المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محمود أبو الوفا و أمير الشعرء



د/سمير رجب سليم
13/07/2010, 05:40 PM
محمود أبو الوفا وأمير الشعراء / أحمد شوقى
(الحادث الذى هز كيان الشاعر )
فى فبراير 1927 ، أعلنت الإذاعة و الصحف المصريف عن حفل تكريم لأمير الشعراء / أحمد شوقى ، و لقد دعت الإذاعة - بهذه المناسبة – شعراء الأمة العربية للتقدم بقصائدهم إلى لجنة التحكيم ، التى ستختار أفضل القصائد لإذاعتها ، طوال فترة المهرجان ، و طلب من اللجنة أن يذكر الشعراء عناونيهم ، ليتسنى إخطار الفائزين بمكان و زمن إلقاء قصائدهم .
كان أبو الوفا – فى هذا الوقت – يدير مقهى بلدى ، يعرف رواده أنه شاعر ، فألحوا عليه الإشتراك فى هذا المهرجان ، فوافق و كتب قصيدة من 26 بيتا كان مطلعها :
هل يهز الملائك الإطراء ليت شعرى ، و أين منه الثناء
طار بى الحبُ من سماء لعمرى ليس فيها ، لمثل نجمى ضياء
و فيها أيضا يقول :
برهن الشرقُ أنه عاد حيا حين عادت تكرم الشعراء
و إذا ما الشعوب سادت نفوسا ساد فيها البيان و الإنشاء
بشر القوم فالحياةُ شعور حيثما كان كانت الأحياء
إلا أن الشاعر كان يائسا من فرصة إختيار قصيدته من القصائد الفائزة فى المهرجان ، لكثرة الشعراء الكبار ، الذين سيتقدمون فى المسابقة . لذا أرسل قصيدته ، و كتب عليها أسمه و نسى أن يكتب عنوانه .
فى أواخر إبريل 1927، ماجت القاهرة بوفود الأقطار العربية التى جاءت لحضور حفلات تكريم أمير الشعراء / أحمد شوقى ، و بدأت الإحتفالات فى الجمعة الموافق 29 إبريل 1927 حتى يوم 6 مايو من نفس العام .
, وفى مساء الأثنين 2 مايو من نفس العام ،كانت حفل سمر بنادى الموسيقى الشرقية ، بالقاهرة ، و يذهب أبو الوفا مع بعض اصدقاءه ، و عند مدخل الدار يتقابل مع صديقه القديم الموسيقار / محمد عبد الوهاب ، و ما إلا خطوات حتى يكونا داخل قاعة الإحتفال ، و يمر أمامهما أحمد حافظ عوض ، سكرتير لجنة تكريم شوقى ، فيسأله عبد الوهاب عن شاعر الليلة ، فيخبره أن القصيدة المختارة الليلة لشاعر أسمه محمود أبو الوفا ، و نظرا لأنه لم يذكر عنوانه ، فلم تتمكن اللجنة من إخطاره ، و لهذا سيلقيها أديب آخر .
فسأل عبد الوهاب : و إن كان موجودا ؟
فأجاب أحمد حافظ : يلقيها هو .
فأشار عبد الوهاب إلى صديقه الشاب ذو الجلباب و العمامة قائلا : هاهو الشاعر محمود أبو الوفا .
و بدا على وجه سكرتير اللجنة علامات الإستنكار لمظهر الشاعر ،و يحس الشاعر بذلك من النظرة و من طريقه سؤاله: أأنت محمود أبو الوفا ؟ ! . فيرد عليه الشاعر بتحد : يمكن .
- يمكن يعنى إيه ؟؟
- يعنى يمكن أكون أنا ، و يمكن يكون غيرى أسمه محمود أبو الوفا ، و يكون هو صاحب القصيدة المختارة .
فيعاود سكرتير اللجنة سؤال الشاعر : هل تحفظ القصيد ؟ ... فيرد الشاعر بالنفى .
فيسأله سكرتير اللجنة إذا ما كان يحفظ مطلعها ؟ .. فيجيبه الشاعر بالإيجاب و أن مطلعها هو :
هل يهز الملائك الإطراء ليت شعرى ، و أين منه الثناء

فيتأكد سكرتير اللجنة ، من أن الواقف أمامه هو بالفعل الشاعر صاحب القصيدة المختارة ، فقال له: بالضبط ، بالضبط هذا هو مطلع القصيدة المختارة ، إذن ستلقيها الليلة .
و يجىء شوقى و يسأل عن صاحب قصيدة الليلة ، فيعرف أنه ذلك الشاب ذو العمامة و الجلباب و البالطو ، المستند على عكاز بجوار محمد عبد الوهاب ، فيدخل شوقى أحد القاعات ، و تحدث جلبة و ضوضاء فى القاعة، فيذهب بعض الأصدقاء لإستجلاء الأمر ، إلا أنهم لا يعودون ، فيستأذن عبد الوهاب من الشاعر ليستطلع سر هذه الجلبة ، إلا أنه أيضا ، لا يعود . فينتاب الشاعر الشعور بالقلق ، و يذهب إلى مصدر الضوضاء ، و يدخل القاعة ، و إذ به يجد أمير الشعراء يصرخ فى وجه سكرتير لجنة التحكيم ، قائلا : مستحيل ...مستحيل .. مستحيل . ياأنا ياهو . و يدرك أبو الوفا أنه المقصود بهذا ، فيسرع ، و يمد يده ليقبض على ذراع أمير الشعراء ، قائلا فى عصبية : هو .. هو مين ، هو يخرج بره ، و تبقى أنت ... أنت العريس يا شوقى بك .
يقول الشاعر " آلمنى جدا ما قاله أمير الشعراء ، و قلت ما قلت ... و أنا فى طريقى للخارج ، وسط دهشة الحاضرين رن فى أُذنى صوت لا أنساه أبدا يقول : إيه يا ناس الظلم ده ، واحد ربنا قدره و أعطاه و قال ، منسمعش منه علشان فقير ؟!!، و يلحق بى صاحب الصوت ... إنه الفنان / عزيز عثمان . و يخرج معى ، و يلح فى ركوبى معه سيارته . و يأخذنى إلى منطقة الهرم حيث نقضى سهرة ممتعة إلى ساعة متأخرة من الليل .
و تخرج صحيفة عكاظ الأسبوعية ، المعروفة بنشر أخبار أمير الشعراء ، لتكتب تعليقا على ما حدث ،ليلة الإحتفال ، ُتعيب على لجنة الإحتفال سوء إختيارها أبو الوفا ، وتقول : إنه من سوء إختيار اللجنة ألا تجد غير شاعر ، رث الثياب ، مهلهل الجلباب ، مقطوع الساقين ، يمشى على عكازتين لتمثيل شعراء مصر فى هذا المرجان . و كأن المحرر أراد تبرير تصرف أمير الشعراء، فلم يكتفى بالكذب فى وصف ملابس الشاعر ، إنما وصفه بأنه مبتور الساقين ، إمعانا فى إزدراء الموصوف .
كان هذا الحادث صدمة شعورية هزت أعماق أبو الوفا ، و أسقطت ما كان يكنه لأمير الشعراء من إحترام و إجلال . و تساءل : من أنا حتى يقف منى شوقى هذا الموقف ، و لماذا يقف شوقى هذا الموقف من إنسان جاء ليحييه ؟؟!
و أفزعه أن يكون هذا هو حاضره كشاعر ، و أشفق على مستقبله فى بلد يتقرر فيه المصائر بهذا النحو . و تهتز أمامه القيم ، و يقذفه هذا إلى ما يقرب من الياس ، كان يأمل أن يكون شاعرا ... و الآن ضاع هذا الأمل .
و يستمر أبو الوفا فى صراعه الحيوى من أجل إكتساب لقمة العيش ، فيعمل فترة بائع فول مدمس ، ثم بائع سجائر ، ثم سمسار أراضى زراعية ، ثم مساعد و سكرتير فى نقابة المهن الزراعية مع الشاعر / مطران خليل مطران ، ثم متعهد لإقامة الحفلات ، ثم بائع قصائد و أغانى .. حتى يتقابل مع الشاعر / أحمد زكى أبو شادى ، و يعمل بمجلة المقتطف عام 1930 .