المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإنكسار الثاني



مصطفى سعيد ضاهر
21/08/2010, 02:35 PM
كان على موعدٍ معها ، وقد أحسّ بأنّ شيئا ً ما في نفسه يشدّه إليها ، فقد كان ذا رغبةٍ جامحةٍ ، وهوىً مستطير ولهفةٍ جارفةٍ ، فقد وجد بين أحضانها دعابة نفسه وفراغ همه وتحقيق رغباته وبلوغ غاياته ، غير عابئ ٍ بالتقاليد الصارمة
التي كان يتحلى بها أبواه . فقد خلع عن إهابه وشاح التقاليد التي ورثها هنالك في القرية ، فقد تغير نمط حياته خلال السنوات الأربع التي قضاها في المدينة بين رحاب الجامعة وتساقطت ذخيرة عمره وميراث حياته كالجليد بين لفحات
المدينةالجارفة وعبر شوارعها المكتظة ، فقد مسحت نعومة المدينة عن جسده خشونة القرية وغلظتها فأشرقت في وجهه الحياة وتألق في نفسه المستقبل وامتلأ جسمه نضارة وحيوية وجرت في عروقه نفحات الأمل.
عاد من الجامعة جذلا ً مسرورا ً وهو يحمل بين يديه شهادة التخرج التي كانت بالنسبة له مدخلا ً لحياةٍ جديدةٍ فهي الأملُ الوحيدُ الذي يمكن أن ينتزعه من بين أنياب الفقر وهي التذكرة الفريدة التي سوف تحمله على جناحيها إلى جنة الدنيا
حيث المالُ الوفيرُ والعيشُ الأثيرُ والحياة ُ التي تتسم بالهدوء والإستقرار .. لكن موعده معها لم يزل يقرعُ أذنيه ويحلق في سماء خياله بين لحظات الإنتظار .. وما أصعب لحظات الإنتظار ..
وكم هو ثقيلٌ أن يدفع الإنسان اللحظات دفعا ً إلى رحاب الفناء .
لم يبق على موعده معها إلا ساعاتٌ قلائلُ لكنه تناول الجريدة التي ألقاها إليه كالعادة بائعُ الصحف من تحت الباب وأخذ يقلبُ في صفحاتها ليلمح بين طياتها إعلاناً عن فرصة عمل براتبٍ فريدٍ على أن يكون المتقدم للوظيفة على استعدادٍ
للسفر خلال شهر ٍ واحدٍ من تاريخه .
أطرقَ لحظة وأخذ يفكر في محتوى الإعلان .. أليست فرصة ٌ سانحة ٌ بالنسبة لي لعلها كانت تنتظرني .. أليس من ترتيبات القدر أنْ يصدر الإعلان على صفحات الجرائد في نفس اليوم الذي تسلمت فيه شهادة التخرج .. أجل .. أجل هي
فرصتي التي رتبتها لي الأقدار وليس هناك ما يبعث على الإستغراق في التفكير . فها هي قد طرقت بابي الفرصة وما عليّ إلا أن ألتمسها بسعي ٍ ميسور ٍ فالفرصة سانحة ولا بدّ من اقتناصها .
لملم أوراقه الخاصة في شنطة يده وانطلق مسرعا ً إلى السفارة صاحبة الإعلان القابعة في حي من أحياء العاصمة الراقية ، لم يجد صعوبة ً من الوصول إليها ، فقد كان الطريق إليها سهلا ً مُيسرا ً .. فتمتم في نفسه: ألم أقل إنّ الفرصة
قد خـُلقت من أجلي . لم يكن من قبيل الصدفة أبداً أنْ يصدر الإعلان يوم حصولي على الشهادة .
قدم أوراقه إلى رئيس قسم التعاقد بالسفارة وهو مضطربُ الأعصاب ، فتسلمها منه وحياهُ بابتسامةٍ خفيفة ٍ ، ثم انطلق ملبيا ً نداء الوعد الصارخ في أعماقه.
وقف على الرصيف ينتظر مرور الحافلة في لهفةٍ فهو شديدُ المحافظة على مواعيده ، وما إنْ مر الأتوبيس الذي كان مكتظا ً بالركاب حتى اندفع نحوه كالسهم وأمسك بمقبض الباب وأخذ يجري معه لحظاتٍ حتى اشتدت سرعته ثم قفز ليضع
رجله على عتبة الباب . لكنّ رجله لم تجد لها مكانا ًعلى العتبة فسقط على الأرض وتدحرج على جانب الطريق. هرع الناس إلى مكان الحادث وحملته سيارة الإسعاف وانطلقت به إلى أقرب مستشفى في حالة إغماءٍ كامل ٍ
وفي صباح اليوم التالي فتح عينيه ليجد نفسه في غرفة من غرف المستشفى ورجله بالجبس مد يده إلى رجله يتحسسها في ذهول نظر إلى الممرضة
_وهتف بصوتٍ مفعم ٍ بالحزن أين أنا ؟
_في قسم العظام بالمستشفى
_وماذا يفيد التشخيص ؟
_كسر في عظام الفخذ وتحتاج إلى قرابة شهر للعلاج
_أشاح بوجهه عنها وأغمض عينيه ليخفيَ عنها نزيف الدمع المنهمر على خديه .
لم يكن وقت الزيارة محببا ً إلى نفسه رغم أنه الوقت الذي ينسى فيه المرضى ولو بصورةٍ جزئيةٍ آلامهم ، أمّا هو فإنّ وخز الوحدة والحرمان يزيد آلامه ويعمّق جراحه .. كان حالة ً شاذة ً في الغرفة ليس حوله أحد على حين أن المرضى
من حوله ينعمون بزيارة الأهل والأصحاب حيث ينسون آلامهم ولو للحظات أما هو فإن هذه اللحظات تزيده هما ً إلى همومه وآلاما ً إلى آلامه .
لقد ضاعت الآمال وانقشعت الأحلام في لحظة .. كان يجد في وقت الزيارة الفرصة المناسبة ليغرس وجهه تحت الملاءة هروبا ً من تفرس الزوار في وجهه وهو يئنّ تحت سياط الوحدة كانت ترهقه أسئلتهم وتحقيقاتهم التي لا تقف عند حد ،
لكنّ غربته لم تطل ووحدته لم تستمر .. فقط أسبوعان .. وكانت سبيلة أول الزائرات وقفت بباب الغرفة تتأمل في وجوه المرضى تبحث عنه في ثنايا الأسرّة ، وقد عرفت موقعه في الغرفة من بيان الأسماء المدونة في ورقةٍ ملصقةٍ بباب
الغرفة لكنه لم يظهر بينهم ، فلعله ذلك الذي يغطي وجهه بالملاءة .. لم يعد في الغرفة غيره .وضعت يديها على حافة السرير وانحنت انحناءة خفيفة
_وهتفت في صوتٍ رهيف ٍ : سعيد
لم يكن الصوت غريبا ً عليه ، نفض الملاءة عن وجهه
_ونظر فبادرته قائلة
_الحمد لله على سلامتك
_ندّت من عينه دمعة وردّ في أسىً
الله يسلمك
_هل أنت بخير
_أرجو ذلك واستطرد
_لكن .. كيف عرفت مكاني ؟
_وأيّ صعوبة في ذلك
_لكن .. كيف
_أسبوع كامل لم أدع فيه قسما من أقسام الشرطة ولا جناحاً من أجنحة المستشفى إلا وهاتفته استفسارا عنك
_لقد كلفت نفسك فوق طاقتها
_كان لا بد من الإطمئنان عليك ، كان اختفاؤك غريبا ً
وساورني شكٌ بأنك تعرضت لحادث لأن أخبارك
انقطعت فجأة وطالت غيبتك
_لكن الوضع لا يبشر بشفاءٍ عاجل ٍ
_لماذا كفى الله الشر
_كسرٌ في عظام الفخذ
_ربنا يلطف .. واستأنفت .. لكنّ بعض الشر أهونُ من بعض
_لقد كادت الحافلة أن تبتلعني ابتلاعا ً
_لقد كنت عجولا ً في اندفاعك
_فهتف في استغراب . كأنك كنت معي
_عرفت ذلك من ملف التحقيق
_لقد كنت حريصة على معرفة الحادث بكل دقائقه
_هل أرسلت خطابا ً إلى أهلك تبلغهم بالحادث ؟
_الأمر بسيط ولا داعي لإزعاجهم
_حقا .. فلربما أعطتهم الرسالة انطباعا ً أكبر مما هو حاصل
سادت لحظة صمت ثم بادرها قائلا ً :
_لقد أخذت من وقتك الكثير
_وما أهمية الوقت من دونك
_ولداكِ ليس لهما من الدنيا سواكِ
_لا بأس عليهما .. في رعاية أمي
_لكنهما في حاجة إلى حنانكِ ورعايتكِ
_أمي لهما كل شيء ولن تبخل عليهما بحنانها ورعايتها
حاولت أنْ تخفي انزعاجها خلف ابتسامةٍ مصطنعةٍ
_لعلك سئمتَ من حديثي
_أبدا ً .. أبدا ً فأنا أشكرك على اهتمامك
_وهل كنت أستحق منك كل هذا الإهتمام ؟
_فهل كنت تسيء الظن بي ؟
_أنت أكبر في نفسي من أن تكوني عرضة ً لظنوني
_أشكرك على هذا الشعور النبيل
_بل أنتِ أولى بالشكر
فهتفت وهي تهم بمغادرة الغرفة
_أراك بخير .. مع تمنياتي لك بالشفاء العاجل
شكرها على الزيارة فتمتمت وهي تغادر الغرفة
_لا شكر على واجب
ثبت بصره فيها وهي مدبرة ٌ حتى غابت عن عينيه فاستلقى بظهره على السرير وراح يغط في نوم ٍ عميق بعد أن ملأ عينيه الذابلتين من محياها وبل شوقه الظمأى من النظر إليها .
ظلت تتردد على زيارته وقد أوهم زملاءه المرضى الذين بدأ يساورهم الشك في حقيقة علاقته معها بأنها خطيبته . ولم يكن ذلك تبرير مقنع منه فلو كانت خطيبته فما الذي يحملها على زيارته منفردة .. أما من أهل .. أما من أقارب
وكيف التقيا وحيدة بوحيد ؟؟
حضرت لزيارته وقد أكمل الأسبوع الثالث في المستشفى
بادرته قائلة :
_لك عندي مفاجأة ٌ سارة ٌ
_ومن أين يأتي السرور يا سبيلة
_الطلب الذي قدمته للسفارة
_حدق فيها باستغرابٍ وتساءل
ماله .. ماله
_طلبك مقبولٌ .. مقبولٌ .. يا سعيد
_وهل أبقت الأيام لنا من فرصة
_وكيف لا .. واسمك نزل في الإعلان وعليك مراجعة السفارة خلال شهر ٍ من تاريخه ، لقد رأيت ذلك بعيني
_وماذا يغني عني القبول مع قلة حيلتي
_صحتك تحسنت كثيرا ً وما دام في استطاعتك المشي على عكاز فلمَ لا تخرج على مسؤوليتك
_إذا كان هذا ممكنا ً فسأفعل
_ابحث عن مصلحتك . ورجلك تبرأ على مهل
_سأحاول من اليوم
ويكون خير إن شاء الله
ودّعته وانصرفت وهي تلوح بيدها وتهمس
_أراك غدا ً
_على خير إن شاء الله
وفي صباح اليوم التالي كان يجهز أوراقه للسفر على طائرة المساء .. حضرت لوداعه في المطار .. وضعت يدها في يده وهي تودعه ضغط عليها وهتف لن يكون للأيام فرصة للتفريق بيننا بعد عامي هذا خفضت رأسها حياءً وهي تسل يدها
من يده ندّت من عينها دمعة وهي تنظر إليه يغوص بين المسافرين في اتجاه الطائرة ، مرت الأيام وعاد من رحلته بعد عام ٍ حافل ٍ بالأشواق .. وفي طريق عودته وهو يحمل نادر الهدايا وطريف العطايا .. دق الباب فمشت في خطىً
وئيدة ٍ تجاه الباب وفي طريقها إليه تملكها شعورٌ غريبٌ وتساءلت ؟؟
ترى من يكون في هذه الساعة المتأخرة !!
انفرجت أسارير وجهها حينما رأته وحيته بحرارة
_وقالت : عندنا ضيفٌ في البيت
_فقال مستغربا ً
_ضيف .. في هذه الساعة !!
_إنه ابن عمي
_منذ متى وهو عندكم
_منذ العـِشاء
_وحتى هذه الساعة المتأخرة من الليل
_أعندك شكٌ في إخلاصي
_فهز رأسه وصرخ ، مستحيلٌ .. مستحيل
تذكر حينما كان يجلس عندها ذات يوم وطرق الباب طارقٌ سمعها وهي تقول إليه .. إنه ابن عمي أدار ظهره وانصرف دون أنْ يلتفت وقد فاضت نفسه
بارتيابٍ غريبٍ .. وهو يتمتم
ابن عمها .. ما أكثرَ أبناءَ عمها ! ؟[/B]