المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هكذا تكلم بديع الزمان سعيد النورسي عن نفسه



حازم ناظم فاضل
29/05/2010, 10:01 PM
هكذا تكلم بديع الزمان سعيد النورسي عن نفسه

(1) لطمةُ تأديب لنفسي الأمارة بالسوء!
يا نفسي المغرمة بالفخر، المعجبة بالشهرة، الهائمة وراء المدح والثناء!
يا نفسي الغويّة!
ان كانت بذيرة التين التي هي منشأ ألوف الثمرات، والساق النحيفة الصلبة التي تعلقت بها مئات العناقيد.. ان كانت هذه الثمرات والعناقيد من عمل تلك البذيرة والساق ومن مهارتهـما لزم كل من يستفيد من تلـك النتائج ان يبدي المدح ويظهر الثناء لهما! اقول: ان كانت هذه الدعوى حقاً، فلربما يكون لكِِ - يا نفسي - حقٌ ايضاً في الفخر والغرور لما حُمّلتِ من النعم.
بينما انتِ لا تستحقين الاّ الذم، لانك لستِ كتلك البذيرة ولا كتلك الساق، وذلك لما تحملين من جزء اختياري. فتنتقصين بفخركِ وغروركِ من قيمة تلك النعم وتبخسين حقها، وتبطلينها بكفرانك النعم، وتغتصبينها بالتملك.
فليس لكِ الفخر، بل الشكر. ولا تليق بكِ الشهرة، بل التواضع والحياء. وما عليكِ الا الاستغفار، وملازمة الندم، لا المدح، فليس كمالك في الانانيةِ، بل في الاستهداء.
نعم! يا نفسي! انتِ في جسمي تشبهين الطبيعة في العالم، فانتما (النفس والطبيعة) قد خُلقتما قابلين للخير، مرجعيَن للشر. اي انتما لستما الفاعل ولا المصدر، بل المنفعل ومحل الفعل، الاّ ان لكما تأثيراً واحداً فقط وهو تسببكما في الشر، عند عدم قبولكما الخير الوارد من الخير المطلق قبولاً حسناً.
ثم انكما قد خُلقتما ستارين، كي تُسند اليكما المفاسد والقبائح الظاهرية التي لا يُشاهد جمالُها، لتكونا وسيلتين لتنزيه الذات الإلهية الجليلة. ولكنكما قد لبستما صورة تخالف وظيفتكما الفطرية، اذ تقلبان الخير الى شر لإفتقاركما الى القابليات، فكأنكما تشاركان خالقكما في الفعل!
فالذي يعبد النفس ويعبد الطبيعة اذاً في منتهى الحماقة ومنتهى الظلم.
فيا نفسي!
لا تقولي: انني مظهر الجمال، فالذي ينال الجمال يكون جميلاً.. كلا، انكِ لم تتمثلي الجمال تمثلاً تاماً، فلا تكونين مظهراً له بل ممراً اليه.
ولا تقولي ايضاً:
انني قد اُنتُخبتُ من دون الناس كلهم، وهذه الثمرات انما تظهر بوساطتي، بمعنى ان لي فضلاً ومزيّة! كلا.. وحاشَ لله.. بل قد اُعطيتِ تلك الثمرات لانكِ أحوج الناس اليها، واكثرهم إفلاساً واكثرهم تألماً (1) .

(2) الحقيقة هي التي تتكلم
لقد أثبتت رسائل النور انه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم. أي قد يتعرض أحدهم الى الظلم والى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يحكم عليه بالحبس ويرمى به في غياهب السجون.. لاشك ان مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي العدالة وظهورها، ذلك لأن القدر الالهي قد يستخدم الظالم لتوجيه العقوبة الى شخص استحقها بسبب آخر، وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الالهية.
وانا الآن أفكر.. لِمَ اُساق من محكمة الى محكمة، ومن ولاية الى ولاية، ومن مدينة الى اخرى طوال ثمانية وعشرين عاماً؟ وما التهمة الموجهة اليّ من قبل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي تهمة استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لِمَ لا يستطيعون اثبات ذلك؟.. ذلك لأنه لا يوجد أي شئ من هذا القبيل في الحقيقة وفي الواقع. فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على أي دليل يدينني فلا تستطيع، واذا بمحكمة اخرى تسوقني للتحقيق وللمحاكمة تحت التهمة نفسها وتقضي بدورها مدة في هذه المحاولة وفي الضغط عليّ وتعرضني لأنواع شتى من التعذيب، وعندما لا تحصل على أية نتيجة تتركني، واذا بمحكمة ثالثة تمسك بخناقي هذه المرة.. وهكذا انتقل من مصيبة الى مصيبة، ومن نكبة الى اُخرى. لقد انقضى ثمان وعشرون سنة من عمري على هذا المنوال، واخيراً ايقنوا من عدم وجود أي نصيب من الصحة للتهم المسندة اليَّ؛ واني أتساءَل:
سواء أكان ذلك قصداً أو وهماً فانني أعلم علم اليقين عدم وجود أية علاقة لي بهذه التهمة، كما ان جميع أهل الانصاف يعرفون بانني لست بالرجل الذي يستغل الدين لغاية سياسية، بل ان الذين وجّهوا اليّ هذه التهمة يعرفون ذلك في قرارة نفوسهم.
اذن فما السبب في اصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيت معرضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟ ولماذا لم استطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الالهية؟
لقد بحثت عن أجوبة لهذه الاسئلة خلال ربع قرن من الزمن فلم اُوفق في ذلك. ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيبي. وانا أقول وكلي أسف:
ان ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية. والآن بدأتُ افهم هذا وأحسه تماماً، وانا اشكر الله تعالى الاف المرات لانه طوال سنوات طويلة وضعت موانع معنوية وقوية جداً خارج ارادتي لكي لا اتخذ خدماتي الايمانية وسيلة للترقيات المادية والمعنوية أو من أجل الخلاص من العذاب ومن جهنم أو حتى من أجل سعادتي الأبدية أو من أجل أية غاية أخرى.
لقد اذهلتني هذه الاحاسيس الداخلية العميقة والخواطر الالهامية، فبينما نرى ان كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، هذا زيادة على انه لا ينتج أي ضرر لأي أحد، ومع هذا
فقد رأيت انني اُمنع - روحياً وقلبياً - من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق. وجُعل نصب عيني أن عليّ الا أهتم - بجانب الفوز بالرضى الالهي - الا بواجب خدمة الايمان. ذلك لأن الزمن الحالي يحتاج الى اعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر للذين لم يتوصلوا بفطرة العبودية الموجودة في أنفسهم الى الحقائق الايمانية التي هي فوق كل شئ، والى الذين هم بحاجة الى فهم هذه الحقائق وذلك باسلوب مؤثر، بحيث يستطيع انقاذ الايمان في مثل دنيا الاضطراب هذه التي اختلطت فيها الأمور، ويستطيع اقناع حتى المعاندين وبعث الطمأنينة في نفوسهم، وبذلك يستطيع قصم ظهر الكفر المطلق والضلال المتمرد والمعاند وبذلك يهب القناعة الكاملة للجميع.
ولا تحصل مثل هذه القناعة في الظروف الحالية الاّ عندما يكون الدين بعيداً عن كونه وسيلة لأية غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية. واذا لم يتحقق هذا فان أي شخص يقف تجاه التيار الرهيب - المتولد من المنظمات والجمعيات السرية - ضد الدين عاجزاً مهما بلغ من المراتب المعنوية، لانه لا يستطيع ازالة كل الشكوك والشبهات. ذلك لان نفس الشخص المعاند الأمارة بالسوء الذي يرغب في الدخول الى حلقة الايمان ستقول له: "ان ذلك الشخص زين لنا هذا بدهائه وبمستواه الرفيع واستطاع بهذا اقناعنا".. يقول هذا ويبقى الشك يساوره.
فلله الشكر الوف الوف المرات ففي طيّ تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الالهي - الذي هو العدل المحض - طوال ثمان وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين دون علمي ودون ارادة مني - آلة لأي غرض شخصي، وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي.. هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً وتحذرني قائلة: إياك إياك! ان تجعل الحقائق الايمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم المحتاجون الى الحقائق ان الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان، بل لتخرس وتصمت.
هذا هو سر تأثير رسائل النور في اشعال الحماس في القلوب وفي الأرواح كالأمواج في البحار الواسعة. وهذا هو سر تأثيرها في القلوب وفي الأرواح وليس شيئاً غيره. ومع ان هناك آلافاًً من العلماء سجلوا الحقائق التي تتحدث عنها رسائل النور في مئات الآلاف من الكتب، والتي هي أكثر بلاغة من رسائل النور، لم تستطع ايقاف الكفر البواح. فاذ كانت رسائل النور قد وفّقت الى حدّ ما في مقارعة الكفر البواح تحت هذه الظروف القاسية، فقد كان هذا هو سر هذا النجاح.. ففي هذا الموضوع لا وجود لـ "سعيد"، ولا وجود لقابلية "سعيد" وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها..نعم.. الحقيقة الايمانية هي التي تتحدث.
وما دامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى الى الايمان والى نور الحقائق، إذن لا يُفدّى بـ"سعيد" واحد بل بألف "سعيد وسعيد". وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً. أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة الى اخرى، والذين أرادوا ان يوصموني بمختلف التهم والاهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد غفرتُ لهم ذلك وتنازلت عن حقوقي تجاههم.
وأقول للقدر العادل:
انني كنت مستحقاً لصفعاتك العادلة لانني سلكت مثل الآخرين طريقاً - هي بذاتها مشروعة ولا ضرر منها - فكرت فيها بشخصي، ولو لم أضحي بمشاعري في الفيوضات المادية والمعنوية، لفقدت هذه القوة المعنوية الكبيرة في أثناء تأدية خدماتي من أجل الحفاظ على الايمان. لقد ضحيت بكل شئ وتحملت كل اذى، وبذلك انتشرت الحقائق الايمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف - بل ربما الملايين - من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها. وهؤلاء هم الذين سيستمرون في هذه الطريق في خدمة الايمان، ولن يحيدوا عن طريقتي في التضحية بكل شئ مادياً كان أو معنوياً، اذ سيكون سعيهم لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره.
ان الكثيرين من طلابي قد ابتلوا بشتى انواع البلايا والمصائب، وتعرّضوا لصنوف العذاب والمتاعب، واجتازوا امتحانات عسيرة بفضل الله. انني اطلب منهم ان يتجاوزوا - مثلي - عمن اقترف تلك المظالم وهضم الحقوق، لان اولئك قد ارتكبوا تلك الامور عن جهل منهم و الذين آذونا وعذبونا، ساعدوا على نشر الحقائق الايمانية دون ان يدركوا تجليات أسرار القدر الالهي.. ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.
اوصي طلابي الاّ يحمل احدٌ منهم شيئاً من روح الانتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة، وان يسعوا سعياً جاداً لنشر رسائل النور وليرتبطوا بها ارتباطا وثيقاً. انني مريض جداً.. لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث.. وقد يكون هذا آخر أقوالي.. فعلى طلاب رسائل النور لمدرسة الزهراء الاّ ينسوا وصيتي هذه (2) .

(3) الدرس الأخير حول العمل الإيجابي البنّاء
(الدرس الذي ألقاه الأستاذ النورسي قبل وفاته على طلبة النور)
اخواني الاعزاء!
ان وظيفتنا هي العمل الايجابي البنّاء وليس السعي للعمل السلبي الهدام. والقيام بالخدمة الإيمانية ضمن نطاق الرضى الالهي دون التدخل بماهو موكول امره إلى الله. اننا مكلفون بالتجمل بالصبر والتقلد بالشكر تجاه كل ضيق ومشقة تواجهنا وذلك بالقيام بالخدمة الإيمانية البناءة التي تثمر الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي.
اقول متخذًا من نفسي مثالاً: انني لم انحن تجاه التحكم والتسلط منذ القدم. وهذا ثابت بكثير من الحوادث. فمثلاً: عدم قيامي للقائد العام الروسي، وكما انني لم اعر اية اهمية على اسئلة الباشوات في ديوان المحكمة العسكرية العرفية الذي كان يهددني بالشنق والاعدام. وطوري هذا تجاه القواد الاربعة تُبين عدم قبولي للتحكم والتسلط. الا انني قابلت المعاملات الشائنة بحقي منذ ثلاثين سنة الاخيرة بالرضى والقبول، ذلك من اجل السعي للعمل الايجابي والاجتناب عن السعي للعمل السلبي لأجل ألاّ أتدخل بما هو موكول أمره إلى الله.بل قابلتها بالرضى والصبر الجميل إقتداءاً بنبي الله جرجيس عليه السلام وبالصحب الكرام الذين قاسوا كثيراً في غزوة بدر وغزوة احد.
نعم مثلاً: انني لم ادعُ بالسوء حتى على المدعي العام الذي اتخذ علينا القرار الجائر رغم انني قد اثبت اخطاءه البالغة واحداً وثمانين خطأً. لان المسألة الأساسية في هذا الزمان هو الجهاد المعنوي، واقامة السد المنيع امام التخريبات المعنوية، واعانة الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة.
نعم، ان في مسلكنا قوة. الا اننا لم نقم باستعمالها الا في تأمين الأمن الداخلي. لذا قمت طوال حياتي بتحقيق الأمن الداخلي اتباعاً لدستور الآية الكريمة: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى) اي لا يجوز معاقبة انسان بجريرة اخيه او احبائه. ان هذه القوة لا يمكن استعمالها الا ضد الهجمات الخارجية. ان وظيفتنا - وفق دستور الآية الكريمة المذكورة - هي الاعانة على ضمان الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة. لهذا السبب لم تشتعل نار الحروب الداخلية المخلة بنظام الأمن الداخلي في العالم الإسلامي الا بنسبة واحد من الالف. وهذا كان من جراء الاختلاف في الاجتهاد. ان اعظم شرط من شروط الجهاد المعنوي هو عدم التدخل بالوظيفة الإلهية. أي بما هو موكول إلى الله. بمعنى ان وظيفتنا الخدمة فحسب. بينما النتيجة تعود إلى رب العالمين، واننا مكلفون ومرغمون في الايفاء بوظيفتنا.
واقول كجلال الدين خوارزم شاه: ان وظيفتي الخدمة الإيمانية، اما النصر أو الهزيمة فمن الله سبحانه. وانني قد تلقيت درس التقلد بالإخلاص التام من القرآن الكريم.
أجل، يستوجب مجابهة الهجمات الخارجية بالقوة، لان اموال العدو وذراريه يكون بمثابة غنيمة للمسليمن. اما في الداخل فالأمر ليس هكذا. ففي الداخل ينبغي الوقوف امام التخريبات المعنوية بشكل ايجابي بناء، بالإخلاص التام. ان الجهاد في الخارج يختلف عما هو في الداخل. وقد احسن اليّ المولى سبحانه وتعالى بملايين من الطلاب الحقيقيين. فنحن نقوم بالعمل الايجابي البناء بكل ما نملك من قوة في سبيل تأمين الأمن الداخلي. فالفرق عظيم بين الجهاد الداخلي والخارجي في الوقت الحاضر.
وهناك مسألة أخرى في غاية الاهمية. وهي ان متطلبات المدنية الدنية (الدنية بالنسبة لأحكام القرآن الكريم) في يومنا هذا قد زيّدت الحاجات الضرورية من الاربعة إلى العشرين. فجعلت الحاجات غير الضرورية بمثابة الحاجات الضرورية بالادمان والاعتياد والتقليد. فتجد من يفضل الدنيا على الآخرة رغم إيمانه بها لإنهماكه بالأمور المعاشية والدنيوية ظناً منه انها ضرورة.
قبل أربعين سنة ارسل الي قائد عام عدداً من الضباط وحتى بعض العلماء الائمة من اجل ان يعيدوني شيئا إلى الأمور الدنيوية. فقالوا: نحن الآن مضطرون.اي اننا مضطرون في تقليد بعض الاصول الاوروبية وموجبات المدنية حسب القاعدة المعروفة: ان الضرورات تبيح المحظورات. قلت لهم: انكم منخدعون تماماً؛ لان الضرورة النابعة من سوء الاختيار لا تبيح المحظورات. فلا يجعل الحرام بمثابة الحلال. بينما إن لم تنبع من سوء الاختيار، أي ان لم تأت الضرورة عن طريق الحرام فلا ضير. فمثلاً: اذا سكر شخص بسوء اختياره بشربه الحرام، ثم اقترف جريمة وهو سكران، فان الحكم يجري عليه ولا يكون بريئاً بل يعاقب. ولكن اذا قام طفل مختل العقل بقتل شخص ما - وهو في حالة الاختلال - فهو معذور ولا يعاقب. لانه لم يقترف الجريمة بإرداته. وهكذا قلت للقواد والائمة: أي الأمور تُعد ضرورية مما سوى الاكل والعيش؟. فالاعمال النابعة من سوء الاختيار والميول غير المشروعة لا تكون عذراً لجعل الحرام حلالاً. فاذا ادمن الإنسان نفسه على شئ كمتابعته للافلام في السينما وارتياده المسرح والرقص بكثرة، وهذه الأمور ليست ضرورية قطعاً، بل نابعة من سوء الاختيار، لذا لا تكون كافية لجعل الحرام حلالاً. وحتى القانون الإنساني قد اخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار، وميز بين الضرورة القاطعة غير الداخلة ضمن اطار الاختيار والاحكام الناشئة من سوء الاختيار. الا ان القانون الالهي قد فرق بينهما بشكل أساس وثابت راسخ ومحكم.
اخواني ! لا تهاجموا بعض العلماء الذين ظنوا بعض الجاءات العصر ضرورة، وركنوا إلى البدع. لا تصادموا هؤلاء المساكين الذين ظنوا الأمرضرورة، بدون علم وعملوا وفقها. ولهذا فنحن لا نقوم باستعمال قوتنا في الداخل. فلا تتحرشوا بهم وان كان المعارضون لنا من العلماء الائمة. انني قد تحملت وحدي المعارضات كافة، ولم افتر مقدار ذرة قط. ووفّقت في تلك الخدمة الإيمانية بإذن الله. فالآن رغم وجود ملايين من طلبة النور، فانني اسعى بالعمل الايجابي واتحمل جميع مظالمهم وإهاناتهم وإثاراتهم.
اننا لا نلتفت إلى الدنيا، فاذا ما نظرنا اليها فنحن لانسعى سوى معاونتهم فيها. فنحن نعاونهم في تأمين الأمن بشكل ايجابي. وبسبب هذه الحقائق وامثالها نحن نسامحهم حتى لو عاملونا بالظلم .
ان نشر رسائل النور قد أورث قناعة تامة بان الديمقراطيين يساندون الدين ولا يخالفونه. لذا فان التعرض للرسائل يكون ضد منفعة الوطن والملة.
وها مثالاً صغيراً لقاعدة: ان ضرورة نبعت من سوء الاختيار لا تكون سبباً لجعل الحرام حلالاً: كانت هناك رسالة خاصة سرية قد منعتُ نشرها، وقلت لطلابي ليقوموا بنشرها بعد وفاتي، الا ان المحاكم قد عثرت عليها وطالعتها بدقة ثم قضت بالبراءة . وأيدت محكمة التمييز هذه البراءة. وأنا بدوري اذنتُ بنشرها من اجل تأمين الأمن الداخلي والحيلولة دون ان يمس خمساً وتسعين بالمئة من الأبرياء ضرر، وقلت: يمكن نشرها بالاستشارة.
المسألة الثالثة:
يسعى الكفر المطلق حالياً لنشر جهنم معنوي رهيب، بحيث يلزم ان لا يقترب منه أي إنسان في العالم اجمع. ولكن أحد اسرار كون القرآن الكريم رحمة للعالمين هو: مثلما انه رحمة للمسلمين جميعاً، فهو رحمة لجميع الكفار ايضاً وبني آدم اجمع، حيث يورثهم احتمال وجود الاخرة ووجود الله سبحانه، فيخفف عنهم بهذا الاحتمال شيئاً من الجحيم المعنوي الذي يكتوون بناره في هذه الحياة الدنيا. وهذا سر دقيق من اسرار كون القرآن رحمة للخلق اجمعين. الا ان قسم الضلالة من العلم والفلسلفة، أي غير المتوافق مع القرآن الكريم والمنحرف عن الصراط السوي قد بدأ بنشر الكفر المطلق على طراز الشيوعيين. فبدأ بتطعيم أفكارهم المولدة للفوضى والارهاب ونشرها بوساطة المنافقين والزنادقة وبوساطة قسم من السياسيين الكفرة. علماً ان الحياة لا يمكن أن تسير بدون دين. و لاحياة لأمة بلا دين تشير إلى هذه النقطة. إذ لا يمكن العيش- في حقيقة الحال- بالكفر المطلق. ولهذا فان احدى المعجزات المعنوية للقرآن الحكيم انه قد منح هذا الدرس لطلاب رسائل النور ليكونوا سداً امام الكفر المطلق والارهاب في هذا القرن. وحقاً أن الرسائل أدت دورها. نعم ان هذا الدرس القرآني هو الذي وقانا من هذا التيار الجارف الذي استولى على الصين ونصف اوروبا ودول البلقان واقام سداً امام هذا الهجوم. وهكذا وُجد حل سليم امام هذا الخطر الداهم.
اذن لا يمكن لمسلم ان يخرج عن الإسلام ويتنصّر او يتهود او يكون بلشفيا... لان النصراني اذا اسلم فان حبه لعيسى عليه السلام يزداد اكثر. واليهودي كذلك يزداد حبه لموسى عليه السلام بعد دخوله للاسلام. ولكن المسلم اذا ارتد وحل ربقته من سلسلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتخلى عن الدين الحنيف فلا يمكن له ان يدخل أي دين آخر بل يكون إرهابياً. ولا يبقى في روحه أي نوع من الكمالات. بل يتفسخ وجدانه، ويكون بمثابة سم قاتل للحياة الاجتماعية.
لذا نشكر الله عز وجل ان قد بدأ بالانتشار درس من دروس القرآن المعجز لينقذ هذا العصر باسم رسائل النور بين ملة الترك والعرب باللغة التركية والعربية. وقد تحقق انها مثلما انقذت قبل ست عشرة سنة ايمان ستمائة ألف شخص. فانها الان قد تجاوز هذا العدد إلى الملايين من الناس. وكما ان رسائل النور اصبحت وسيلة لإنقاذ الإنسانية من الارهاب - شيئاً ما - اصحبت وسيلة للتآخي والوحدة بين الاخوين الجليلين للاسلام وهما العرب والترك، وكذلك اصبحت وسيلة لنشر الاحكام الأساسية للقران الكريم حتى بتصديق اعدائها.
فمادام الكفر المطلق يقف حائلاً امام القرآن الكريم في هذا العصر. وان الكفر يضمر في ثناياه في هذه الحياة الدنيا جهنما معنويا يفوق جهنم نفسه. حيث ان الموت لا يمكن قتله. بل تشهد كل يوم ثلاثون ألف من الجنائز على استمرارية الموت. فان هذا الموت هو بمثابة جهنم معنوي يفوق عذاب جهنم نفسه عشرات المرات لمن وقع في الكفر المطلق او لمن يساند الكفر المطلق، نظراً لانه يفكر في الموت انه اعدام ابدي له ولاحبائه الذين مضوا والآتين معاً. لان كل شخص كما يكون سعيداً بسعادة احبائه، يتعذب بعذابه. فالذي يكفر بوجود الله تمحى عنده جميع تلك السعادات، وتحل الأعذبة محلها. لذا هناك حل وحيد في هذا العصر ليزيل هذا الجحيم المعنوي من قلب الإنسان؛ ألا وهو القران الحكيم. واجزاء رسائل النور التي هي المعجزة المعنوية للقران الكريم والتي كتبت وفق افهام ابناء هذا العصر.
نحن الآن نشكر الله عز وجل. إذ قد شعر- إلى حد ما- أحد الاحزاب السياسية هذا الأمر فلم يقم بمنع هذه المؤلفات. ولم يمنع نشر رسائل النور التي تثبت بان الحقائق الإيمانية تذيق أهل الإيمان جنة معنوية في هذه الدنيا. بل سمح على نشرها وتخلى عن مضايقة ناشريها.
اخواني! ان مرضي قد اشتد كثيراً. ولعلي أتوفى قريباً، او امنع من المكالمة كلياً - كما كنت امنع احياناً منها - لذا فعلى اخوتي في الآخرة ان يتجاوزوا عن الهجوم على اخطاء بعض المخطئين المساكين، وليعدّوها من قبيل أهون الشرين. وليقوموا بالعمل الايجابي دائماً. لان العمل السلبي ليس من وظيفتنا. ولان العمل السلبي في الداخل لا يُغتفر. ومادام قسم من السياسيين لا يلحقون الضرر برسائل النور، بل مسامحون قليلاً. لذا انظروا اليهم كـ اهون الشرين. ومن اجل التخلص من اعظم الشر فلاتمسوهم بضرر بل حاولوا ان تنفعوهم.
وكذا ان الجهاد المعنوي في الداخل هو العمل ضد التخريبات المعنوية وانه ليس مادياً قط.. وانما يستوجب القيام بخدمات معنوية. لذا فكما لم نتدخل بامور أهل السياسية، فلا يحق لاهل السياسة ان ينشغلوا بنا.
فمثلاً: لقد سامحت عن جميع حقوقي وعفوت عن حزب من الاحزاب السياسية رغم مقاساتي منه الوفاً من المضايقات والسجون منذ ثلاثين سنة. فقد اصبحت جميع تلك المشقات والمضايقات وسيلةً لخلاص خمسة وتسعين بالمئة من المساكين في ان يسقطوا في مضايقات ومظالم واعتراضات.حيث اسند الذنب إلى خمسة بالمئة من ذلك الحزب، بحكم الآية الكريمة: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلا يحق اذن لذلك الحزب الذي عادانا القيام بالشكوى منا بأي وجه كان.
حتى ان المدعي العام الذي طالب في احدى المحاكم - من جراء الاوهام الخاطئة لبعض المخبرين والجواسيس - بإنزال الحكم علينا نحن السبعين متهماً، مستنداً إلى سوء فهمه وعدم تدقيقه، وباسناد معنى خطأ لقسم من رسائل النور، فسعى بالحكم علينا بهذه الاخطاء التي كانت تنوف على ثمانين خطأً، كما اثبتنا اخطاء تلك الاخطاء، وكان أحد اخوانكم الذي تعرض اكثر من غيره لمثل تلك الهجمات الظالمة، مسجوناً وقد شاهد طفلة صغيرة من خلال نافذة السجن فسأل عنها فقيل له انها ابنة ذلك المدعي العام، فلم يقم حتى بالدعاء على ذلك المدعي العام لاجل تلك الطفلة البريئة المسكينة. ولعل تلك المشقات والاضطرابات التي القاها علينا المدعي العام انقلبت إلى رحمة، نظراً لانها اصبحت وسيلة لنشر رسائل النور تلك المعجزة المعنوية.
اخواني! ربما اموت قريباً. فان لهذا العصر مرضاً داهماً. وهو الانانية وحب النفس، واشتهاء قضاء حياة جميلة في ظل مباهج وزخارف المدنية الجذابة وامثالها من الأمراض المزمنة. ان اول درس من دروس رسائل النور الذي تلقيته من القرآن الكريم، هو التخلي عن الانانية وحب النفس. حتى يتم إنقاذ الإيمان بالتقلد بالإخلاص الحقيقي. ولله الحمد والمنة، فقد برز في الميدان كثيرون ممن بلغوا ذلك الإخلاص الأعظم الحقيقي. فهناك الكثيرون ممن يضحون بانانيتهم وبمنصبهم وجاههم في سبيل اصغر مسألة ايمانية. وحتى قد اخفت صوت لاحد طلاب النور وهو الضعيف المسكبن من قبل الرحمة الإلهية عندما اصبح اعداؤه اصدقاءاً له وكثر الخطاب معه. ويتألم من انظار من ينظر اليه بنظر تقدير واستحسان. اضافة انه يتضايق من المصافحات كأنه يتلقى الصفعات. فسئل عنه ما حالك؟ فما دام لك اصحاب يتجاوزون الملايين، فلماذا لا تحافظ على احترامهم لك وتوقيرهم اياك؟ فاجاب قائلاً:
- مادام الإخلاص التام هو مسلكنا. فبمقتضى الإخلاص التام لابد من التضحية والفداء ليس بالانانية فحسب، بل لو منحت سلطنة الدنيا يستوجب تفضيل مسألة ايمانية واحدة باقية على تلك السلطنة. لذا فقد فضل نكتة دقيقة قرآنية في آية واحدة او في حرف منها في الحرب، وفي الخط الامامي بين قنابل مدافع الأعداء فامر طالبه المسمى بـ حبيب: اخرج الدفتر فاملى عليه تلك النكتة وهو يمتطي صهوة جواده. أي انه لم يترك حرفاً واحداً ونكتةً واحدة من القرآن الكريم مقابل قنابل الأعداء بل يفضلها على إنقاذ حياته.
فسألنا ذلك الاخ: من اين تلقيت هذا الإخلاص العجيب فقال:
- من نقطتين...
الأولى: ان في غزوة بدر التي هي من اعظم الغزوات الإسلامية، وضع قسم من المجاهدين اسلحتهم ووقفوا لاداء الصلاة جماعة بينما القسم الاخر وقفوا مسلحين حذرين. ثم التحقوا بالصلاة كسبا لثواب الجماعة كما امر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمادام هذه الرخصة موجودة في الحرب. ومادام ثواب الجماعة رغم كونه سنة قد فضّل على اكبر حادثة في الدنيا لأجل رعاية تلك السنة النبوية فنحن نستلهم من الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هذه النكتة الصغيرة ونتبعها بروحنا وانفسنا.
الثانية: ان الامام علي رضي الله عنه قد طلب من الله سبحانه وتعالى في اماكن كثيرة من قصيدته البديعية ولاسيما في اواخرها حاميا يحميه من طروء الغفلة في خشوعه عند وقوفه في الصلاة. فطلب من الرب الجليل عفريتاً من الجن ليحميه مما يمكن أن يحدثه الأعداء من خلل في اطمئنانه وخشوعه في الصلاة.
ان اخاكم هذا المسكين الضعيف، الذي قضى صفوة عمره في الانانية في هذا الزمان، قد تلقى هاتين النكتتين الصغيرتين من سيد الكونين الذي هو سبب خلق الافلاك، ومن الذي هو أسد الإسلام. وفي زماننا هذا قد أعطى هذا المسكين الضعيف أهمية لأسرار القرآن ولم يعر سمعاً لحماية نفسه من الأعداء في الحرب، فبين نكتة واحدة فقط من حرف واحد من القرآن الكريم (3).


الهوامش :
(1) الكلمات ، الكلمة الثامنة عشرة ، بديع الزمان سعيد النورسي ، ترجمة احسان قاسم
الصالحي .
(2) الملاحق ، ملحق أميرداغ ، بديع الزمان سعيد النورسي /ج 2 ، ص 372
(3) السيرة الذاتية ، بديع الزمان سعيد النورسي ، ص 473

هشام بالرايس
30/05/2010, 02:46 PM
بسم الله الحمن الرحيم
السلام عليكم أخي الفاضل ارجو من جنابكم المحترم مدي بكل ما لديكم عن الشيخ سعيد النورسي من معلومات و كتابات لأنني بصدد إعداد دراسة عن هذه الشخصية التركية ولكم جزيل الشكر. يمكن مراسلتي على عنواني الالكتروني
berraies_hichem@yahoo.fr

حازم ناظم فاضل
30/05/2010, 09:44 PM
الاستاذ الفاضل هشام بالرايس المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يمكنكم الاطلاع على مدونتي
hazimnazim.maktoobblog.com
التعريف برسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي

وكذلك الاطلاع على المواقع :

http://www.saidnur.com/
سعيد النورسي

http://www.nursistudies.org/
النور للدراسات

http://www.resailinnur.com/
رسائل النور

http://www.pdfbooks.net/vb/thread14728-page2.html#post105710
مكتبـــة الإمام بديع الزمان النورسي

تحياتي .

هشام بالرايس
31/05/2010, 12:14 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل: الأستاذ حازم ناظم الفاضل شكرا جزيلا لك كل التقدير و الاحترام. سوف نتواصل من خلال البريد الالكتروني بإذن الله تعالى. محبتي و سلامي

محمد إسماعيل السجلماسي
17/06/2011, 01:33 PM
بسم الله الحمن الرحيم
السلام عليكم أخي الفاضل ارجو من جنابكم المحترم مدي بكل ما لديكم عن الشيخ سعيد النورسي من معلومات و كتابات لأنني بصدد إعداد دراسة عن هذه الشخصية التركية ولكم جزيل الشكر. يمكن مراسلتي على عنواني الالكتروني
berraies_hichem@yahoo.fr

ما أخبار كتابكم سيدي ؟