المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصوت الخالق



جمال عبد القادر الجلاصي
14/03/2007, 06:50 PM
الصّوت الخالق

تحرّك كي يستقلّ الحافلة، لكنها مرّت دون أن تتوقف في المحطّة، فتمتم ببعض الشتائم ثم قرر أن يكمل الطريق راجلا. مرّ أمام المعهد الفني بأريانة، كان تلاميذ الساعة السادسة يخرجون جماعات تعلو وجوههم الغبطة والفرح الطفولي... سيرجعون إلى بيوتهم وسيجدون وجوها تربط بينها القسمات والبسمة، سيجتمعون حول طعام ساخن أعدته أمّ لا هم لها ولا فرحة سواهم... سيروون لبعضهم ما مرّ بهم في يومهم من مواقف مضحكة أو محرجة، ثم يمضي كل منهم إلى شأنه وكأنه ولد من جديد...
اصطدم فجأة بجسم فتاة، فابتسم لها بارتباك وتمتم معتذرا، لكنها مّرت ساخطة صامتة دون أن تعيره أدنى اهتمام وكأنها اصطدمت بعمود كهرباء.
تساءل: هل أبدو غريبا على هذه المدينة؟ ولكن كيف؟ أنا ألبس مثل ملابسهم وأدخن سجائر نصف فاخرة مثل سجائرهم!!!
جاءه الجواب فورا من تلك الآلة الحادة التي تدق في رأسه: إنك شارد الذهن، ولا يشرد في هذه المدينة الطاحونة إلا الغرباء... إنك تهتم بما يفكر الآخرون ولا يفكر بالآخرين في هذه المدينة الطاحونة إلا الغرباء...
انتبه إلى شروده، وأسرع ي خطوه، أراد أن يفتح طاقة للحوار مع "الآخر" فسأل مارّا عن الساعة فأجابه دون أن يلتفت ومرّ مسرعا كالحافلة دون توقف... في هذه المدينة الطاحونة لا يتوقف إلا الغرباء.
" لقد قرب موعد إغلاق المطعم، وعليّ أن أسرع". حدث نفسه للمرة الألف... لاح المطعم الجامعي2 مارس، ولاح طابور الطلبة طويلا كالطريق. كم يمقت الطابور والوقوف بالطابور. يأتي متأخرا عمدا كي لا يضطر لا ينتظر، لكنه محكوم بالانتظار... يمرّ إلى شبّاك التذاكر ويدفع للعامل قطعة بخمسمائة مليم في صمت، فيمد له الآخر خمس تذاكر مبادلا إياه صمته... وقف في آخر الصفّ واقتطع تذكر وأرجع الباقي إلى جيبه في غير حرص، وبدا منشغلا بأرقام التذكرة محاولا أن يقوم بعمليات حسابية كي يحصل عل مجموع مئة، كما يفعل دائما بتذكرة المترو أو بأرقام السيارات بانتظار الحافلة.
"تيكة زميل"، لم ينتبه أنه المقصود حتى لكزه طالب برفق في كتفه وكرّر" تيكة زميل". بصمت وامتعاض أدخل يده في جيبه واقتطع تذكرة أعطاه إياها، فأدخل الآخر يده في جيبه متثاقلا آملا أن يقول له " لا يهم إن كنت لا تملك نقودا." لكنه على غير عادته مدّ يده بإصرار فأخرج الآخر قطعة صفراء ودسّها في كفّه فشعر بالغبطة والتشفي.
وصل في الأثناء إلى فتحة صغيرة في الجدار وبحركة آلية أدخل التذكرة وبعد لحظة أخرجها وقد ختمت بلون بين الأسود والأزرق. تعالت فجأة أصوات الطلبة منادية " يا زميل يا حيوان". " يا متخلف". " يا حيوان". ابتسم هازئا وقد استنتج سبب هذه الشتائم، لقد حاول طالب أن "يرسْكي" كالعادة.
وصل إلى قاعة توزيع الأكلة فتحسّس جيبه لا إراديا وأخرج قطعة معدنية نقش عليها "د.خ.ج" وهي الأحرف الأولى لديوان الخدمات الجامعية. مدّ القطعة لأول عامل وتناول طبقا فارغا وملعقة وشوكة وبدأ يمرّر الطبق إلى العمال تباعا وكل يغرف ملعقة كبيرة مما احتواه الإناء الضخم الذي أمامه حتى امتلأ. وكانت الحصيلة: مقرونة، قطعة لحم، قطع من البسباس والماء المالح تسمى استعارة سلطة، قطع من الخبز وبرتقالة.
دعاه طالب يدرس بنفس كلّيته لكنه حيّاه ببرود وجلس على أول كرسي شاغر وجده، وبدأ يفرغ محتويات الطبق في فمه ويمضغ ما يحتاج للمضغ ويبتلع ما يبلع دون مضغ. لم يتساءل يوما إن كان الطعام شهيّا أم لا، لم يعبّر يوما عن تذمّره من صغر قطعة اللحم أو استحالة أكلها. كان دائما يأكل ما يكل ويعيد الطبق نصف فارغ والشوكة والسكين ويسترجع القطعة المعدنية ثم يغسل يديه وينصرف.
وقف للحظات في القاعة الخارجية يقرأ الملصقات الحائطية التي يعدّها " الاتحاد العام لطلبة تونس" وحين اكتشف من الأسطر الأولى أنها نفس ملصقات الأسبوع الماضي تنهّد وواصل طريقه.
وصل إلى المبيت الجامعي " الكارافال"، حيّا الناجي بوّاب المبيت ومرّ إلى المشرب ابتاع شايا في كأس بلاستيكي وصعد إلى الغرفة "أ12". أفرغ الشاي في كأس بلوري وأشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا ثم فتح المسجل فخرج صوت مظفر مفعما غربة وحنينا:" في العاشر من نيسان نسيت على أبواب الأهواز عيوني... كانت بنات فارس يغسلن النهد بماء الصبح، فينتفض النهد كرأس القط من الغسل... أموت بهن، أموت بنهد يحكم أكثر من كسرى في الليل..."
ذهب في إغفاءة لا يعرف كم دامت، وأفاق على صوت طالب ينادي رقم غرفته، وبما أن فيصل العكاري رفيق الغرفة لم يعد بعد، نهض بسرعة وأجاب بصوته الجهوري "آت".
صعد الدرجات بسرعة، كان "الزميل" قد ترك السماعة تتدلى وعاد إلى غرفته فتناولها وقال:
- آلو نعم.
- آلو، جمال، تلفون. أجاب الناجي بصوته الضاحك.
انتظر لحظة في قلق حتى جاءه صوت رقيق كأول شعاع شمس:
- آلو جمال؟
- أهلا روضة، كيف أنت؟ بخير؟
- بخير، شكرا. وأنت ؟ كنت نائما؟
- تقريبا، كيف حال ربيعة والآخرين؟
- يسالون عنك وينتظرون زيارتك.
- سأفعل... قريبا. قالها بعد لحظة صمت أخذ خلالها نفسا عميقا.
- طيّب، احترس من البرد، تدثر جيدا واحرص على صحتك... تصبح على خير.
- فقط...
- أردت أن أطمئن عليك، بلّغ سلامي لفيصل وعفاف والمشرّع.
- اشتقت إليك...
- وأنا أيضا... أمي وربيعة تبلغانك السلام... تصبح على خير.
- وأنت بألف خير...
أرجع السماعة بيد وقلب مرتجفين ونزل الدرجات مترنما بأغنية شامية. وصل الغرفة، تناول شريطا ووضعه بدل الآخر فانساب صوت " السّت" حالما ساحرا:
فضلت أفكر في ميعاده وأحسب لقربه ألف حساب
وكان كلامي مع أصحابي عن المحبة والأحباب.
نظر من النافذة فرأى القمر بدرا مكتملا والسماء تلمع نجومها كمجمرة نفض عنها الرماد للتوّ. ابتسم بانتشاء وأشعل سيجارة وأخذ كراس فلسفة القانون والدولة وبدأ يدرس وكأنه ولد من جديد.

صبيحة شبر
14/03/2007, 09:28 PM
الاخ العزيز المبدع جمال عبد القادر الجلاصي
طالب ينتقل من مدينته الصغيرة الى مدينة كبرى لايهتم المرء فيها بالاخرين
وهو الشخص الوافد يحزنه ان الاخرين هؤلاء لامبالين بقدومه او غيابه
حديثه او صمته
يشعر بالغربة الكبيرة تحيا معه فلا ينقذه منها الا هاتف يسال عنه
ويبلغه تحيات اهله واصحابه
قصة ممتعة تبين ان الانسان مخلوق ضعيف
يحزن من كلمة عابرة ويكون في منتهى الفرح من كلمة اخرى

عبد الحميد الغرباوي
14/03/2007, 10:06 PM
عادت بي هذه القصة إلى نصوص السينات، و تحديدا إلى قصة قصيرة لأحد رواد القصة القصيرة المغربيةالمعاصرة، عبد الجبار السحيمي، تتحدث عن غريب وجد نفسه وحيدا في المدينة، و في محاولة منه للخروج من العزلة التي فرصتها عليه المدينة، بعث بعنوانه إلى ركن التعارف بجريدة، لعله يجد غريبا مثله في حاجة إلى صديق.
اللحظة، أعيش على نبضات نصوص تلك الأيام.. أتمنى أن أعود إلى قصتك مرة أخرى...
شكرا لك أخي جمال عبد القادر الجلاصي، و أهلا بك في منتدى القصة القصيرة.
مودتي

جمال عبد القادر الجلاصي
24/03/2007, 06:51 PM
عادت بي هذه القصة إلى نصوص السينات، و تحديدا إلى قصة قصيرة لأحد رواد القصة القصيرة المغربيةالمعاصرة، عبد الجبار السحيمي، تتحدث عن غريب وجد نفسه وحيدا في المدينة، و في محاولة منه للخروج من العزلة التي فرصتها عليه المدينة، بعث بعنوانه إلى ركن التعارف بجريدة، لعله يجد غريبا مثله في حاجة إلى صديق.
اللحظة، أعيش على نبضات نصوص تلك الأيام.. أتمنى أن أعود إلى قصتك مرة أخرى...
شكرا لك أخي جمال عبد القادر الجلاصي، و أهلا بك في منتدى القصة القصيرة.
مودتي
المبدع المحترم عبد الحميد:
أسعدني كثيرا مرورك الكريم على محاولتي القصصية وتفاعلك معها،
كما يسعدني أن أكون أحد أفراد هذه الأسرة الكبيرة التي هي "الواتا"
مودتي الدائمة

جمال عبد القادر الجلاصي
03/04/2007, 12:22 PM
شكرا للمبدعة المتألقة صبيحة شبر

على المرور والكلمات الرقيقة

مودتي

جمال عبد القادر الجلاصي
15/08/2007, 12:39 PM
الاخ العزيز المبدع جمال عبد القادر الجلاصي
طالب ينتقل من مدينته الصغيرة الى مدينة كبرى لايهتم المرء فيها بالاخرين
وهو الشخص الوافد يحزنه ان الاخرين هؤلاء لامبالين بقدومه او غيابه
حديثه او صمته
يشعر بالغربة الكبيرة تحيا معه فلا ينقذه منها الا هاتف يسال عنه
ويبلغه تحيات اهله واصحابه
قصة ممتعة تبين ان الانسان مخلوق ضعيف
يحزن من كلمة عابرة ويكون في منتهى الفرح من كلمة اخرى

صبيحة

دائما لمرورك وقع الفرح

ولملاحظاتك الدفع الإيجابي

محبتي وتقديري

نزار ب. الزين
18/08/2007, 01:05 AM
نص جميل يا أخ جمال
يتحدث بانسياب و يسر عن مشاعر شاب حضر إلى المدينة الكبيرة ليكمل دراسته الجامعية
وصف رائع خاصة للمطعم الجامعي : ( الطابور و نوعية الأكل و طريقة ازدراده ) ، جاء سلسا و بدون تكلف و كأنه لقطة من مصور محترف .
دمت و دام إبداعك
نزار

جمال عبد القادر الجلاصي
28/08/2007, 03:31 AM
نص جميل يا أخ جمال
يتحدث بانسياب و يسر عن مشاعر شاب حضر إلى المدينة الكبيرة ليكمل دراسته الجامعية
وصف رائع خاصة للمطعم الجامعي : ( الطابور و نوعية الأكل و طريقة ازدراده ) ، جاء سلسا و بدون تكلف و كأنه لقطة من مصور محترف .
دمت و دام إبداعك
نزار

المبدع المحترم نزار الزين

شهادة أعتز بها من مبدع أحترمه

وأقدّر إبداعاته

محبتي واحترامي

محمد فؤاد منصور
28/08/2007, 07:37 AM
الأخ العزيز جمال عبد القادر
ربما تأخرت كثيراً فى التواصل مع نصوصك فأرجو المعذرة ،لقد فاتنى الكثير بلاشك فأنت مبدع من طراز فريد يجيد شدّ القارئ إلى النص فلايغادره حتى ينتهى من قرائته..هكذا تفعل المدن الطواحين فى روادها تقتلهم مللاً ويصبح الفعل المكرر خانقا كحجريجثم على الصدر فيكتم الأنفاس أنت كاتب ممتاز ومن مدرسة الواقع وهى نفس المدرسة التى أحن إليها وربما لاأعرف سواها لذلك سيكون تواصلنا دائماً فتقبل فائق تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

عبد العزيز غوردو
02/09/2007, 07:49 PM
أخي المبدع المتألق جمال:

اغتراب وسط الزحام... هذا أشد أنواع الاغتراب وجعا وإيلاما...

وسرد يشد القارئ حتى النفس الأخير، وبنكهة الفلسفة كعادتك...

يتقطر حتى يبلغ من النفس مداها..

مودتي أيها الرائع..

جمال عبد القادر الجلاصي
04/09/2007, 12:26 PM
الأخ العزيز جمال عبد القادر
ربما تأخرت كثيراً فى التواصل مع نصوصك فأرجو المعذرة ،لقد فاتنى الكثير بلاشك فأنت مبدع من طراز فريد يجيد شدّ القارئ إلى النص فلايغادره حتى ينتهى من قرائته..هكذا تفعل المدن الطواحين فى روادها تقتلهم مللاً ويصبح الفعل المكرر خانقا كحجريجثم على الصدر فيكتم الأنفاس أنت كاتب ممتاز ومن مدرسة الواقع وهى نفس المدرسة التى أحن إليها وربما لاأعرف سواها لذلك سيكون تواصلنا دائماً فتقبل فائق تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:


المبدع المحترم محمد فؤاد منصور

شكرا سيدي على مرورك العطر

وكلماتك التي أعجز أمام بهائها على الرد

تحليلك لقصتي أثار إعجابي

هي المدن طواحين تهرس نفوسنا

وهي الكتابة نقاوم بها الطواحين

محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
30/11/2007, 11:56 AM
أخي المبدع المتألق جمال:

اغتراب وسط الزحام... هذا أشد أنواع الاغتراب وجعا وإيلاما...

وسرد يشد القارئ حتى النفس الأخير، وبنكهة الفلسفة كعادتك...

يتقطر حتى يبلغ من النفس مداها..

مودتي أيها الرائع..

المبدع العزيز عبد العزيز

مرورك دوما يخلف عطرا مختلفا

تقبل صداقتي ومحبتي

محمود عادل بادنجكي
30/11/2007, 01:46 PM
في القلب خيوط موصولة إلى الأذن تفعل فعلها فيه...
وخاصة إن وصل الصوت عبر قصة كتبها جمال

جمال عبد القادر الجلاصي
14/01/2008, 12:39 PM
في القلب خيوط موصولة إلى الأذن تفعل فعلها فيه...
وخاصة إن وصل الصوت عبر قصة كتبها جمال


صديقي محمود

مرورك دوما يسعدني

شكرا على عطرك المختلف


محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
14/01/2008, 12:39 PM
في القلب خيوط موصولة إلى الأذن تفعل فعلها فيه...
وخاصة إن وصل الصوت عبر قصة كتبها جمال


صديقي محمود

مرورك دوما يسعدني

شكرا على عطرك المختلف


محبتي