المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من أسالبيب التربية النبوية/الجمل الموسيقية/د.عثمان قدري مكانسي



نبيل الجلبي
15/06/2010, 01:34 PM
من أساليب التربية النبوية

الجمل الموسيقية

الدكتور عثمان قدري مكانسي

رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل من نطق الضاد ، فحين أوتي القرآن الكريم أوتي الحديث ليشرحه ويوضح متشابهه ويفصل مجمله . فكانت ألفاظه ومعانيه مشرقة أيّما إشراق ، بليغة قمة البلاغة . وقراءة في ( البيان والتبيين ) للجاحظ(1) ، نرى جمال العبارة في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقوة المعنى ، ولا غَرْو في ذلك ، فالذي نزَّل عليه القرآن علمه وأدّبه ، قال تعالى : ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )(2).

يقول الجاحظ في وصف أسلوب الحبيب المصطفى خير من نطق بالضاد : ( فكيف وقد عاب التشديق ، وجانب أصحابَ التقعيب ، وهجر الغريب الوحشيّ ، ورغب عن الهجين السوقيّ ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة ، وشيد بالتأييد ، ويسر بالتوفيق ، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة ، وغشّاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة والحلاوة ، وبين حُسْن الإفهام وقلّة عدد الكلام ، مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته ، لم تسقط له كلمةُ ، ولا بارت له حُجّة ، ولم يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب ، بل يبُذ الخُطبَ الطوال بالكلام القصار ، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصمُ ، ولا يحتجّ إلا بالصدق ،ولا يطلب الفلَج ( الفوز)إلا بالحق ، ولا يستعين بالخلابة ، ولا يستعمل المواربة ، ولا يهمز ولا يلمِز ، ولا يبطئ ولا يَعجَلُ ، ولا يُسهب ولا يحصَر ، ثم لم يَسمعِ الناسُ بكلام قط أعمّ نفعاً ، ولا أقصَد لفظاً ولا أعدلَ وزناُ ، ولا أجمل مذهباً ، ولا أكرمَ مَطلباً ، ولا أحسنَ موقعاً ولا أسهل مخرجاً ولا أفصح معنىً ولا أبْيَن في فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً ).
ملاحظة : قصدْت فقط الجمل الأخيرة مما نقلت عن الجاحظ ، وما سردتُ صفة كلام النبي صلى الله عليه وسلم كله إلا للتبرّك بمعرفة روعة أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - ليس غير.

فبالإضافة إلى المعنى الدال على أن اللغة العربية واضحة بينة ، معروفة بالبلاغة والبيان ، هناك معنى لطيف : إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فصيح اللسان ، بيّن النطق ، واضح العبارة . وكانت قراءته للقرآن على المشتركين تذلهم ، وقصة الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وأبي جهل بن هشام ، الذين سحرهم القرآن بلسان الرسول الكريم دالة على تأثيره فيهم ، لذلك روى القرآن عنهم موضحاً مكرهم : قال الله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )(3) .
والمقصود في هذه الآية عدم سماعهم للقرآن من منبعه البليغ الأصيل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهم لا يرغبون بسماعه ، ويحاولون الصياح في وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لا يدري ما يقول .

وقد قال مجاهد : ( المعنى والغَوا فيه بالمكاء " أي الصفير " والتصفيق والخلط في المنطق حتى يصير لغواً ) ، وقال أبو العالية وابن العباس : ( قعوا فيه وعَيَّبوه ( لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) محمداً على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب )(4) .
وقد وظف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصاحته وبلاغته في خدمة دعوته ، ومن أساليب هذه الفصاحة التي استمال بها القلوب : الجمل الموسقية من حسن في التقسيم ، وسجع ، ومقابلة ، وطباق . . .

وقد كان العرب يحفظون الشعر ـ وما أكثره ـ لموسيقاه ، فاغتنمها الرسول الكريم في الوصول إلى عواطفهم وقلوبهم ، ومن ثمَّ إلى عقولهم وأفكارهم .
ومن ذلك ما كتبه المغيرة بن شعبة إلى معاوية بما سمع من رسول الله : إني سمعته ينهى عن :
كثرة السؤال ، وإضاعة المال ، وقيل وقال(5) .
فأنت ترى معي جمال الموسيقى ـ في الجمل الثلاثة ـ الناتجة عن حسن التقسيم ، وعن السجع ( انتهاء الكلام باللام المسبوقة بالألف ) .
ونلمح أيضاً جمال التقسيم ، والسجع في هذا الحديث الذي رواه أبو أسيد ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رجل : يا رسول الله ، هل بقي من برِّ أبويَّ شيء بعد موتهما أبَرُّهما ؟
قال : نعم ، خصال أربع : ـ الدعاء لهما ، والاستغفار لهما ، ـ وإنقاذ عهدهما ، ـ وإكرام صديقهما ، ـ وصلة الرحم التي لا رَحمَ لك من قِبَلهما(6) .
نلاحظ تكرار ( هما ) في آخر كل خصلة من الخصال .

وانظر معي إلى هذه النواهي التي وردت متوالية ، كأنها عقد نضيد من التوصيات والحكم ، جاءت كموسيقا العرض العسكري الأخاذ :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تناجشوا(7) ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تنافسوا ، ولا تدابروا(8) ، وكونوا عباد الله إخواناً ))(9) .
وكذلك ما نراه في هذا الحديث الشريف : فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
عليك بالرفق فإنه لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شأنه(10) .
حسن التقسيم واضح في الجملتين ،
والمقابلة بينهما : ( لا يكون : لا ينزع ) ، ( زانه : شانه ) .
والجناس الناقص : ( زانه : شانه ) .
والسجع الجميل في ( النون والهاء ) في نهاية كل من الجملتين .
وكذلك نلحظ جمال التعبير الموسيقي الذي يأسر القلوب ، ويمتلك العواطف في الحديث التالي :
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
يسِّروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا(11)
جملتان متقابلتان فيهما موسيقى آسرة متنوعة ، تجمع بين حسن التقسيم ، والجناس ، والطباق دون تكلف أو تصنع ، ألم يقل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) .

الهوامش:

(1) الجزء الثاني : ص / 44 / ، طبعة دار الفكر للجميع ، 1968 .
(2) سورة الشعراء : الآية 195 .
(3) سورة فصلت : الآية 26 .
(4) تقسير القرطبي المجلد / 15 / في تفسير الآية السابقة من سورة فصلت : 26 .
(5) الأدب المفرد الحديث / 16 / .
(6) الأدب المفرد الحديث / 35 / .
(7) التناجش : أن تزيد في ثمن سلعة ليس لك بها حاجة تريد أن ترفع سعرها ليقع فيها غيرك .
(8) لا تدابروا : أي لا تقاطعوا .
(9) الأدب المفرد الحديث / 410 / .
(10) الأدب المفرد الحديث / 469 / .
(11) الادب المفرد الحديث / 473 / .

السعيد ابراهيم الفقي
18/06/2010, 11:53 PM
بوركت اخي نبيل