المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العجوز



عبد الحميد الغرباوي
11/03/2007, 12:15 PM
العجوز

"لن ينام سكان الحي الليلة..."
همس العجوز في أذن الفتى الجالس إلى جواره و هو يمرر يدا ذهبت نضارتها على شعيرات بيض أبت إلا أن تتشبث برأس أضحت جرداء كأرض نضب فيها رحيق الحياة...
دقات *البندير و *الطعريجة تتقاطع فيما بينها في انتظام و تناغم، و أصوات نساء المجموعة الغنائية تساير جرات كمنجة رئيسها...
كان هذا المزيج يصل إلى العجوز و هو يقتعد كرسيا إلى جانب مدخل الدار، فيهز رأسه معبرا عن استحسانه، و رغبته في أن تطول جلسته هذه الليلة...
الليلة، ليلة عرس..
و حضوره دليل تعلق متين بالأسرة التي آوته و احتضنته في زمن عصيب، و جعلت منه ، مع توالي الأيام، فردا من أفرادها...
ـ مستر هوفمان، هل أعجبتك الأنغام؟
و هوفمان و كأنه لا يسمع..
ـ مستر هوفمان يريد أن يأكل من لحم الذبيحة..
هوفمان يضرب بقدميه على الأرض ضربات موزونة تساير إيقاع الموسيقى الصاخبة المنبعثة من عمق الدار...
ـ كم بقي له !؟..
ـ الأعمار بيد الله..
ـ كله شباب... انظر إلى قدميه تسايران الإيقاع بمهارة..
ـ كأنهما قدما شاب..
ـ يحب الطرب..
ـ و هل هذا طرب؟..
ـ مستر هوفمان، أين أنت سارح؟..
و ينتفض العجوز..
يهزه السؤال..
يتذكر كيف أن الأقدار رمت به هنا بعيدا عن الجذور ..
بعيدا عن التربة و الماء و مرتع الطفولة، بعد أن طاف و جال بقاعا، و عرف شعوبا، و تعلم لغات و لهجات، و شاهد ما شاهد، و بعد أن فقد آخر ما كان يربطه بالأرض الأولى: الزوجة و الولد، في حرب أهلية وُجِدُوا في أتونها صدفة.. و كيف أنه في لحظة من لحظات العمر، قرر أن يجعل من هذه البلاد ملجأه، و ملاذه الأخير..
ازدادت حدة الموسيقى..
و تعالت الأصوات حتى قاربت الصراخ تحاول جاهدة مسايرة إيقاع البندير و الطعريجة و جرات الكمنجة..
و يستحضر هوفمان من عمق ذاكرة عمرها ثمانية عقود، ليلة عرسه...
كانت ليلة ضحك فيها القمر و غنى..
و سهرت الطيور في أوكارها على غير العادة...
كانت ليلة كؤوس طافحة بالنشوة و الفرح..
ليلة أكل، التهمت فيها أكتاف و أفخاذ أكثر من ذبيحة واحدة...
و الكل غنى و رقص حتى الصباح..
و حبيبته فراشة رقيقة الأعطاف تختال في ثوب زفافها الأبيض...
و هو الأمير الوسيم السعيد الذي لا تسع الدنيا حجم سعادته...
أين تلك الوجوه الآن؟..
كيف صارت؟..
أين استقر بها الحال؟..
هل ظلت حيث كانت؟..
أم ترى تركت مثله الأرض و الديار و ركبت سفن الهجرة؟..
و تمُر، تمُر..
تمر في المخيلة صور أرض و وجوه، و لا تترك خلفها سوى بعض الرائحة..
هوفمان يبتسم..
هوفمان يدندن..
هوفمان يتنهد من الأعماق..
دمعة تنساب..
واحدة فقط..
تنساب في بطء..
و كأنما تنساب على إيقاع موسيقى جنائزية..
و تتوقف عند الخد...
هوفمان يبكي..
هوفمان يغمض عينيه...
ـ ما بك سيدي هوفمان؟..
ـ هل أنت متضايق؟..
ـ سيدي،...
هوفمان ينسحب و الابتسامة لا تفارق شفتيه..
في صمت ينسحب..
و من عمق الدار تنطلق زغرودة طويلة...
ـــ
البندير و الطعريجة: آلتا إيقاع

ريمه الخاني
11/03/2007, 12:18 PM
اتابع القصص التي تملك تورية شبه واضحة
دعني اصفق لك مشرفنا
اختك
ام فراس -سوريا

محمد فري
11/03/2007, 02:22 PM
وكأن العجوز مركب حط الرحال مضطرا عند شاطئ أو مرفأ وعجز عن مواصلة الإبحار..
لم تبق للعجوز إلا أزمنته الضائعة..يمخر فيها عباب ذاكرته..وتكون الإيقاعات الصاخبة بوصلته
فيهتز معها وجدانه وتسرح مشاعره
وصف جميل لحالة إنسانية
أهديك في نفس السياق رائعة جاك بريل Les Vieux
مع التحية الوارفة
محمـــد فـــري

عبد الحميد الغرباوي
11/03/2007, 06:05 PM
أتابع القصص التي تملك تورية شبه واضحة
دعني أصفق لك مشرفنا
أختك
أم فراس -سوريا
شكرا للمتابعة، مع خالص المودة أختي..

صابرين الصباغ
11/03/2007, 06:22 PM
اخي الفاضل عبد الحميد
تصوير لموت مازال يتنفس
رئته تتنفس هواء ذكرياته
عندما يصل قطار العمر إلى آخر محطاته فلا يسعنا وقتها إلا تذكر المحطات السابقة
بكل مافيها
احسنت سيدي في سرد هذه الحالة الانسانية الرائعة
دمت مبدعا سامقا

عبد الحميد الغرباوي
11/03/2007, 11:13 PM
وكأن العجوز مركب حط الرحال مضطرا عند شاطئ أو مرفأ وعجز عن مواصلة الإبحار..
لم تبق للعجوز إلا أزمنته الضائعة..يمخر فيها عباب ذاكرته..وتكون الإيقاعات الصاخبة بوصلته
فيهتز معها وجدانه وتسرح مشاعره
وصف جميل لحالة إنسانية
أهديك في نفس السياق رائعة جاك بريل Les Vieux
مع التحية الوارفة
محمـــد فـــري
شكرا للإهداء، أخي فري.جاك بريل من مطربي الأفاضل.
العجوز صاحبته في الواقع لساعات، حكوا لي عنه.. وَعَدْتهم أن أكتب عنه قصة .. عدت إليهم بالنص لأفاجأ بخبر موته.. جلست، و غيرت النهاية..
مودتي

بديعة بنمراح
12/03/2007, 07:38 PM
:fl:
الأخ المبدع عبد الحميد
قصة تصور حالة إنسانية . تغوص في أعماق الشخصية لتكشف لنا عن أرقها النفسي ، و تصور ألمها وذكرياتها ، فبطل القصة رغم أنه يبدو فرحا يتابع نغمات الموسيقى و إيقاعها ..لكن أعماقه تنزف حزنا على ماض سعيد انتهى .. ووحدة تجعل القلب ينفطر، وغربة أليمة. أسجل إعجابي.
تحية عطرة

عبدالرحمن الجميعان
13/03/2007, 12:04 PM
عبدالحميد
أهم ما يميز قلمك القصصي أنك تبتعد عن الحشو في التفاصيل، وتلك ميزة الكثيرون يفتقدها، فيسهبون في متاهات يتيه معها القاريء.
لديك في هذه وغيرها سرعة الحدث وتلك ميزة أخرى، وهنا تمتلك قلما تصويريا ذا رموز معبرة..( ليلة أكل، التهمت فيها أكتاف و أفخاذ أكثر من ذبيحة واحدة...)..!
وهنا القصة لا يحس القاريء معها بملل، يمضي وفق خطها الانسيابي الممتع..
النص يحمل بين ثناياه الكثير من المعاني والأفكار......
و العنوان نعم يذكرنا بهذا العجوز، وحسنا تركت الاسم بلا مدلول، هكذا ...والذكريات خدمت النص خدمة جليلة و وظفها الكاتب لتسد محورا كبيرا من محاور النص دون اللجوء إلى تفصيلات وسرد، وتوضيحات كما يفعل البعض، فالبعض يشرح ويسهب في تبيان حالة من الحالات، ولكن هنا تقنية جيدة و ظفها الكاتب تمام التوظيف..
ولكن تبقى النهاية هي المحور القابل للنقاش، في ظني أن النهاية لم تخدم القصة، ولم تتبين مرادها..إلا إذا ذهب كل منا على ما خيلت، أو ما نفهمه...فتلك قصة أخرى لها جذورها الضاربة في عمق الأدب..

صبيحة شبر
13/03/2007, 07:44 PM
عجوز تلقى به الاقدار على ارض غريبة
فيجد نفسه موزعا مشاعره في ارضه الاولى مع الزوجة
والعائلة ، وجسده الذاوي في الارض الثانية
انقسام بين الروح والجسد
نقلها لنا الكاتب المبدع بمهارة جميلة

محمد البوهي
14/03/2007, 10:25 AM
السلام عليكم ورحمة الله

الأستاذ القدير / عبد الحميد

نوع جديد من أسلوب إدارة الحوار ،
- متكلم مجهول.
- مخاطب متغير .
كل هذا لف بالرمزية الواضحة ، لنسمع معاً أصوات النغمات الشعبية الأصيلة ، حتى نهاية خرجت كمولد جديد .

مودتي

عبد الحميد الغرباوي
14/03/2007, 03:18 PM
أخي الفاضل عبد الحميد
تصوير لموت مازال يتنفس
رئته تتنفس هواء ذكرياته
عندما يصل قطار العمر إلى آخر محطاته فلا يسعنا وقتها إلا تذكر المحطات السابقة
بكل مافيها
احسنت سيدي في سرد هذه الحالة الانسانية الرائعة
دمت مبدعا سامقا
ـــ
صابرين الصباغ
وضعت أختي صابرين يراعك الشفاف على عنصر قوي من عناصر القصة...
أعجبني كثيرا هذا التعبير الشاعري: موت مازال يتنفس...رئته تتنفس هواء ذكرياته...
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
14/03/2007, 10:50 PM
... فبطل القصة رغم أنه يبدو فرحا يتابع نغمات الموسيقى و إيقاعها ..لكن أعماقه تنزف حزنا على ماض سعيد انتهى .. ووحدة تجعل القلب ينفطر، وغربة أليمة. أسجل إعجابي.
تحية عطرة
ـــ
بديعة بنمراح
النأي عن الجذور، معاناة لا يشعر بطعمها المر إلا من عاشها...اتمنى أن أكون قد وفقت في إلقاء بعض الضوء على هذا الرجل، و نقلت بعضا مما كان يجوش في داخله.
مودتي ... بديعة

عبد الحميد الغرباوي
16/03/2007, 02:56 AM
ولكن تبقى النهاية هي المحور القابل للنقاش، في ظني أن النهاية لم تخدم القصة، ولم تتبين مرادها..إلا إذا ذهب كل منا على ما خيلت، أو ما نفهمه...فتلك قصة أخرى لها جذورها الضاربة في عمق الأدب..
عبد الرحمن الجميعان
تحية حارة لأخي الجميعان، المواظب على مواكبة نصوص المنتدى بعين فاحصة، مدققة ..
و حسنا أن النهاية هي كما بدت لك مفتوحة على أكثر من احتمال، و لو أن ليس هذا الذي كان في حسباني...فالأسطر الأخيرة تحمل دلالة واحدة أحتفظ بها لنفسي حتى لا أكون موجها للقارئ..
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
16/03/2007, 03:01 AM
عجوز تلقى به الاقدار على ارض غريبة
فيجد نفسه موزعا مشاعره في ارضه الاولى مع الزوجة
والعائلة ، وجسده الذاوي في الارض الثانية
انقسام بين الروح والجسد
صبيحة شبر
العزيزة صبيحة، دمت مبدعة ، و رفيقة على درب الكلمة الصادقة

ثروت الخرباوي
16/03/2007, 04:01 PM
الأديب الكبير الأستاذ عبد الحميد

إستطعت باقتدار أن تجسد لنا حالة شعورية فريدة ... عميقة ... تحمل شجنا ... والغريب .. أن هذا الشجن ينبعث من قلب الفرح والموسيقى ... شعرت برحلة الزمن التي مرت على قلب رجل ... شعرت أن الزمن هو بطل قصتك .. ويبدو أنه بطل قصتنا في الحياة

تقديري البالغ لقصتك الحكيمة

عبد الحميد الغرباوي
18/03/2007, 02:10 AM
الأستاذ القدير / عبد الحميد
نوع جديد من أسلوب إدارة الحوار ،
- متكلم مجهول.
- مخاطب متغير .
كل هذا لف بالرمزية الواضحة ، لنسمع معاً أصوات النغمات الشعبية الأصيلة ، حتى نهاية خرجت كمولد جديد .
مودتي/ محمد البوهي
خير الكلام ما قل و دل. و لا يقدر على مثل هذا الكلام إلا قاص متمكن.
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
03/06/2007, 05:21 PM
إستطعت باقتدار أن تجسد لنا حالة شعورية فريدة ... عميقة ... تحمل شجنا ... والغريب .. أن هذا الشجن ينبعث من قلب الفرح والموسيقى ... شعرت برحلة الزمن التي مرت على قلب رجل ... شعرت أن الزمن هو بطل قصتك .. ويبدو أنه بطل قصتنا في الحياة
تقديري البالغ لقصتك الحكيمة
ثروت الخرباوي
أخي و عزيزي ثروت،
كيف لم أنتبه إلى تعليقك؟...
و لولا ضيفا شاهدته يطالع القصة، فذهبت إليها مسرعا لأ تفقد أحوالها مع القراء، ما كنت سأقرأ تعليقك العميق ،و لو أنه في بضع كلمات، على قصة " العجوز"..
أخي الخرباوي، دمت رائعا...
مودتي

محمد فؤاد منصور
04/06/2007, 02:05 AM
الأخ العزيز عبد الحميد الغرباوى
تصوير دقيق لمشاعر إنسانية راقية تجمع بين بنى البشر على إختلاف أجناسهم ، نحن أمام تصوير رائع لأنسان أغترب عن أرضه ومدّ جذوره فى أرض غريبة ولأن المشاعر الأنسانية واحدة فقد حملته السعادة التى يراها إلى قلب لحظات سعادته رغم إختلاف مظاهر الفرح وإختلاف الإيقاع لقد نقله الموقف عبر الزمان ليموت محمولاً على أنغام الموسيقى بينما تنبعث من داخله موسيقاه الخاصة وإيقاعته هو آثر أن ينسحب فى لحظة التعانق الرائعة.
قصتك ياأستاذ تثير التأمل والشجون خاصة لأولئك الذين أكتووا سنيناً بنار الغربة وكما قيل:لايعرف الشوق إلا من يكابده ولاالصبابة إلا من يعانيها.
سلمت يداك يا شيخنا. وتقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية

عبد الحميد الغرباوي
07/06/2007, 12:17 AM
تصوير دقيق لمشاعر إنسانية راقية تجمع بين بنى البشر على إختلاف أجناسهم ، نحن أمام تصوير رائع لأنسان أغترب عن أرضه ومدّ جذوره فى أرض غريبة ولأن المشاعر الأنسانية واحدة فقد حملته السعادة التى يراها إلى قلب لحظات سعادته رغم إختلاف مظاهر الفرح وإختلاف الإيقاع لقد نقله الموقف عبر الزمان ليموت محمولاً على أنغام الموسيقى بينما تنبعث من داخله موسيقاه الخاصة وإيقاعته هو آثر أن ينسحب فى لحظة التعانق الرائعة
د. محمد فؤاد منصور.

قراءة عاشقة، من أديب بارع في مغازلة الكلمة.
مودتي

سمير الشريف
07/06/2007, 12:42 AM
أستاذنا عبد الحميد........
تحية أدبية خالصة....
ثيمة إنسانية ، وظفت خلالها الصورة المعبرة والضمائر المنوعة
وذلك الدفق الأسيان الجارح من تيار الوعي.
دمت أديبا متالقا .

عبد الحميد الغرباوي
07/06/2007, 12:54 PM
سلمت أخي، سمير، و دام يراعك قلما إبداعيا متألقا.
مودتي