المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين العبقرية والامراض النفسية



تميم فخري الدباغ
13/03/2007, 10:07 AM
السلوك الإنساني
الحقيقة والخيال !
من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه في مجلة العربي الكويتي

الفصل الثاني / أضواء عَلى النّفسْ البَشريّة
بَين العبقرية والأمراضِ النفسيّة
من المعروف أن أي أنتاج أدبي أو فني أو فلسفي يرتبط بجذور نفسية في شخصية الأديب أو الفنان أو الفيلسوف . أي أن الفكر والأدب والفن يتفاعل مع وجدان المنتج وذهنيته قبل أن يصل إلى العالم ، ولولا ذلك لأصبح الإنسان آلة مجترة لا فضل لها في تطوير وتحسين ، أو حذف وإضافة ابتكار واختراع . وإذا سلمنا بهذه الأوليات الفكرية أدركنا أن الإنتاج الفكري والفني لا يمكن عزله وتجريده عن شخصية صاحبه مهما حاولنا إغفالها أو تجاهلها ، وشخصية المبدع - كأية شخصية بشرية - تعتمد على كيفية نضجها منذ الطفولة وحتى البلوغ وعلى نوعية التجارب والظروف الحياتية التي يمر بها ، وعلى المؤهلات الجسمية والوراثية أيضا ، ومن دراسة تاريخ حياة الإنسان نستطيع تبرير سر نبوغه في ميدان فكري دون آخر ، ونستطيع تفسير طبيعـة إنتاجه وهواياته واتجاهاته وفلسفته في الحياة .
وليس سرا على القارئ المتتبع الفطن أن يستنتج أن الأدب المتشائم غالبا ما يصدر عن نفسية قاتمة يائسة ، وأن الشعر الرمزي المغلق ينتج عن نفسية مغلقة تميل إلى التعقيد إن لم تكن معقدة بالأصل ، وأن المغامرات والبطولات قد تنتج عن أوجه متعددة وتفاسير مختلفة وأسباب مختلفة وأسباب متباينة أيضا ، أي قد يكون الرمز متعمدا لحماية النفس من نقمة أو سلطة أو رياضة الاستعلاء على الآخرين ، وقد تكون أحاديث المغامرة أحلاما نفسية خجولة منكمشة تعوض عن شعورها بالعجز ، ومهما كانت النتائج ، فان رابطة منطقية تصل بين الشخصية وإنتاجها .
واعترافنا الضمني بالعلاقة اللازمة بين نفسية الإنسان وإنتاجه يترتب عليه إقرارنا بضرورة تقبل الإنتاج كما هو مجردا عن السلوك الفردي أو الأخلاقي ، ولإيضاح ذلك يمكننا مناقشة الإنتاج بالقياس إلى الصفات الشخصية .
بين الإعجاب والازدراء ...
كثيرا ما يصادف أن يتصاعد إعجاب الفرد بإنتاج ما إلى حدود خيالية ، وترتفع معه شخصية الكاتب أو الفنان إلى درجات من السمو والتقديس ، وتحاط شخصيته بهالة مغرقة في السمو ، ثم يصادف أيضا أن يكتشف ذلك الفرد ثغرة أو مثلبة أو حدثا ينقص من شخصية ذلك المفكر أو الفنان ، فتجعله يرتد إلى حالة من خيبة أمل وفشل أليم ، وينهار معه الإعجاب السابق وتختلط عليه القيم ويشعر بالأسى وربما بالازدراء تجاهه .
وخيبة الأمل هذه تدل على أن العوامل الفردية والأخلاقية اتخذت كأدوات تقييم للإنتاج ، وأن التقييم انتقل من الموضوعية إلى العاطفية ، أي إلى الازدواجية والتناقض وذلك لسببين :
الأول : لان الناحية الفردية للفكر أصبحت ميزانا وامتحانا لإنتاجه .
والثاني : لان اتخاذ موقف التقييم استنادا إلى الشخصية لابد أن يؤثر في الإنتاج ، شئنا أو أبينا . فكيف نتوصل إذن إلى موقف عادل ؟ .
وقبل الإجابة على ذلك ( وهي مهمة عسيرة ومسئولية دقيقة تواجه النقاد قبل كل شيء ) ، قبل كل ذلك فلنستعرض نماذج من الشخصيات التاريخية وما كشفه علم النفس من اضطراباتها وأمراضها التي عانتها :
كير كجارد .... والوجودية
الفيلسوف الديني الدنمراكي كير كجارد (1813 - 1855) ، كان ناقما على الفلسفة التخمينية ، كتب عن الوجود والعدم ، وعن الإيمان والحقيقة والعقل . وكانت أفكاره أساسا للوجودية الحديثة والوجودية الدينية الثائرة على مفاهيم البروتستينية . وهو القائل : (الحقيقة هي الذات . . والحقيقة هي ما يحققه الفرد) . ولكن المعروف عن كيركجارد أنه كان مصابا بتقلبات وجدانية تتراوح بين الاكتئاب الشديد إلى المرح الطبيعي ، وهذا ما ينطبق على أعراض المرض المعروف بذهان الكآبة والهوس الدوري . ومرض الكآبة يثير في المصاب نظرة نقدية للإنسان والوجود وجدوي الحياة بل ربما يجعله فيلسوفا أحيانا . وكان كيركجارد يطوي في ذاته شعورا بالإثم منذ صباه لان والده كان قد هاجم الدين مرة أمامه وكفر في شبابه .
فهل أصول الفكر الوجودي الذي نعرف به وزنه ودعاته كان نتاجا لذهنية مكتئبة وشخصية معقدة متقلبة الطباع . وهل يكفي ذلك للطعن في صحة الفكر الوجودي ؟؟
اوسكار ويلد .. والانحراف
والكاتب القصاص الروائي الانكليزي اوسكار ويلد (1854- 1900) ، كان يقطر نقدا وسخريـة على قيود المجتمـع . وكان ناقدا للخير والشر (قصة دوريان جراي) ، وداعية للفن والجمال ، ورافعا لشعار (الفن من أجل الفن) ، وكان صريحا وثائرا وعبر عن تحديه وثورته على المجتمع الانجليزي في أواخر القرن التاسع عشر بملبسه وهيئته الاجتماعية فراح يرتدي ملابس غريبة الألوان ، مضحكة وشاذة لا يمكن إغفالها بين آلاف الناس . وكانت هيئته وتصرفاته نسائية ، وقد اتهم اوسكار ويلد أيضا بالانحراف الجنسي ، وسجن لمدة سنتين لمخالفات أخلاقية ، إلا أن كتاباته وتمثيلياته ظلت على قوتها وجاذبيتها واحتفظت بمعجبيها حتى وهو في السجن . ولم تحدث سيرة اوسكار ويلد مفعولها العكسي لدى المعجبين . . .
فان كوخ ... المريض
والرسام الشهير (فان كوخ) (1853-1890) ، كان مصابا بمرض عقلي اختلف في تحديده على وجه الدقة علماء نفس معروفون ، فالعالم النفساني والفيلسوف (ياسبرز) قال إنه مصاب بالشيزوفرينيا (الفصام العقلي) ، وأيده في ذلك آخرون ، إلا أن باحثين آخرين استنتجوا من طبيعة رسمه وأسلوبه أنه كان يميل إلى التنقيط الكثير والى تكرار الخطوط بصورة تشبه تكرار القصور الحركي في مرض الصرع ، أي أن الشخص يعيد ويكرر نفس الحركة والعملية باستمرار ، ودليل إصابة فان كوخ بالصرع هو تلك الرؤى الغريبة الخيالية والمواقف الذهنية التي تبناها ، والرسائل المفلسفة المبهمة التي كتبها لبعض أصحابه ، ولمل تباين التشخيص والجدل الطويل حول طبيعة مرض الفنان كوخ قارب نهايته الآن بعد أن تبين في السنوات الأخيرة أن الصرع يمكن أن ينتهي بالشيزوفرينيا ، وأن كلا المرضين يمكن تواجدهما في فان كوخ .
ترى هل أن إعجابنا بلوحات الفنان الشهير هو إعجاب بفن صادر عن مخيلة عقل مصاب بالصرع والذهان ؟ .

نيتشه .. والعته .. والاستعلاء
والفيلسوف (فريدريك نيتشه) (1844-1900) ، الذي تسلم كرسي الأستاذية وهو في الخامسة والعشرين من العمر ، أدخل على الفكر الإنسان نغمة الإرادة والقوة والسيطرة والعنف ، ولا ريب أن فلسفة نيتشه كان لها تأثير كبير على كل ميادين الفكر العالمي ، وتأثيرها أوضح في الفلسفة الوجودية وفي أدب (برناردشو) و ( ابسن ) ، ومنذ بلوغه الخامسة والثلاثين بدأ نيتشه يشعر بصداع متكرر ، وآلام في العينين ، لكنه ظل يشعر بالكفاية والقوة ويؤكد عافيته ، وكانت رائعته (هكذا تكلم زرادشت) لا تحتوي ظاهريا على ما يدل على إصابته بمرض عقلي ، إلا أن لغتها الغريبة وظهور (السوبرمان) بين ثناياها ، والدعوة إلى الاستعلاء (والعودة السرمدية) كان أشبه بدين جديد (بشر) به نيتشه باسم (النبي) زرادشت ، وقد تبين أن نيتشه كان مصابا بالتهاب الدماغ الزهري (وما يسمى أيضا بالشلل الجنوني العام) ، ومن أهم أعراض هذا المرض الشعور بالعافية غير الطبيعية وبالكبرياء ، وبعدم الاكتراث ، ثم التدهور التدرجي في الذاكرة ، ثم الجنون والشلل العام ، وعندما ظهرت أعراض الجنون علي نيتشه ، كان هو يتحدث حينذاك عن كونه (المسيح) ، وراح يوجه الخطابات إلى الملوك والأمراء ، وقضي آخر سنى حياته في مستشفى للأمراض العقلية ، ثم تكفلت أمه وأخته برعايته في مكان منعزل بعيد عن الأنظار .
ترى ، هل كانت فلسفة القوة التي ارتكزت عليها ألمانيا النازية نتيجة جرثومة الزهري ؟
دوستوفسكي .. المضطرب
أما الكاتب الروسي الشهير (فيدور دوستوفسكي) (1821-1881) ، فقد عانى من حياة مضطربة ، وكان معظم حياته معدما ومدينا لغيره ، وقد انغمس في المقامرة فترة من حياته وكتب أثناء ذلك رائعته (المقامر) ، ويمتاز دوستوفسكي ببراعته في تصوير أفكار النفس البشرية وانفعالاتها ، وكان مصابا بداء الصرع الذي اضطره إلى ترك الخدمة العسكرية كضابط في الجيش القيصري ولازمه الصرع حتى الكبر ، وقد أجاد وأبدع في وصف الأحاسيس الغريبة للمصاب بالصرع عندها تقترب منه النوبة أو عندما يستفيق منها ، وصور الاضطراب الوجداني والمشاعر غير الطبيعية للصرع في ثنايا قصته (الأبله) التي كان بطلها مصابا بالصرع أيضا .
ترى ، هل كان الصرع سببا في الحياة المضطربة الصاخبة للكاتب المقامر ؟ . . وهل اكتسبت روائعه شيئا من التغيرات الذهنية أو بصمات العقل المصاب بالصرع ؟
الشخصية الغامضة :
وإذا تناولنا إنتاجا عالميا عميق الأثر كإنتاج شكسبير مثلا وجدنا أن روائعه لا تكف عن اجتذاب المعجبين ، ولم تخب عبقريتها على مر الزمن ، ففيها دراسات لجوانب النفس البشرية من بخل وغيرة وغدر وحقد وكآبة وانتحار وحب طاهر ، وان معلوماتنا عن شخصية شكسبير غير وافية ، مما دفع بعض النقاد المتشككين إلى اعتباره شخصية مبهمة أو مقتبسة جامعة غير أصيلة أو شخصية متنكرة ، وكل ذلك التخبط حول سيرة شكسبير وقابليته من بساطة منشئه وهدوء حياته مما أضفى عليه مسحة من الجلال والإكبار .
ترى لو كان شكسبير معقدا أو مريضا أو كانت حياتك الشخصية تعج بالشذوذ والفضائح ، فهل نتوقع أن تتبدل نظرة الناس إليه والى إنتاجه ؟ . وهل الرأي العام يميل إلى الغموض ويفضل الشخصية المجهولة أو المستترة ؟ . إذا أبينا على أنفسنا هذه الانفعالية السطحية ، فان مثالا آخر يصلح أن يواجهنا صراحة بالدوافع النفسية أو النقد والتقييم ، والمثال هو جبران خليل جبران .
فالكاتب اللبناني المهجري ، الفنان الحالم ، الفنان الرومانسي ، الداعي للفضيلة النظرية . . جبران ، تبين من رسائله الشخصية إلى سيدة أمريكية كانت العون الروحي والسند المادي له معظم حياته ، تبين أن جبران كان يعيش حالة من التمزق والتناقض الذاتي يدل على قلق عصابي وشعور بالنقص وعجز في الشخصية ، وأنه في كتاباته كان ينافس (دون كيشوت) في مغامراته ومبالغاته واختلاقه للمواقف والأزمات الكاذبة مع نفخ وتعظيم للذات : ولا ريب أن تلك الرسائل الخاصة صدعت صروح إعجاب الكثيرين وبددت أحلامهم في بطولة جبران المثالية .
ويبدو أن المثقف يميل إلى عدم معرفة تفاصيل حياة الكاتب والفنان لئلا يعرف عنه ما يسيئه أو يؤلم مشاعره ، فان عرفه فلا يشترط أن يكون حكمه عليه مشوبا بالخيبة أو الاستياء إلا في حالات خاصة يمكن إجمالها بما يلي :
إن الإنتاج الذي يعبر عن حياة صاحبه ومشاعره (وأمراضه) يختلف عن الإنتاج الذي يناقض حياة صاحبه ومشاعره وسلوكه ، فأدب الوعظ والإخلاص والتضحية يجب أن يكون القائل به مخلصا مضحيا حقا ، ولا بأس أن يكون أدب المقامرة بقلم أديب مقامر ، ولا ضير أن يكون شعر السخرية بلسان ساخر ثائر . . ولا بأس أن تكون فلسفة ما ناتجة عن عقل اجتاحته وجدانيات الكآبة أو نفخته موجات الاستعلاء ، لا بأس من كل ذلك ، مادام الإنتاج ينسجم بصدق مع معاناة الأديب والفنان والفيلسوف . عندئذ يكون الإنتاج (مفهوما) حتى بلغة المرض النفسي أو بمعيار التسلسل الحيوي المنطقي ، وهذا هو الصدق الفني والفكري الحقيقي .
أما التناقض أو التمثيل أو استغفال القارئ والجمهور فهو الذي يصبح موضع النقمة والإهمال والخيبة ، ولعل في هذا الاستنتاج ما يفسر العوامل النفسية الدفينة في النقد والتقييم ، وهي عوامل ذات طابع أخلاقي ، ولكنها أقرب إلى العدل والتجريد ، وأقرب إلى مبدأ الالتزام والانتماء ، أما الالتزام الأفضل والانتماء الأجمل فهو عندما يحاول الكاتب ألا يحشر مسائله الخاصة جدا لإشغال أو إلهاء أو سوء توجيه لقرائه أو معجبيه أو مواطنيه .