المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تهويد القدس .. إلى أين ؟ : د . لطفي زغلول



لطفي زغلول
12/07/2010, 05:12 PM
تهويد القدس .. إلى أين ؟
د . لطفي زغلول
www.lutfi-zaghlul.com

نشرت مؤخرا جريدة"هآرتس" العبرية مزيدا من التفاصيل حول ما وصفته"المخطط الهيكلي" الأول للقدس الموحدة. وبلغة أدق وأوضح ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية. ويتضمن هذا المخطط توسيع المستوطنات اليهودية جغرافيا وديموغرافيا.

سوف تضفي المصادقة على هذا المخطط "شرعية تنظيمية إسرائيلية" لضم القدس الشرقية من طرف واحد، وإيجاد مساحات واسعة لإقامة مستوطنات، وبناء فندقين كبيرين يتسعان لألف وأربعمائة غرفة في القدس الشرقية.

تسوقنا هذه المقدمة إلى ما تتعرض له القدس من هذه المخططات التهويدية المستمرة. مثالا لا حصرا هدم منازل المواطنين المقدسيين. الإستيلاء بالقوة على الأراضي بعد هدم ما عليها من عقارات. سحب هويات المواطنين المقدسيين. طرد هؤلاء المواطنين خارج أسوار المدينة المقدسة. تغيير معالم المدينة المقدسة، والهدف هو تهويدها، وهذا غيض من فيض.

هذا كله لإضافة إلى ما يتهدد الأقصى المبارك من أخطار الإقتحام، وإنزال أي شكل من أشكال التدمير والهدم وإلحاق الأذى به، يصبح الحديث حينها عن القدس والأقصى في هذه الأيام بالذات، ليس باعتبارهما من الثوابت الفلسطينية فحسب، بل باعتبار ما يدبر لهما من مخططات ومكائد ونوايا عدوانية، قد يتوهم المعتدون بذلك أنهم يتخلصون من أهم هذه الثوابت وأخطرها.

إن القدس ليست مجرد جغرافيا إسلامية كبقية الجغرافيات الممتدة على القارات التي بسط الإسلام نفوذه عليها. إنها جغرافيا لها قداستها الخاصة منذ أن أسرى الرسول الكريم (ص) إليها، وعرج منها إلى السماء، ومنذ أن كانت قبلة المسلمين الأولى، وأقيم على ثراها المبارك ثالث الحرمين الشريفين. فهي بحق منظومة عريقة من تراث العقيدة، وأمجاد التاريخ، وأصالة الجذور.

إضافة إلى كل هذا ، ففيما يخص القدس فلدى دراسة أحيائها وساحاتها وحاراتها وطرقاتها ومساجدها ومبانيها ومرافقها الأخرى، فإنها تشهد بما لا يدع مجالا للشك، أنه ما من خليفة أو سلطان أو أمير أو وال أو قائد إسلامي على مر العصور، إلا وحرص حرصا شديدا أن يكون له شرف إضافة مجيدة لأقصاها المبارك، ومسجد صخرتها المشرفة.

ناهيك عن غالبية مرافقها الأخرى التي ما زالت شاهدا عليها ما تحمله من أسماء وتواريخ وأحداث، وما تتوارثه الأجيال من ذكريات تضحيات تجلت يوم سقطت القدس في أسر الصليبيين طيلة قرنين من الزمان، فظلت جرحا نازفا في قلب الأمة الإسلامية، وأرقا ماثلا في ذاكرتها حتى كان يوم تحريرها.

إن الحديث عن القدس ذو شجون وأشجان، ذلك أن راهنها هذه الأيام يستحوذ على تفكير الفلسطينيين القيمين عليها، وهم الذين وضعوا قضيتها في كفة ميزان ومجمل العملية السلمية في الكفة الأخرى.

إن الطروحات المشبوهة والمشروعات الإستفزازية المخصصة للقدس تتصف بالسطحية وتشتم منها رائحة الإحتيال ومحاولة التخلص من هموم عدم الإعتراف القانوني الدولي، وإفرازات ما آلت إليه أحوالها منذ العام 1967 على الساحات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية.

بداية لقد أقدمت سلطات الإحتلال الإسرائيلي في العام 1967، وهو العام الذي احتلت به القدس، على ضمها للكيان الإسرائيلي، وتوحيد شطريها الغربي والشرقي، معلنة بذلك أن القدس هي عاصمة إسرائيل "الأبدية".

شيئا فشيئا وفي إطار خطة مدروسة، ومعدة سلفا بدأ المسلسل التهويدي الذي أعده الكيان الإسرائيلي للقدس، بغية الإستيلاء عليها، والإنفراد بها. لقد كان المسجد الأقصى أول ضحايا هذا المسلسل التهويدي. ففي العام 1969، أقدم مستوطن إسرائيلي على إشعال النار فيه، بهدف التخلص منه نهائيا، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه.

لقد أتت النيران على ما مساحته 1500 م مربع من المسجد، إضافة إلى حرق منبر صلاح الدين والمحراب. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي فترات لاحقة، وتحديدا في العام 1996 وما بعده تم حفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى المبارك التي شكلت تهديدا خطيرا لأساساته والأسوار المحيطة به.

والفلسطينيون لا ينسون تلك المخططات والمشروعات والمقترحات المشبوهة التي استهدفت الأقصى المبارك. تارة يقترح الإسرائيليون اقتسام الأقصى بحيث يكون لهم ما تحته وللمسلمين ما فوقه. وتارة يطالبون باقتسامه مناصفة على طريقة اقتسام المسجد الإبراهيمي في مدينة خليل الرحمن. وتارة يطالبون ببناء كنيس لهم في باحات المسجد الأقصى. وما بناء كنيس لهم أمام المسجد الأقصى إلا مقدمة لما يضمرونه للأقصى المبارك.

إستفزازات خطيرة ولها دلالاتها حدثت فيما يخص المسجد الأقصى على أيدي ما يسمى أمناء الهيكل، ولا ينسى الفلسطينيون بعامة، والمقدسيون بخاصة يوم طاف أولئك الأمناء في شوارع مدينة القدس في شاحنة تحمل حجرا ضخما، أطلقوا عليه مسمى حجر الأساس الذي يجهزونه حسب أوهامهم لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاض الأقصى المبارك لا سمح الله ولا قدر.

وبعد ذلك استمر هذا المسلسل الذي لم تنقطع حلقاته عبر الأيام والشهور والسنين. وها هو اليوم بعد أربعة وأربعين عاما هي عمر الإحتلال الإسرائيلي لبقية الوطن الفلسطيني ما زال قائما، ولكن بوتيرة أسرع.

لقد كان بناء المستوطنات الإسرائيلية حول القدس، وتطويقها ببحر إستيطاني أول عمل تهويدي خطير. حتى الآن تم إقامة 15 مستوطنة، يسكنها حوالي 270 ألف مستوطن وذلك بغية تغيير واقع هذه المدينة المقدسة الجغرافي والديموغرافي، وإزالة مساحة شاسعة من طابعها الفريد. وهكذا فإنه يمكن القول إن القدس التاريخية قد كانت ضحية الإستيطان الذي نما وترعرع في ظل صمت الأنظمة العربية والإسلامية.

إلا أن الحكومات الإسرائيلية أيا كان لون طيفها السياسي يمينية كانت أم يسارية، لم تقف عند حدود هذه المستوطنات التي افترست مساحات شاسعة من أراضي القدس، وأوصلتها حتى حدود مدينة أريحا، إن هذه الحكومات قد بدأت مرحلة جديدة في تهويدها لمدينة القدس.

ولطالما كان قلب المدينة المقدسة هدفا للأطماع الإسرائيلية. وكلنا نذكر يوم أن وضع الجنرال أرئيل شارون، وكان يومها وزيرا للدفاع، يده بالقوة على أحد بيوتات القدس، ورفع العلم الإسرائيلي عليه. وهكذا أصبح المجال مفتوحا أمام كل الطامعين ببيوتاتها من المستوطنين أن يقتحموا البيوت التي يريدونها بقوة السلاح، ويطردوا أهلها الشرعيين منها.

وجنبا إلى جنب مع هذه المرحلة، كانت الجرافات الإسرائيلية تقوم بهدم منازل الفلسطينيين من مواطني القدس بذريعة أن بناءها غير مرخص، ومخالفة للتنظيم الذي وضعته بلدية القدس الخاضعة للنظام الإسرائيلي. وفي نفس الوقت فإن هذه البلدية لم تكن بأي شكل من الأشكال تمنح المواطنين العرب المقدسيين تراخيص للبناء، في حين أغدقتها على المستوطنين ووحداتهم الإستيطانية.

ويتمادى الإحتلال الإسرائيلي كونه لا يجد من يردعه، أو من يوقفه عند حده. ها هو يجرد المواطنين المقدسيين من أوراق تثبت أنهم مواطنون ينتمون إلى هذه المدينة. لقد قام مؤخرا بتجريد 4500 مواطن مقدسي من هذه الأوراق الثبوتية، ويمنع إقامتهم ويطردهم من مدينة القدس التي ولدوا فها وترعرعوا وعاشوا أبا عن جد، ولطالما ارتكب مثل هذه الجريمة النكراء.

وها هو يخطط لمنع أذان صلاة الفجر في المسجد الأقصى المبارك، بحجة أن هذا الأذان يزعج المستوطنين ويقلق راحتهم. واستكمالا فإن أحد مشروعاته القريبة التنفيذ تفريغ المتحف الإسلامي من كل آثاره ومحتوياته، وتحويله إلى كنيس يهودي.

ومن جديد مشروعاته ومخططاته مصادقة اللجنة المحلية للتنظيم والبناء الإسرائيلية في القدس في هذه الأيام على إيداع مخطط لإقامة " بيت شتراوس " في ساحة البراق، وسوف يؤدي هذا المخطط إلى زيادة مساحة البناء القائم في الساحة بحوالي 944 مترا مربعا.

ينص هذا المخطط على إقامة مركز شرطة، ومركز تربوي، ومكاتب لما يسمى"إرث حائط البراق الذي يسميه اليهود حائط المبكى"، بالإضافة إلى مبنى خدمات عامة. وما زال في جعبة الإحتلال الشيء الكثير، طالما ليس هناك من يقول له من المسلمين"إلى أين؟".

ثمة حقائق في هذا الصدد لا ينبغي إغفالها، أو التغاضي عنها، أو الإلتفاف عليها. الحقيقة الأولى مفادها أن الشعب الفلسطيني قد تصدى، وما زال يتصدى بأقصى ما أوتي من طاقة ومقدرة لهذه المخططات والمشروعات التهويدية لمدينة القدس. وهو على شرف هذه المدينة قدم مئات الآلاف والآلاف من الشهداء والجرحى والمعوقين والأسرى، وما زال يقدمهم غير شاك ولا متذمر.

الحقيقة الثانية حالة الصمت التي أصابت الأنظمة العربية والإسلامية، وهي بصحيح العبارة حالة من التعاجز وعدم المبالاة إزاء كل ما يدور على الساحة الفلسطينية، وبخاصة الساحة المقدسية التي ما عادت لها تلك الأولوية على الأجندات السياسية العربية والإسلامية.

الحقيقة الثالثة أن هذه الأنظمة قد نسيت، أو أنها تناست أن القدس قبل أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة، هي جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية السمحة، والتاريخ الإسلامي المجيد، وأن مقدساتها إرث إسلامي يشترك فيه كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

والحقيقة الرابعة، أن هذه الأنظمة قد قصرت في حق القدس والأقصى أيما تقصير، وهذا هو التفسير الوحيد الذي في ضوئه يتصرف الكيان الإسرائيلي ويصول ويجول في القدس كيفما يشاء ويحلو له.

والحقيقة الخامسة وقد لا تكون الأخيرة، لقد قارب الكيان الإسرائيلي من استكمال تهويد القدس، وهو حقيقة لا ريب فيها. وعلى الأرجح أن المساحة الكبرى من هذا التهويد قد أنجزت، ولم يتبق لإنجازه إلا الشيء القليل.

ويبقى السؤال الكبير: إلى متى ستظل الأنظمة العربية والإسلامية سادرة في تغافلها؟ أما آن لها أن تترجل عن هذا التغافل وتصحو صحوة تعيد لها ما فقدته من هيبتها وكرامتها وحميتها التي كانت في يوم مضرب الأمثال؟. أم أنها ستظل على هذه الحال لاسمح الله. وإن غدا لناظره قريب.