المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رجال أمام الفجر (علي بن غذاهم) الجزء1



جمال عبد القادر الجلاصي
14/03/2007, 07:14 PM
أبواب الحكاية لا حصر لها، وحواشيها وهوامشها تكاثرت وتشعّبت حتى كادت تغدو غابة كثيفة يصعب الولوج إليها أو الخروج منها، فالرواة الذين تواتروا نقل أخبار علي بن محمد بن غذاهم ورواية سيرته أضافوا لها وأنقصوا منها ما اشتهت أنفسهم أو ما أملت مصلحتهم، أو مصلحة من يسمع روايتهم... ولهذا رأينا نقل الحكاية بمختلف رواياتها، وللقارئ أن ينتقي منها ما شاء أو ما وافق طبيعته ومزاجه...
وليكن في علم من سيطّلع على هذا المؤلف أن ما سننقله من هذه الروايات ما هو إلا نزر قليل مما وصلنا من أسلافنا الذين أورثونا تقصير ليالي الشتاء بالحكايات، أو بمحاولة إنجاب أكثر ما يمكن من الذكور.
وقد آثرنا ذكر تفاصيل الحياة اليومية...
وإذا نظرت إلى ما في هذا الكتاب نظرة النّاقد المتفحّص ستجد فيه لا شك العديد من الأخبار الزائدة والحواشي المملّة التي قد ينكرها القارئ المتلهّف لمعرفة النّهاية، غير أن تتبعنا للحقيقة وإيثارنا المشي وراءها بكل أناة ورويّة هو الذي دفعنا لمثل هذه الدروب الوعرة والمتاهات المضلّة.
وما التوفيق إلا بالله.




حكاية مسكة اليهوديّة غير المكتملة، وما تعلمه عن علي بن غذاهم



لا أحد يعرف اسمي الحقيقي. الفتيات اللاّتي يعملن عندي وصبيان الملهى والزبائن يدعونني للاّ مسكة، والجيران الأوروبيون والباعة الذين يأتونني بكل ما يحتاجه المنزل يدعونني مدام، وهذا اللقب يروقني مثل الاسم، لكني أشتاق كثيرا لسماع اسمي الذي دعتني به أمي يوم مولدي.
كانت جدتي دَدّو حنّانة، تدخل بيوت الأعيان من أهل الحاضرة المسلمين والنصارى وحتى بيوت الوزراء وأكابر رجال الدولة لتزيين أيدي النساء والصبايا بالحنّاء. وكانت تكسب من عملها المال الوفير، وتشتري بما تكسب أساور الذهب والقلائد، زد على ذلك ما تحصل عليه من الهدايا عند تزيين عروس من علية القوم.
كما تعمل جدّتي، بحكم دخولها لكل البيوت واطلاعها على أحوال العائلات وأسرارها، خاطبة.
وكانت أمّي صفيّة وحيدة أمها وقرّة عينها، لم تبخل عليها بشيء مهما ندر وجوده وغلا ثمنه، حتى أنها قد أدخلتها مدرسة الجمعية اليهودية في قسم أولاد الأعيان الذين يدفعون تكاليف دراستهم، وتعلمت الرياضيات واللغة الفرنسية والإيطالية واللغة العبرانية، وتعلّمت كأولاد الأثرياء من أبناء ملّتنا العزف على البيانو وغنّت الأناشيد فأذهلت المدرّسين والراهبات.
وكان يمكن لأمي أن تصبح مدرّسة في المدرسة ذاتها أو عازفة ومنشدة في معبد الرّبّي نعمان وأن تنعم بما لدى أمها من المال والعلاقات بأهل السلطة من اليهود، فجدتي زوّجت نسيم بيشي عضو المجلس الخاص للباي ورئيس اليهود، وهو دائم السؤال عن حالها في الأعياد والمناسبات ولا يني يهاديها ويصلها... ولكن حصل كما يحدث دائما في القصص!
أحبّت أمي طبيبا ألمانيا جاء للبحث عن فرصة للعمل في بلاط الباي أو في دواوين الدولة.
كان شابا في الثلاثين من عمره جميلا كعيسى ابن مريم رقيقا كمزامير داوود.
لم يكن يعرف أنها يهودية، ولم تكن تعلم أن المسألة مهمّة فلم تخبره.
التقيا أول مرّة في بيت القنصل الأمريكي "أموس برّي" في حفلة أقامتها زوجته وطلبت من جدتي أن تأتي لصبغ أصابع ضيفاتها الأجنبيات بالحناء على الطريقة العربية، فعرضت عليها جدّتي اصطحاب ابنتها لتعزف خلال السهرة. وكانت سهرة الشؤم على كامل العائلة وعائلات كثيرة لا يحصى عددها...
لم تعد جدّتي تستطيع كبح جموح العفاريت التي ركبت ابنتها المدللة التي قد بلغت لتوّها السابعة عشر، وكانت على جمال يثير حتى الرهبان، وعذوبة صوتها يزيد من يعرفها افتتانا.
أصبحت تغادر المنزل في أوقات لم تعهدها كل الحارة وتسرف في التبرّج والزينة كالمسيحيات. والأدهى أن الجدة الغافلة والمطمئنة إلى تربيتها وتربية الجمعية اليهودية كانت آخر من تفطّن لهذا التغيير... تفطّنت بعد أن زال عن البنيّة شغفها بالخروج من البيت والذهاب إلى دير الحبراء أو دير الرّبّي نعمان للمشاركة في الإنشاد، ونقص اهتمامها بالأكل والمشاركة في الحفلات التي تقام بمناسبة الأعراس أو الختان.
وأفاقت فجرا على صيحات ألم مكتومة وأسرعت إلى غرفة ابنتها لتجدها تغرق في عرقها على وشك الموت، وهي تشكو من ألم في بطنها... سقتها التابل والكروية، ثم كأس طرنجية وماء زهر وعندما لم ينفع كل هذا أرادت إحضار طبيب، لكن ابنتها رفضت وادّعت زوال الألم.
ومن الغد بدأت معاناتي، أقصد معاناة أمي وأنا في بطنها. لم تنم الجدّة ددّو حتى شخّصت الداء ولكنها عجزت عن إيجاد الدواء. اعترفت لها ابنتها بكل شيء ولكن الطبيب كان مع "محلّة رستم" الذي يحاول قمع ما تبقى من ثورة العربان في الكاف.
وحاولت جدّتي قمع بذرة الحرام بنفس العنف الذي قمع به الباي ثورة العربان: ضربتها بالعصي على بطنها، أجبرتها عل القفز من الكراسي العالية، جرّعتها كل السوائل ومنقوع الحشائش الفعّالة لإسقاط الأجنّة... لكنّ بذرة الحرام ظلّت متشبثة بالرّحم.
حرمتها الأكل حتى لا آكل منها، منعتها الراحة والاسترخاء حتى لا أرتاح وأرتشف حنانها...
لكني ولدت...
بذرة شيطانية! قذفت لهذا العالم دون زغاريد، دون فرحة، دون أب، دون ابتسامة، دون أي أحد يستقبلني بودّ أو بحبّ.
ماتت أمي بعد ولادتي بأسابيع قليلة. وادّعت جدتي أنّها وجدتني أمام بيتها صباحا ملفوفة في بشكير، وأنها قرّرت الاحتفاظ بي كي أعوّضها عن ابنتها التي فقدتها.
وعشت طفولة ذليلة كأي لقيطة احتملت إهانات الجدة التي لا تنتهي ونظرات الشفقة في عيون الجارات الطيبات والكلمات التي يقطّرها من ليس في قلوبهم رحمة في أذني كقطرات السمّ.
أرسلتني جدتي لمدرسة الجمعية اليهودية بعد إلحاح من الحَبر موشي وتعلّمت القراءة، وبعد عشر سنوات من التعلم الذي كنت أهرب بواسطته من البيت ومن أوامر جدتي التي لا تنتهي بلغت السادسة عشر وعرفت أمي! عرفتها دفعة واحدة تفتّحت على الأوراق أمامي بكامل فتنتها كزهرة دفلى، بكامل مرارتها كزهرة دفلى!!!
كانت تكتب له: "طلبت مني أن أكتب لك مذكراتي كي تضيفها للتي تكتبها لتنشر كتابا عن رحلتك إلى تونس... وها أنا أبدأ. "
هكذا بدأت.
عندما أنهيت قراءة الدفتر الأزرق الذي أهداها إياه "أبي" غوستاف نختيغال وبعضا من الرسائل باللغة الفرنسية أرسلها من الكاف وأماكن مجاورة حين رافق "محلّة رستم"، انقلبت شخصا آخر: أخفيت الدفتر في مكان لا تصل إليه يد جدّتي ددّو وذهبت إليها في غرفتها وقلت لها بصرامة لم تتعوّد عليها:
- أريد أن أرتدي الملابس التي في خزانة أمي.
اصفرّ وجهها دفعة واحدة، وذهلت لثواني ثم صاحت كأن عقربا قد لدغتها:
- أغربي عن وجهي! ألحقك الله بها!
- لن أغرب عن وجهك حتى آخذ ملابس أمّي، لا أريد منك شيئا آخر.
- أمّك!!! من أخبرك بهذا؟ ألم أقل لك أنّك ابنة حرام وجدتك أمام بيتي ذات صباح.
قالت هذه الكلمات بقسوة وبرودة لا يمكن أن تصدر عن شخص له روح كبقية المخلوقات. ولكنها كانت تكلّم صنما.
- أعلم أني ابنة حرام، ولكنّك لم تجديني أمام البيت. أنا ابنة صفية أبنتك، وأبي هو طبيب ألماني عرفته حين صحبتك لسهرة زوجة القنصل الأمريكي... هل تريدين أن أخبرك أين حملتني ومتى؟ هل تريدين أن أعرّفك أين كانا يتقابلان؟ ومتى قبّلها لأول مرّة؟ وكيف نزع عنها فستانها الأزرق الذي أهدتها إياه زوجة نسيم شمامة الثانية التي خطبتها له؟؟؟
وبدأت أهذي وأصرخ وأصف اللحظات الحميمة التي عاشتها أمي بقلّة حياء لم أعهدها في نفسي، وبعبارات لم تخرج أبدا من فمي ولم تخطر قبل ذلك ببالي. وكانت جدّتي في الأثناء صامتة ذاهلة تسحّ الدموع من عينيها، وتنظر لي بحقد أحسست به وأنا لحمة في رحم أمي.
أفرغت المزبلة التي كانت بداخلي طيلة ستة عشر عاما ولبست أجمل ما وجدت في خزانة أمي وخرجت واثقة من وجهتي...
كان شلومو معلّم اللغة العبرانية جميلا كالشيطان في التوراة المصوّرة التي رأيتها عند بنت الحبر إسحاق، وكان طيلة الدراسة يتودّد إلي ويتقرّب منّي بلطف أثار كل الفتيات اللاتي كنّ معي في المدرسة، وكنت أتجاهل هذا التودّد وأخاطبه باحترام مبالغ رغم صغر سنّه مقارنة ببقيّة المدرّسين.
خرجت من منزل جدّتي واتجهت مباشرة إلى منزله، فقد كنت أعرف أنّه يسكن بمفرده. لما طرقت الباب بعد الغروب وفتحه كنت قد قرّرت مصيري وخطّطت لمستقبلي.
قضيت أسبوعا بمنزله عرفت خلالها متعة المرأة مع الرجل، استنشقت عطورا انبجست من تحت جلدي وسمعت أصواتا أعذب من الأناشيد تخرج من حلقي لحظة الرّعشة، تذوّقت حلاوة الدفء والعناق والحنان الجارف، وعرفت الدّلال والأكل الطيّب والعطور. لم أغادر المنزل طيلة أسبوع، ولم يسألني شلومو أي سؤال.
عدت إلى منزل جدّتي في اليوم الثامن وقد اتفقت مع شلومو أن أحمل متاعي وأن أعيش معه دون أي التزام لا من جانبه ولا من جانبي وكان هذا الوضع يرضيني ويرضيه.
طرقت باب جدّتي ولكن لم يفتح أحد، اعتقدت أنها دعيت لأحد المنازل لعرس أو ختان، فاتجهت لمنزل خالتي منّانة جارتنا، رحبت بي وسألتني عن سبب غيبتي التي طالت فاختلقت أي عذر. لكنها لم تكن تسمعني فقد قالت لحظة شعرت أني أنهيت كلامي.
- لقد غادرت أمّك ددّو المنزل منذ خمسة أيام وتركت لك المفتاح أمانة عندي، وأوصتني أن أقول لك أن عليك أن تتّصلي بالحبر إسحاق حالما تعودين.
أخذت المفتاح من الخالة منّانة ودخلت البيت، بيتي.
كان كل شيء مرتّبا كعادته: أواني المطبخ التي تلمع دائما والمفارش وغرفة أمي ددّو... كل شيء موجود إلا هي. فتحت خزانتها بالمفتاح الذي أعرف مكانه، الصندوق الدمشقي المعشّق بالصّدف الذي تضع فيه صاغتها ونقودها خلف الملابس القليلة التي تركتها، أمسكته بيدين مرتجفتين، أغلب الأساور والقلائد موجودة ودنانير ذهبية بنقوش أسبانية وفرنسية ودراهم كثيرة لم أعتن بعدّها.
بكيت وأنا أتأمّل الثروة التي تركتها لي تلك العجوز التي لم تذقني يوما حلوا منذ مولدي. ولكنها حين غابت تركت لي ما ينسيني كل الحرمان الذي عرفته.
كان يمكن أن أعيش بيّة زماني كما يقولون عندنا: أن أشغّل خادمة أو شوشانة لشؤون الدار وأن أمتهن عمل جدتي الذي أتقنته منذ صغري، ولكن شيء وسوس لي أن طريقي الذي نويت أن أسلكه عند خروجي من المنزل قبل أسبوع هو الطريق المثالي، فسلكته ولا زلت أسلكه إلى الآن ولم أعرف إن كنت اتخذت القرار الصائب أم لا.
بعت المنزل الذي وجدت حجّة ملكيته التي نقلتها لي جدتي عند الحبر شلومو وبعت بعضا من ذهب جدتي واشتريت دارا جميلة بطابقين بسيدي المرجاني وجهّزتها بأثاث عصري من المتجر الإيطالي، واتصلت سرّا بالوجيه سوسو بيشي وأعلمته بأني أنوي فتح فندق وملهى على الطريقة الأوروبية وأغريته بمشاركتي حتى أضمن ألاّ يتعرّض لي أحد من أرباب الدولة أو من الأجانب الذين اتسع نفوذهم منذ انتصاب الحماية. فرحّب بالأمر بعد أن ذاق من عسلي، وسهّل كل المصاعب التي صادفت مشروعي وأعطاني من المال أكثر ما كنت أتمنى.
ثم قدّمني إلى نائب القنصل الفرنسي على أني فرنسية الأصل كنت أقيم بالشام وأن زوجي العربي قد توفّي وخلّف لي ثروة وأني قد أضعت كلّ أوراق هويتي، وأنا بحاجة لأوراق جديدة لأني أنوي الإقامة نهائيا بتونس وأريد إقامة مشروع. وهكذا أصبحت، بقدرة نائب القنصل وأموال الوجيه سوسو، "مدام شامي" وحصلت على اسم مسكة الذي اخترته وفاء للمرحوم زوجي!!!
بعد أن يغادر جميع العاملين في الدار ويخلد جميع من في المنزل من بنات وخدم أفتح زجاجة النبيذ المفضّلة لدى "أبي" وأفتح الدفتر الأزرق ورسائل أبي الشاهد الوحيد على تاريخي وأصلي وأقرأ:








مجاز الباب في غرّة سبتمبر 1864
عزيزتي صفية:
أكتب لك من مجاز الباب، جالسا على الأرض على عادة الأعراب في ظل خيمة متخذا من حقيبتي مستندا للكتابة. كما تعلمين أنا في مخيّم الفريق سيدي رستم المكلّف بإتمام تأمين هذا الرّبع من البلاد وباستجباء ما تمّ تأمينه.
لقد اشتريت كما أوصيتني برنسين يقياني برد تلك الربوع ولبست "الطربوش التونسي"علامة الوظيفة.
ولو لم أعدك بأن أكتب لك كل ما أراه فإني أشفق على رقّتك المتناهية من المناظر التي اعترضتني أول ما دخلت المخيم، وجدت الفريق رستم يعاين بضع مئات من الأنفار التعساء شدّت في أعناقهم أطواق حديدية وكبّلوا بعضهم إلى بعض بأغلال قصيرة جدّا أحكمت في أرجلهم.
إن هذا الفريق يعتبر من أفضل المماليك وأكثرهم تفتّحا على الحضارة الأوروبية وتفهّما لجوهرها، كما أنه يتكلم الفرنسية مما يمكّنني من خوض بعض الحوارات المهمة معه.
لو سألتني عما أفتقد في هذه المدينة الرومانية القديمة لأجبتك بلا شكّ وجهك الصبوح وصوتك الملائكي الذي يحملني إلى عوالم تقرب من الفردوس.
واصلي كتابة مذكراتك وإذا أردت كتابة رسالة لي سيتكفّل صديقي شميدت بإيصالها.
عليك ألاّ تشغلي بالك بي أنا هنا في تمام الصحّة والعافية.
مع حبي الأبدي
غوستاف.







سيدي عبد ربّه في 20 نوفمبر 1864
عزيزتي صفيّة:
أشتاق إلى الالتقاء بك والتمتع برؤية وجهك النوراني.
لاحت بوادر عودة البلاد إلى الطاعة فليس للحكومة هدف أوكد من جبي الضرائب والأداءات لضمان بقائها العسير دون فقدان الهيبة، وها نحن نسير نحو الغرب المشهور من قديم الزمان بصعوبة جمع الضرائب فيه. لكن ليس هناك أي خطر لأن الباي وعد الأهالي بالصفح عن زلّتهم دون شرط، وها نحن قرب المكان الذي قتل فيه الجنرال فرحات وكان ذلك منعرج الثورة الخطير.
كل يوم يقبل علينا أصحاب الجريمة فينكبّون على يد الجنرال رستم ليقبّلوها بخنوع. وسنقصد لاحقا الكاف التي كانت تدعى في عهد الرومان " سيكا فنيريا ". وهي بمثابة عاصمة غرب الإيالة وحصنها المنيع حيال الحدود الجزائرية.
لقد اتبعنا في سيرنا مجرى نهر مجردة وها نحن على بعد يومين من هدفنا المنشود، تعترضنا المساحات المزروعة ولاحت الأرض أكثر خصوبة. إن سهل وادي مجردة والوديان المتفرّعة عنه على درجة عظيمة من النضارة والخصوبة فيثمر خيرا وفيرا رغم الطرق البدائية التي يتوخّاها العرب في الحرث وتثمير الأرض.
من يوم لآخر يتضح أكثر فأكثر أن الجنرال رستم رجل طيب للغاية ومثابر على أداء واجبه، وهو على تمام الوعي بنقاط ضعف الحكومة الحالية وسلبياتها، لكن لا قدرة له ولا نفوذ لتغيير الأوضاع.
إنه لعمري مشهد حافل ذلك الذي يتهيأ كل صباح، يختلط فيه الحابل بالنابل: جند بأزياء أوروبية وعساكر الزواوة بملابسهم التقليدية وفرسان الصحراء ببرانسهم البيضاء وجمال وخيل وحمير وبغال وثيران ودجاج وكلاب.
أكتفي عزيزتي بهذا الوصف للواقع الذي أعيشه أما شوقي إليك فهو عصيّ عن الوصف، لك أن تعلمي أن طيفك هو الفكرة الوحيدة التي تستطيع انتشالي من واقعي هذا، والأمل بلقائك هو الأمر الذي يجعلني أصبر على ما أنا فيه من ضنك العيش.
لا تقلقي إن تأخر البريد فقد ابتعدنا عن تونس وبتنقلنا من مكان لآخر يطرأ بعض الخلل على انتظام البريد.
المخلص إلى الأبد
غوستاف.






كان قدوم ألماني إلى ملهاي عيدا حقيقيا، لم يعلم سببه أحد. كنت كوردة غريبة تشمّ رائحة الأيادي التي زرعتها ، رغم أن لا أحد فكّر في تلك البذرة التي نبتت تلقائيا في اللامكان: أنا تونسية، من أب ألماني لا أملك من ذكراه سوى بضع رسائل وأمّ يهودية لا أعرف منها سوى فساتين قليلة حرصت على الاحتفاظ بها رغم قدمها، أحمل الجنسية الفرنسية دون أن تطأ قدماي أرض فرنسا، أو أن تكون لي أدنى علاقة بها غير تلك الامتيازات التي يتمتع بها الرعايا الفرنسيين في تونس، وأرملة رجل لم أتزوجه، بل ولم أعرفه!
لقد أتقنت اللغة الألمانية عن طريق معلّم جلبه لي الوجيه سوسو نزولا عند رغبتي، وأصبحت أسرّ باستعمالها كلما سنحت لي الفرصة كنت أحلم بالسؤال عن أبي وعن مصيره، لكني لم أجد الجرأة الكافية والمناسبة السانحة لذلك، كانت لي في الحقيقة رغبة سرية في أن يكون لي أقارب سرّيين، أو أيّة علاقة ودّ مع مواطني أبي، كنت أحلم لساعات بعمّ ينزل في فندقي وأكتشف من أوراقه الشخصية قرابتي به، وأعيش للحظات تلك الرّعشة الحميمة وذلك الاضطراب الداخلي والأحاسيس المتناقضة، بين الفرح الشديد وذلك الإحراج. لكن الزبائن، رغم ترحابي الشديد بهم وفرحي الظاهر، كانوا يعاملونني إما باستعلاء وجفاء مجانيين، أرجعتهما لمهنتي، أو بحذر يشوبه بعض الحياء، لأن الممارسات التي يأتونها في هذا المكان تعطيهم تلك اللذة الوقتية التي تنتجها المتعة الجسدية الخالصة، ولا يريدون عند الخروج من هنا أن تربطهم أي علاقة مع ساكنيه...
كانت الشموع الخافتة تضيء الطاولات التي تصطف عليها أشهى المأكولات شرقيّها وغربيّها وأفخم أنواع الشراب الذي تأتي من أكبر معاصر الخمور في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا. كل الفتيات يعلمن أنه كلما تأخّر صعود الزبون إلى غرفته كلما زاد استهلاكه للطعام والشراب، ولهذا كنت أسمح ببعض المداعبات الخفيفة خلال العشاء وذلك لكي لا يستعجل النزلاء مرافقة الفتيات إلى الغرف، وتصبح " دار مسكة للضيافة" مجرّد بيت دعارة عادي كالكثير من البيوت التي وجدت مع تكاثر عدد الفرنسيين في الحاضرة. وكانت دلندة تعزف على عودها وتغني بصوتها الساحر:
كان يراني باباي يضربني حتى يقتلني
على رايي وما عملت نتبع فلّي مهبلني

كنت أجلس إلى طاولة صغيرة قرب الاستقبال أراقب الصالة، وأترشف عصير فواكه كعادتي كل ليلة لأحافظ على نظارة بشرتي حين رنّ جرس الباب، ولم أعرف لم خفق قلبي على غير عادته، هذا القلب الذي لم يعرف الخفقان والأحاسيس مذ كنت نطفة. ولكني حين رأيته يدخل والشوشان يتبعه حاملا الحقائب عرفت السبب: فارع الطول بشعر أصفر كالتبر وعينين زرقاوين كموج بحر المرسى، الشفاه كأنما صبغت بشقائق النعمان، والأسنان بيضاء. البذلة البيضاء التي يرتديها من القبعة إلى الحذاء توحي بأنه مجرّد تجلّ، أو ظهور طيفي. "لا يمكن أن تتجوّل الملائكة في أيامنا هذه على الطرقات! وإن فعلت فهي لن تأتي إلى هذا المكان المليء بالخطيئة! لا يمكن للنسائم أن تتجسد بكل هذه الرقة وهذه العذوبة. لا يمكن أن تكون لبشر مثل هذه الأصابع الرقيقة"!
كانت الفتنة تقف أمامي تلامس أطراف شاربها بأصابعها في توتّر تحاول أن تخفيه، وكانت عيناي تحاولان ألاّ تفلت أي تفصيل. ابتسمت الفتنة وقالت بفرنسية غير طليقة بجرس ألماني فاضح:
- سيدتي، أرغب في الحصول على غرفة إن أمكن.
- إن لم تكن لدينا غرفة شاغرة، سأكون سعيدة لو تركت لك غرفتي! أجبت بألمانيتي الطليقة، دون أن أعرف كيف خرجت من فمي هذه الجملة دون إرادة مني كأنما نطقها شخص آخر غيري.
ازدادت وجنتاه احمرارا وقال بعد أن أفاق من صدمة الكلمات التي لم يكن يتوقّعها.
- لن أكون بروسيّا حقيقيا لو قبلت أن آخذ منك غرفتك، ولكن يشرّفني ويسعدني أن أقاسمك إياها، سيدتي الفاتنة!
ابتسم.
رقصت ملائكة صغار على شواطئ لازوردية، وهبّت نسائم تحمل روائح الياسمين والفلّ، وطغت على عزف دلندة ترانيم طيور الفراديس وأغاريد بلابل.
التفتّ للشوشان، وأمرته أن يحمل الحقائب للغرفة التي أتركها لسوسو بيشي الذي يرغب أحيانا في قضاء ليلة عندي. امتثل الشوشان وهو يحاول أن يخفي استغرابه. ثمّ دعوت الفتنة للجلوس إلى طاولتي.
- مسكة شامي، صاحبة الدار.
- جوزيف هاينريش فون مالتزان، نائب بنك أرلنجر، سعيد بلقائك سيدتي، وأحسد اللغة الجرمانية التي تخرج من بين شفتيك كالتبر. عفوا على تطفّلي، ولكن هل ولدت في بروسيا؟
- لم تطأ أرضها قدماي حتى الآن!... ولكن هل أنت ابن الرحالة الشهير هاينريش فون مالتزان؟
- هو بعينه، هل سمعت به؟ ظننت أن في هذه البلاد لا أحد يمكنه أن يعرف المرحوم والدي.
- مات إذن، رحمه الله! لقد قرأت كتاباته الرائعة عن المغرب العربي، لم يكن عنصريا كذلك الأمير المغامر...
- تقصدين الأمير بوكلير موسكاو؟! لا علاقة البتة بينه وبين أدب الرحلات، كان مجرّد أمير مفلس يرغب في الإثراء بالكتابة للغرب عن الشعوب الأخرى كما يرغب هذا الغرب الباذخ في رؤيتها: شعوبا بدائية تفتقر لأدنى مقوّمات الحضارة، وفي حاجة للتدخل الغربي المنقذ للخروج من التخلّف!!!
- هذا بالضبط ما أحسسته عندما قرأت كتابه، ولكنك أنت الأوروبي الأول الذي يصرّح بهذا الكلام دون أن يشعر بالخجل أو الإحراج...
- ليس لي أن أخجل، كل إنسان مسؤول عن سلوكه، وكل إناء بما فيه يرشح كما بقول مثلكم العربي الشهير!
- أنا سعيدة جدا بالتعرّف عليك، أرجو أن تطول إقامتك بيننا لنمتّن صداقتنا... إن كان هذا لا يزعجك، طبعا!
- يشرّفني أن أكون صديقك، أنت ملكة بتاجين: الجمال والثقافة، فكيف لا يسرّ أي شخص عاقل بصداقتك.
- هذا إطراء أقبله بكل سرور! ولكن أرى أنك مرهق من السفر، عليك أن ترتاح، وغدا سنواصل حديثنا... سآمر أن يقدموا لك عشاء خفيفا في غرفتك بعد أن تستحم وتغيّر ملابسك.
وقف الفاتن وهو يمطرني بالشكر على لطفي وحفاوتي...
- لا تستعجل الحكم، يا صديقي، لنترك الأحكام، فالزمن كفيل بتأكيدها أو نفيها!
لم أنم ليلتها، وذلك يعني أني لم أغمض جفنيّ. بقيت مسهّدة أفكر بهذا الغريب الذي استحوذ على ملكاتي منذ النظرة الأولى وكيف سأتصرف معه، بل كيف سأتصرّف معي، وكيف سأكبح جموح رغبتي في الركوع تحت قدميه وتقبيل أنامله الرقيقة. لم أستعجل قطّ قدوم الصباح كتلك الليلة، وعرفت ليلتها معنى العشق وعذرت أمي وما فعلت، وعلمت أن للحب سلطانا لا يقاوم. وسحبت من الدرج الرسائل الغرامية الأولى التي قرأتها في حياتي وأعدت قراءتها...





المديّنة في 24 ديسمبر 1864
نصفي المفقود صفيّة:
ما أوحش الوجود وأنا بعيد عنك، فما بالك إذا كنت وسط القفار.
مدينة الكاف هي آخر مدن هذه الناحية، وكل ما يعترض طريقنا الآن مجموعات من الخيام من وبر الإبل وبدو رحّل لا يضمرون خيرا للحكومة، على عكي ناحية الشمال.
ليس بوسعي هذه المرّة أن أوافيك بتفاصيل سياحية عن الجهة فالأوضاع الراهنة غير سانحة للقيام بجولات استطلاعية لمزيد التعرف على البلاد، فلا أحد يغادر المخيّم دون مرافقة دورية مسلحة. لقد لاذ باي المتمرّدين علي بن غذاهم بالفرار إلى مرتفعات صغيرة يقال لها "جبل بو حناش"، وفي هذا الموقع يعتصم مع بضعة آلاف من رجاله وهو لا يعرف ما عليه أن يفعله.
لقد نفد زادي من النبيذ ولولا أن صديقي السيد شميدت بعث لي نصيبا من "الروم" و"الكونياك" لما كنت أدري كيف أقاوم البرد.
إن هذا الصديق لا يدّخر جهدا لصالحي، وإن كتب لي الإحراز على منصب ملائم في تونس فالفضل يعود له ولمساعيه.
أثناء تواجدنا بهذا المكان انطلقت "محلّة الشتاء" نحو بلاد الجريد على رأسها "باي المحلّة " سيدي علي باي لاستخلاص الأموال من الجهة المذكورة. وفي شرق البلاد تمكن الجنرال زروق منذ زمن من الانتصار على المتمردين وانتزاع أموال طائلة بالابتزاز أو بتسليط العقوبات. وها نحن في الغرب نسعى إلى نفس الهدف بيد أن التمكن من رأس الثورة ذاته مازال يتطلّب بعض العناء.
ولكي أبعدك عن جوّ الثورات والعسكر سأروي لك أني أرى الفريق رستم يوميا عند الزوال وفي المساء لأني أتناول الطعام على مائدته، فأجلس القرفصاء كبقية الحاضرين على البساط وأقتطع بإصبعي لحما من الخروف المصلي لذيذ الطعم وأضعه في فمي وأعيد الكرّة على هذا المنوال.
ويتميز الطعام بتنوعه وكثرة أصنافه وهي كلها تفوح لي وتمتاز بالنسبة لي بطعمها الحار وكثرة توابلها. وتقدّم المأكولات فوق طبق نحاسي كبير يسطع نظافة, أثناء الأكل يقف خلفنا خدم بأكواب مملوءة ماء.
هذا، وراقت لي كذلك بقية عادات المسلمين المثقفين اليومية وأجدها في منتهى الكياسة رغم ما هو شائع لدينا في أوروبا من آراء حولها تسودها الأخطاء، لأنه قلّما تتاح لأوروبي فرصة الإطلاع على أساليب عيش رقاة الناس في حياتهم الخاصة ولعلّك تعلمين من حياتهم أضعاف ما أعلم ولكنها خواطر أحببت أن أشركك فيها.
دمت زهرة يعبق عبيرها في خاطري
المخلص غوستاف

ملحق: لقد وصلتني رسالتك بعد أن أنهيت كتابة الرسالة ولقد كدت أطير فرحا عند قراءتها. وشكرا على الأغطية الحريرية التي أخشى أن أتعوّد عليها. مع حبي الأبدي.











قابلت تعجّب الخادمات عند رؤيتي أدخل المطبخ بعيد الفجر بابتسامة عريضة، وطلبت من إحداهن فطورا دسما من البيض المقلي والحليب وبعض البقلاوة، ودخلت الصالون الفارغ وتمدّدت على الأريكة في انتظار الفطور. من أين لي هذه الشهية للأكل ؟! أنا التي كنت أشمّ الطعام شمّا! أنا التي لم أذق قط من الإفطار غير القهوة التركية التي تعدّها فضيلة! هل يفتح الحب شهية الإنسان للأكل؟ أجابني صوت في داخلي: بل يفتح شهية الإنسان للحياة والفرح، ويذيب تلك الثلوج التي تراكمت على القلب حتى غدا جزءا منها، ولا يخرجه من هناك إلا ذلك المارد المتجبّر الذي يسمّى الحبّ!
تأتي فضيلة بالإفطار فأبدأ بتناوله بنهم وتلذّذ عجبت لهما، وعندما كنت على وشك الانتهاء من ارتشاف القهوة التركية سمعت تكتكة خشب الدرج المؤدية إلى الطابق الأعلى، خفق قلبي. كانت خطوات واثقة، متردّدة، ثابتة، رقيقة متزنة ومضطربة: كانت خطواته، كعب يبصم الرجولة على الخشب الصّلب، ويتردّد صدى الخطوات في الصدر الخاوي الذي يحلم بالامتلاء والعمران، الصدر الثلجي الذي يحلم بالاشتعال والفوران.
لم أكن بحاجة للالتفات لأتأكد، كانت رائحته تغمر المكان، وعطر الرجولة الأوروبية الأنيقة يطغى على خشب الصندل والبخور التي توزعه الفتيات كل صباح في أرجاء الدار.
انحنى بوقار أمامي وقبّل أطراف أصابعي التي مددتها لمصافحته.
- صباح الخير سيّدتي الفاتنة. عطر منزلك يبعث فيّ الحنين لأجواء ألف ليلة وليلة، ورائحة قهوتك تثير في النفس شهوات سرّية...
- المنزل ملك لمن يقطنه، وأنت من المبجلين فيه، أما القهوة فأمرها يسير، أما بالنسبة لرغبات نفسك السرية فلا أستطيع سبر أغوارها إلا إذا أفصحت عنها، فتفضل بالجلوس، لنبدأ بتلبية الرغبات المعلنة... يا فضيلة أحضري قهوة من البنّ الخصوصي، وأكثري من الهال... فضيفي به شوق لتذوّق طعم الشرق! أكملت جملتي بالألمانية باسمة.
- بل أنا في شوق لاحتضان الشرق والتهامه... كيف حلك هذا الصباح سيدتي؟
- بخير، مادمتَ باسما ومرتاحا بيننا.
- لم أكن أتصوّر أن ليلتي ستكون بتلك الراحة فقد وصلت السفينة متأخرة بسبب حالة الطقس ولم نتمكن من الدخول إلى حلق الوادي إلا بمجهود كبير من الربان الفرنسي، ولم أجد أصدقائي الذين كنت أحسبهم في انتظاري، ولو لم يرشدني الربان إلى نزلك لبتّ في العراء...
- لا أحد يبيت في العراء مادام في أرض تونس يا صديقي، فقد كان بإمكانك أن تطرق أي باب وتقول أنك غريب، حتى تحصل على أشهى طعام وأدفأ فراش، هذه عاداتنا التي نحافظ عليها ونتوارثها جيلا بعد جيل... حتى أفقر الناس لا يفكّرون في رفض استضافة غريب، ويرونها فرصة لاستجلاب الخير والسعادة، بل إن الجيران يحسدونه على النعمة التي حصل عليها...
- لقد سمعت مثل هذا الكلام من أبي في أول شبابي، ولكني حسبته مبالغة محبّ في مدح أناس عاشرهم وأحبّهم بإخلاص...
- ستتحقق بذلك بنفسك إن كنت ستطيل الإقامة بيننا. قلت متمنية أن تطول إلى الأبد.
- أتمنى أن تطول، لكن ذلك متعلق ليس فقط برغبتي، بل بسير العمل الذي جئت من أجله... لكني أكيد أني سأبقى بضعة أشهر... وهكذا ستتوفّر لنا الفرصة لمواصلة حديثنا وكذلك ستتكفل الأيام بتثبيت رأيي الذي كوّنته عنك منذ البارحة...
- أرجو ذلك، كما أرجو ألاّ تتردّد في طلب أيّ عون تحتاجه... في أي مجال... لا تظن أني مجرّد صاحبة نزل و...
- لم أظن شيئا سيدتي، و... هذه العيون التي تقطر عسلا وهذا الوجه البدريّ يحمل ملامح الشرف وسمات نبالة لا ينكرها إلا الجاهل...
كنت أعلم أني جميلة، بل جميلة جدّا، "أقطع الأنفاس" كما يقول سوسو. ولكني شعرت بالفخر لأنني أسمع لأول مرّة أني أحمل ملامح الشرف وسمات النبالة... نعم فالدم الجرماني يجري في عروقي، ولعلّه كان نبيلا أو سليل إحدى العائلات المالكة!!!
- أشكر لك لطفك. ولكن، هل تعتبر تطفلا مني أن أسألك عن الأعمال التي ستقوم بها هنا؟...
- أبدا! الأمر ليس سرّا... جئت أحاول افتتاح فرع للبنك الذي أعمل به، عليّ أن أدرس المكان جيّدا قبل مغامرة كهذه، نعلم أن عدد الأوروبيين هنا مرتفع، ولكن هل هم من الثراء والاستقرار الذي يحتاجون معه للحصول على قروضنا وخدماتنا الأخرى؟
- مشروع طموح جدا، ولكني لا أحاول إحباطك إذا قلت أن الوقت مازال مبكّرا على مثل هذه المشاريع...
- علينا أن نحصل على شرف السبق وامتيازاته، فالفرنسيون لم يتركوا لجيرانهم شيئا بعد اتفاقية الحماية، وعلى من يريد الحصول على شيء أن يمرّ عبرهم بالضرورة... القهوة لذيذة جدّا، لم أذق مثلها في حياتي، كأني أستنشق شرقا بأكمله، أو كأني أدخل غابة عذراء!
- كان عليك أن تتجه لكتابة الشعر بدل العمل في البنوك، أعتقد جازمة أنك ستتفوّق على كثير من الشعراء الألمان المشهورين!
- ها أنت تردين لي كلماتي الصادقة بمجاملة رقيقة، أشكرك عليها. وسأستغلّ كرمك لأطلب منك معروفا أرجو أن تحققه لي...
- بكل سرور لو كان ذلك في استطاعتي...
- أتمنى أن تكوني دليلي في جولتي الأولى بالمدينة، فأنا لا أعرف كيف أتصل بأصدقائي، وعليّ أن أتصل بالقنصلية الفرنسية كي أنسق معها طريقة عملي وإقامتي.
- أتنوي مغادرة نزلي بهذه السرعة! قلت دون أن أتمكن من إخفاء جزعي.
- لا ليس قبل أسابيع على الأقل.
- سأكون سعيدة بمرافقتك، وسنركب كروستي الخاصة كي لا يزعجنا أحد. ( لم تكن تخشى أحدا، لكنها أرادت أن يكون لها سرّها الذي تهمس به لمرآتها، أن تكون لها أحاسيس سرية، تدفنها تحت اللحاف وتهدهدها قبل النوم: تحرّكها قليلا ثم تضمّها، ثم تستنشق عبيرها، لتنام في النهاية وهي تحلم أنها تروي لصديقاتها ـ اللاتي لا وجود لهن ـ كيف تلامس كتفاهما، وكيف أحسّت بالرعشة تسري في أوصالها، وكيف فتح لها باب الكروسة، وانحنى وهو يساعدها على النزول، سرّها الذي لن تفشيه لأحد، لأنها وحيدة بين كل هؤلاء الناس الذين يحيطون بها.) أعطني بعض الوقت لأغيّر ملابسي، وسأكون جاهزة لمرافقتك أينما شئت!
- أنا هنا في انتظارك على أحرّ من الجمر!



هل يمكن أن تكون الحياة بهذا الجمال!؟
هل يمكن أن يستعيد الإنسان حواسّه بعد أن فقدها طيلة حياته!؟
هل كانت المدينة دائما بهذه الحيوية!؟
هل كانت أكداس التوابل في سوق العطارين لها نفس هذه الروائح الزكية التي تدغدغ الروح وتشعره بالجوع!؟
هل كان السمك في باب الفلّة دائم اللمعان!؟ هل كانت الخضار دائما بنفس هذه الطراوة وهذه النضارة!؟
هل كانت أصوات الباعة، وهي تمدح البضائع المعروضة، بهذه العذوبة!؟
آه! أيها القلب، كم صبرت! هل حسبت أن الفرح الطفولي الذي شعرت به عندما ذهبت لمنزل شلومو منذ سنوات طويلة، هو أقصى ما يمكن للإنسان أن يشعر به!؟
آه! أيها الجسم، أيتها الخلايا التي استيقظت تطالب بحقها في الحياة! أيتها الحواس التي انتبهت لوظائفها! أيتها المسام التي تنضح شهوة أفيقي، هي ذي العصافير تغرّد والورود ترسل عبيرها في أجواء باب البحر...
أيتها الأصابع التي لم تتقن صنعة، ولم تداعب طفلا ولا زهرة... أيتها الأصابع العاطلة عن الحنان أفيضي، فذا الطفل الزهرة الرجل الحنان الفحل، أفيضي ولا تقتصدي، أجري عليه من عسلك، بل من الشهد الخالص الخاص، الذي لم يرى مكنونه إنس ولا جان...
لم يلامس شلومو من روحي إلا الطفلة الساكنة في أطرافها، ولم يهتم سوسو بيشي إلا بهذا الجسد الغضّ، ولم يثر اهتمامي إلا في بداية معرفتي به، ثم أسلمته للفتيات يشبعن رغباته...
فتعالى، أيها الملاك المتشيطن ، أيها الشيطان النقيّ المتعبد، تعالى إلى هذا الهيكل المهجور لتملأ أركانه بالابتهال والصلوات والبخور وليملأك حبّا وغفرانا!!!

حين تعلم أنك تعيش حلما جميلا فإنك تحرص أن تطيل النوم قدر ما تستطيع، وهذا ما كنت أفعل! كنت أطيل قطع صلاتي بالواقع الذي لا يتصل بحلمي: تركت إدارة الدار لفضيلة التي كانت تعوّضني حين أضطر للغياب.
عدت بعد عشر سنين إلى دير الحبراء. صليت وأشعلت شموعا أمام الهيكل، وبكيت طويلا من أجل روح أمي التي لا أعرف لها قبرا... لم يتعرّف عليّ أحد في الدّير، فقد شاخ الحبر إسحاق وشحّ بصره، لكنه رحّب بي ككل التونسيين حين يأتيهم غريب، ثمّ تركت بعض النقود على قبر الرّبّي نعمان وعدت إلى داري كي أنتظر حُلُمي حتى يعود من زيارة الباي الذي شرّفه بقبوله في قصره بتوصية من المقيم العام الفرنسي.
















صفحات من مخطوط الرحّالة الألماني هاينريش فون مالتزان








(1)
ظهرت أمامنا في الوسط، ونحن ندير ظهورنا إلى الشمال، من حيث قدمنا مدينة تونس بصوامعها العديدة، مترامية بين هضبتين اعتلى كل منهما حصن يصل بينهما مجرى مياه طويل ورائق المنظر. وأشرف على المدينة سور من الجبال الزرقاء، برز من بينها بالخصوص ثلاثة أطواد منفردة، تميّزت عن سواها بارتفاعها وبتضاريس أشكالها التي تثير الإعجاب لأقصى حدّ. وهي على التوالي "جبل بوقرنين" الواقع خلف المدينة عن قرب، ثم "الجبل الأحمر" أو "الرصاص" ، وأخيرا جبل "زغوان"، وهو أكثرها ارتفاعا وكذلك بعدا ن تونس. ولاحت لنا على البعد بحيرة تونس مترامية الأطراف، تتوسطها جزيرة جميلة المنظر تأوي المحجر الصحي.
ويمتدّ على طول هذه البحيرة من خلف برّ مستطيل ضيّق، يفصل بينها وبين آثار قرطاج والصومعة التي لفظ فيه "القديس لويس" أنفاسه الأخيرة. وعلى الضفة المقابلة من الخليج المذكور تراءت لنا قرية "رادس" ومعها الرأس البري الذي شهد هزيمة "حنون" على يد القائد "رغلوس". وعلى بعض المسافة ظهرت الترسانة حيث اصطف سرب طويل من السفن، وبجوارها قصر "حلق الوادي". وعلى مقربة من مشرفنا إلي اليمين "باردو" مكان إقامة باي تونس وهي عبارة عن مدينة مصغرة قائمة الذات، يحيط بها سور عال في شكل مربّع، دعمت أركانه الأربعة بالأبراج.
وازدان محيط البحيرة ببساتين نضرة عديدة، برز من بينها بالخصوص منتزه "منوبة" حيث يوجد قصر نزهة الباي، بقبابه الكثيرة وأكشاكه وحدائقه مترامية الأطراف.
وعند باب المدينة استقبلنا التاجر الأسباني المحترم "غريغوريو دي مونتاس" الذي اكترى لنا في "حارة اليهود" بنهج "زرقون" مقرّ أغلب القنصليات الأوروبية، وخيّرني بين هذا البيت والإقامة في منزله حيث يسود ترف محتشم وأدب رقيق يجعلانه لا يقلّ شأنا عن أي بيت أوروبي في مقامه...

جمال عبد القادر الجلاصي
20/06/2007, 07:47 PM
لا أحد مرّ هنا

عبد الحميد الغرباوي
20/06/2007, 08:11 PM
حقيقة ، أخي جمال قراء هذه التحفة الأدبية قليلون..
لكن أكيد أن كل من قرأها ، تمتع بسلاسة أسلوبها و بعوالمها الخاصة، و الساحرة بأماكنها و شخوصها و عطورها و توابلها ...
سلم يراعك أيها الأديب...
مودتي

جمال عبد القادر الجلاصي
28/06/2007, 09:33 PM
حقيقة ، أخي جمال قراء هذه التحفة الأدبية قليلون..
لكن أكيد أن كل من قرأها ، تمتع بسلاسة أسلوبها و بعوالمها الخاصة، و الساحرة بأماكنها و شخوصها و عطورها و توابلها ...
سلم يراعك أيها الأديب...
مودتي


شكرا سيدي الكريم

مرورك أسعدني كثيرا

كلماتك بعثت الفخر في نفسي

دمت بهيا وكبيرا كما أنت

محبتي

فايزة شرف الدين
04/11/2007, 12:19 AM
الأخ المبدع / جمال
وجدت نفسي أستغرق في قراءة تلك الرواية البديعة ، بأسلوبها العبقري المتميز ، الوصف الرائع لحياة اليهود ، والقص البديع من وجهة نظر عدة أشخاص ، دون أن تفلت زمام الحبكة من بين يديك ، فكنت كالقابض علي خيوط لعرائس متحركة ، تعرف كيف تحركها ، وأينما توجهها .. ثم هذا التغلغل في دراسة الشخصية ، وهذا السرد الممتع .
أريد أن أسألك هل للقصة موروث عندكم في تونس كما فهمت من الاستهلال ، أم أن أحداثها كلها من وحي الخيال ؟
سوف أتابع بشغف بقية الأجزاء . مع مراعاة أن هناك بعض الأخطاء اللغوية القليلة ، أعتقد أنها سهو عند الكتابة .
تقبل مروري

جمال عبد القادر الجلاصي
12/11/2007, 01:29 PM
المبدعة المميزة فائزة

شكرا على صبرك في قراءة الرواية

شكرا على كلماتك الرقيقة

ومرورك العطر

محبتي