد قالوا أمس في فناء السجن وهم من المؤيدين لإنزال الاهانات بنا ولاسيما بي: عندما يظهر سعيد من النافذة يتجمع الناس وينظرون اليه. فعليه الاّ يقف امام النافذة، والاّ بدّلوا ردهته الى اخرى.
اخوتى! لا تهتموا! فلقد قررت أن أتحمل المضايقات مهما كانت. وستتبدل - ان شاء الله - الى افراح ومسرات ببركة دعواتكم.
ان اصل تلك الحادثة صحيح. ولكن لم افصّل في بيانها لعدم وجود شاهد لي في الحادثة. الاّ انني لم اكن اعلم ان مفرزة من الجنود قد أتوا لإعدامي، وعلمت ذلك بعدئذٍ. ولم اعرف ايضاً ما قاله القائد الروسي من كلام لإرضائي. فالنقيب المسلم الذي كان حاضراً في أثناء الحادثة والذي أخبر "الجريدة" بها، قد فهم إذن ما قاله القائد الروسي مكرراً :"معذرة" (20).
ان قائداً جباراً للروس قد تخلّى عن حدته وهدّأ غضبه ازاء ما ابديته من عزة الايمان، فاعتذر. ولكن الموظفين الرسميين الذين يرون صلابة الايمان لدروس رسائل النور القوية الخالصة والتي تفوق مائة درجة على الصلابة التي ابداها شخصي، اقول: إن لم تلن قلوبهم، واصروا على عنادهم، فلا يطهرهم اذاً الاّ نار جهنم. لأن هذا العمر القصير المحدود لا يسعه هذا الجرم العظيم. حيث ان الدهن لا يمكن اكله اذا فسد، بخلاف اللبن والحليب، نسأله تعالى ان تكون رسائل النور قد انقذت الكثيرين منهم قبل أن يفسدوا (21).

(13)وقوفه تجاه الحرب النفسية للانكليز :
* بينما كانت رحى الحرب دائرة في معارك ضارية وتسيل دماء الالوف من المسلمين رخيصة في سبيل الدفاع عن مركز الخلافة "استانبول"، بدأ الحلفاء ولا سيما الانكليز بشن حرب نفسية واشاعة افكار مضللة تمس عقيدة الأمة، فانبثّ اعوانهم وجواسيسهم في ارجاء استانبول يلقون بألسنتهم تلك الشبهات المغرضة وينشرونها في اوساط العامة والخاصة، ضمن حرب هادفة تحطم الروح المعنوية للمسلمين.
ولما شاهد الاستاذ النورسي سَرَيان هذه الافكار المسمومة في هذه الحرب الماكرة التي استطاعت استمالة قسم من العلماء الى صف الانكليز قام بتأليف رسالة "الخطوات الست" مبيناً فيها مكايد الغزاة المحتلين، داحضاً شبهاتهم ووساوسهم الشيطانية، مُبعداً عن المسلمين مشاعر اليأس والقنوط. حرك به همة مواطنيه، ووضع تصوره لرفع المهانة وإزالة عوامل القنوط . ست خطوات يتبعها أولياء الشيطان الغزاة للقضاء على العالم الإسلامي:
(1) اقبلوا الهزيمة، لأنها قضاء الله العادل عليكم بما ظلمتم.
(2) لقد تحالفتم من قبل مع الألمان، فلم ترفضون التحالف مع أمثالهم؟
(3) أنتم متخلفون بالطبع المتأصل، فاتركونا ننهض بكم ونعلمكم وندير شؤونكم.
(4) من يقاومنا مغرض منافق يسعى لمصلحته، ويلعب بالدين لأغراض سياسية، فلا تطيعوه ولا تثقوا به.
(5) إن ولاة أموركم يؤيدوننا، فعليكم بطاعتهم في ذلك.
(6) مقاومتكم لا فائدة فيها ولا جدوى منها، إنكم تلقون أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، فاتركونا نركب ظهوركم.
وطبعت رسالة "الخطوات الست" سراً، ونشرت وهي لا تحمل اسم المطبعة ولا سَنَة الطبع، وقام محبو الاستاذ وتلاميذه بنشرها في اوسع نطاق في خفاء تام.
ولنلق الآن نظرة سريعة على تلك الاحوال التي واكبت تأليف الرسالة ونشرها ومدى تأثيرها:
"في13 تشرين الثاني سنة 1919م دخلت خمس وخمسون سفينة حربية من اساطيل الحلفاء استانبول، حسب هدنة "موندروس". وصلت هذه السفن الى البسفور أمام قصر "دولمة باغجة" ووجهت مدافعها نحو قصر الخليفة "السلطان وحيدالدين" الذي اصبح في حكم الأسير.
هكذا داست اقدام جنود اربع دول محتلة، استانبول. وخرجت الأقليات غير المسلمة ترحب بجنود الاحتلال وتصفق لهم، فاليهود والارمن بدأوا يجوبون الشوارع ويلوّحون بقبعاتهم لهؤلاء المحتلين وينثرون عليهم الورود. اما الروم فقد كانوا يحملون اعلام اليونان الصغيرة ويهتفون:( زيتو . زيتو ). أي يعيش. يعيش.
وبين مظاهر فرح اليهود والارمن والروم وهتافاتهم وتصفيقاتهم إخترق القائد الفرنسي الجنرال فرانس دوبر شارع "بك اوغلو" متوجهاً الى السفارة الفرنسية ممتطياً جواداً ابيض، وملوحاً بيديه لهؤلاء المستقبلين، مقلداً في ذلك الفاتحين العظماء في التاريخ. بل لم يتورع من وطء العَلَم العثماني بحوافر جواده. أما المسلمون فقد كانوا يشاهدون هذه المناظر بقلوب جُرحت وعيون تجمدتْ في مآقيها الدموع، ويطوون هذه الآلام في اعماق قلوبهم. ولم تكن استانبول هي المدينة الوحيدة التي احتلتها دول الحلفاء. بل تم احتلال مدن اخرى كثيرة، احتلها الارمن والايطاليون والانكليز واليونان والروس حيث سرّح الجيش العثماني من الخدمة بموجب تلك المعاهدة المذكورة ولم يبق إلاّ الاناضول(وسط تركيا) سالماً من الاحتلال. وهكذا امتلأت شوارع هذه المدن بجنود سكارى يعربدون ويصخبون ويفسدون كيفما شاؤوا. ويخيم على الاحياء الاسلامية حزن صامت.
في هذا الجو القاتم كان الاستاذ النورسي يشعر بألم عميق، وكان اصدقاؤه يحاولون التسرية عنه والتخفيف من شدة آلامه. وهو يقول لهم والأسى يعصر قلبه:
"لقد تحملت آلامي الشخصية كلها. ولكن آلام الامة الاسلامية سحقتني، انني اشعر بأن الطعنات التي وجهت الى العالم الاسلامي، انها توجه الى قلبي اولاً. ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد. ولكني ارى نوراً سَيُنسينا هذه الآلام ان شاء الله".
ومع ان الجانب العسكري والمادي للدولة العثمانية قد انهدّ امام الحلفاء، إلاّ ان الحرب النفسية ما زالت دائرة، فالانكليز ما فتئوا يزاولون بث الافكار والشبهات كي يكون النصر ساحقاً وكاملاً ونهائياً من دون ان يكون هناك احتمال للمقاومة، فيجب أن تسلم الضحيةُ رقبتَها برضاها الى جلاديها دون تذمر(22).
وما ان دخل القائد الانكليزى استانبول حتى سُلّمت له رسالة "خطوات ستة" التي تهاجمهم بعنف وتفنّد اباطيلهم وتشد من عزائم المسلمين.. وعُرض عليه نشاط "بديع الزمان" الدائب في فضح سياسة المحتلين وتأليب الناس عليهم.
قرر القائد الانكليزي اعدام الاستاذ النورسي، ولكن عندما أُعلم أن هذا القرار سيثير غضب الأمة كلها ويزيد سخطها، وسيدفعهم الى القيام باعمال عدائية مهما كلفهم ذلك، تخلّى عن قرار الاعدام، إلاّ ان سلطات الاحتلال لم تفتر عن ملاحقة الاستاذ.
ولما سمع قواد حركة التحرير في الاناضول بتأثير هذه الرسالة في اوساط العامة والخاصة، وعن اعمال "بديع الزمان" ضد المحتلين في استانبول دَعَوه الى "انقرة" مرتين تقديراً لأعماله البطولية وخدماته الجليلة نحو الامة والبلاد. إلاّ ان الاستاذ النورسي آثر البقاء في استانبول يجابه الاعداء مباشرة ورفض الدعوة قائلاً:
"انني اريد ان اجاهد في اكثر الاماكن خطراً، وليس من وراء الخنادق، وارى ان مكاني هذا اخطر من الاناضول".(23) .

(14)لن أحني هذا الرأس أمام الزندقة :

يقول الاستاذ في احدى المحاكم :
* لا تبارزوا رسائل النور المستندة الى القرآن الكريم فانها لا تُغلب. وإلاّ سيكون امر هذه البلاد مؤسفاً اذا ما حاول احد طمس نورها وسوف تذهب الى مكان آخر، وتنور ايضاً.
ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن احني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن اتخلى بحال من الاحوال عن هذه الخدمة الايمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها (24).

(15): لو كان لي ألف نفس لما ترددت في التضحية بها :

* فاني اقول لكم دون خوف او خشية انه لو كان لي الف نفس لما ترددت في التضحية بها في سبيل ايماني وفي سبيل آخرتي واعملوا انتم مابدا لكم، وسيكون آخر كلامي (حسبنا الله ونعم الوكيل).
ولو قمتم باعدامي ظلماً او بسجني مع الاشغال الشاقة فانني سارد عليكم بقولي:
انني وبفضل ما كشفته رسائل النور بصورة قاطعة لن اعدم، بل اسّرح واذهب الى عالم النور والسعادة. اما انتم يا اعداءنا المتسترين والمتخفين الذين تسحقوننا لأجل الضلالة فاقول لكم بانني متهئ لكي اسلم الروح باطمئنان وبراحة قلب. لانني اعلم وارى انه سيحكم عليكم بالاعدام الابدي وبالحبس الانفرادي المؤبد، لذا فان انتقامي منكم سيكون تاماً وكاملاً (25).
* يا اعضاء هيئة الخبراء العديمي الانصاف!
ان كان بمقدوركم انكار ما يأمر به القرآن الكريم الذي هو إمام سماوى مقدس لثلاثمائة مليون في كل عصر، ويضم مناهج سعاداتهم جميعاً، وهو الخزينة المقدسة الحاوية على اسرار الحياتين الدنيوية والاخروية، يأمر في كثير من آياته الكريمة بصراحة تامة بما لا يحتمل التأويل، بالحجاب وقواعد الميراث ويسمح بتعدد الزوجات، ويدعو الى ذكر الله، ويحث على تدريس علوم الدين ونشرها والحفاظ على الشعائر الدينية.. وان كان بمقدوركم إدانة جميع مجتهدي الاسلام والقضاة وشيوخ الاسلام.. وان كان بمقدوركم انكار تقادم الزمان على تلك الرسائل وقرار عدة محاكم لها بالبراءة وقوانين العفو الصادرة بحقها وانكار وجه سريتها وخصوصيتها.. وان كان بمقدوركم رفع حرية الضمير والمعتقد وحرية الفكر من البلاد ومن الحكومات.. وانكار كون مخالفة تلك الرسائل مخالفة فكرية وعلمية فحسب..
اقول ان كان بمقدوركم هذا فاعتبروني مذنباً بتلك الامور. وإلاّ تكونون انتم المذنبون الرهيبون في محكمة العدالة والحق والحقيقة (26).


الهوامش / -

(1)سيرة ذاتية ، بديع الزمان سعيد النورسي ، اعداد وترجمة احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر ، استانبول ، ص: 42
(2)سيرة ذاتية - ص: 44
(3) سيرة ذاتية - ص: 52
(4) سيرة ذاتية - ص: 58
(5) سيرة ذاتية - ص: 59
(6) الشعاعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر،استانبول، ص 486
(7) الملاحق - ملحق أميرداغ ، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر،استانبول، ص 239
(8) سيرة ذاتية ، ص 74-75
(9) تاريخ الدولة العثمانية ، إسماعيل دانشمند ، ج 4/ص 375
(10) ( صيقل الإسلام - المحكمة العسكرية ، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر،استانبول،ص 440
(11) سيرة ذاتية ، ص 108-109
(12) المكتوبات ، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر،استانبول، ص 538
(13) المثنوي العربي النوري ، بديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر،استانبول، ص 197.
(14) المثنوي النوري ص198
(15) بديع الزمان سعيد النورسي ( حياته واثاره ) ، تأليف احسان الصالحي ، دار سوزلر ، استانبول ، ص53 .
(16) الشعاعات ، ص 505
(17) الشعاعات ، ص 487
(18) سيرة ذاتية: 336
(19) الشعاعات ، ص 571
(20) الشعاعات ، ص571
(21) الشعاعات ، ص 574
(22) سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة ، تأليف اورخان محمد علي ، دار سوزلر للنشر .
(23) صيقل الإسلام-الخطوات الست ، بديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق احسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر،استانبول، ص547
(24) الشعاعات ، ص 410
(25) الشعاعات ، ص 426
(26) الشعاعات ، ص 484

محمد إسماعيل السجلماسي
17/06/2011, 08:22 PM
ما هذا يا أ. ناظم ؟!
تأتينا بهذه المواضيع الراقية ثم لا تتمها :)