المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كرمة الوادى .. هدى هانم شعراوى



د/سمير رجب سليم
03/07/2010, 03:08 PM
كرمة الوادى ... هدى هانم شعراوى
( قصص من حياة الشاعر / محمود أبو الوفا )
فى حياة الشاعر/ محمود أبو الوفا 01900-1979 ) ، صور مضيئة للمرأة ، فلقد كان دائم الحديث عن سيدة فرنسية ، حولت منزلها إلى بنسيون ، و عن سيدة مصرية يكن لها كل الإحترام ، كانت لها مواقف إنسانية مشرفة مع الأدباء و الفنانين ،هى السيدة / هدى شعراوى ، و يجد أبو الوفا فى هاتين السيدتين نموذجا بشريا للمرأة فى كل مكان . فما قصتهما مع الشاعر / محمود أبو الوفا
هدى هانم شعراوى :
السيدة / هدى شعراوي (1878 ـ 1947م) هى‏ ابنة محمد باشا سلطان وزوجة علي باشا شعراوي ( ثالث الثلاثة الذين قابلوا المندوب السامى البريطانى مطالبين بإستقلال وطنهم يوم 13 نوفمبر 1918 ، وبعد نفى الزعيم سعد زغلول و رفاقه إلى مالطة ، قاد زوجها عمليات الثورة إحتجاجا على هذا النفى فى كل إنحاء البلاد )، و لقد بهرت تلك المرأة العقول بجمال حسها الوطنى ، و ثقافتها الرفيعة و حبها لخدمة المجتمع طيلة فترة حياتها، فلقد كانت هدى حلقة الوصل بين الحركات النسائية العربية ونظيرتها الغربية، إذ شاركت في 14 مؤتمراً نسائياً دولياً في أنحاء العالم
العربي، وأسست 15 جمعية نسائية في مصر وحدها، وكانت رئيسة الاتحاد النسائي المصري، وأسست مجلتين نسائيتين، واحدة بالعربية والأخرى بالفرنسية، ونقلت أفكار تحرير المرأة من مصر إلى بقية الدول العربية. ، و تحكى الدكتورة / ‏ كرمة سامي (جامعة عين شمس)، أن هدى شعراوى ، أنتبهت إلى واجبها نحو المجتمع منذ كانت شابه ، فقامت بتشيد مصنع الهدي للخزف عام‏1927‏ في منطقة روض الفرج‏,‏ و كانت أول من أسست ونشرت أول مجلة نسائية عربية‏ هى مجلة المصرية ,‏ وكانت ترعي من جيبها الخاص مسابقة في النحت لتخليد اسم الفنان / محمود مختار وتعين الفنانين التشكيليين علي الحياة بشراء أعمالهم‏,‏ وكانت تفتح بيتها صالونا ثقافيا لخيرة رموز العصر في المعرفة والثقافة في مصر‏,‏ تتقدم صفوف المظاهرات السلمية لتواجه في تحد فوهة بندقية جندي بريطاني‏,‏ وتسابق سياسيي عصرها وتتفوق عليهم في اظهار عشقها للوطن ومقتها للطغيان من كل نوع ، فلقد عاشت السيدة / هدى شعراوى حياتها الزاخرة حرة في مضمار الجهاد تؤمن إيمانا راسخا بأن القوة تفني والحق يبقي وتسعي نحو موقف شريف ومطلب مقدس للمرأة المصرية بأن تعيش حرة في وطن حر‏.‏
تكرس حياتها دون يأس تدعو إلي الاصلاح والحرية والمساواة وللدفاع عن الحريات ومحاربة الظلم بجميع اشكاله الذميمة تؤمن بأن تغذية الطفل وجدانيا ونموه العقلي لايقلان أهمية عن طعامه ونموه الجسماني‏.. تجاهد لنشر المعرفة وتعليم نساء الشعب مباديء علم الصحة والتمريض وبعض الصناعات اليدوية ومحاربة البدع والخرافات والمقاطعة العامة لكل ماهو انجليزي حتي لو تكبدت من مالها الخاص لكي تحقق مايتعسر تنفيذه من احلامها المشروعة‏.‏
و فى هذه الظروف كان قد مضى على الشاعر / محمود أبو الوفا ، أكثر من عشرة سنوات ، فى خلالها أعترف به القوم شاعرا و أديبا ، و أقيمت له الحفلات ، و سافر إلى باريس ليعود منها بالجهاز الصناعى ال\ى قالوا له عنه أنه له عمرا لا يتجاوز الخمس سنوات .
و يسرع أبو الوفا ، قبل إنتهاء هذه المدة ، فيطبع ديوانا ، تشترى منه وزارة المعارف عددا من النسخ ، بما قيمته نحو المائة و الخمسين جنيها ، و لكن الوزارة تماطل فى الدفع أكثر من ستة أشهر ، و الشاعر فى أمس الحاجة إلى هذا المبلغ ليسافر إلى الخارج و يشترى جهازا صناعيا بدلا من الذى نفذت طاقته . و أخيرا سقطت الوزارة ، و جاء للوزارة الدكتور / طه حسين ، وهو فى نفس الوقت ، أديب كبير. و يرسل له أبو الوفا و يبعث إليه أنه فى حاجة إلى هذا المبلغ ، وهو دين على الوزارة ، من الواجب أن تسارع إلى دفعه ، فلا يجيب الوزير ، و كأنه لم يقرأ ما أرسل له .
و يزور الشاعر السيدة / هدى شعراوى ، و تسأله : لماذا لا تلبس الجهاز و البدلة كما كنت ؟ . فيجيبها أن الجهاز مريض ، و لا يمكنه المشى ، و يشير إلى ما لدى وزارة التربية من نقود تكفى أن يسافر بها إلى باريس و يعود بجهاز آخر ، لكن الوزير الخطير لا يرد ، و الموظفون لا يبالون .و إذ بالسيدة هدى تقف و تستأذن من الشاعر أنها ستغيب عنه لحظات قليلة ، و ترجوه الإنتظار .
و ماهى إلا بضع دقائق ، حتى تعود ، فيقف الشاعر لعودتها إجلالا ، , إذ و هى واقفة تمد يدها إليه قائلة : أعتقد أن سفرك يحتاج إلى أكثر من هذا المبلغ ، و أنا أستسمحك أن تقبل هذا الشيك . فتردد الشاعر قليلا ، و لم يدرى كيف ينطق ، لكن السيدة لم تدعه يتكلف أى منطق ، و عادت تقول : إنك شاعر و أديب ، و لقد كان من الواجب على هذا الوزير ، و على غيره من الوزراء ألا يجشموك أى تعب .
إن مصر فى حاجة إلى شعرائها و أدبائها و فنانيها ، و لكنى أعرف هؤلاء الرجال قبل أن يكونوا وزراء يصيحون بالإصلاح و بالرغبة فى الخدمة العامة ، فإذا ما وصلوا لكرسى الوزارة ، لا أدرى ماذا يصيبهم فيه من الجفاف و الجمود !!
إننى لا أسمح لنفسى ، أن أكتب لهم ، ما داموا هم لم يفكروا فى إداء واجبهم الأول وهو العناية بالموهبين الذين هم الثروة الحقيقية لهذه البلد .
و يسرع الشاعر فى القول بأنه لم يكن يريد كل هذا ، كل ما قصد إليه هو أن تتحدث السيدة هدى إلى الوزير تليفونيا ليعطيه حقه ، فتمد السيدة / هدى يدها إلى الجيب العلوى لبالطو الشاعر ، و تضع الشيك قائلة : إنى أعمد – دائما – إلى أيسر الحلول فى كل شىء ....دعنا ، دعنا ، أظنك تستطيع أن تدخن هذه السيجارة ؟ . و تمد يدها له بسيجارة ، ثم و بسرعة بالولاعة . كل هذا والدهشة تعقد لسان الشاعر ، فلم يملك النطق حتى بكلمة شكر . و كأنها لحظت كل مشاعره هذه ، فانتقلت بالحديث قائلة : إننى سأسافر بعد شهر تقريبا ، و أتنمى مقابلتك فى باريس ، إن شاء الله .
و بعد يومين من هذا اللقاء ، يجىء وكيل أعمال السيدة / هدى إلى مطبعة مصر ( حيث كان يعمل الشاعر ) و يقدم له تذكرة سفر إلى فرنسا ذهابا و إيابا ، على الدرجة الأولى الممتازة ، فى باخرة سياحية . و توصى السيدة / هدى على خدمته و راحته فى هذه الباخرة .

صاحبت البنسيون :
و يصل الشاعر إلى فرنسا ، و ينزل فى أقرب بنسيون يقابله ، و تستقبله صاحبت البنسيون مرحبة ، و عندما تعرف أنه شاعر مصرى تزيد فى إكرامه و الحفاوة به ، و يلاحظ ذلك أحد النزلاء المصريين ، فيعلق على ذلك قائلا : إن المدام تحبك يا أستاذ أبو الوفا ،فيرد الشاعر أنه ليس فى باله شيىء من ذلك ، و علاقته –دائما – مع الجنس الآخر تتنزه عن هذا الغرض الحيوانى . فيضحك الشاب المصرى متخابثا و يقول : أنا أدرى بالفرنسيات منك يا أستاذ ، فالطريقة هنا أن يتنزهن معه و ياخذن نقوده ، يمكنك أن تجرب بنفسك .
و بالفعل ، يقترح الشاعر على صاحبت البنسيون التنزه معها ليعرف باريس ، و توافق هى بشرط أن يستكملا السهرة مع زوجها عند عودته من عمله مساء . وفى الموعد المحدد ، يعطى الشاعر للسيدة / صاحبت البنسيون مبلغ عشرة ألاف فرنك ، قائلا : إننى أضيق صدرا بإخراج النقود و المحاسبة فى الأماكن العامة ، فأرجو أن تأخذنى هذا المبلغ و تقوم بالمحاسبة بدلا منى . و يخرجا معا ، حتى يجىء ميعاد الزوج ، فينضم لهما ، و يستكملوا السهرة معا .
و فى صباح اليوم التالى ، يحضر الشاب المصرى ليعرف نتائج التجربة ، فيخبره أبو الوفا بماحدث ، فيصر الشاب على رأيه فى الفرنسيات . و بعد أربعة أيام ، يعرض أبو الوفا على صاحبت البنسيون الخروج معا مرة أخرى ، و يقدم لها أيضا عشرة آلاف فرنك ، و يخرجا معا ، إنما هذه المرة يستكملا السهرة بدون حضور الزوج .
يقول أبو الوفا : كان الحساب مع النزلاء يتم أسبوعيا ، أما معى فكان يقدم لى الحساب حينما أطلبه . و عندما طلبت الحساب بعد أسبوع من تلك النزهة التى دفعت فيها عشون ألف فرنك ، جائتنى فاتورة الحساب باللغة الفرنسية ، فعرضتها على سكرتيرى و صديقى ، و كان الحساب كما يلى :
النزهة الأولى تمت المحاسبة مناصفة ، حتى حضور الزوج . بعد حضوره أصبح الحساب على ثلاثة .
النزهة الثانية : الحساب مناصفة .
حساب الإقامة فى البنسيون
فكانت النتيجة أن لأبى الوفا ، باقى حساب مما دفعه سابقا ( العشون ألف فرنك ) .
و يسأل أبو الوفا صاحبت البنسيون إذا ما كانت هذه المعاملة خاصة به ، فتقول أنها تعامل جميع النزلاء نفس المعاملة ، فيسأل أبو الوفا : إذن ، ما هو مكسبك ؟
فتقول السيدة : زوجى و أنا من الأغنياء ، و أنا لم أنجب أطفالا ، و أريد عمل شيىء ، فراجعت دليل خدمات بلدى ، فلم أجد شىء تحتاجه فرنسا إلا سبقنى إليه الآخرون ، و عندما فكرت فى الذين يأتون إلى باريس يوميا و هم الآف ، من بينهم الشعراء و الفنانين و الرسامين ، و أصحاب الأمزجة المختلفة ، الأغنياء فى المشاعر ، لكن فقراء فى المال ، فإذا ذهبوا إلى أوتيل متوافق مع مشاعرهم لن تكفهم النقود ، و إذا ساروا حسب نقودهم ، فلن يجدوا راحتهم فى الإقامة . لذا قررت أن أعمل أوتيل يحس فيه الفرد بالراحة التى يجدها فى منزله ، و بتكاليف الإقامة فى بلده . فأنا لا آخذ إلا تكاليف الطعام فقط ، أما الخدمة فهى تقريبا مجانا . فأنا أعمل مجانا ، و المساعدة أنا مربياها ، و الصبى أجره بسيط . المهم أن النزيل يرتاح و لا يدفع كثير ، و أحس أننى أعمل شىء مفيد للذين يأتون إلى بلدى .
تليفون كرمة الوادى .
ذات يوم .. يدق التليفون فى الفندق ، و يعرف أبو الوفا أن السيدة / هدى شعراوى تريد محادثته ، و يسرع ابو الوفا للحديث ، و يتفقا على اللقاء و تناول الغداء معا ، فيشترط أبو الوفا أن يدفع هو الحساب ، و توافق هدى ضاحكة . و يتقابلا و يتجها إلى غابة و يتناولا طعامهما فى مطعم بجوار مسجد باريس ، و بعد الغداء ، تدخل السيدة / هدى محلا لبيع التحف الأثرية ، و تشترى كمية من الحلى و التحف اللآئقة بكرائم السيدات , و ما أن تعود مع الشاعر إلى الفندق ، حتى تنزل معه و تدخل الفندق و تقابل صاحبت البنسيون و تصافحها قائلة : هذا شاعر مصر ، أود أن تكون إقامته هنا مريحة إلى آخر مدى من الراحة ،ثم تقدم لها كل ما تحمله من الهدايا لتوزيعه على ما فى البنسيون ، القائمين على خدمته .
يقول أبو الوفا : تالله ، لقد أحمر وجه السيدة الفرنسية ، حينما رأت أنواع الهدايا ، مما جعلها تسأل عن تلك السيدة المهذبة الكريمة ... أهى إحد أميرات مصر ؟ إنها لم ترى فى حياتها سيدة ألطف ,و لا أرق و لا أكرم منها ؟؟؟. فقال لها أبو الوفا : إنها كرمة الوادى ، هدى هانم شعراوى .