المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الترجمة: بين الاستعلاء الثقافي والاستلاب الحضاري



معتصم الحارث الضوّي
08/03/2007, 12:51 AM
بقلم : علي درويش
أستراليا

تتقارب الحضارات وتتباعد فيما بينها وتتشابه وتختلف لغاتها في طرائق التعبير وأساليب البيان والإفصاح عن الأفكار والمشاعر والمواقف وغيرها. ولاشك أن الترجمة في جوهرها عملية مقاربة ومقابلة بين طرائق وأساليب لغوية مختلفة قد تتشابه حيناً وتختلف أحياناً أخرى .
وهي كذلك عملية استنساب يخضع للأغراض والغايات والمحدِّدات والمقيدات التي تفرضها عملية المقاربة والتقريب وطبيعة اللغات التي تتفاعل فيما بينها خلال عملية الترجمة لتتولد نصاً جديداً وتتبلور تعبيراً مفيداً في لغة امتطت لغة أخرى واتخذتها وسيلة للابتكار والإبداع وأداةً للاجتهاد.

ومن هنا فإن أنماط الترجمة وأنواعها تختلف باختلاف الغاية من الترجمة وتتراوح من التركيز على فحوى ومضمون النص إلى النواحي الجمالية والفنية فيه. ولكن الغاية الأساسية من الترجمة بلا شك هي إيجاد مقابل دلالي طبيعي في اللغة المترجم إليها. وهذا ما يميز الترجمة عن سواها من النشاطات اللغوية الأخرى كالاقتباس والتلخيص وما سنعرض له لاحقاً في هذا البحث . ومن شروط العمل في الترجمة : معرفة المترجم بلغته الأم وعلمه بدقائقها وظلال معانيها وأساليبها البلاغية والإنشائية ومعرفته باللغة التي ينقل منها وإليها معرفة جيدة وعلمه بأساليبها الإنشائية والبلاغية ومعرفته بأوجه الشبه والاختلاف ومادة النص الذي يقوم بترجمته .

أما ترجمة الشعر فتبقى من أصعب أمور الترجمة ، إذ أنها تبرز بشكل واضح حالة التجاذب والتنازع (state of tension ) بين اللغتين وبين الجمالية والدلالية في النص . وقد كان الأستاذ جورج جدعون المحاضر في الترجمة بكلية الآداب في الجامعة اللبنانية يقول : " الترجمة من الشعر إلى الشعر مَركبٌ صعب " . أما الشاعر الروسي والمترجم الشهير ايفيجيني ايفتوشنكو ( Yevgeny Yevtushenko ) فقد قال ذات مرة في معرض حديثه عن الشعر والترجمة : " الترجمة من الشعر إلى الشعر كالمرأة : إذا كانت جميلة لم تكن مخلصة ، وإذا كانت مخلصة لم تكن جميلة " ( مع الاعتذار بالطبع إلى القارئات الكريمات ) . وعن الموضوع ذاته ، قال الشاعر الفرنسي بيار ليريس (Pierre Leyris) في مقابلة مع صحيفة الهيرالد تربيون انترناشيونال في 4 آذار / مارس 1981 : " ترجمة الشعر أمرٌ مستحيل ، والامتناع عن ترجمته أمر مستحيل " . ذلك أن تفاعل الحضارات والشعوب يحتم تناقل نتاجها الأدبي والفكري بينها .

عندما سئل الشاعر الإنجليزي إدوارد فتزجيرالد ( 1856 ) عن منهجيته في ترجمة رباعيات عمر الخيام من الفارسية إلى الإنجليزية قال ما فحواه أنه يأخذ نتاج شعوب متخلفة ويحوله إلى روائع أدبية بلغته المتفوقة ، يعني اللغة الإنجليزية . أما الناقد الأميركي أدموند ويلسون فرأيه كالآتي : " لطالما قلتُ إن أفضل الترجمات - الرباعيات مثلاً - هي تلك التي تبتعد عن الأصل كثيراً ، ذلك إذا كان المترجم نفسه شاعراً جيداً " (The New Yorker ) . وهذا الأسلوب الذي يعرف بـtranscreation أو الترجمة الإبداعية ( أو الترإبداعية إذا صح التعبير) ( 1 ) انتعش من جديد في مرحلة ما بعد الاستعمارية
( post-colonialism ) وصار بدعةً في زمن العولمة الذي فرضت فيه اللغة الإنجليزية نفسها أداةً للتواصل والتعبير على صعيد عالمي . فنجد جمهرة من الأدباء والشعراء يعتمدون هذا النهج القديم الجديد في نقل نتاج شعوب وحضارات أخرى إلى اللغة الإنجليزية بالدرجة الأولى وإلى اللغات الأخرى بدرجة أقل . فقد اعتمده الشاعر الأميركي إزرى باوند (Ezra Pound ) كشكل من أشكال النقد الأدبي في ترجمته للشعر الصيني إلى اللغة الإنجليزية ، ومن قبله فتزجيرالد كما ذكرنا في ترجمة رباعيات عمر الخيام . واعتمده في العربية في عصر النهضة مصطفى لطفي المنفلوطي في نقل ماجدولين والشاعر والفضيلة وغيرها من رواياته وقصصه القصيرة . وقد أخذ النقاد على المنفلوطي أنه كان يجهل اللغة التي ينقل منها ، فكانت ترجمته سماعية (hearsay translation ) ، مما دفع بالأديب اللبناني عمر فاخوري إلى أن يقول في معرباته : " إن للمنفلوطي رأياً عجيباً في التعريب وجرأة على التغيير والتحوير والقلب عالياً على سافل ، جرأة لا يسمح المؤلف نفسه لنفسه بأكثر منها ..." ( 2 ) ولاشك أن نتاج الشعوب والحضارات قد انتقل من حضارة إلى أخرى من طريق الترجمة بشكل رئيسي ومن طريق الاقتباس والتناقل والتداول ، فألبست الأمم والشعوب النتاج المقترض حلةً محليةً وطبعته بطابعها الخاص . غير أن هذا النتاج لم يكتسب ملامحه المحلية إلا بعد مروره في عدة مراحل تطبيعية من الترجمة إلى الاقتباس فالتأصل . والمنهج الترابداعي يختصر هذه العملية ضارباً عرض الحائط بشروط كثيرة تقوم عليها الترجمة السليمة ، ويخرج بها خروجاً سافراً عن حدود النص الأصلي ومعالمه .

آن فيربيرن ، الشاعرة الأسترالية المهتمة بالشؤون الأدبية والشعرية في العالم العربي ، لاسيما في منطقة الخليج ، تنتهج المنهج الترابداعي ذاته الذي انتهجه فتزجيرالد وكرّسه ويلسون وغيره من الشعراء والنقاد المحدثين . وهو في جوهره منهج إستعلائي إستلابي ينهب الأصل ويسلخه عن بيئته يحوره في لغة أخرى . ويتلخص منهجها في الاعتماد على ترجمات وتفسيرات لقصيدة ما من جانب مترجمين عرب أو أفراد على جانب من المعرفة اللغوية ثم تقوم بصياغة قصيدة مشابهة تخضع لمقاييس اللغة الإنجليزية البلاغية والجمالية والفنية . ولما كانت ترجمة الشعر بطبيعتها نشاطاً احتواذياً ( أي أن المترجم لا يستطيع الانفصال عنه ) ، فإنها تتطلب تجربةً جمالية للقصيدة الأصلية قبل أي شيء آخر . فلنتأمل مثلاً المقطع التالي من قصيدة الشاعر الإنجليزي لورد بايرون ، سجين شيلون (The Prisoner of Chillon ) .

My hair is grey , but not with years ,

Nor grew it white

In a single night ,

As men’s have grown from sudden fear :

My limbs are bow’d , though not with toil ,

But rusted with vile repose ,

For they have been a dungeon’s spoil ,

And mine has the fate of those

To whom the goodly earth and air

Are bann’d, and barr’d — forbidden fate ...

فرغم سهولة الألفاظ وسلاسة البناء وخلوه من التعقيد اللفظي تمتنع القصيدة عن القارئ حتى يتفاعل معها ويمر في تجربة الشاعر من خلال اللفظ والتعبير والتصوير الفني والإبداع ، فيشعر إلى حد ما شعور الشاعر ويتحسس أحاسيسه . ولاشك أن المترجم لابد له أيضاً أن يقرأ تلك القصيدة ويتحسس معانيها ويدرك مقاصدها كقارئ أولاً يتفاعل ويتجاوب مع كل حرف وكل كلمة وبيت وقافية قبل أن يتمكن من ترجمتها . فكلما دخلت نصاً جديداً وتوغلت فيه وتعرفت على نواحيه كلما تفهمته وتعاطفت معه وصار أقرب إلى طبعك ووجدانك ، فاتضحت لك مراميه ووضحت غاياته وسهلت عباراته . ولا يتأتى لك ذلك إلا إذا كانت هناك ذاتية مشتركة أو واقع حال مشترك (intersubjectivity ) بين الكاتب والقارئ وبالطبع بين الكاتب والمترجم . تأمل تلك المقاطع من قصيدة للشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد :

" أنا خائفٌ يا قمر ،

منك من ضوئك المنكسر .

أخوي الكبير مضى ولم يعد منذ الصباح ،

وأمي موجعة في الباب تنتظر ... "

نكتفي هنا بالتركيز على كلمة ( أخوي ) ، لندرك أبعادها الوطنية والاجتماعية والنفسية التي تحتجب عن قارئ لا يشترك في ذاتية الشاعر أو واقع حاله . فالشاعر لم يستخدم كلمة ( أخي ) لضرورات شعرية تتعلق بالوزن والتفعيلة فحسب ، وإنما اختار كلمة ( أخوي ) لما تحمله هذه الكلمة من مشاعر فلسطينية عربية . وآن فيربيرن بمنهجها الترابداعي يعاني من غياب الذاتية المشتركة وتلك التجربة . فهو يفتقر إلى التفاعل الأصلي بين القصيدة والمترجم كقارئ للقصيدة يجسد التجربة الجمالية والعاطفية والفنية للقصيدة التي يعبر عنها الشاعر قبل أن ينوي القيام بالترجمة . فلنتناول هنا ترجمة آن فيربيرن لمقطع من قصيدة " أمهات بلا أمومة " للأديبة المهجرية الأسترالية نجاة مرسي . تقول نجاة :

" أنتِ شجرة بلا ثمر ..

وأمسيةٌ بلا قمر ..

نحن نولد الأجنّة ..

ونعمر الكون .. حياتنا لأولادنا ..

وأولادنا لبلادنا..

***

أنا الشجرة الوارفة ..

رسالتي ..

أن أزرع الظل والجمال ..

حياتي .. كلها عطاء ..

عرفت طعم الحرمان .

أنتم أتخمتم الكون بالسكان ..

سببتم المجاعات ..

وأزمات المسكان ..

والمقابر... "

و قوة هذه القصيدة لا تكمن في بساطة التعبير والأسلوب النثري وانتفاء الوزن والتفعيلة ، بل في الحوار بين مجموعة من النساء والشاعرة ، وفي تبادل الأدوار دون أن تؤذن الشاعرة بذلك للقارئ ( قلن وقالت ) فنسمع صوت النساء ثم صوت الشاعرة في جدل وملامة وعتاب ( لاحظ هنا أن الشاعرة خاطبتهن لأمر غريب عجيب بصيغة المذكر ، " أنتم أتخمتم بدلاً من أنتن أتخمتنّ " ، فجمعت بينهن وبين أزواجهن على ما أعتقد ) . ولكن آن فيربيرن " ترجمت " أو قل نقلت مضامين القصيدة كالآتي :

They said;

You are a fruitless tree,

A moonless night.

We give birth to offsprings,

populate the world.

Our life is our children,

and our children are for our countries.

She answered;

My mission is to spread shade and beauty;

My life is giving.

I have tasted deprivation.

You overpopulate the world,

You caused famines,

or accommodation crisis,

or caused wars.

هنا نرى أن المترجمة ارتأت أن تستعمل ( they said ) و ( she answered ) ، وبذلك أخفقت في ناحيتين هامتين : الأولى ، أنها حولت الصيغة من الحاضر إلى الماضي ، فجعلت من الحوار حدثاً قديماً ، والثانية ، أنها أضعفت من الأسلوب البلاغي في النص الأصلي بتحديد صيغة الغائب . فالشاعرة نجاة لم تقصد ( قلن هن و أجابت هي ) كما فعلت آن ، بل تركت ذلك خياراً مفتوحاً أمام القارئ أو القارئة التي قد تجد نفسها في مكان الشاعرة ، ( قلتنّ وقلتُ ) متجاوزة بذلك حدود المكان والزمان وصيغة التخاطب . وإدخال مؤشرات تبادل الأدوار ( they said and she answered ) أفقد القصيدة فورية التواصل والتخاطب بين الطرفين وقلل من تلك التجربة الاحتواذية بين الشاعرة والقارئ .

ولست أدري إذا كان اللفظ ( offsprings ) خطأ مطبعياً أو من خيار المترجمة ، إذا أن اللفظ لا يكون عادة إلا (offspring ) ، أي بصيغة المفرد غير المعدود . وكان حرياً بالمترجمة كذلك أن تستعمل كلمة ( calling ) بدلاً من (mission ) لتؤدي معنى ( رسالة ) بمجمل أبعادها النفسية والحضارية والبلاغية. فلفظ (رسالة) في القصيدة هو ذاك الدافع الباطني والشغل الشاغل والواجب الذي يحث الشاعرة على القيام بعملها الفاضل بالقاء ظلالها الوارفة. وهذا ما توحيه وتحمله كلمة (calling) ، وهي أقرب مقابل طبيعي في هذا السياق. ولكن المترجمة التزمت بحرفية اللفظ العربي فجاءت ترجمتها ضعيفة ناقصة. ثم نجد تقلبها بين الحاضر في ( you overpopulate the world ) والماضي ( you caused famines ) ، وإصرارها على تكرار ( or ) بلا مسوغ أو مبرر في الإنجليزية . ثم تختفي ( المقابر ) اختفاء غامضاً في الترجمة . إضافة إلى أن إسقاط ( أنا الشجرة الوارفة ) من الترجمة مقابل ( أنت شجرة بلا ثمر ) أفقد الترجمة ذلك التوازن والتغاير والتباين بين الصورتين . وهذا التباين في رأيي هو أساس الجدال ومفتاح الحوار بين الطرفين في القصيدة . وإسقاطه من الترجمة يخل إخلالاً كبيراً بنقل الصورة بالصورة بأمانة وشاعرية .

هذا قليل من العيوب في المنهج الترابداعي . وليس من الواضح ما المعايير والمقاييس التي اعتمدتها آن فيربيرن في عملية اتخاذ قراراتها وخياراتها في الحذف والإسقاط والضم والإبقاء على ما أبقت عليه من الأصل في ترجمتها . والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا : هل نجحت المترجمة في أداء المعنى الشمولي أو الكلي من ناحية المغزى أو القصد البياني (informative intention ) والمغزى أو القصد التواصلي (communicative intention ) معاً وكذلك من ناحية وفور واكتمال المعلومات (integrity of information ) في القصيدة ؟ والجواب لا بد أن يكون حتماً بالنفي . فكيف تستطيع آن فيربيرن ( بمعرفتها المحدودة للغة العربية ، باعترافها ) أن تنقل تلك التجربة الفريدة عبر قراءة مجزوءة وناقصة للقصيدة بمجمل أبعادها النفسية والاجتماعية والحضارية بمجرد الاستفسار عنها من أفراد لا علاقة لهم بالترجمة لا من قريب أو بعيد بالدرجة الأولى وأفراد ينقلون تجربتهم الشخصية من قراءات لعلها تكون سطحية بالدرجة الثانية ، فتمسخ التجربة الشعرية مسخاً لا تسترد شكلها إلا من خلال التدخل الاستعلائي الذي ينفخ في المسخ روحاً غريبة عن الجسد لا تستقر داخله إلا بالمحسنات البديعية والبيانية الخاصة باللغة الإنجليزية - فكأنها كالعضو المزروع يحتاج إلى العقاقير المضادة للرفض ( anti-rejection drugs ) - فينقل تجربة المترجِم المستشعِر ( أو الشاعر المسترجم ! ) بدلاً من تجربة الشاعر الأصلي ، في حالة تسمى في علم النفس بالانتقال أو (transference ) .


1 - يعرف هذا النهج لدى بعض الأدباء لاسيما في أميركا اللاتينية بالترجمة الفنية (art translation) .
2 - كلمات المنفلوطي ، في مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي دراسة وتقديم الدكتور جبرائيل سليمان جبور 1982.


منقول عن موقع " مجلة أفق الثقافية "
http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=84

Hasan Abu Khalil
08/03/2007, 03:55 PM
" الترجمة من الشعر إلى الشعر كالمرأة : إذا كانت جميلة لم تكن مخلصة ، وإذا كانت مخلصة لم تكن جميلة "

أعتقد أن هذه هي معضلة المترجم في ترجمة الشعر.

بارك الله فيك أخي معتصم على هذا النقل المفيد.

دمت ودام عطاؤك

مع الاحترام والتقدير